مشروع البرنامج السياسي للحزب الشيوعي السوري - المؤتمر السادس

٢٠٠٤-١٢-٢٧
مشروع البرنامج السياسي للحزب الشيوعي السوري - المؤتمر السادس
من أجل سورية ديمقراطية.. من أجل حزب ديمقراطي بعد أكثر من أربعين عاماً من حكم الحزب الواحد، أوقعت السلطة الاستبدادية، والدولة الشمولية التي أنتجتها، البلاد في أزمة عامة. تشمل هده الأزمة كافة نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، واضعة الحياة العامة في مآزق بنيوية حادة، هي أخطر ما واجهته في تاريخها الحديث، مما جعل البلاد تقف عاجزة وحائرة أمام استحقاقات حاسمة داخلياً وخارجياً، لا تمس المصالح الحيوية للوطن والشعب فحسب، إنما تقرر مصير الحاضر والمستقبل للشعب السوري والأمة العربية. من هنا يصبح التغيير الديمقراطي المخرج الوحيد لإعادة سورية لوضعها الصحيح، دولة حديثة ديمقراطية تعددية ووطناً لكل أبنائها. يكون فيها المواطن حراً، والشعب سيد نفسه. ليعمل مع الشعوب الأخرى على إرساء قيم الحرية والعدل والمساواة والسلام في منطقتنا والعالم. ولأن إعادة إحياء دور السياسة والاهتمام بالشأن العام في المجتمع، لا يتم إلا عبر برامج جريئة وواقعية ومتجددة، تلامس الواقع، وتحمل هموم الناس وقضايا الوطن. تقدمها القوى الحية في المجتمع، وتصبح خططاً وأهدافاً، يتم الاشتغال عليها من أجل التغيير. إننا نتقدم إلى رفاقنا وحلفائنا وأصدقائنا وإلى شعبنا أيضاً، بالوثيقة الثالثة من وثائق مؤتمرنا السادس المنشود، " مشروع البرنامج السياسي "، آملين أن يكون مساهمة – إلى جانب الوثائق البرنامجية لقوى شعبنا ومجتمعنا – للوصول إلى برنامج وطني مشترك، تتلمس عبره سورية طريقها من الاستبداد إلى الديمقراطية بالتغيير الديمقراطي الآن . . وبأيدي أبنائها.
أواخر كانون الأول2004
اللجنة المركزية
للحزب الشيوعي السوري

ما يزال خطابهم خشبيا.... ويقولون ما لا يفعلون ....


ما يزال خطابهم خشبيا.... ويقولون ما لا يفعلون ....
فغر كثير من الحضور أفواههم دهشة مما سمعوه من نائب الرئيس السوري الأستاذ "عبد الحليم خدام" في محاضرة له بعنوان "الوضع السياسي العربي" ألقاها في جامعة قطر يوم 6 من كانون أول الجاري، عند ما وجّه انتقادات شديدة إلى "النظام السياسي العربي الذي لم يعط الشعوب حقها في صنع مستقبلها مما أوجد حالة تعسف في السلطة ضد أفراد وجماعات" . كما حذر مِنْ "أنه إذا استمر هذا القهر والظلم والشعور بالمذلة والفقر، وإذا لم تجر مراجعة للأوضاع فسينمو التطرف".
ومع أن أكثر الحاضرين كانوا من غير السوريين، لكن معرفتهم بالأستاذ "خدام" على مدى ثلث قرن، شغل نصفه وزيرا للخارجية والنصف الآخر نائبا أولا لرئيس الجمهورية، جعلت البعض، وهم يعرفون "البئر وغطاءه"، يتساءل عن الباعث الذي دفع الأستاذ "خدام" إلى التنديد "بهذا القهر والظلم والشعور بالمذلة والفقر"؟.
أما من حضر من السوريين فقد تساءل عما إذا كان هذا التنديد حقيقيا ولا يقتصر على دول عربية بعينها، بل يشمل سورية أيضا؟ وعندها بمَ سيجيب الأستاذ "خدام" بمن سيقول له: كيف ذاك وأنت واحد ممن يصنعون القرار السياسي في سورية؟.
بل إن بعض الحضور من المطلعين على ما يجري على الساحة السورية "فركوا" أعينهم حتى يتأكدوا أن المحاضر هو نفسه الأستاذ "خدام"، الذي شن ،قبل ثلاث سنوات، حملة شعواء على نشطاء المجتمع المدني، الذين دعوا إلى الإصلاح السياسي وتصحيح الأوضاع في سورية في ما سمي في حينه "ربيع دمشق"،وأُلقِيَ بعشرة من صفوة هؤلاء النشطاء ،بعد محاكمات صورية، في معتقلات الرأي في سورية.
وهؤلاء يؤكدون أن سجل نائب الرئيس السوري لا يبشر بخير بحيث يمكن أخذ خطابه على محمل الجد. ويعيدون إلى الأذهان سلوكه القريب أثناء محاولة تعديل الدستور اللبناني للسماح للرئيس اللبناني "إيميل لحود" بتمديد مدة رئاسته لثلاث سنوات، عندما خرج علينا الأستاذ "خدام" نفسه ليندد بالدعوات التي أطلقتها المعارضة السورية لتعديل المادة (8) من الدستور السوري التي قصرت الحياة السياسية على البعثيين فقط، ومكنت لحزب البعث من احتكار الحكم في سورية خلال أربعة عقود.
وبعيدا عن إساءة الظن والتشكيك في نوايا نائب الرئيس السوري يبقى التساؤل مشروعا حول حقيقة أن يتنبه مسئول ،مارس التعسف ضد الآخر، إلى وجود "حالة تعسف في السلطة ضد الأفراد والجماعات"، بل ولا تزال حالة التعسف قائمة، ثم لا يعمل هذا المسئول على إلغاء "حالة التعسف" تلك، وهو في موقع متقدم في مراكز صنع القرار، وإلا فإن كلامه لن يخرج خارج قاعة المحاضرات.
بعض المراقبين يعتبرون موقف السيد "خدام" من نشطاء المجتمع المدني "هفوة" منه عن غير سابق مثال، على الأقل في عهد الرئيس بشار الأسد، ويذكرون بدوره في تقريب وجهات النظر بين الأحزاب القومية والحركات الإسلامية على الساحة السياسية العربية.
غير أن هناك مراقبين آخرين،وإن رحبوا بانتقاده "النظام السياسي العربي الذي لم يعط الشعوب حقها في صنع مستقبلها"، يعتبرون ذلك القياس بعيدا، ويعتبرون سلامة الخط القومي أمرا لازما ولكنها غير كاف، ولا يبرر التعسف مع المواطنين.
وكما اعتبر السوريون إطلاق 112 معتقلا سياسيا سوريا ،الذي تم مؤخرا، خطوة جيدة، وفي الاتجاه الصحيح. ولكنهم يعتبرونها خطوة واحدة على طريق الألف ميل، وستبقى معزولة ويتبدد أثرها سريعا من نفوس السوريين إذا لم تتبعها خطوات أخرى مهمة. لأن توزيع الماء بالقطارة على السوريين لن يروي العطشى ولن ينبت الكلأ. كما أن السعي وراء خطوات إعلامية تبقى غير ذات جدوى طالما أن الواقع المعاش يراوح في مكانه المتعثر، هذا إذا لم نقل أنه يتراجع إلى الوراء، وهو ما يؤكده الاستمرار في اعتقال آخرين مما يبقي الحالة النفسية لدى المواطن السوري في أزمة.
سجلت هذه الخواطر وأنا أطلع في كل يوم تقريبا ممن غادر القطر السوري على المعاناة التي يكابدها أهالي كثير من المعتقلين السوريين، بعد أن انقطعت أخبار أولادهم عنهم.
الذين يطلق سراحهم بالعشرات وخلال بعض المناسبات يؤكدون أن من بقي في المعتقلات لا يتجاوز المئات، بينما هناك أسر أكثر من عشرة آلاف مفقود ما تزال تعيش في حلم أن يقرع بابها يوما ما لتستقبل عزيزها الذي انقطعت أخباره. لكن الصمت الرسمي لا يبشر بخير.
ولعل أقسى ما في هذه المأساة، أن أهالي المفقودين لا يعرفون هل مفقودوهم في عالم الأموات، فيقبلون العزاء بهم، وتتزوج زوجاتهم ويقسم إرثهم،؟ وإن كانوا أحياء فقد بلغت مدة اعتقالهم أكثر من عشرين سنة وهي مدة الحكم المؤبد، ويستحقون أن يفرج عنهم.
وننهي هذه العجالة ، وقد قصرتها على مأساة المعتقلين السوريين وذويهم، بالعودة إلى ما ورد في خطاب الأستاذ عبد الحليم خدام في الدوحة، ونحن نتمنى أن يكون ما جاء فيه بداية جديدة لتصويب المسيرة وتصحيح الأخطاء. غير أن الدلائل كلها تؤكد أنه من نوع الخطابات الخشبية التي تملأ إرشيف وزارة الإعلام،وأن رموز حزب البعث في سورية ما يزالون يقولون ما لا يفعلون!.
الطاهر إبراهيم: كاتب سوري يعيش في المنفى
"الرأي / خاص"

تركيا في ناظر دمشق: بؤرة الكوابيس أم النافذة علي العالم؟

٢٠٠٤-١٢-٢٤

تركيا في ناظر دمشق: بؤرة الكوابيس أم النافذة علي العالم؟
2004/12/24
صبحي حديدي
القدس العربي
في مختلف أجهزة البروتوكول الرسمي السوري، ولكن في كامل دوائر وزارة الخارجية بالذات، لا أحد اليوم ينبغي أن يتذكّر من ماضي السيد وليد المعلّم أنه كان السفير السوري السابق في واشنطن، وعلي الجميع أن يتذكّروا حاضره الراهن فقط: معاون وزير الخارجية السوري. وحين نقول اليوم نقصد المعني الزمني الحرفي للكلمة، أي تحديداً في مناسبة زيارة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان إلي دمشق.إليكم السبب لكي يبطل العجب، عند مَن لا يزال يَعْجب بالطبع: في عام 1998، وفي ذروة تصاعد التأزّم السياسي والأمني والعسكري بين دمشق وأنقرة، كان المعلّم سفير سورية في الولايات المتحدة، وكان أيضاً أبرز نافخي البوق الرسمي السوري حول مسألة حساسة ، (وهي كذلك بالفعل، بعد نزع الأهلّة عن المفردة)، تدور حول الحقّ الوطني السوري في، وعدم تنازلها البتة عن، لواء الإسكندرون (الواقع شمال سورية، والذي يضمّ مدينتَي أنطاكية علي ضفّة نهر العاصي، والإسكندرون علي شواطيء المتوسط، وتعادل مساحته مساحة إنكلترا)، والذي كانت سلطات الانتداب الفرنسية قد سلخته عن الجسم السوري، ومنحته هبة خالصة إلي تركيا علي دفعتين، في عام 1921 ثمّ 1939. اليوم، ماذا يقول المعلّم، معاون وزير الخارجية هذه المرّة؟ إنه ينفي أن تتناول زيارة أردوغان بحث ترتيب أو ترسيم الحدود بين البلدين، علي غرار ما جري مع الأردن مؤخراً، ويؤكد وجود اتفاق ضمني بين الجانبين علي الابتعاد عن القضايا الخلافية ، والتركيز علي عوامل التقارب والمصالح المشتركة ! في عبارة أخري، كلام هذه الأيام يمحو كلام 1998، ولعلّه ثاني صمت سوري رسمي يرقي إلي مستوي الإقرار بطيّ ملفّ لواء الإسكندرون، حتي دون الإيحاء بعبارة من أيّ نوع تدلّ علي أنّ هذا الطيّ تمّ حتي إشعار آخر وليس إلي أبد الآبدين. الصمت الأوّل جري خلال زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلي تركيا مطلع العام الحالي، حين اختصر سلخ لواء الإسكندرون في هذه العبارة: إنها مشكلة تحتاج إلي حلّ ! ذلك يعيدنا، وإنْ بإيجاز، إلي تلك الزيارة التي قيل إنها بدّلت جوهرياً طبيعة العلاقات السورية ـ التركية، فانتقلت بها من معادلة المواجهة والاحتقان والتوتر إلي الصداقة والتعاون والتكامل. ونتذكّر أنّ أقصي ما أبهج الأسد آنذاك أنّ الأتراك وافقوه في اعتبار قيام دولة كردية شمال العراق خطاً أحمر لا تسمح أنقرة ودمشق بتجاوزه! كذلك نتذكّر أنّ دمشق نفّذت حصّتها من الاتفاق الأمني الثنائي، وبحماس منقطع النظير أو زائد عن الحاجة في الواقع، لأنّ أجهزة الأمن السورية سلّمت إلي الأتراك 22 مشبوهاً تركياً كانوا يقيمون في سورية، سرعان ما أطلقت السلطات التركية سراحهم لعدم وجود أدلة علي أيّ تورّط في أعمال إرهابية! هذه ليست عوامل كافية لإحداث نقلة نوعية في العلاقات بين البلدين، وعلي المرء أن يعود القهقري إلي صيف العام 1998 من أجل العثور علي السبب الفعلي الحقيقي لتبدّل الأمور، وانقلاب الخصام إلي وئام، واستبدال التوتّر بالتكامل. آنذاك أبلغت تركيا الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد الرسالة الوجيزة القاطعة التالية: إمّا أن ترفع دمشق الغطاء عن عبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني PKK، فتطرده من سورية ومن البقاع اللبناني، وتغلق معسكراته، وتوقف أيّ دعم لوجستي وعسكري واستخباراتي كانت تقدّمه له؛ ثمّ تفعل الشيء ذاته مع الجيش السرّي لتحرير أرمينيا ASALA، الذي يحظي برعاية أمنية سورية في لبنان؛ وإمّا... الحرب العسكرية المباشرة الشاملة، بوضوح وبساطة وبلا تأتأة!قبل هذه الرسالة كانت تركيا قد استنفرت فرقة عسكرية كاملة لهذا الغرض، نشرتها مع قوّات أخري مختلفة التسليح علي طول الحدود مع سورية، البالغة 7431 كم. ورفعت التصعيد اللفظي إلي مستوي اتهام نظام الأسد بالرغبة في استخدام مياه نهر الفرات لغسل يديه من دماء الأتراك الأبرياء ، الذين قُتلوا هنا وهناك في عمليات الـ PKK حسب الزعم الرسمي التركي. ولا ريب أنّ الأسد الأب قلّب الرسالة التركية علي كلّ وجه ممكن، ورأي من جانب أوّل أنّ أنقرة لا تمزح هذه المرّة، وأنّه من جانب ثان لا يملك الكثير من الخيارات. والواقع أنه لم يكن يملك أيّ خيار آخر سوي تنفيذ ما يطلبه الأتراك. وهكذا انحني الأسد الأب، وفي تشرين الأول (أكتوبر) 1998، غادر أوجلان الأراضي السورية واللبنانية إلي غير رجعة، أو بالأحري غادرها إلي حيث يقيم الآن بالضبط: في المعتقل التركي!ولقد خسر الأسد ورقة أساسية، كانت الوحيدة بين يديه في إدارة توازن من أيّ نوع مع الأتراك، أو علي الأقلّ في حيازة هامش مناورة لا مناص منه إذا استوجب المستقبل مقايضة أنقرة علي أيّ شيء. الأرجح أنّ الأسد الأب، وفي ما يخصّ العوامل التربوية والثقافية الفردية والعائلية التي كوّنت شخصيته، كان يميل غريزياً إلي الارتياب في الأتراك، بوصفهم أحفاد العثمانيين تحديداً وفي المحصّلة. كذلك كانت تركيا قد ذهبت أبعد ممّا ينبغي في احتكار مياه نهر الفرات، وباشرت سلسلة من السدود التي تهدّد الأمن المائي السوري في الصميم، وهذا خطر داهم لم يكن في وسع الأسد الأب مجابهته عن طريق أجهزة الأمن أو تشديد قبضة الاستبداد! الجانب الثالث أنّ الجارة تركيا كانت تضرب مثلاً سيئاً في ناظر السلطة (أي: قدوة حسنة في ناظر المواطن السوري!)، خصوصاً حين أخذ هذا الأخير يتلفّت حوله ويري انهيار الأنظمة الشمولية واحدة تلو أخري، في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، ثمّ يري خلود الاستبداد السوري (وجاره وليد البعث الثاني: الاستبداد العراقي)، بل وتحوّله رويداً رويداً، وعلي نحو منهجي واضح للعيان، إلي استبداد وراثي. صحيح أنّ الديمقراطية التركية لم تكن أبهي نماذج الديمقراطية في العالم، ولكنها في الحساب الأخير كانت تنطوي علي انتخابات حرّة، وتداول سلمي للسلطة، وحرّيات مدنية أساسية. الأخطر ربما، وفي يقين الأسد الأب شخصياً، أنّ الديمقراطية التركية لا يغيب عنها العسكر والجنرالات، وهي إسلامية المنشأ آسيوية شرق ـ أوسطية! الجانب الرابع، والأهمّ ربما، كان عضوية تركيا في الحلف الأطلسي، الأمر الذي لم يكن يقلق الأسد إلا في بُعد واحد جوهري: احتمال تطوّر العلاقات التركية ـ الإسرائيلية إلي مستوي يضع نظام الأسد بين فكّي كماشة. وبالطبع، لم تكن الجوانب العسكرية في أيّ تناغم تركي ـ إسرائيلي هي وحدها التي تقلق الأسد الأب، إذْ كان من الطبيعي أن يضع الأمر في سياقات أخري ليست أقلّ خطورة، إنْ لم تكن أخطر: النزعة التوسعية التي لم تخمد تماماً في نفوس جنرالات تركيا، تحدوهم في ذلك آمال استعادة الأمجاد الإنكشارية؛ والأمن المائي في أخطاره المزدوجة علي سورية (عن طريق تخفيض كميات المياه عن سورية، وزيادة كميتها في إسرائيل)؛ والمسألة الكردية، التي يمكن أن تضع دمشق في موقع الحلقة الأضعف، وليس الجهة مثيرة الشغب وصاحبة المبادرة والمناورة... ومنذ مؤتمر مدريد، ثم بعدئذ اتفاقات أوسلو ووادي عربة، اعتبرت أنقرة أنها باتت في حلّ من أيّ حرج يخصّ تطوير علاقاتها مع الدولة العبرية، وأنّ العتب العربي والإسلامي رُفع أو ينبغي أن يُرفع. لن نكون ملكيين أكثر من الملك، قال الأتراك ويقولون اليوم أيضاً، وليس للعرب أن يأخذونا بجريرة ما يفعلونه هم أنفسهم: العلاقات الدبلوماسية مع الدولة العبرية، والتطبيع السياسي والإقتصادي والثقافي والسياحي.والحقّ أن تلك المحاججة بدت سليمة للوهلة الأولي. ومنذ تفاهم 1996 العسكري التركي ـ الإسرائيلي، وما أعقبه من مناورات عسكرية مشتركة واتفاقات تعاقدية حول أشكال تبادل الخبرات و المعلومات الأمنية وتنسيق الصناعات العسكرية، لاحَ أن هذا الغرام يمكن أن ينقلب إلي زواج في أية لحظة، أي إلي تعاون وثيق لن تكون له تسمية أخري غير الحلف. وعلي خلفية كهذه بالذات يمكن قراءة ردود الأفعال السورية، بل والعربية إجمالاً في الواقع، علي ذلك التفاهم، والتي اتخذت إجمالاً صيغة استنكار وإدانة وشجب تارة، وانزلقت طوراً إلي مستوي إيقاظ مشاعر العداء العتيقة بين العرب والأتراك، أو حتي بين العروبة والطورانية!وفي الواقع لم يكن ذلك التطوير أقلّ من جهد منهجي منظّم لتشكيل محور عسكري جيو ـ سياسي، له أغراض ثنائية متصلة بالمصالح التركية والإسرائيلية، وله أيضاً أغراض إقليمية أوسع نطاقاً، فضلاً عن أدائه لوظائف استراتيجية دولية عابرة للمنطقة. ولكنه لم يكن، وهو اليوم ليس، صيغة الزواج التي تثير الفزع، والأرجح أنه لن يتحوّل إلي حلف بمعني الحدّ الأدني للمصطلح. ليس في المدي القريب المنظور علي الأقل. والأسباب كثيرة، بينها التالية:1 ـ إقامة الأحلاف مسألة تقتضي توفّر درجة كافية من التجانس بين أنظمة البلدان المتحالفة، من حيث مؤسساتها السياسية والدستورية والعسكرية، وفي المستوي العقائدي والإيديولوجي الذي يكفل بُنية اجتماعية تحتية من التنسيق. والحال أن المؤسسات السياسية التركية (الأحزاب والقواعد التي تنظّم تبادل السلطة) ليست متجانسة بما يكفي مع المؤسسات السياسية الإسرائيلية. في البلد الأول ثمة موشور تعددي من الأحزاب التي قد تتعارض برامجها في العمق، وفي البلد الثاني يتناوب علي السلطة حزب العمال أو حزب الليكود ضمن هذه الصيغة أو تلك من التحالفات مع الأحزاب الصغيرة، ولكن البرامج العليا تظلّ متشابهة من حــيث الجوهر.2 ـ أوّل، أو في طليعة مقتضيات الحلف، مسألة النصّ التعاقدي علي مبدأ الدفاع المشترك في حال تعرّض أحد البلدان المتحالفة إلي عدوان، أو انخراطه في حرب. وليس وارداً أن تدخل تركيا في أيّ حرب عربية ـ إسرائيلية (إذا قُدّر لهذه الحرب أن تندلع في أي يوم!)، كما أنه من المستبعد تماماً أن تسارع اسرائيل إلي نجدة تركيا في أيّ نوع من أنواع الحروب. ضدّ من؟ وهل تسمح العقيدة العسكرية الإسرائيلية بخوض حرب غير حدودية؟3 ـ المجال الحيوي الجيو ـ سياسي الذي تسعي تركيا إلي التحرّك في نطاقه هو المجال الآسيوي الإسلامي والعربي، وذلك رغم سعيها الحثيث للانضمام إلي الإتحاد الأوروبي، أو ربما بسببه تحديداً. ذلك لأنّ تركيا تظلّ العضو الوحيد الخاضع لفترات تمرين و اختبار مطوّلة وابتزازية بعض الشيء، وهذه هي الرسالة المضمرة في التلميح الذي صدر عن رئيس وزراء الدولة العبرية أرييل شارون في أوّل زيارة له إلي إنقرة قبل ثلاثة أعوام، حول إمكان مساعدة تركيا في حلّ مشاكلها.ولكن لا ريب أيضاً في أنّ المستوي الراهن من تطوير العلاقات التركية ـ الإسرائيلية ينبغي أن يثير القلق ــ وربما القلق العميق ــ لدي الدول العربية أولاً، ولدي دول إسلامية شرق ـ أوسطية مثل إيران بصفة خاصة، ولدي دول أخري مثل قبرص واليونان. ولا ريب أنه ينبغي أن يثير قلق سورية بصفة خاصة، الآن بالذات وأكثر بكثير من تلك الفترة التي شهدت قلق حافظ الأسد العميق: ثمة مخاطر غزو العراق، وآفاق تطوّر العملية السياسية هناك، وانعكاساتها علي دول الجوار، ومستقبل الاحتلال الأمريكي، والمسألة الكردية في سورية؛ وهناك، في الجزء الثاني من المشهد، جهود تركيا الحثيثة للانضمام إلي الاتحاد الأوروبي، وحرصها علي إرضاء الغرب إجمالاً والولايات المتحدة خصوصاً، الأمر الذي يعني الاهتمام بتطوير العلاقات مع الدولة العبرية من باب تحسين الصورة وتقديم وثيقة حسن سلوك.هل تضع دمشق هذه الاعتبارات في الحسبان، حين تسدل ستاراً حريرياً ورديّ اللون علي علاقاتها مع أنقرة؟ العكس هو الذي لاح في اليومين الماضيين، وذروة المفارقة أنّ الجارة تركيا، التي كانت ذات يوم بؤرة كوابيس ومبعث هواجس وبوّابة أخطار في نظر الأسد الأب، تبدو اليوم في نظر الأسد الإبن وكأنها... نافذة سورية علي العالم!

نشر نشاطات معارضين سوريين

نشر نشاطات معارضين سوريين
2004 الجمعة 24 ديسمبر
حيان نيوف
ايلاف
حيان نيوف من دمشق : أبرزت وكالة الأنباء السورية الرسمية خبرًا عن فنان سوري معارض يعيش خارج سورية منذ ثمانينات القرن الماضي ، وهذا ما يعتبر إشارة جديدة لمحاولة الإعلام السوري ممارسة المزيد من الانفتاح حيث كان أمرًا مستحيلاً أن يعثر على خبر عن نشاط لمعارض سوري في السابق على أجهزة الإعلام السورية ولو كان خبر وفاة.
وذكر ناشط وكاتب سوري لـ " إيلاف " أن بعض الصحف السورية سبق لها أن نشرت بعض الأخبار لنشاطات فنانين ومثقفين سوريين من المعارضة ، إلا أنها المرة الأولى التي تنشر وكالة الأنباء الرسمية خبرًاعن نشاط فني لمعارض سوري.
وذكرت وكالة الأنباء السورية " سانا " أن الفنان السوري التشكيلي يوسف عبد لكي يقيم حاليًا معرضًا لأعماله في قاعات اخناتون بمجمع الفنون بالزمالك بالقاهرة . وتابعت " يضم المعرض مجموعة من الأعمال الفنية الكبيرة الحجم المنفذة بتقنية قلم الفحم يتناول فيها عبد لكي موضوعات الحياة اليومية البسيطة كالطبيعة الصامتة والأواني والأحذية والجماجم والأسماك وغير ذلك من الأشياء التي أخذت طريقها الى أعماله خلال السنوات القليلة الماضية ".
وفي نهاية الخبر ، قالت " سانا " إن الفنان عبد لكي من خريجي قسم الحفر بكلية الفنون الجميلة بدمشق وتابع دراسته العالية في هذا المجال وفي علوم الفن بباريس التي يقطن فيها وهو يمارس الى جانب الرسم والتصوير فن الكاريكاتور الذي نشره في عدة صحف ومجلات سورية وعربية. ‏
ويوسف عبد لكي ، هو فنان تشكيلي ورسام كاريكاتور سوري معروف على الصعيدين العربي والعالمي ، وناشط في " حزب العمل الشيوعي " المعارض ( رابطة العمل سابقا ) ويقيم في باريس منذ أكثر من عشرين عامًا. وسبق للفنان عبد لكي أن سجن في سورية بين عامي 1978 – 1980 وأطلق سراحه في شباط ( فبراير ) من العام الأخير ولكن عادت وطلبته السلطات السورية بسبب انتمائه لحزب العمل فبقي في باريس لاجئا كما أوضح ل " إيلاف " أحد أعضاء الحزب في سورية.
وتبدو قراءة الفنانين السوريين المقيمين خارج وطنهم لأخبار نشاطهم الفني والثقافي على وسائل الإعلام السورية كما لو أنهم قطعوا نصف الطريق سيرًا باتجاه بلدهم ، وربما تصبح الصورة أكثر جمالية لو عاد جميع هؤلاء الفنانين والمثقفين وجلسوا في الشوارع السورية يرسمون ويكتبون الشعر ، وهذا ما انفكّت المعارضة السورية تطالب به في السنوات الأخيرة زاعمةً أن ذلك " هو واحد من الحلول الكفيلة بحماية البلد من الأخطار الخارجية ".
ويعتبر الفنان السوري المعارض يوسف عبد لكي من أبرز فناني الحفر العرب وأبرز العاملين في ميادين الغرافيك ، كما يعدّ من الفنانين المهمين في مجال الكاريكاتور والفن التشكيلي. وحصل عبد لكي على جوائز منها الجائزة الثانية للجنة التحكيم في بينالي القاهرة للفنون التشكيلية.

خزعة من قامة ممدوح عدوان

٢٠٠٤-١٢-٢٢

خزعة من قامة ممدوح عدوان
2004/12/22

صبحي حديدي
القدس العربي

هل من الممكن تخيّل المشهد الأدبي السوري المعاصر بدون هذا الرجل ـ المؤسسة، ممدوح عدوان (1491 ـ 4002)؟مَن مثله سوف يمارس، بإجادة وتميّز وأصالة وعمق ودأب، الشعر والرواية والمسرح والمقالة والدراما التلفزيونية والترجمة... في آن معاً؟وفي الأساس، هل كان مشهد الحداثة الشعرية السورية علي امتداد النصف الثاني من القرن العشرين سيكتسب تلك النكهة الخاصّة والمعطيات المنفردة، لو أنّ ممدوح عدوان لم يرفد عمارته بمداميك كبري، مبكّرة وطليعية في آن، مثل تلويحة الأيدي المتعبة ، 0791؛ و الدماء تدقّ النوافذ ، و أقبل الزمن المستحيل ، 4791؛ و أمّي تطارد قاتلها و يألفونك فانفر ، 7791؟ومَن سوي ممدوح عدوان كان سيشاطر الراحل الثاني، سعد الله ونوس، عبء الارتقاء بالمسرح السوري الحديث والمعاصر، وزجّه في قلب ورشة مذهلة تطرح الأسئلة الضرورية والجوهرية وغير المألوفة من جهة، وتمارس التطوير في كتابة النصّ وتنفيذ العرض وتحريض التنظير النقدي؟ لم يكن هذا ممكناً من دون ونوس في حفلة سمر من أجل 5 حزيران و الفيل يا ملك الزمان ، ولكنه أيضاً لم يكن ممكناً من دون عدوان في محاكمة الرجل الذي لم يحارب و ليل العبيد و كيف تركت السيف . وبمعني الوظيفة الإجتماعية والمعرفية والسياسية للإنتاج الثقافي، هل كان اتصال القاريء العربي بالإبداع الإنساني سيكون علي الحال ذاتها في غياب الترجمات النوعية التي أنجزها عــــدوان: تقرير إلي غريكو السيرة الذاتية والفكرية للروائي اليوناني نيكوس كازنتزاكيس؟ أو سفر الإلياذة ؟ أو ذُري هيرمان هيسه: الرحلة إلي الشرق ، و سيد هارتا و دميان ؟ أو أوديســـــة الشاعر الكاريبي ديريك ولكوت، عودة أوليس ؟ أو مقالات أوكتافيو باث، الشعر ونهايات القرن ؟ أو دراسة كيث وايتلام الشجاعة، تلفيق إسرائيل التوراتية ؟ وخلال مروره الأخير في باريس، قبل نحو عام، أهداني الراحل كتابه الأحدث آنذاك حيونة الإنسان ، وهو مجموعة مقالات حول مقدار ما فقد البشر من كرامة وتضامن إنساني وإحساس بعذابات الآخر، حتي صاروا معتادين علي الإذلال المحيط بهم وبغيرهم، وصاروا أكثر استعداداً لقبول التعذيب والمهانة والعنف علي شاشات التلفزة وبالنقل الحيّ المباشر. ولقد كتب إهداء شخصياً مؤثراً، جاء في بعض سطوره: سيقول لك هذا الكتــاب إننا هناك لم نكن نتفرج محايدين .والحال أنّ الكتاب كان يقول لي هذا، وأكثر. ولكني لم أكن البتة بحاجة إلي هذا الكتاب أو سواه لكي أتذكّر كيفية وقوف عدوان وطبيعة مواقفه من قضايا البلد السياسية والفكرية والثقافية. كنت، منذ مطلع السبعينيات، أعرف ما تعرّض له من تنكيل وإبعاد من الوظيفة وتجميد وتهميش ومضايقات، فضلاً عن الحرب المخابراتية الخفيّة التي كان يديرها وزير تارة أو مدير عام طوراً، لكي لا نحتسب العشرات من صغار الكتبة... كتبة التقارير، قبل القصائد والقصص والدراسات!وذات يوم، في الفترة ذاتها، همس في أذني أحد هؤلاء (وكان دون ريب ينفّذ المهمة الأمنية العتيقة: نشر الإشاعة المدروسة) أنّ وزير الإعلام قد يقرّر إبعاد ممدوح من القسم الثقافي في صحيفة الثورة لأنه... عميل عراقي! وقلت له: عميل عراقي، خبط لزق؟ قال: نعم! إنه يوزّع كاسيتات عراقية!وللإنصاف، كان الكاتب ـ العميل علي حقّ في هذه، لأنّ الراحل كان قد قام بزيارة إلي بغداد في وضح النهار وبعلم السلطات وضمن وفد ثقافي، واصحب معه أشرطة للمغنّي العراقي الرائع حسين نعمة، وبأريحيته المعتادة سجّل بعضها لأصدقائه. ومن جانبي أعترف أنني، وأنا إبن منطقة الجزيرة السورية التي تحاذي العراق، لم أكن حينذاك قد سمعت بأسماء حسين نعمة وسعدون جابر وياس خضر، وأنّني أدين للراحل بفضل ترقية ذائقتي الغنائية إلي ذلك المستوي الرفيع من الشعر والطرب والوجد الذي يبلغه حسين نعمة في نخل السماوة و يا حريمة علي سبيل المثال فقط... وحين بلغني نبأ رحيل ممدوح، فكّرت في زوجته الصديقة إلهام، واتصلت بها لكي أقول الكثير، ولكن لكي تعزّ اللغة فلا أدمدم إلا بـ شدّي حيلك ! ومثل الكثيرين ربما، قضيت الليل أقرأ قصائد ممدوح الأخيرة التي تناولت موضوعة الموت علي نحو يجمع عبقرية التسامي علي الألم بحسّ الإنتماء الإنساني التامّ إلي الحياة. ولكني، أيضاً، شعرت بحنين جارف إلي عملاق آخر من صانعي مداميك تحديث المشهد الشعري السوري الحديث والمعاصر: محمد الماغوط. وهكذا، وجدتني أعود إلي قراءته قصيدته التي جاءت بمثابة مقدّمة لعمل عدوان الأخير حياة متناثرة .وسأسمح لنفسي باقتباس بعض سطورها هنا:
لن تصدّقْ إنني أهوّل عليك
لا أكثركما كان سليمان عواد يهوّل علي أمير البزق،
مهدّداً إياه بلفافة الـ خصوصي للجيش
.أتذكر تلك اللفائف؟
وذلك السعال المديد والمتقطع،
كالتدريبات الأولية في المستعمرات علي نشيدها الوطني؟
ومع ذلك لا أقلّ عنك جهلاً في هذه الأمور.
فللآن لا أعرف سعال الشاعر من القاريء من الناقد
من المترجم من الراوي.
لا أعرف إلا سعالي!
صحيح أنّ معظم التبوغ مصنّعة،
لكن سعالي الطبيعي مكفول لمئة عام من العزلة!
ومع ذلك أقدّمه بكل سرور
مقابل شعرك المتساقط ولونك الرصاصي،
وأهوال العلاج ونفقات الأمل.
(...)والآن دعنا من هذه الترهات
أريد خزعة من رئتيك وجبينك وأحزانك...
إنّ نسيجها أكثر متانة ومماطلة
من قلعة مصياف وجبال دير ماما
وأكثر فطنة وثقة من أعلام الغزو في الظلام.
وأنا واثق أنك ستزهر من جديد كالوراقة، وفي عزّ الشتاء.
وإذا خطرت لك زيارتي حيث أقيم
فعلي الرحب والسعة..

مات ممدوح عدوان!!: حكم البابا

٢٠٠٤-١٢-٢٠
مات ممدوح عدوان!!

حكم البابا

لم يخطر في بالي ولا في يوم من الأيام أن أكون أول من سيسمع خبر موت ممدوح عدوان من الطبيب الذي أعلن وفاته ، ولم أتخيل أني سأكتب بيدي نعوة ممدوح عدوان التي ستلصق في الشوارع ، ولم أفكر بأن ممدوح عدوان سيموت ، فحتى في أيام مرضه كنت أعتقد في داخلي أنه في يوم ما سينتصر ممدوح عدوان على المرض كما في كل معركة دخلها ، ولم أكن أظن أني سأكون آخر من يقبّل الجسد المسجى لممدوح عدوان في غرفة إسعاف في مشفى دمشقي ، ولكن مالم يخطر لي أو أتخيله أو أفكر به أو أظنه حدث كلّه دفعةً واحدة بمصادفة من أسوأ مصادفات حياتي ، وللصدفة السيئة عشت كل هذه المستحيلات دفعة واحدة ، وخلال مدة بدت لحظات خاطفة وهي كذلك بالفعل.
ومع أن كل ذلك حدث لا أستطيع أن أصدق أني لن أتصل بممدوح عدوان غداً أو بعده لأخبره أني قادم لزيارته ، وأستفتيه في أي نوع من الكليسترول (كما كنّا نشفر مسميات الطعام الدسم) يشتهي لأحضره معي ، كما فعلت يوم الوفاة ، وكانت الروح لاتزال عالقة في جسده ، فممدوح عدوان يمثل بالنسبة لي أكثر مما أظن ، ولايزال صوته الناري في أذني على الشريط المسجل في اجتماع أعضاء الجبهة الوطنية التقدمية الشهير في نهاية السبعينيات مع الكتاب والصحفيين ، وهو أول معرفتي به من غير لقاء ، والتقيته لأول مرّه في عام 1979 فلم تتغيّر صورة الكاتب المقاتل العنيد ، وله فضل عليّ وعلى إدارة حياتي فيما بعد ، وبيقين يصل إلى حد التأكيد أقول أن حياتي كانت ستبدو أقل شراسة مما هي عليه الآن ، وعنادي كان سيصبح أكثر ليناً لو لم ألتق به أول مرّه في اللاتيرنا ، وثمة قاعدة في الكتابة والحياة علمني إياها ممدوح عدوان وأنا لاأزال أسير عليها ، وقد ذكرته بذلك قبل أيام قليلة من وفاته ، قال لي وهو يرسم دائرة بيده ، هذا هو الهامش المعطى لنا ككتاب ، عليك ككاتب أن لاتقف في منتصف الدائرة ، لأن هناك من سيضيقها عليك فيما لو فعلت ذلك ، مهمتنا ككتّاب أن نقف عند جدارها ونحاول توسيعها ، وممدوح عدوان واحد من قلّة من الذين وسّعوا هامش الحرية في سورية ، وفي زمن كان فيه الهامش أضيق من شفرة السكين ، مرة بالشعر ، ومرة بالمقالة ، ومرّة بالندوة ، وكان يتلقى شتى الاتهامات مرّة ممن يملكون الهامش ، فتهمهم جاهزه ، وعقابهم حاضر ، فمنع من الكتابة ، ومنع من السفر ، وسحب جواز سفره ، ونقل من جريدة الثورة كصحفي لمترجم في وزارة الاعلام ، وفرزت سيارة مخابرات لمتابعته ، ولكن ممدوح عدوان لم يستسلم ، وفي حين كان يكبر كل يوم كان أعداؤه يصغرون يوماً بعد يوم . وكان يتلقى من وجه العملة الآخر تهماً مناقضة تماماً للأولى ، فيتهمونه بالعمالة للمخابرات ، وكان دليلهم الوحيد أنه شجاع وصاحب لسان طويل ، ويقولون لك كيف بإمكانه أن يحكي لو لم يكن كذلك !
كانت مشكلة ممدوح عدوان أنه رجل مختلف بين أشباه ، وتعب طويلاً ليقنع الجميع بنفسه وبكتابته ، وعندما فرضت موهبته وشغله ومثابرته نفسهم دخل في صراع غير متكافئ مع عدو من من نفس فصيلة أعدائه السابقين إنما هذه المره هوجم من الداخل لا من الخارج ، جاء مرض السرطان ليواجه ممدوح عدوان ، ودخلا في مكاسرة بالأيدي ، وكنت أراقبه من زيارة لزيارة ، تارة يثبّت المرض ويلوي له ذراعه ، وتارة يأخذ السرطان ثأره منه ، قال لي زياد ابنه قبل أيام إن أباه كان يقول له في بداية المرض ، سأعيش ، لكنه في الفترة الأخيرة بدأ يتحدث عن الموت ، وسمعت من إلهام رفيقة عمره كم كان يشعر بالأسى لأن أحداً لم يطلب منه في أيام مرضه أن يكتب زاوية أسبوعية لصحيفة أو مجلة ، وكبرياؤه يمنعه من أن يطلب ذلك من أحد ، ولربما مات ممدوح عدوان بمرض الإهمال لابمرض السرطان.
منذ يومين شاهدت صورة قديمة لممدوح عدوان كان فيها في عنفوانه ، ساموراي في الكتابة ، هي التي انطبعت في ذاكرتي في كل لحظة أتخيله أو أتذكره فيها ، ولم تمحها صورة الجسد المتهاوي الذي يستند على ابنه زياد وهو يصعد منصة حفل الافتتاح في مهرجان دمشق المسرحي الأخير ، ولكن اليوم ماالذي أستطيع قوله وأنا أنظر إليه للمرّه الأخيرة مسجى في غرفة اسعاف ، وأتذكر تاريخاً من حبي له كمعلم وكصديق ، وأحقد على من حاربوه طوال حياته ، وسمموا له عيشته ، وأفكر كيف كان بإمكانهم أن يفعلوا ذلك برجل أعطى سورية أكثر مما أخذ منها ، بينما هم الذين أخذوا منها ولم يعطوها إلاّ الخراب والفساد ، من وزراء الإعلام الذين سدّوا بوجهه الطرق ، وبعضهم بقي طوال ثلاثة عشر عاماً هي كل فترة وزارته يطارده ويطارد غيره من المثقفين الشرفاء ، إلى كومة المخبرين الذين كتبوا فيه التقارير وباعوه بثمن بخس ، إلى المعارضين الذي لوثوا رداءه النظيف ، إلى شقيق كل هؤلاء وابن فصيلتهم مرض السرطان .
واليوم نحن أمام حقيقة أكيدة هي أن ممدوح عدوان مات ، ولاينفع رثاء ولاندب ، ويعزي كلام عن أدبه الخالد يقوله في حفلات التأبين من ساهموا بموته ، لكن ربما مايعزّي فعلاً أن نتخيل ممدوح عدوان جالساً مع اكسسوارته الدائمة (السيكارة المشتعلة وكأس العرق وسعاله المستمر) جالساً في مكان ما في الأعلى وهو ينظر إلينا نندبه وهو يتسلّى بمشهدنا الليلة ، وكل من عرف ممدوح عدوان سيراوده مثل هذا الخاطر ، لأن من عرفه لايصدق حقيقة موته وهي حقيقة بالفعل ، فمن الصعب أن نفكر بأن ممدوح عدوان قادر على الموت بهذه السهولة ، وسيمضي وقت طويل لنتأكد بأنه تركنا وفعلها ومات !
"الرأي / خاص"

لمــاذا "أنــا ســوري يانيّــالي" ؟!

٢٠٠٤-١٢-١٦
لمــاذا "أنــا ســوري يانيّــالي" ؟!
حكــم البــابــا
جريدة النهار اللبنانية 15/12/2004
لا أعرف لماذا يستفزني "اسكتش" ( أنا سوري يانيّالي ) الذي يحسد فيه الممثل عبد الرحمن آل رشي السوريين على سوريتهم ، منذ ظهوره قبل أعوام في التلفزيون السوري وحتى اليوم ، مع أني آخذ الاسكتش كلما سمعته على أنه نوع من الأناشيد الحماسية المطلوبة لملئ فترات بث روتينية في احتفالات التلفزيون بالأعياد الوطنية ليس أكثر ، إلاّ أن ذلك لايمنعني من سؤال نفسي : لماذا أنا سوري يانيّالي ؟ وأبدأ بالتفكير بجدية في الأسباب التي تدفعني كسوري لحسد نفسي إلى الدرجة التي يتم فيها تكليف شاعر بكتابة اسكتش وملحن بتلحينه وفرقة بأدائه ونجم ومنشدين فضلاً عن مخرج وكادر فني وتقني لتصويره ، فلو تجاوزنا مسألة الجنسية والمواطنية التي تدفع أي مواطن في العالم للاعتزاز بانتمائه لوطنه وليس السوريون فقط ، لابد من وجود أسباب أخرى تدفع السوريين (وليس غيرهم) لحسد أنفسهم على حياتهم ، فأنا أستطيع أن أقدر مثلاً توليف اسكتش يحسد فيه الأمريكيون أو الفرنسيون أو السويديون أنفسهم على جنسياتهم ، فبإمكان أي من هؤلاء أن يقدم قائمة طويلة بمميزات الحياة المرفهة التي يعيشونها بجد ، بغض النظر ماإذا كانت هذه الرفاهية بنيت من دماء الشعوب المقهورة كما يصفها عادةً ماتبقى من الرفاق الشيوعيين ، ولكن ماهو رد أي سوري لمن يسأله : ماهي الأشياء التي تحسد نفسك عليها إلى الدرجة التي تقف وفي وسيلة إعلامية بحجم التلفزيون ، وليس في اجتماع حزبي داخلي ، لتصرخ بملء فمك : أنا سوري يانيالي ؟! ولو تجاوزنا شخصين هما المعلق السياسي السوري الدكتور عماد فوزي الشعيبي ، والنائب اللبناني ناصر قنديل اللذان سيجدان بديهة مطواعةً ولغة فكهةً (مع اختلاف اسلوبيهما) للرد الفوري على هذا السؤال ، لن نعثر بين الـ 18 مليون سوري من سيجيب بسهولة على هذا السؤال الصعب ، وربما بدافع من عصبية قومية سيتأتئ ويفأفئ طويلاً قبل أن يعثر على أي جواب ، وسيستعين بلفظ الجلالة في صياغة جملته بين الكلمة وأختها ، فإن شاء الله سأحصل على بيت ، وبإذن الله سأجد عملاً ، وسبحان الله كيف مضى هذا الشهر ، والله بيدبرها ، لابسبب خلفية دينية إنما لأنه بدون مشيئة الله لن يتمكن سوري من الاستمرار في الحياة ، فالدخل الشهري للسوري لايتعدى المائتي دولار في أحسن أحواله ، وشراء منزل في أمريكا أرخص من شرائه في دمشق ، وعلى عكس العالم السيارة في سورية يزداد سعرها كلما قدمت سنة صنعها ، وتكلفة دقيقة الحديث في الموبايل هي الأغلى بين الدول العربية ، وكل مافي البلد قديم ينتمي إلى الماضي: الشوارع والأبنية والسيارات والشعارات والإعلام ، وكلمة ممنوع أكثر الكلمات تداولاً ، والفساد هو الذي يحرك الحياة ، فلا يشق طريق ، أو يشيّد جسر ، أو يفتح نفق ، أو يعلو بناء ، أو تمر معاملة مالم يكن لأحد مصلحة ما ، أو يدخل في جيب ما مبلغ ما ، والدوائر الوحيدة التي تعمل بجد وتنشط بدون كلل أو ملل هي أبنية المخابرات ، والناس تضيف إلى طعامها توابل الشعارات لتشبع ، وحلم الوحدة العربية وتحرير فلسطين ومعاداة الاستعمار لايراه إلا السوري العادي فيقاسمه لقمته ، بينما يغيب هذا الحلم (سبحان الله) عن منامات المسؤولين السوريين فيأكلون لقمتهم كاملة ، ومع ذلك فالسوري يدبّر رأسه بإفساد حياته مرة ، وإفساد حياة الآخرين مرة ويعيش ، مثله مثل شعوب عديدة ، لكن الفارق بينه وبين تلك الشعوب أنها لاتملك أغنية من نوع ( أنا سوري يانيّالي ) تحسد فيها نفسها على حياتها التعسة !
قبل أن أنهي وإحقاقاً للحق لابد أن أذكر أن المسؤولين السوريين وأبنائهم ، وأثرياء الخط العسكري بين دمشق وشتورة ، ومليونيرات الوحدة والحرية والاشتراكية من حقهم أن ينشدوا ( أنا سوري يانيّالي ) ، ويانيّالهم فعلاً ، لأنه مامن بلد يمكن أن يجعلهم يحسدون أنفسهم بمثل هذه الطريقة غير سورية !

ترجمة محمود درويش إلي... العربية!

٢٠٠٤-١٢-١٣

ترجمة محمود درويش إلي... العربية!
2004/12/13
القدس العربي
صبحي حديدي
الملحق الثقافي الأسبوعي لصحيفة الثورة ، السورية الحكومية، أتي بما لم يستطعه الأوائل، وبما لم يتجاسر عليه إبن امرأة: لقد ترجم شعر محمود درويش من العربية إلي... العربية! نعم، أكرّر: إلي العربية! قصيدة درويش طباق ، وهي مرثية الراحل الكبير إدوارد سعيد، ترجمها يراع العبقري المدعو أنيس المهنا عن الإنكليزية، ونشرها ملحق الثورة الثقافي في عدد 7/12 الجاري، بتصدير يقول: هنا ترجمة لقصيدة لمحمود درويش يودّع فيها ادوار سعيد بعد مرور عام علي غيابه... نشرت له في Al-Ahram Weekly باللغة الإنكليزية الشهر الماضي !والحال أنّ القصيدة كُتبت بالعربية الفصحي، وبهذه اللغة قرأها درويش للمرّة الأولي حين افتتح مهرجان جرش الشعري في العاصمة الأردنية عمّان أواخر تموز (يوليو) الماضي. وبهذه اللغة الفصحي ذاتها، نُشرت القصيدة بعد ذلك في صحيفة الدستور الأردنية، و المستقبل اللبنانية التي تُوزّع في سورية، ثمّ في عشرات الصحف العربية والمواقع علي شبكة الإنترنت. وبالعربية ألقي درويش القصيدة في مناسبات لاحقة، أبرزها ندوة حاشدة في إحياء ذكري سعيد نظمتها جامعة السوربون، وأشارت إليها الأخبار في معظم الصحف العربية. ويبدو أنّ أياً من عباقرة الثورة لم يسمع بهذه القصيدة، حتي اكتشفها المهنا في مطبوعة مصرية تصدر بالإنكليزية، فترجمها، ونشرها الملحق مزهوّاً فخوراً دون ريب!والنتيجة أكثر من كارثية بالطبع، ومبكية أكثر ممّا هي مضحكة.
وإذا وضعنا جانباً الخيانات المعتادة في الترجمة عموماً والشعر خصوصاً (وهي هنا ليست تلك الخيانات المعتادة التي تراود الخاطر، بل هي جرائم وفضائح وفظائع...)، فلعلّنا نبدأ من بعض العجائب في الأمثلة التالية التي تظلّ ـ صدّقوني ـ غيضاً قليلاً من فيض مذهل:
ـ يقول درويش: ولكن سمعت هنوداً قدامي ينادوننا: لا تثقْ/ بالحصان، ولا بالحداثة ،
ويقول المترجم: مازلت أسمع حكمة قديمة للهنود:/ الثقة، لا حصان ولا حداثة !
ـ درويش: لا الشرق شرقٌ تماماً/ ولا الغرب غربٌ تماماً ،
والمترجم: هناك في الشرق، ليس شرقياً تماماً/ وفي الغرب، ليس غربياً تماماً !
ـ درويش: أدافع عن شجر ترتديه الطيور ،
والمترجم: أدافع عن البلاد والمنفي/ في طيور شجرة مكتظة الأوراق !
ـ درويش: وأكتب: ليس الجمالي إلا بلوغ الملائم ،
والمترجم: فالجمال يكمن في الوصول برباطة جأش !
ـ وخذوا هذه الفريدة، التي حوّلت الخصية إلي رصاصة!
يقول درويش: وأمّا أنا فحنيني صراع علي/ حاضر يمسك الغد من خصيتيه ،
فيترجمها صاحبنا هكذا: حنيني كفاح من أجل حاضر/ سنملكه غداً بالرصاص !!!
ـ وأخيراً، وليس آخراً أبداً، يتبرّع المترجم العبقري فيزيد علي النصّ من عندياته، ويستزيد!
يختم درويش: وداعاً/ وداعاً لشعر الألم! ،
ويترجم صاحبنا: منشغلاً.. باحتفال وداعي..../ الوداع... ادوار/ إنها قصيدة الألم الوداعية...
!الأمر لا يقف عند الاستزادة، لأنّ أنيس المهنا يشطب من قصيدة درويش أكثر من 65 سطراً! والأرجح أنّ أحداً لا يستطيع الجزم حول أسبابه في ذلك، لأنّ الســـــطور المحـــــذوفة لا تنطـــــوي علي صعوبات خاصّة عند الترجمة، كما حـــدث حين عجـــز عن إدراك معني Contrapuntal Reading، (العنوان، غير الموفّق، الذي اختارته مني أنيس في الترجمة الإنكليزية)، فانتقي لنفسه العنوان التالي: قصيدة الألم الوداعية في وداع ادوارد سعيد ، هكذا ببساطة! من جانب آخر، معظم السطور المحذوفة ذري عالية في القصيدة، وبين أجمل مقاطعها و... أيسرها علي الترجمة أيضاً! الأصل في هذه الجريمة هو استهتار لا حدود له بحرمة نصّ أدبي لشاعر أساسيّ، واحتقار لفكرة الحقّ والمسؤولية والمحاسبة، بعد الجهل الأكيد الفظيع الذي يضرب أطنابه في معظم أقسام الثقافة في الصحف الحكومية السورية. ولقد قيل لي إنّ المشرف علي الملحق الثقافي، حسين عبد الكريم، شاعر وروائي وقاصّ. ولا أدري حقاً كيف فاتت هذا الآدمي حقيقة أنّ القصيدة كُتبت ونُشرت وأُلقيت بالعربية، وأنّ درويش الأشهر من نار علي عَلَم لا يكتب بالإنكليزية. ولا أدري كيف تستمرّ هذه الفضيحة منذ أسبوع تقريباً، دون أن تنشر الصحيفة اعتذاراً من خمس كلمات؛ ودون أن يرفّ جفنٌ للمدير العام الجديد فايز الصايغ، الذي وصل إلي المؤسسة راكباً بعيرَين في آن معاً: تطوير الخطاب السياسي والإعلامي و تحسين الرأي العام السوري .وذات يوم كان ملحق الثورة الثقافي ينشر كتابات أدونيس وعلي الجندي وسعد الله ونوس وممدوح عدوان وعلي كنعان وزكريا تامر وعبد الله عبد وهاني الراهب، وكان مطبوعة راقية متميّزة بكلّ المقاييس. فما الذي تفعلونه بالثقافة السورية، يا أبناء الـ ...!

لمناسبة حملة التضامن مع المعتقلين السياسيين في سوريا السجين 405/ عارف دليلة سابقاً

٢٠٠٤-١٢-١٢
لمناسبة حملة التضامن مع المعتقلين السياسيين في سوريا السجين 405/ عارف دليلة سابقاً
في التسعينات أشار عليّ أحد طلاب الدكتور عارف دليله والذي كان قد عاد لتوه من الاختصاص في ألمانيا الديموقراطية، وصار أستاذاً في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق، بحضور محاضرات جمعية العلوم الاقتصادية التي لعارف الباع الأكبر في وجودها ونشاطها. يومها كانت المحاضرة عن قانون الاستثمار في سوريا، ويومها تداخل عارف قائلاً: إن قانون الاستثمار رقم عشرة مصمم خصيصاً ليستفيد منه عشرة أشخاص مبشرين بالجنة، وأشار بيده الى الصف الأمامي من الحضور حيث كان من كان فيه و صفق الحضور طويلاً قبل أن يتابع عارف مداخلته. في تلك الأيام كان الدكتور عارف دليلة هو الصوت الوحيد المنتقد في العلن ومن الداخل للسياسات الاقتصادية القائمة وللفساد المستشري، ولكونه قد شغل منصبي عميد كلية الاقتصاد في حلب ثم دمشق، ولكونه مؤسس جمعية العلوم الاقتصادية، ويقدم المحاضرات في أكثر من مكان وله الكثير من الكتب والمقالات وقد عمل في دول الخليج، ولكونه يملك الكثير من الإرادة وقوة الشخصية، كان قادراً على الاستمرار وحده في محيط من الصمت والخوف، حتى بعد فصله من التدريس في الجامعة بقرار سياسي تعسفي. وبعد ذلك بسنوات وفي الرياض في السعودية اجتمعت مع اثنين من طلابه واللذين صارا بدورهما أستاذين في الاقتصاد أيضاً، لنشاهده على التلفزيون. يومها كان عارف قد باشر نشاطه في ما يسمّى لجان إحياء المجتمع المدني، وعدت سريعاً إلى سوريا، وكان همي الأول أن ألتقي به. وبالفعل وفي منتدى الحوار الوطني في منزل رياض سيف في أوائل عام 2001 تعارفنا وتواعدنا وتبادلنا الزيارات والحوارات وعملنا معاً في ما سمّي "ربيع دمشق".
وبسرعة وبعد تسعة أشهر من ذاك التاريخ، وعندما كنت أسلّم أماناتي في قبو فرع الفيحاء للأمن السياسي حيث اعتقلت في اليوم السابق وأمضيت ليلتي الأولى في سجن الشعبة لصالح فرع الريف الذي سلّمني الى فرع التحقيق في اليوم التالي، وعلى مكتب مساعد السجن لمحت على مغلف موضوع أمامه اسم عارف دليلة وعلى مغلف آخر كلمة وليد، عندها عرفت أن عارف موجود أيضاً في إحدى المنفردات المجاورة، يومها شعرت (بالارتياح): طبعاً ليس لاعتقال عارف ووليد ولكن لكوني معهما في قضية واحدة، وربما شعرت بالفخر لكوننا ندخل السجن من أجل قضية مشرفة ونظيفة ليس لنا فيها أي مطلب أناني. وسمعت من شق الباب صوت عارف يرفض طعام الإفطار، وكذلك وليد، لكون الزنزانة مغلقة تماماً، معتمة ومتعفنة، يومها تناولت رغيفاً عليه بعض الزيتون الأخضر، كنت في حاجة الى الطعام كي أحتفظ بقوتي، فلا أدري ماذا ينتظرني، وعند الغداء الذي كان بامية وارزّا والذي وضع في صحن بلاستيكي لم أتمكن من غسله كما يجب، لعدم توافر الصابون، طلبت ملعقة فقال لي السجان: "كول بإيدك ولا". قلت: سبق وتعرضت للضرب من أمي كي أتعلم الطعام بالملعقة، وها أنت... أغلق النافذة من دون أن يرد، وأكلت ببقايا الخبز بينما رفض عارف تناول أي شيء.
لم تطل المعاناة فقد كانوا في عجلة من أمرهم. أنهوا التحقيقات في الليل وفي الصباح رحّلونا الى محكمة أمن الدولة العليا. اجتمعت بعارف عند مكتب المساعد الذي أعاد الأمانات إلينا. قبّّّلت عارف ووليد بحرارة وحزنت جداً لأجله وهو يرتدي حزامه ويتسلم حاجياته (أمثل هذا الإنسان يسجن في سجن كهذا؟!). وبعد نهار طويل مثلنا فيه أمام قاضي التحقيق في محكمة أمن الدولة العليا. ذهبوا بنا ليلاً إلى سجن عدرا.
في سجن عدرا في المهجع رقم 4 من الجناح 2 المخصص للسياسيين، كنت شريك عارف وحدنا وكان وليد في المهجع رقم 6 وحده. في ليلتنا الأولى طلبنا طعاماً، وكان السجانون والسخرة كريمين معنا: مكدوس ولبنة وشاي وجبن. لم يكن خافياً أبداً تعاطفهم (جميعهم) معنا، ولم يكن خافياً أنهم يتحينون الفرصة لإبداء محبتهم وتقديم كل مساعدة ممكنة بعيداً عن المراقبة. هنا عرفنا أننا في وطننا رغم السجن وأننا رغم السجن بين أهلنا وأصدقائنا. إن تلك المشاعر النبيلة (المحرمة) التي أظهرها سجانونا كانت أكبر غذاء روحي لنا في مواجهة ظرف جديد وطارئ نتعرض له، خاصة مع سماع صوت المئذنة (الله أكبر). كان ذلك مساء الاثنين 10 /9/2001، وخلال الأيام الأولى كنا نحاول الحصول على بعض الأشياء واللوازم الضرورية: سخانة، إبريق شاي، شراشف، بيجامة، شحاطة. وكنا نوطد العزم على تحسين ظروف الإقامة التي قد تطول. وبالفعل، نقل وليد البني إلينا ثم انضم حبيب عيسى وأمضينا فترة ستة أشهر معاً ووحدنا في المهجع رقم 6 بعدما ركبوا فيه أجهزة تنصت سرية، ثم في غرفة صغيرة قبل أن يفرقونا بسبب إضرابنا عن الطعام في 21/3 /2002.
الأيام الأولى للسجن صعبة، خاصة على من كان يعيش في الخارج حياة مثل حياتنا مليئة بالعمل والنشاط. كنا لا نعرف مصيرنا وكنا منقطعين تماماً عن العالم إلا بعض الجرائد الحكومية. ولا نخرج الى الباحة، وليس لنا زيارات ولم ننزل الى المحكمة. صنعت من العجين حجارة شطرنج، وحاولت أن أجمّل جدران المهجع الكبير بالمادة نفسها، فعجنت بعض بقايا الخبز اليابس بالماْء ورسمت على الجدار راقصة باليه مقابل سرير عارف لكي يحدق بها. كانت بالحجم الطبيعي تقف على أصابع قدم واحدة وترفع يدها فوق شعرها بملامحها الروسية، وكنا نستخدم الخبز والبيض والمربى والشاي والقهوة. شيئاُ فشيئاً بدت أقرب الى الواقع وبدأ عارف يقدم بعض الملاحظات المهمة، ثم صار يشارك معي. يومها اكتشفت أنه يملك عيني فنان وأنامله. ثم تولى هو وضع اللمسات الأخيرة على تلك الراقصة التي زينت جدار مهجعنا.
فعارف ليس فقط إنسانا رقيق المشاعر وفناناً بل صوفي أيضا. شخصيته ليست شخصية السياسي، إنها شخصية المثقف (رجل العلم والمعرفة والحقيقة)، لا يبحث إلا عن الحقيقة والحق بأعلى صورها وأنقى أشكالها، وقليلاً ما يهتم بالتوافقات والمصالحات والحلول الوسط. شخصية واضحة محبة متسامحة صافية ليس عندها أسرار ولا مناطق مظللة، لكنها قوية في نصرة الحق وفي كراهية الكذب.
عندما كنت أرى عارف مستغرقاً في صمته وحزنه، كنت أسأله سؤالاً اقتصادياً، فيصحو فيه الأستاذ النائم ويلقي محاضرة مطولة يشرح فيها ويطيل، وقد كنت مع وليد تلميذين نجيبين نجيد الاستماع وطرح الأسئلة. كان عارف يؤكد على الدوام أن الأزمة الاقتصادية في سوريا سببها ليس اقتصادياً ولا حلها كذلك، وأنها لم تحدث بشكل تلقائي بل صنعت تصنيعاً وبفعل فاعل، وأن الفساد لم يصنعه الأشباح بل أشخاص حقيقيون يجب الإشارة إليهم، وسياسات شجعت عليه ورعته وهيأت له الظروف الملائمة.
وفي لحظات الإحباط رسمت بالعجين أربع جماجم تمثل الأرقام التي أعطونا إياها بدل أسمائنا، قالوا لنا اكتبوا هذه الأرقام وإحفظوها جيداً. وهكذا فعلت: رسمت جمجمة عارف لتحمل الرقم 405، وحبيب 406، وأنا 407، و وليد 408. لكن جمجمة عارف بدت من دون قصد متجهمة وجمجمة وليد مبتسمة. احتج عارف وقال لي: أترسمني متجهماً في الآخرة. أيضاً هناك سأكون تعيساً. أنا أحتج. وعبثاً حاولت أن أجعلها تبتسم. كنت أقول لهم ستخرجون إذا خرجت هذه الجدران، ستخرجون ولكن جثثاً. أردتم إحياء المجتمع المدني، فتحولتم جثثا وجماجم في ماكينة القمع.
لم أكن أتخيل أن يتحول مزاحي إلى حقيقة وأن ننقل الى المنفردات ونعزل عن بعضنا ثم ينال عارف حكماً بعشر سنوات ويتعرض للإهانة، و يمرض بأمراض عدة، بينها مرض قلبي خطير. فقد كنت أظن أن مشكلتنا مع السلطة ليست كبيرة إلى هذا الحد وسرعان ما ستنتهي، لأن الحقيقة واضحة وطريق المستقبل أمام سوريا واحد ووحيد، ألا وهو طريق الحرية والديموقراطية بحسب تعبير عارف.
ومضت السنوات معزولين عن بعضنا في زنزانات انفرادية ولم نتمكن من رؤية عارف ولا سماع صوته لكونه في زنزانة بعيدة عنا. توفيت والدة عارف في الربيع الماضي من دون أن يراها لأنها كانت قعيدة الفراش ولا تتمكن من زيارته، ومنعنا من تقديم كلمة عزاء له. لكنه زرع في باحة السجن التي نخرج إليها فرادى، وردة صغيرة في حوض صغير، وراح يسقيها لتنمو وتفوح رائحتها، فهذا هو الشيء المادي الوحيد القادر على تقديمه لروح أمه الطاهرة التي غادرت هذا العالم مجروحة الفؤاد.
خرجت من السجن بعد ثلاث سنوات أمضيت معظمها في السجن الانفرادي لكني لم أعد الى البيت تماماً حتى الآن، كما لم يرجع لي اسمي الحقيقي. لا أزال أحياناً أظن نفسي 407 وليس كمال. وعندما خرجت، سألت أولادي: هل أنا أبوكم فعلاً؟ تأكدوا، ربما أخطأ السجان وأخرج رقماً آخر غيري. قالت لي زوجتي: ألم تفتح مفاتيحك الباب؟ قلت: بلى. قالت: إذاً أنت هو زوجي. لا أزال استفسر منها بين الحين والحين: هل خرجت من السجن حقاً؟ فتقول لي: جسدياً، نعم. ولا تزال هي أيضاً ترصد موعد الزيارة، ولا نزال نشعر بالقلق ليس فقط من التهديدات المستمرة بالعودة الى السجن، بل على صحة زملائي الذين لا يزالون هناك، وبشكل خاص لأن عارف مريض ولا يزال اسمه 405، وكذلك حبيب وفواز ووليد لا يزالون أرقاماً في زنازين في أوضاع صحية وظروف سيئة، ولا أزال أعمل جاهداً كي يتجاوز بلدنا تلك المرحلة الرمادية من تاريخه، أقصد مرحلة الاستبداد واحتكار السلطة بالعنف والقمع، باحثاً عمن يناصرنا بين محبي الحرية والعدالة،
ومطالباً بالحرية لكل السجناء السياسيين وفي مقدمهم السجين رقم 405/ د. عارف دليلة سابقا
ملحق " النهار " العدد 666 -12 كانون الأول 2004 ً

في ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان

٢٠٠٤-١٢-١٠
في ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان

"هيئة التحرير"
10 / 12 / 1948
نتذكر :
أن بلادنا من الدول الموقعة على هدا الإعلان ، وحكومتنا لا زالت تتنكر له ، ولا تحترم تعهداتها والتزاماتها بشأنه .
أن الأحكام العرفية تصادر كل الحقوق التي يعطيها الدستور للمواطنين ، وتحول بينهم وبين الحصول عليها .
أن النشاط في حقل حقوق الإنسان ، والدفاع عن الحقوق الديمقراطية ، والإفراج عن المعتقلين السياسيين ، ما زال نشاطاً محظوراً ، مثل التهريب والاتجار بالمخدرات .
أن الحديث عن حرية الاعتقاد والفكر والتنظيم والانتقال والعمل، وحرية التعبير والتجمع والتظاهر، مثل الكفر والتجديف وارتكاب المعاصي، تعاقب عليه سلطاتنا الرشيدة.
أن جدنا عمر بن الخطاب قال قبل أربعة عشر قرناً : " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً "، تماماً مثلما تقول المادة الأولى من الإعلان المذكور، " يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق . . . ". لكن سلطاتنا لا تعترف على معين التراث، ولا تلتزم بمورد الحداثة.
نتذكر . . عبد العزيز الخير وعارف دليلة وحبيب عيسى ورياض سيف ومأمون الحمصي وكافة المعتقلين والسجناء السياسيين، الدين يشكل احتجازهم عاراً على السلطة وعبئاً على ضمير الشعب في القرن العشرين .
نتذكر . . الآلاف من ضحايا الإرهاب والتعذيب الجسدي والنفسي ، في عمليات هدر حقوق الإنسان التي تستمر مند أكثر من أربعة عقود .
نتذكر . . عشرات الآلاف بل مئات الآلاف من الممنوعين من المغادرة ، والمحرومين من وثائق السفر من أجل العودة ، والمحرومين من فرص العمل لأسباب سياسية .
في يوم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، نتذكر حقوقنا الضائعة كموطنين سوريين ، نقرؤها في الكتب ، ولا نراها في وقائع الحياة . نعرفها جيداً، ويريدون منا أن ننساها لصالح صيغة بائدة هي ( ابن ست. . وابن جارية )، ونحن لا ننوي نسيان حقوقنا أو التنازل عنها، لأننا ببساطة مصممون أن نبقى مواطنين.
"هيئة تحرير موقع الرأي "

بيـــان


بيـــان
ليست الضغوط الأمريكية هي الخطر الوحيد المحدق بالبلاد ، فثمة خطر أكثر تأثيراً وفاعلية هو ما يضعف المجتمع ويزيد احتقاناته ويعزز أسباب يأسه وإحباطه، عنوانه الفساد وغياب الحريات وفي القلب منها استمرار ظاهرة الاعتقال السياسي.
إن الأحزاب السياسية والقوى الحقوقية والمجتمعية الموقعة على هذا البيان، وبمناسبة ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، تدعو السلطات إلى وقف وإلغاء المحاكمات الاستثنائية والإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين، الذين أنهكتهم العزلة والأمراض، ومن اعتقل منهم سابقاً أو حديثاً بمن فيهم معتقلو ربيع دمشق مروراً بالمعتقلين على خلفية أحداث القامشلي المؤسفة، وأيضاً التوقيفات المتفرقة لعدد من الطلاب وفصل بعضهم من الجامعة واعتقال بعض المنفيين العائدين و نشطاء آخرين لا يزال معظمهم قيد المحاكمة.
فأي مراقب للحياة السياسية السورية يلمس مدى ضعفها وانحسارها بسبب استمرار المضايقات الأمنية والاعتقالات المتفرقة وإشاعة حالة خوف لا تزال تتملك نفوس البشر وتشل مشاركتهم ودورهم الحيوي في إدارة شؤونهم العامة.
وأمام تعاظم التحديات الخارجية فإن ضعف المواجهة يتأتى من دوام الهيمنة الأحادية والإصرار على الخيار الأمني والاستمرار في إرهاب المجتمع وعدم احترام حقوق الإنسان الأساسية في الرأي والتعبير والنشاط والتقييم السياسي و المدني وغياب الحرية الصحفية وهضم الحقوق القومية و الثقافية و التضييق على مختلف النشاطات.
إن رفع حالة الطوارئ وإلغاء المحاكم الاستثنائية وما ترتب عليها و تسييد القانون و طي ملف الاعتقال السياسي وكشف مصائر المفقودين وتسهيل عودة المنفيين دون شروط وإعادة الجنسية للأكراد المجردين منها، هي مهمات إسعافية ملحة لا تقبل أي تأجيل نحو بناء وطن قوي قادر على مواجهة التحديات والأخطار المحدقة، وما الانكشاف الداخلي أمام الخارج إلا الخطر الأكبر على الوطن ومستقبله.
دمشق 9/12/2004م.
التجمع الوطني الديمقراطي في سورية.
التحالف الديمقراطي الكردي في سورية.
الجبهة الديمقراطية الكردية في سورية.
جمعية حقوق الإنسان في سورية.
حزب العمل الشيوعي.
لجان إحياء المجتمع المدني.
لجان الدفاع عن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان.
لجنة الدفاع عن حقوق المجردين من الجنسية.
منتدى الأتاسي للحوار الديمقراطي.
ناشطو مناهضة العولمة في سورية.
المنظمة العربية لحقوق الإنسان- فرع سورية.

نداء الحياة صرخة الحرية

“نداء الحياة صرخة الحرية”
في بداية العام 2000، توفي في سجن صيدنايا العسكري عبد المجيد زغموت عن عمر يناهز الرابعة والخمسين عاماً إثر صراع مرير مع السرطان استمر أكثر من عام.
في ذلك العام، كان قد أمضى أربعةً وثلاثين عاماً في الاعتقال متنقلاً في سجون سوريا. وأياً يكن سبب توقيفه - وهو قد اتّهم وأدين بواسطة محكمة عسكرية استثنائية لا تتمتع بأيّ ضمانات قانونية وخارج شرعة الدستور والقانون المعلن، بقضية اغتيالٍ سياسي على مستوى قيادة "فتح" - فقد قتل مرّتين.
لم يكن كافياً أن يدفن الزغموت أربعةً وثلاثين عاماً وهو حيٌّ يرزق، بل نفّذ فيه حكم الموت، ولم يعن أحدٌ بإطلاق سراح احتضاره كي يدفن بين ذويه.
لا يعني إغلاق ملفّ المعتقلين السياسيين في سوريا إطلاق سراح المعتقلين وإعادة تأهيلهم نفسياً واجتماعياً وتقديم العلاج الضروريّ لهم ووقف تجريدهم المدني وإتاحة فرص العمل والحياة الكريمة وحسب، بل يعني أولاً وقبل أيّ شيء آخر بداية رفع اليد عن المجتمع وإعادة الاعتبار الى العلاقة الطبيعية والسويّة بين المجتمع والدولة عبر إطلاق الحريات الأساسية والسياسية ووقف العمل بالقوانين الاستثنائية ومحاكمها الخاصة التي سمحت بكلّ الممارسات الجائرة التي أتاحت اعتقال البشر ومحاكمتهم بطرائق أبعد ما تكون عن رقابة القانون واستقلال القضاء. ولا يعني وحسب منع تكرار مأساة عبد المجيد زغموت مع عشرات من المصابين بأمراض مستعصية تفتك بأجسادهم وأرواحهم، ولكنه يعني أيضاً العمل وفق نصوص القانون وسلطة القضاء الشرعي ووفق شرائع حقوق الإنسان، وليس وفق التحكّم الكيفي بمصائر البشر.
ثمة مئات ممن أمضوا نيّفاً وعقدين من الزمن في أحطّ شروط الاعتقال وأكثرها وحشيةً، وقد تحولوا أشلاء وما عادوا سوى حطام بشر. ومنهم من أخلي سبيلهم بموجب عفو رئاسي وتمّ الاحتفاظ بهم لأسباب لا يعقلها عقل ولا يحكمها منطق سياسي أو قانوني أو إنساني. ثمة الكثيرون ممن اعتقلوا لأسباب تتعلق بحرية التعبير وحسب.
نفهم في ظروف استثنائية من دون أن نقبل أو نسبغ شرعية أن يزجّ بالأحياء اعتباطياً في جحيم المعتقلات. أما أن يستمر اعتقال أشباه الأحياء وأن يحرموا أبسط حقوقهم بما فيها حقّ الزيارة المصرّح به قانونياً، فهذا ما يستعصي على الفهم. لقد أضحت معتقلات الجحيم من الماضي، ويجب أن يصبح إغلاق ملفّ المعتقلين السياسيين أيضاً شيئاً من الماضي. في حملتنا لإطلاق سراح المعتقلين السياسيين في سوريا بكل انتماءاتهم وتلاوينهم السياسية، نذكّر كلّ محبّي الحرّية والمدافعين عن حقوق البشر والحياة، أفراداً وهيئاتٍ ومنظمات محلية ودولية، بأنّ واجبهم الأخلاقي والإنساني يحتّم عليهم أن يؤازروا حملتنا ويتضامنوا مع معتقلينا بكل الوسائل والطرائق المتاحة.
لقد ذبلت أوراق ربيع دمشق، ونحن نريد لسوريا ربيعاً جديداً، أول براعمه إغلاق ملفّ الاعتقال السياسي والاعتقال التعسفي والقضاء الاستثنائي.
أطلق تشي غيفارا يوماً صرخة «الحرية أو الموت»، ونحن نصرخ اليوم: الحرية والحياة!
عماد شيحة
ملحق " النهار " العدد 665 -5 كانون الأول 2004

العنف المولِّد للعنف

٢٠٠٤-١٢-٠٨
العنف المولِّد للعنف
د. برهان غليون
نجحت الولايات المتحدة ومن خلفها مجموعة الدول الصناعية في إقناع العالم أجمع، بما في ذلك النخب العربية والإسلامية بأن العنف هو الشر الأول الذي تعاني منه البشرية المعاصرة، وأن الحرب الشاملة ضد العنف هي الحرب المقدسة الوحيدة التي تجتمع حولها وينبغي أن تتوحد عبرها جميع شعوب المعمورة. ليس من المهم بالنسبة لأنصار الحرب الشاملة ضد "الإرهاب" تعريف العنف وأقل من ذلك البحث في أسبابه وشروط نشوئه وتناميه وتفجره. فتلك أمور بسيطة سهلة الإدراك وواضحة وضوح الشمس. ويكفي كي نتأكد من ذلك أن ننظر في سيرة "أسامة بن لادن" أو "أيمن الظواهري" أو "الزرقاوي" ونقرأ رسائلهم وتوصياتهم. فهم رمز العنف وتجسيده. وفي خطابهم يمكن الكشف أيضاً عن منطقه. إنه التعصب الديني وبالأخص التعصب الديني الإسلامي الذي نشأ في حضن ثقافة تقليدية منغلقة بعيدة عن العصر ومعادية لقيم التحرر والانعتاق والعقل.
اجتثات جذور العنف، وتجفيف ينابيعه يمران إذن ببساطة باجتثاث حركات العنف، وتجفيف ينابيع العقائد والمعتقدات التي وسمت بالإسلامية أو بالإسلام السياسي. ويمر هذا الاجتثاث والتجفيف عبر إغلاق الحسابات المالية للمنظمات "الإرهابية"، وتحريم أية تبرعات لصالح ما يشك أنه منظمات لها علاقة بالإسلام السياسي يمكن أن تستفيد منها، وتوسيع دائرة التنسيق الأمني بين أجهزة أمن جميع البلدان وتكوين التحالفات الدولية الضرورية لشن الحرب حيث يكون ذلك ضرورياً، كما حصل في أفغانستان وفي العراق وكما يمكن أن يحصل في بلدان أخرى.
ليس من المستغرب والحالة هذه أن تأتي نتائج الحرب العالمية ضد "الإرهاب" لتعكس الإفلاس السياسي والانحطاط الأخلاقي معاً لمنظريها ومخططيها وممارسيها. فبالرغم من مليارات الدولارات التي أنفقتها الولايات المتحدة ولا تزال تنفقها مع حلفائها من الدول الصناعية للحد من "الإرهاب العالمي"، لم يتقلص حجم التهديدات الناشئة عن "الإرهاب"، ولكنه تفاقم كما لم يحصل في أية حقبة سابقة. وهو ما ذكره الرئيس الفرنسي نفسه في تصريح له، خلال الآونة الأخيرة، أثار استياء الإدارة الأميركية. والانحطاط الأخلاقي لأن أنصار الحرب العالمية ضد "الإرهاب" يجدون أنفسهم مضطرين إلى القبول بمعايير سلوك كانوا قد جعلوا من وضع حد لها المبرر الأخلاقي للحرب. وتشعر قطاعات متزايدة من الرأي العام العالمي بأن حرب "الإرهاب" تقود بشكل متزايد نحو القبول بانتهاكات الحقوق الإنسانية، وتبرير ممارسات لا أخلاقية ولا إنسانية سواء ما تعلق منه بالقتل الجماعي والتمييز العنصري، والتلاعب بالقانون كان من الصعب السماح بها من قبل.
يشكل تفكيك شبكات التنظيم العسكري والتمويل المادي لحركات العنف هدفاً لا شك في أهميته في أية خطة جدية للقضاء على مصادر العنف والجريمة في العالم. لكن كما بينت السنوات القليلة الماضية بشكل ملموس، يمكن لاستراتيجية الاجتثاث الأمني للعنف أن تقود إلى نتائج معاكسة، وتخلق بالتالي شروطاً أكثر ملاءمة لتفريخ حركات العنف الجديدة، وتوسيع دائرة عملها وانتشارها إذا لم تندرج منذ البداية ضمن خطة شاملة للتهدئة الإقليمية والوطنية والاجتماعية، أي لبسط الأمل والأمن وفتح آفاق اجتماعية واقتصادية وسياسية حقيقية أمام جميع شعوب المنطقة وطبقاتها الاجتماعية وقطاعات رأيها العام السياسية والعقائدية. فلن تكون للحرب ضد "الإرهاب" أية نتيجة إيجابية، ولن تساهم في استتباب الأمن والسلام الأهلي والإقليمي والعالمي ما لم تتجاوز المفاهيم التقنية التي استبدت بها، وما لم تعمل على تغيير التربة التي يعشش فيها العنف وتشكل الحاضنة الحقيقية لكل بذور "الإرهاب". وهذه التربة ليست شيئاً آخر سوى الأزمة الشاملة التي قادت إليها سياسات الهيمنة، وتقاسم النفوذ الغربية والنزاعات المتعفنة والسلطات التعسفية والديكتاتوريات المقيتة والبليدة، والنظم الأبوية المتخلفة، وحالة التقهقر الاقتصادي والاجتماعي في المنطقة العربية.
وليس من المبالغة القول إن مصير المنطقة التي أصبحت مسرحاً لحرب عالمية تقودها الدول الصناعية الكبرى ضد "الإرهاب"، بتأييد أممي أم من دونه، يبدو اليوم، أكثر من أية حقبة سابقة، معلقاً على رؤية هذه الدول لواقع المنطقة وتصورها لدورها وموقعها في التحولات العالمية والمكانة التي تريد أن تعطيها لها في الاقتصاد العالمي والسياسة الدولية. هل ستظل كما كانت في السابق رهينة منطق تأمين الطاقة العالمية المضمونة والرخيصة وتنظيم سوق النفط من جهة ومنطق الفراغ الاستراتيجي الذي يشكل الحزام العازل الذي يحتاج إليه ضمان السلام والتقدم والازدهار في "أرض إسرائيل الكبرى" من جهة ثانية، أم سيكون مصيرها المشاركة، حسب إمكاناتها وموقعها، في النشاطات الدولية إلى جانب الدول الأخرى النامية وغير النامية، ويتطلب بالتالي تثمير مواردها البشرية والطبيعية وتأهيلها للاندماج النشط والمنتج في الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية الدولية وتحمل المسؤوليات التي تقع على كاهلها في إطار بناء أية سياسة عالمية؟.
إذا كان الخيار الأول هو المقصود فلن تكون الحرب العالمية المعلنة والمخوضة اليوم على تراب العالم العربي ضد "الإرهاب" سوى مقدمة نحو محاصرة هذا العالم بصورة أشد، وتعزيز تهميشه وفرض الوصاية والحماية عليه، وتركه مسرحاً سائباً للنزاعات الإقليمية والوطنية التي تفتك بشعوبه وتشل إرادة مجتمعاته، وفي موازاة ذلك وبالارتباط بهذه الأهداف، تدعيم أنظمة القهر والاستبداد والعنف الأعمى التي لا يمكن من دونها ضمان مثل هذا التهميش وتلك السيطرة والوصاية الخارجيتين. أما إذا كان الخيار الثاني هو المقصود، فسيكون من الضروري تبني سياسات عقلانية وبناءة تعزز قدرة العالم العربي على الانتقال، كما حدث في أميركا اللاتينية منذ الثمانينيات من القرن الماضي، من سياسات السيطرة والعزل والتهميش وتمكين النظم الديكتاتورية نحو سياسات قائمة بالعكس على خلق الفرص الجديدة والآمال، أي في النهاية على السعي إلى دمج الشرق الأوسط بعالم عصره، وإخراجه من حالة اليأس التي تقوده إليها سياسات نخب ديكتاتورية محلية ومصالح عالمية قائمة على ضمان الاستقرار الشكلي من دون مراعاة لأية مبادئ سياسية أو ثقافية أو اجتماعية ولأية معايير قانونية. وبقدر ما سيدفع الخيار الأول إلى تفاقم أزمة العالم العربي وتعميق إحباطاته سوف يزيد من احتمالات النمو المتجدد لحركات العنف و"الإرهاب" التي تصعب السيطرة عليها. وبالعكس، بقدر ما يؤدي الموقف الإيجابي إلى إخراج العالم العربي من أزمته التاريخية ويفتح آفاق التحولات الديمقراطية فيه، يعزز من احتمال نمو قيم الحرية والمساواة والعدالة والإنسانية ويهمش مجموعات "الإرهاب" ويعزلها ويجعل من نشاطاتها نشاطات غير منتجة وغير قادرة على تأمين أي تعاطف معها، أي يجفف الينابيع التي تستقي منها ويجعلها تذبل وتختفي من تلقاء نفسها.
وللأسف ليس هناك بعد ما يدل على أن سياسات الحصار والهيمنة والتسلط وتقاسم النفوذ قد تراجعت أو هي في طريق التراجع في الشرق الأوسط، ولا على أن الأمل يزداد بإمكانية السير في طريق التعاون الإيجابي مع العالم الصناعي للخروج من الأزمة. بالعكس، إن جميع الدلائل تشير إلى أن طريق الآلام لا يزال هو الطريق الوحيد المفتوح، مع ما نشهده من تكالب الدول الكبرى على تقاسم مناطق النفوذ والصفقات التجارية، وخطب ود النخب الحاكمة الفاسدة وما نعاينه من تفاقم العنصرية في العلاقات الاجتماعية، وتنامي الاعتقاد لدى الأوساط الرسمية والشعبية في عموم البلدان الصناعية بأطروحة وجود هوة ثقافية لا يمكن ردمها بين الإسلام والثقافة العصرية، وبأن الحرب بين عالم الإسلام وعالم الغرب حتمية، سواء أسميناها حضارية أم همجية.
باختصار، لا يمكن للعالم العربي أن يفلت من كماشة عقيدة الحرب الوقائية التي أصبحت منهجاً في التفكير الاستراتيجي الغربي، في أميركا وغيرها، بالرغم من المظاهر الشكلية واختلاف التفسير، ما لم ينجح العرب في إعادة طرح مسألة العنف على أسس مغايرة لتلك التي لا تزال مطروحة بها اليوم، أي ما لم يتطور الوعي عند الشرقيين والغربيين معاً بأن العنف ليس سمة ثقافية ولا حتمية تاريخية ولكنه ثمرة شروط مادية، أي يمكن تحليلها بالعقل وتغييرها أيضاً، يمكن لجميع الشعوب والمجتمعات أن تجد نفسها حبيستها وأن تسقط في شرك إرادة القوة الناجمة عنها. وبقدر ما ننجح في ترسيخ الاعتقاد بأن العزل والتهميش والإذلال والقتل ليست الوسيلة الأنجع لدرء العنف، وأن تنمية العالم العربي ودمقرطته هما بالعكس الطريق الوحيدة لإخراج هذا العالم من أزمته التاريخية وتمكينه من تمثل معايير القياس الكونية فنحن نساعد الرأي العام الغربي على تبني مقاربة أكثر عقلانية وندفعه إلى إعادة النظر في السياسات الدولية المدمرة تجاه المنطقة العربية.
"الاتحاد"

سورية تفرج عن 112 معتقلا سياسيا

سورية تفرج عن 112 معتقلا سياسيا
2004/12/08
دمشق ـ يو بي آي: أفرجت سورية امس الثلاثاء عن 112 معتقلا سياسيا في إطار عفو رئاسي يستند الي نهج منفتح ومتسامح في التعامل مع هذا الملف ، وفق ما ذكرته وكالة الأنباء السورية الرسمية، سانا.وأشار نبأ الوكالة السورية الي أنه سبق وتم الإفراج قبل شهر عن عشرين معتقلا سياسيا، ليترفع الي 132 عدد المعتقلين السياسيين الذين أطلقتهم السلطات السورية في الفترة الأخيرة.وفي أول رد فعل علي الإفراج، قال رئيس جمعية حقوق الإنسان في سورية، غير المرخص لها، هيثم المالح لـ يونايتد برس إنترناشونال أنه لا يوجد وضوح حيال طبيعة هذه الإفراجات. وغالب الظن أن المفرج عنهم هم من أصل 450 سجينا سياسيا في سجن صيدنايا ، علي بعد 40 كيلومترا شمال غرب العاصمة دمشق. وأضاف المالح أنه مضي علي أغلبهم أكثر من 20 سنة في سجن صيدنايا الذي يخضع للتفتيش الدولي دوريا. ورجح أن يكون أغلب المفرج عنهم من السوريين، وأن معظمهم من التيارات الإسلامية . وكانت السلطات السورية نقلت مؤخرا ما بين 280 ـ 300 سجين سياسي من صيدنايا الي فروع أجهزة الأمن، وأطلق نحو 80 منهم فيما أحيل 120 معتقلا الي فرع الأمن العسكري.

قانون الأحزاب وتحرير الحياة السياسية في سورية

٢٠٠٤-١٢-٠١
قانون الأحزاب وتحرير الحياة السياسية في سورية
ياسين الحاج صالح
نسب عضو في قيادة الجبهة الوطنية التقدمية في سورية إلى الرئيس بشار الأسد قوله: "ليس بيننا من يقول لن يكون هناك قانون أحزاب أو إننا لسنا مع قانون أحزاب". فالموضوع "يمكن أن يثار ويحسم في المؤتمر القادم لحزب البعث العربي الاشتراكي" (نشرة "كلنا شركاء" الإلكترونية، 14/10/2004).
لعله ليس من قبيل افتعال المفارقات أن نتساءل: ولكن ما علاقة مؤتمر البعث بقانون الأحزاب؟ وكيف يمنح الحزب ذاته حق التشريع لجميع السوريين فيما هو حزب بعضهم فحسب؟ ألا يفترض بالقوانين أن تصدر عن سلطة مختصة هي السلطة التشريعية التي تسمى في سورية "مجلس الشعب" وليس عن حزب لا "يجلس" فيه غير بعض الشعب؟ أليس تحكيم حزب البعث في شرعية الأحزاب الأخرى، المنافسة من حيث المبدأ، تصرفا تحكميا لا يستجيب لمقتضيات العدالة ولا لمنطق السياسة المدنية؟ الجواب على السؤالين الأولين بسيط: البعث حزب ودولة، أو أن سورية دولة حزب البعث وليست دولة السوريين جميعا. وهو جواب كاف لجعل السؤالين الأخيرين نافلين.
معلوم أن حزب البعث الحاكم "ارتضى" أن "يقود" السوريين منذ الانقلاب البعثي الأول قبل 41 عاما، ثم أضاف إلى أعبائه القيادية "جبهة وطنية تقدمية" منذ 32 عاما بعيد الانقلاب البعثي الثالث. وفي الشهر العاشر من عام 2004، وفي ميثاقها المعدل، سوغت الجبهة انقيادها لحزب البعث بـ"الدوره التاريخي الكبير الذي لعبه في حركة النضال العربي"، و"تحمله مسؤولية قيادة الدولة والمجتمع منذ ثورة الثامن آذار"! ومعلوم أن الحزب راعى، قبل الجبهة وبعدها، أن يحتفظ لنفسه بموقع سياسي غير قابل للمنافسة أو المشاركة أو التقليص. وفي ميثاق الجبهة الجديد ذاته يتم التعبير عن رعاية الحزب لموقعه الامتيازي كالتالي: "تتجسد قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي للجبهة بتمثيله بالأكثرية في مؤسساتها جميعا وبأن يكون منهاج الحزب ومقررات مؤتمراته موجها اساسيا لها في رسم سياساتها العامة، وتنفيذ خططها". ترى، ما مبرر وجود أحزاب الجبهة الأخرى إذن؟ وبم تختلف عن "المنظمات الشعبية"؟
وليس ثمة ما يخولنا اليوم الاعتقاد بأن قانون الأحزاب المحتمل صدوره عن مؤتمر الحزب سيراعي أكثرية السوريين غير البعثية أكثر مما سيراعي الأقلية البعثية الحاكمة.
لغم دستوري
لكن بصرف النظر عن النيات، فإن هناك لغما دستوريا على طريق اي قانون لتنظيم الحياة السياسية في البلاد. إذ يكاد يكون في حكم المؤكد أن قانون الأحزاب العتيد لن يمنح الشرعية لغير الأحزاب التي توافق على الدستور الحالي الذي تنص مادته الثامنة على أن حزب البعث هو الحزب القائد للدولة والمجتمع وانه يقود جبهة وطنية تقدمية....إلخ. غير أن القبول بهذه المادة يتعارض مع مفهوم الحزب السياسي ذاته. فلو كان المعارضون يقبلون بقيادة حزب البعث لانضموا إليه ولما شكلوا أحزابا مستقلة ولما عارضوا سلطة الدولة الحزبية. بعبارة أخرى، لا يمكن لحزب حقيقي أن يعترف بنص دستوري يلغي مبرر وجوده.
ومن بدهي القول إن قانون الأحزاب هو قانون عمل الأحزاب المستقلة والمعارضة. أما انضواء أحزاب تحت قيادة حزب البعث و"التزامها بمنهاجه ومقررات مؤتمراته" فأمر لا يحتاج إلى قانون. فهو إما فعل خضوع أو فعل حب خالص، والحب والخضوع غنيّان عن القوانين جميعا.
في ظل الدستور الحالي سيكون قانون الأحزاب هدية مفخخة تنفجر في وجه الحزب الذي يتلقاها. والمشكلة انه ليس ثمة اية آليات مستقلة أو محايدة لتغيير هذه الحال الدستورية. فآليات التعديل التي يقترحها الدستور مفخخة بدورها، تكفل أن يكون التعديل مستحيلا إن لم يبادر إليه رئيس الجمهورية ومحازبيه البعثيين. فبينما يقتضي طلب التعديل مبادرة الرئيس أو ثلث اعضاء مجلس الشعب، فإن التعديل لا ينفذ إلا إذا أيده ثلاثة ارباع اعضاء المجلس، وفقط بعد موافقة الرئيس عليه (المادة 149 من دستور 1973). وسيتاح لنا في سياق المقال أن نشير إلى أن الدستور مصمم لحماية السلطة وتقييد المجتمع لا العكس.
مفاد ذلك أن سورية واقعة تحت حكم حزبي مؤبد لا مجال للاستئناف والنقض فيه. وهذا تعقيم سياسي قسري للمجتمع السوري تحت قناع دستوري. بل هو خصاء سياسي بالفعل.
إلى ذلك، وفي الأصل والمبدأ، المادة 8 من الدستور مناقضة لمفهوم الدستور أكثر حتى مما الموافقة عليها مناقضة لمفهوم الحزب السياسي المستقل.
فمفهوم الدستور يصدر عن تصور للسلطة كقوة ميالة تلقائيا إلى التوسع ما لم تجابه بقوى موازية تلجمها وتضبط نزوعها لابتلاع المجتمع. ويعتبر التصور ذاته أن السلطة المنفلتة وغير المقيدة بالقانون هي الخطر الأساسي على الحرية في كل المجتمعات. ومن هنا الحاجة إلى ما يقيدها ويحد من نزعتها التوسعية الذاتية. والدستور هو قيد السلطة وقانون كبح جماحها، هو الحاجز الذي يمنعها من التوسع والانفلات واستعباد المجتمع. فالهدف الأول والأخير للمبدأ الدستوري هو حماية الحرية من عدوان السلطة. ولا نعرف منافسا لهذا المفهوم الليبرالي للدستور. فالدول التي ترفض هذا المفهوم هي ذاتها الدول التي لا تحترم دستورها هي بالذات، ممثلة بذلك برهانا عمليا على بطلان اي مفهوم آخر للدستور.
لكن يبدو أن بال المشرع السوري الذي وضع دستور 1973 كان منشغلا بدوافع أخرى غير ضبط السلطة وضمان حريات المواطنين: ضبط المجتمع واحتكار السلطة وحمايتها من حرية المواطنين. ورغم ان نص الدستور يعترف بحريات الرأي والفكر والتعبير والتجمع إلا أن هذه الحريات بالذات منسوخة بحالة الطوارئ المفروضة في البلاد قبل الدستور بعشر سنوات. وفيما يخص هذه الحالة المزمنة أيضا ليس ثمة آليات مستقلة لرفعها ووقف العمل بها رغم أن تاريخها (أي حالة الطوارئ) في سورية هو تاريخ الوعد المُخلَف بقصر تطبيقها على الحالات التي تمس "أمن الوطن". والخلاصة أننا محكومون بطوارئ مؤبدة، اي بحكم الاعتباط والعسف، فوق حكم الحزب الواحد المؤبد.
حراسة الفراغ السياسي
قلنا إن اللغم الدستوري يتمثل في ان قانون الأحزاب المفترض ينبغي ان يتقيد بأحكام الدستور التي تمنح حزب البعث موقعا في الدولة والنظام السياسي والمجتمع متعارضا مع إمكانية وجود احزاب مستقلة فعلا. عمليا هذا يعني: (1) حزب البعث فوق القانون؛ (2) الأحزاب الأخرى لا مبرر لوجودها. وبدوره هذا يعني ان الدستور ينظم ويحرس الفراغ السياسي في البلاد. فالحزب الذي فوق القانون يكف عن كونه حزبا ويفقد طابعه السياسي (فالحزبية والسياسة تفترض تعدد المصالح الاجتماعية وشرعية تمثيلها المستقل)، والأحزاب الخاسرة لمبرر وجودها لا يمكن ان تكسب صفات تمثيلية وسياسية.
وليس هناك غير واحد من حلين لهذه المعضلة: إما تعديل الدستور بإلغاء المادة الثامنة والمضي قدما نحو نزع حزبية الدولة، أو تقنين التعقيم السياسي القسري القائم. يفضي الحل الأول إلى أيلولة حزب البعث حزبا سورية بين احزاب سورية اخرى، حزبا يخضع مثل غيره للقانون المنتظر. فيما يثبت الحل الثاني ان سورية دولة البعثيين من ابنائها وأن غير البعثيين هم في أحسن احوالهم مواطنون من الدرجة الثانية. وبالطبع يقتضي الحل الأول نزع صلاحية اقرار قانون الأحزاب من يد حزب البعث. أما الحل الثاني، الحل البعثي للمسألة الحزبية في سورية، فلا يتعارض مع احتمال ضم بعض الأحزاب للجبهة، أو ربما إيجاد "منزلة بين المنزلتين" لبعض الأحزاب التي قد ترتضي الانقياد لحزب البعث دون ان تنضم إلى الجبهة. ومن المحتمل أن يتوزع الحزب القومي الاجتماعي والحزب الديمقراطي السوري وحزب النهضة الديمقراطي والتجمع من أجل الديمقراطية... على أحد الموقعين المذكورين.
والأرجح في تقديرنا أن الحل سيكون في اتجاه التعقيم دون ان يعني ذلك بالضرورة أن الأحزاب التي لن تنال بركات قانون الأحزاب العتيد (الإسلاميين، الأحزاب الكردية، أحزاب التجمع الوطني الديمقراطي...) ستقمع بالقوة.
بيد أننا نرى ان هناك احتمالا قويا لعدم صدور القانون أصلا. فعلى أرضية التحليل السابق سيثير قانون الأحزاب من المشكلات أكثر مما يؤمن من الحلول. ومن الوارد جدا أن تتغلب الغريزة المحافظة والحذرة للسلطة السورية على نزوة تحديثية مكلفة. ولعلنا نذكر أن الحديث عن قانون أحزاب وشيك واكب الأيام الأولى لعهد الرئيس بشار الأسد، وأن نائب الرئيس بالذات تحدث عنه لرياض سيف في صيف عام 2000. إن القانون الذي صبر 4 سنوات يستطيع أن يصبر.. من يدري؟ ربما اربعين!
ضد القانون
إذا قسنا على قانون المطبوعات الذي صدر قبل أزيد من ثلاث سنوات (وهو آية من آيات الاعتباط والتحكم، وصفه بعض الناشطين بأنه قانون عقوبات...) فإن المفارقة التي يرجح أن تسم قانون الأحزاب المنتظر هي أن الواقع القائم أرحم وأعدل وأحكم من القانون المتوقع. ف"الواقع" "يعترف" بأحزاب مستقلة ومعارضة، فيما يرجح أن ينكرها القانون ما لم يتم إلغاء المادة الثامنة من الدستور. و"الواقع" يترك الأمور تجري بشيء من اليسر، فيما يبتغي القانون أن يضبطها تحكميا ويعسر سيرها. والأكيد أن سر يسر الواقع وعسر القانون يكمن في أن مشرعي سورية لا يصدرون عن إقرار السوريين على ما ارتضوه وألفوه (ولا عن اعتبارات العدالة المجردة)، بل عن عقيدة سلطوية منفصلة عن تجارب أجيال السوريين الحالية وعن خبرتهم الحية، وكذلك عن مصالح مادية وسياسية متطرفة لا تقبل التقنين. فالثقافة السياسية لمشرعينا ترتكز على مفهوم الدولة المقرِّرة لا الدولة المُقِرًّة، الدولة التي تربي المجتمع لا الدولة التي تمثل المجتمع (وتترك له ان يربي ذاته).
ولعل لا قابلية التقنين المميزة لمصالح نخبة السلطة السورية هي النقطة التي تتيح لنا أفضل موقع لمعرفة طبيعتها وتكوينها. فالأمر لا يتعلق بمصالح غير قانونية أو غير مشروعة بل بمصالح (مادية وسياسية واجتماعية) مضادة لاي قانون، حتى لو اصدرته لتوها هذه النخبة بالذات. وهذا لأن أي قانون يعني انك لا يمكن ان تنال كل ما تريد، فيما تمكنها قوتها بالضبط من نيل كل ما تريد. لذلك تفضل قانونها هي، قانون القوة والهبش، على قواعد لا بد أن تقيد إرادتها وتضبط سلوكها. فهي لا ترضى بأقل من الحرية المطلقة، وكل ما دون ذلك هو قيد لا يطاق وتضييق فظيع على حريتها.
ثم إنها بلغت من القوة والاستهتار مبلغا يمكنها من المبادرة إلى إصدار قوانين وتوجيهات ومراسيم لا مفعول لها البتة إلا توقّي الضمور المحتمل لعضو الدولة التشريعي بسبب قلة الاستخدام. ولذلك كانت حصيلة الإصلاح السوري بعد قرابة اربع سنوات ونصف ترسانة ضخمة من القوانين الكسيحة. فبكل بساطة لا فرصة للإصلاح في ظل بنية مصالح غير صالحة ومنتجة للفساد والتسلط. هذه البنية لا تقبل الإصلاح، وبالمقابل لا يقبل الإصلاح إلا تغييرها الأساسي.
وإنما هنا، اي في قوة ومصالح وتكوين نخبة السلطة، مصدر تفاقم الفوضى والفساد واللاعقلانية في الدولة والحياة العامة. مرجع الأمر أن سورية تفتقر إلى نخبة حاكمة عقلانية قادرة على عقلنة النظام الاجتماعي وبث الانسجام والاستقرار الحي فيه، أو بعبارة ادق إن تكوين نخبة السلطة يجعل منها منبعا ثرا للفوضى والاضطراب والاعتباط والمزاجية والتعطيل في الميدان السوري العام.
السياسة المستحيلة
اي مشكلة سيسوي قانون الأحزاب إذن؟ أي حل وسط سيقترح للمسألة السياسية السورية؟ إن لم يحدث ما ليس بحسبان أحد فستسير الأمور على المنوال السوري المألوف: الأمر الواقع يتابع حياته العرفية على غير نظام، والقوانين تواصل حياتها الخاصة على الرفوف. ستكون ثمة تسوية لكن ليس يين فاعلين سياسيين وقوى اجتماعية مستقلة، وعبر مفاوضات وحوار، بل بين منطقين للعمل الاجتماعي: منطق رسمي لا يعترف بالواقع، ومنطق واقعي لا يبالي بالقانون الرسمي. قد يكون هذا الازدواج أرأف بالناس، لكنه يصون علاقة الاغتراب بين المجتمع والدولة: لا الدولة تمسي دولة وطنية حديثة، ولا المجتمع يغدو مجتمعا مدنيا متفاعلا. وهذه علاقة مضادة للتراكم المدني، تراكم الخبرة والكفاءة والدراية والعلم العملي والنظري والمهارة. وهي مصدر للتخلف والبدائية وتراجع موقع بلدنا في الترتيب العالمي على مختلف المستويات. وما من أحد يسيطر على هذا الشرط الذي يتطلب تصريفه شيئا مختلفا عن السيطرة الأمنية وصناعة الكاريزما والخوف. ولعله هنا مكمن التشاؤم المحسوس في تصريحات مسؤولين سوريين في مواقع القرار.
والحال إن امتناع التسوية والحلول الوسط بين فاعلين سياسيين واجتماعيين مستقلين يصدر عن أصل يجعل من قانون الأحزاب، إن صدر، فارغ المضمون: عدم اعتراف نخبة السلطة بالسياسة كتسوية وحلول وسط وتفاوض، وقبل ذلك عدم الاعتراف بوجود فاعلين اجتماعيين وسياسين مستقلين، عدم الاعتراف بوجود أطراف اجتماعية أخرى. بدل السياسة ثمة قوة تلغي وجود الآخرين، وثمة عقيدة تنكر وجودهم، وتصادر على تطابق تفضيلات نخبة السلطة ومصالح الأمة. بعبارة أخرى السياسة منفية لمصلحة ما دونها: القوة، وما فوقها: العقيدة.
تمثيل السوريين
الأرجح ان القانون سيحظر تشكيل أحزاب على أساس ديني او إثني أو مذهبي. وهو سيصدر في ذلك عن مفهوم الدولة المربية، ولكن كذلك عن المفهوم البعثي للوحدة الوطنية: السوريون موحدون بقدر ما لا يكونون احرارا (ما يستتبع أنهم لا يكونون احرارا إلا على حساب وحدتهم الوطنية).
والسؤال هنا: ما فائدة قانون يدير ظهره للوقائع التي تعيشها في ظلها أوسع قطاعات السوريين؟ وهل سيكون قانون يحظر الإخوان المسلمين والأحزاب الكردية (فضلا عن بعض او جميع احزاب التجمع الوطني الديمقراطي التي سترفض الاعتراف بقانون أحزاب ملغوم)، غير فرصة مهدورة لتنظيم الحياة السياسية في البلاد على اسس جديدة؟
في العقيدة السياسية للسلطة السورية وفي خطابها الإعلامي ليس ثمة اعتراف بوقائع التعدد الإثني والديني والمذهبي في البلاد، أما في الممارسة العملية فتراعى هذه الوقائع بدرجات متفاوتة على المستويات الحزبية والحكومية والإدارية. حال الازدواج هذه تحرم الممارسة العملية من مفاهيم وقواعد مستقرة تضفي عليها درجة من الاتساق، وتتيح لتفاعلات السوريين أن تنتظم على اسس منسجمة ووطنية. وهي لذلك تظل تحت رحمة مقتضيات الولاء وأمزجة أطراف حزبية وامنية وبيروقراطية غير متحررة من روابطها الأهلية وولاءاتها الجزئية. وليس من شأن التجاهل المرجح لهذه الوقائع أن يقدم حلا للحساسيات الأهلية المتزايدة، ما يحتمل أكثر هو أن يفاقمها. فالحل الوحيد لهذه المشكلات هو ما قد يتمخض عنه نقاش عام علني وحر يشارك فيه ممثلو السوريين جميعا. والحال، لم يعد الاختيار منحصرا اليوم بين إطلاق النقاش هذا أو كبته، بل بين نقاش حر وعلني، عناونيه واضحه، ومعاييره القيمية والإيديولوجية منسجمة، والمشاركون فيه ملزمون بتوضيح مواقفهم وتفضيلاتهم أمام السوريين جميعا، وبين نقاش مشوه، عناوينه مغشوشة، ومعاييره الفكرية والأخلاقية والسياسية متدنية، ويعلو فيه صوت المشاركين الأكثر فئوية والأقل التزاما بإطار وطني لحل المشكلات الوطنية. ثمة عينات مقلقة من هذا النقاش الأخير نجدها في الانترنت.
نريد من ذلك وضع التفكير في قانون الأحزاب على أرضية التفكير بسبل ضمان تمثيل أكثر إنصافا وحركية للشعب السوري، تمثيل يساعد السوريين على ان يتكونوا كشعب وحامل لإرادة عامة، لا ان يأتسروا لروابطهم الأهلية الضيقة. وليس في ذلك ما يكرس واقع التعددية السورية، الساكنة أو الأهلية. العكس هو الصحيح؛ فتجاهل هذه التعددية علانية ومراعاتها خلسة هو ما يرسخ سكونها ويعوق تحديث تمثيل السوريين واكتسابه بعدا مدنيا وديناميا.
والأمر الحيوي من هذا المنظور هو تدارك عوز التمثيل السياسي الذي يعاني منه السوريون وفتح المجال العام على ما يرتضونه لأنفسهم من ممثلين وأطر تمثيلية. فأي تمثيل، ساكنا تقليديا او مدنيا حديثا، أفضل من نظام لا تمثيلي، نظام يغذي فوق ذلك التناثر الأهلي للمجتمع ويغطي تفاقم حالة القطيعة وانعدام التفاعل بين الجماعات الأهلية. بباسطة لا نتخيل سبيلا لصحوة وطنية سورية دون تحرير النقاش العام حول القضايا العامة، وفي مقدمتها طبيعة النظام السياسي في البلاد وقضايا الشرعية والتمثيل الاجتماعي.
من نافل القول ان ايا من القضايا الدستورية والسياسة والاجتماعية والفكرية المثارة هنا غائبة عن افق تفكير المشرعين واصحاب القرار السوريين. ومن المؤسف انها لا تكاد تكون حاضرة في نقاشات المثقفين والناشطين السوريين المستقلين.
زبدة الكلام: لا معنى لإصدار قانون أحزاب في ظل نظام الحزب الواحد. لا لزوم له ولن يفيد في شيء. وبالعكس يمكن وينبغي أن يكون كل من قانون الأحزاب ونزع حزبية الدولة (بطي صفحة نظام الحزب الواحد) وجهان لعملية واحدة، عملية تحرير الحياة السياسية في البلاد والاعتراف بحق السوريين في تمثيل حر ومستقل يستجيب لما يعتقدون أنها مصالحهم ورؤاهم وتفضيلاتهم.
"الحوار المتمدن"

سوريا ممكنة دون معتقلين سياسيين!

سوريا ممكنة دون معتقلين سياسيين!
أطلقت مجموعة من السجناء السياسيين السابقين يوم 18 تشرين الثاني الجاري حملة للإفراج عن معتقلي الرأي والسجناء السياسيين في
سوريا. تتكون المجموعة من عماد شيحا الذي أفرج عنه في آب الماضي بعد 30 عاما في السجن (مقابل 22 عاما من الطفولة والشباب)، والطبيب والكاتب كمال اللبواني أحد سجناء "ربيع دمشق" العشرة، وقد أمضى ثلاث سنوات وأفرج عنه في ايلول الماضي، وحسيبة عبد الرحمن الناشطة السياسية والكاتبة التي سبق أن أمضت ما مجموعه 7 سنوات في سجون وطنها، وكاتب هذه السطور، وقد أمضى 16 عاما، إضافة إلى المحامي أنور البني. ومن المقرر أن تنتهي الحملة في العاشر من الشهر المقبل، اليوم العالمي لحقوق الإنسان.
تم تدشين الحملة بمؤتمر صحافي في مقر جمعية حقوق الإنسان في سوريا. وفي الوقت نفسه وجهت رسالة إلى رئيس الجمهورية تأمل منه أن يوعز "بإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي والضمير, وإغلاق ملف الاعتقال السياسي"؛ ونشر نداء "موجه إلى جميع الأفراد والمنظمات والهيئات الوطنية والعربية والدولية" للتضامن مع السجناء؛ وهناك أيضا عريضة تجمع عليها التواقيع وتطالب بالإفراج عن المعتقلين وغلق ملف الاعتقال السياسي وإلغاء المحاكم الاستثنائية. ويؤمل أن تتوج الحملة باعتصام أمام مقر رئاسة الوزراء في اليوم العالمي لحقوق الإنسان.
معلوم أن الإفراج عن السجناء السياسيين كان بندا ثابتا على جدول عمل الحراك الديموقراطي السوري في بضع السنوات الأخيرة، بل بالفعل منذ الموجة الديموقراطية الأولى عام 1980. لكن ليس من الضروري إشراط هذا البند بالذات بجدول أعمال ديموقراطي مكتمل. فالأمر يتعلق بالحياة والصحة لمئات السجناء الذين انهى بعضهم أحكاما أصدرتها محاكم غير عادلة في ظل قوانين غير عادلة (لذلك فإن كلمة معتقلين أنسب واصدق من كلمة سجناء)، وبعضهم يمضي سنوات حكمه في زنزانة منفردة، وسجناء صيدنايا منهم محرومون من زيارة أهاليهم منذ اكثر من عامين، وأحوال بعضهم الصحية سيئة مثل الدكتور عارف دليلة، وبعضهم نقلوا من السجون إلى فروع الأمن كي يفرج عنهم ثم أرجعوا إلى السجن، ما يعتبر تصرفا فظا، غير مسؤول وغير إنساني؛ ومن وراء هؤلاء ثمة مئات الأسر، الآباء والأمهات والزوجات والأبناء...، التي نغصت حياتها، وفي كثير من الأحيان تحطمت بالفعل. وهي في هذا المعنى قضية مستقلة عن اي شيء آخر ولا تقبل الاختزال إلى أي شيء آخر، قضية يمكن إنهاؤها، بل ينبغي انهاؤها فورا. هذا ما يدفع معتقلي رأي ومعتقلين سياسيين سابقين إلى دفع هذه القضية إلى الصدارة وإثارة اهتمام الرأي العام وجملة النشطاء والمثقفين بها.
لقد ارتبطت قضية المعتقلين بزمن الهول والرعب الذي غطى العقدين الاخيرين المظلمين من القرن العشرين السوري. وفيها اكثر من اي شيء آخر يتجسد الخوف والانكسار واللاإنسانية والتدمير الوطني والاجتماعي الذي فتك بسوريا وأهلها. وهي كذلك المقياس الأول لنوعية الحياة وقيمة الإنسان في بلدنا، والقضية الأكثر تأثيرا على جوانب الحياة الأخرى، الثقافية والتنموية والاجتماعية والأخلاقية والسياسية والأمنية. فالبلد المتميز بفظاعة سجونه وكثرة نزلائها لا يمكن جامعاته وآدابه واقتصاده وإعلامه وأخلاق مواطنيه وكفاءة اجهزته المدنية والأمنية والعسكرية ان تتميز بغير الفساد والتداعي. وفي الأساس لا يمكن البلد الذي تزدهر فيه السجون إلا أن يكون ذاويا، كسيرا، حزينا.
إن قضية المعتقلين السياسيين في مجملها قضية ظلم فاضح وانتهاك لمبادئ العدالة، وإساءة الى الشعب السوري وإذلال له، وصفحة مظلمة وقبيحة من صفحات تاريخ بلادنا.
فلتطو هذه الصفحة السوداء كي نتمكن من الصفح!
فلتطو كي يستطيع السوريون رفع شعار مانديلا النبيل: نصفح ولا ننسى!
النهار - الملحق الثقافي
العدد 664، 28.11.2004

هرولة سورية


هرولة سورية
2004/12/01
عبد الباري عطوان
القدس العربي
لا احد يطالب الحكومة السورية بخوض حرب ضد اسرائيل في هذا الزمن العربي السيء، ولكن من حقنا ان نطالب هذه الحكومة بعدم خداعنا والضحك علي عقولنا، لان المواطن العربي لم يعد غبيا، كما ان ثورة الاتصال التي تسود العالم حاليا لم تعد تسمح بالتخفي خلف الاقنعة وتزوير الحقائق.فمن الواضح ان القيادة السورية متلهفة علي استئناف المفاوضات مع آرييل شارون وحكومته باسرع وقت ممكن، واستخدمت كل قنوات الاتصال الممكنة، وغير الممكنة، لايصال رسائل في هذا الخصوص، وتنازلت عن كل شروطها السابقة، واهمها استئناف المفاوضات من حيث توقفت، او ما يعرف بوديعة رابين، وعندما لم تجد اي تجاوب من شارون لجأت الي بوابة شرم الشيخ ، ووسطت الرئيس مبارك او لعله تطوع بالوساطة بعد ان لمس، وهو اللماح في هذه المسائل فقط، هذه الرغبة السورية المتأججة، علي امل ان ينجح، وهو الساعي الاكبر فيما فشل فيه سعاة البريد الآخرون، وعلي رأسهم تيري لارسن مبعوث الامين العام للامم المتحدة.المتحدث باسم الرئاسة المصرية السيد ماجد عبد الفتاح، اعلن امس الاول ان زيارة الرئيس بشار الاسد الي شرم الشيخ، ولقاءه مع الرئيس مبارك، يأتيان في اطار عرض مصري بالتوسط بين الجانبين المصري والسوري، وقال بالحرف الواحد ان وزير الخارجية المصري احمد ابو الغيط سيطير فور انتهاء الاجتماع الي القدس المحتلة علي رأس وفد يضم اللواء عمر سليمان رئيس المخابرات العامة لنقل الافكار والرغبة السورية في استئناف المفاوضات الي الحكومة الاسرائيلية.الحكومة السورية التي مازالت تتصرف وكأنها تعيش مرحلة المد القومي في السبعينات، قالت علي لسان مصدر مسؤول فيها ان زيارة الرئيس الاسد الي شرم الشيخ ولقاءه مع الرئيس مبارك ليست لهما علاقة بالعرض المصري للوساطة بين دمشق وتل ابيب.لماذا هذا اللف والدوران، ولماذا هذا الخجل المصطنع ، فالرئيس بشار لا يذهب الي شرم الشيخ من اجل وضع خطط عسكرية للحرب المقبلة ضد اسرائيل أو لدعم المقاومة في العراق وفلسطين وامدادهما بالاسلحة؟النظام السوري لن يكون اول نظام عربي يتراجع عن مواقفه مئة وثمانين درجة، وهو تراجع مؤسف علي اي حال لا احد يتمناه حتي اشد المخلصين لهذا النظام. فمصر السادات تراجعت، والقيادة الفلسطينية رفعت الرايات البيضاء وتفاوضت ولم تجن الا الحنظل، والنظام الليبي الذي رفع رايات الثورية والقومية اكثر من خمسة وثلاثين عاما وزايد علي الجميع في هذا الخصوص، اعطي امريكا وبريطانيا اكثر مما طالبتاه به، ابتداء من مئات المليارات من التعويضات لضحايا لوكربي وانتهاء بتفكيك المعامل البيولوجية والكيماوية والنووية وشحنها بالكامل الي واشنطن، بل وبز الجميع في تعاونه في الحرب علي الارهاب عندما قدم قوائم كاملة باسماء العلماء والشركات التي تعاونت مع البرامج النووية والبيولوجية الليبية، وملفات ثمينة للغاية حول الجماعات الثورية سابقا والارهابية حاليا حسب القاموس الليبي الحديث. ولماذا نذهب بعيدا، فبالأمس فقط تنازلت ايران حليفة سورية الاوثق عن كل مشاريعها لتخصيب اليورانيوم، وفتحت كل معاملها النووية امام لجان التفتيش التابعة لوكالة الطاقة الذرية حتي تقطع الطريق علي خطة امريكية لعرض البرامج النووية الايرانية علي مجلس الامن.وربما يفيد التذكير بان القيادة السورية، وفي عهد الزعيم الراحل حافظ الاسد، مارست هذا التراجع عندما ابعدت اوجلان القائد الكردي من اراضيها ليتم اعتقاله في كينيا، وقدمت كل التنازلات المطلوبة من اجل تخفيف حدة التوتر مع تركيا والحيلولة دون حدوث مواجهة عسكرية معها.ما نطالب به هو ان يكون الخطاب السياسي والاعلامي السوري منسجما مع التوجهات الجديدة، لا ان يكون متناقضا معها بالكامل، مثلما هو حادث حاليا، لان هذا الخطاب لن يقنع احدا، ويضع سورية وقيادتها في موقف محرج جداً امام مواطنيها والعالم بأسره.بقي ان نقول ان هذا الموقف السوري المتهافت علي اجراء مفاوضات مع حكومة شارون لن يحقق النتائج المرجوة التي يتطلع اليها، سواء في التوصل الي سلام عادل يعيد الاراضي السورية المحتلة، او الي ترسيخ اسس النظام الحاكم في مواجهة الضغوط الامريكية والاسرائيلية.النظام السوري يعيش حالة من الارتباك غير مسبوقة، فهو يحرك المظاهرات ضد قرارات مجلس الامن في لبنان علي اساس ان سورية هي الحاضنة لحركات المقاومة اللبنانية والفلسطينية، والحصن الثوري العربي الاخير، ويرسل في الوقت نفسه الرسائل الي الدولة العبرية طالباً المفاوضات، ومتنازلا عن كل شروطه السابقة.هذا الارتباك يضعف الموقف التفاوضي السوري قبل بدء المفاوضات، ويجرده من كل اسباب القوة والكرامة، مثلما يضعف الجبهة الداخلية السورية نفسها، ويقوض قواعد التأييد للنظام او ما تبقي منها. فما هو المبرر لاستمرار اعتقال بعض رموز المجتمع المدني السوري بحجة العمالة لامريكا واسرائيل، والاتصالات بالسفارات الاجنبية، والحكومة تستجدي المفاوضات وتوسط عراب كامب ديفيد لاقناع شارون بالتجاوب والعودة الي مائدة المفاوضات؟نري لزاماً علينا ان نسأل في هذه العجالة عن ادبيات الرفض السوري، وابرزها تعبير الهرولة الذي تفتقت عنه عبقرية السيد فاروق الشرع وزير خارجية سورية المزمن، فهل ما تقدمه الحكومة السورية من عروض لاستئناف المفاوضات دون شروط يصب في خانة الهرولة هذه ام لا؟السياسة السورية قصيرة النظر في لبنان التي جاءت نتيجة قراءة خاطئة تماما للتطورات اللبنانية والاقليمية، واتسمت في تعديل ارتجالي للدستور، والتمديد للرئيس لحود، ومن ثم استصدار قرار عن مجلس الامن يطالبها بالانسحاب من هذا البلد، ساهمت ايضا في اضعاف الموقف السوري وصبت في خانة الهرولة الي اسرائيل طلبا للتفاوض دون شروط.فمثلما ارسلت سورية قوات الي الجزيرة العربية لاجبار الرئيس العراقي علي احترام الشرعية الدولية، وتنفيذ قرارات مجلس الامن، ستجد اليوم من يطالبها بالشيء نفسه في لبنان، وربما ما هو اكثر من ذلك، ولن نفاجأ اذا ما كان اول شرط اسرائيلي للقبول بالعرض السوري باستئناف المفاوضات هو نزع سلاح المقاومة اللبنانية، وارسال قوات لبنانية لضبط الحدود مع الدولة العبرية في الجنوب، تماما مثلما تفعل القوات السورية حاليا علي اطراف هضبة الجولان، ولن نفاجأ ايضا اذا ما اشترك الكثيرون من المتظاهرين بالامس مع سورية، في مظاهرات ضدها اذا ما تجاوبت مع هذا الشرط الاسرائيلي المتوقع.