أية دولة تقتضي العلمانية فصلها عن الدين؟

٢٠٠٧-٠٥-٣١

أية دولة تقتضي العلمانية فصلها عن الدين؟

ياسين الحاج صالح

خاص – صفحات سورية –

العلمانية تعني انفصال الدولة عن الدين، وبروزها كمستوى تماه مستقل ووحيد لسكانها، المواطنين. قد تعني أكثر من ذلك، سواء كان ما هو أكثر شيئا مرغوبا في وصفه أساس العلمانية المتين وفقا لعادل ضاهر في مفهومه عن العلمانية الصلبة، أو كان مرفوضا لكونه تأسيسا للعدمية والامبريالية وفقا لعبد الوهاب المسيري في مفهومه للعلمانية الشاملة. لكن حد العلمانية الأمثل في الاجتماع السياسي الحديث هو انفصال الدولة عن الدين. هذا لأنها هي، وليس هو، مقر الوطنية أو إطار تماه عابر للأديان بين سكان الدولة.

دولتــان

على أن من المهم التميز هنا بين مفهومين للدولة: الدولة بما هي الكيان السياسي التاريخي، والدولة باعتبارها سلطة سيادية أو مؤسسة السلطة العليا في مجتمع ما. نتحدث عن الدولة السورية مثلا، ونقصد سورية كأرض وشعب و"دولة" (هذه بمعنى مؤسسة الحكم). لكننا قد نقول إن في سورية سلطة لا دولة، لنشير إلى وجوه قصور ما في الدولة كمؤسسة حكم (وجوه تتصل بالتحديد بضعف التمأسس أو انعدامه). وفي سياق الكلام على العلمانية، من المهم القول إن الدولة التي تنفصل عن الدين هي مؤسسة السلطة أو الحكم، لا الكيان السياسي التاريخي.

يحيل المفهوم الكياني للدولة إلى الإطار الحضاري والثقافي الذي ينتمي إليه البلد المعني، بينما يحيل المفهوم المؤسسي إلى نظام حكمها وأجهزة سلطتها. لذلك لا معنى للكلام على انفصال الدول بالمعنى الأول عن الدين، فيما لا غنى عن انفصال الدولة بالمعنى الثاني عن الدين. فلا تنفصل فرنسا عن المسيحية، إن نظرنا إلى فرنسا ككيان حضاري سياسي أوروبي (وتاليا مسيحي). وإن انفصلت فلسبب تاريخي: إن مركز ثقل هوية فرنسا ومحدد كيانها ينتمي إلى حداثتها، إلى تاريخها بعد التنوير وثورة عام 1789. وفي الحداثة هذه تحتل العناصر اللامسيحية، واللادينية، وزنا أكبر من العناصر المسيحية والدينية في تكوين فرنسا. لكن انفصال فرنسا عن المسيحية بهذا المعنى مسألة حكم تحليلي لا حكم معياري، أعني أنه شيء نستخلصه من دراسة التاريخ، وليس شيئا نجده في دستور فرنسا أو قوانينها. أما انفصال الدولة كمؤسسة حكم عن الدين فهو واقعة معيارية ومحروسة بقوة القانون. والخلاصة أن انفصال فرنسا ككيان عن المسيحية ليس نابعا من مفهومها كدولة، فيما لا بد من الانفصال هذا حين نفكر بفرنسا كمؤسسة سلطة وحكم.

في بلادنا التي لا تشكل حداثتها مركز ثقل كياناتها (رغم أن أكثر الكيانات هذه حديثة التشكل)، يبقى "الإسلام" مكونا لكياناتها السياسية التاريخية. وقد يستمر هذا الحال وقتا طويلا دون أن يمس في شيء وجوب علمنة دولنا كمؤسسات سلطة عليا. وما يصح على دولة فرنسا التي يؤسس انفصالها عن الدين للمساواة بين مواطنيها، متعددي الأديان واللادينيين، يصح كذلك على دولنا الحديثة التي لا مفر من أن تقوم على المساواة بين سكانها وعلى حرية الاعتقاد التامة. الدولة التي لا تقوم على ذلك ليست دولة غير علمانية فقط، وإنما هي لا دولة، هي سلطة مفروضة على سكانها بقسر مادي أو معنوي أو بهما معا. أو هي "دولة" بالمعنى العربي القديم للكلمة، أي "دور" في الاستبداد بالحكم، ينسب إلى الحاكمين الذين يدولون ويزولون بالقوة وحدها.

التطابق بين الدولة والوطنية، بين سورية والسوريين مثلا، لا غنى عنه من أجل المساواة بين السكان. التطابق هذا يقتضي انفصال الدولة عن الدين والمذهب والطبقة (للديمقراطية السياسية مفعول "علماني" في المجال الاجتماعي، لكونها "تفصل" السلطة عن الثروة). وانفصال الدولة في بلادنا لا يزال "مشروعا"، تطلعا مستقبليا. بالمقابل الرصيد الذي يقدمه لنا الماضي هو إطار حضاري ثقافي، عربي إسلامي، سورية جزء منه. وبما هي جزء من هذا الإطار فإن انفصالها عن العروبة والإسلام غير ذي معنى. غاية ما هنالك أن الكيان السوري قد يطور مع الزمن هوية لا يشغل الدين أو القومية مركز ثقلها.

هل علمنة الدولة السورية ستقود إلى فصل سورية عن مجالها الحضاري؟ لا نرى أي سبب لأن لا يكون العكس هو الصحيح. إذ من المفترض أن السوريين المتساوين والأحرار سيكونون أقدر على بث الحيوية وروح الإبداع والتجدد في ميراثهم الحضاري الذي يكاد اليوم يكون أكداسا غير منظمة من موارد عقيدية وفكرية وأخلاقية ورمزية متفاوتة الدور والقيمة.

علمانيتـان

ازدواج مفهوم الدولة (كيان وسلطة) يولد، إذن، ازدواجا في مفهوم العلمانية، أو بالأحرى في موقعها. فالعلمانية شرط معياري، سياسي ودستوري، للدولة كمؤسسة. الدولة غير المنفصلة عن الدين لن تطور ذاتية أو شخصية مستقلة، يتعرف فيها رعاياها على أنفسهم كمواطنين متساوين. ستكون الذاتية للدين أو الزعيم أو الحزب الحاكم. بالمناسبة، متهافتة الدعوة إلى العلمانية في سورية دون وضعها في سياق يهتم بفصل الدولة أيضا عن حزب البعث ويعترض على نسبة البلاد إلى رئيسها وينشغل بدسترة الحكم ..، لكن متهافتة كذلك الدعوة إلى نزع بعثية الدولة ودسترة السلطة دون وضعها في سياق يضمن انفصال الدولة عن الدين.

بالمقابل، لا معنى لاشتراط الانفصال حين نفكر بالدولة ككيان سياسي تاريخي. فالعلمنة هنا أمر جائز فحسب. وهي في هذا المجال مفهوم وصفي أو تحليلي، يمثل عملية تاريخية موضوعية.

بعبارة أخرى، العلمانية مطلب عملي ذاتي حين نقصد بالدولة مؤسسة الحكم، وخلاصة تاريخية موضوعية محتملة حين نفكر بالدولة ككيان سياسي تاريخي.

على أن لباب المسألة هو انفصال الدولة بذاتها، أو استقلالها بنصاب سياسي ذاتي مقوم لها. الاستقلال عن الدين (أو عن الحزب أو عن العصبية أو الزعيم..) هو من مقتضيات الاستقلال بـالنصاب السياسي الذاتي وليس جوهره. لذلك يمكن تصور دول إيجابية جدا حيال الدين كمعظم دول أوروبا الشمالية، بل وقد تنص عليها في دستورها كما في الدانمرك مثلا (يولي دستورها رعاية خاصة للعقيدة الإنجيلية اللوثرية)، لكن استقلال النصاب السياسي مؤمّن. ويقوم النصاب الذاتي هذا على نزع القداسة عن السلطة وتشريعاتها، وعلى قيام السياسة على الرأي والنقاش العقلاني المستند إلى براهين وحجج بشرية. وعلى هذا فقط تتأسس المساواة بين المواطنين بصرف النظر عن أديانهم، أو قل إنه على ذلك يتكون السكان كمواطنين.

وعليه فإن تصور العلمانية كانفصال للدولة عن الدين (وكتمايز للأمة السياسة أو أمة المواطنين عن الأمة الدينية أو أمة المؤمنين) لا يكفي لاستقلال الدولة بنصاب سياسي دنيوي يجعل منها مقر التماهي الوطني الوحيد. ففي مجتمعاتنا ليس الدين هو العائق الوحيد، ولا حتى الأساسي، أمام نشوء النصاب المستقل. ثمة أيضا الثروة والعصبية والزعامة. ولا يبدو أن نظرية العلمانية تشغل نفسها بهذه القضايا، هذا إن لم نقل إن "العلمانية الواقعية" في بلداننا تستجير من رمضاء الدين بنار الاستبداد، هذا الذي لا يمنحها من الاهتمام إلا كأداة إضافية لتحكمه السياسي. هذا الحول الديمقراطي للعلمانية العربية متولد بالكامل من تثبتها على صورة العلمانية كانفصال للدولة عن الدين (بل كفصل للدين عن الدولة، كأن ذاك مستول على هذه)، وتفويت لبّها، أي تكوّن النصاب السياسي وبروز الدولة مقرا للتماهي العام. هذا يتيح لنا أن نفهم كيف أن علمانيتنا السلبية (فصل..)، والمتوجسة من المطالب الديمقراطية، فاقدة لأي بعد تحرري ومساواتي، خلافا للعلمانية الغربية.

.. ودينــان!

من جانب آخر الدين ذاته يختلف معناه وفقا لما إذا كنا ننظر إلى الدولة كذات سياسية أو كموضوع تاريخي. فالدين الذي يُرى إلى انفصال الدولة عنه في الحالة الأولى كشرط ذاتي للدولة هو الدين كعقيدة سياسية، كطموح إلى السلطة والسيادة. فيما الدين الذي لا معنى للكلام على انفصال الدولة عنه هو الدين كهوية، أو كعنصر مكون للهوية، أو كسند تاريخي وحضاري للهوية. وقد يناسب أن نطلق اسم الدين السياسي على التصور الأول للدين، والدين الثقافي على التصور الثاني. فالدين بالمعنى الأول يتعارض مع المساواة، إذ لا يمكن أن يتوحد السوريون مثلا على أرضية إسلامية. والإسلام لا يمكن أن يوفر القاعدة التي تضمن المساواة بين المسلمين وغير المسلمين، إلا بقدر ما يمكن للمسيحية أن توفر قاعدة مساواة بين المسيحيين وغير المسيحيين، وإلا بقدر ما تصلح الماركسية حكما عادلا بين الماركسيين وغير الماركسيين. هذا أمر منطقي، ينبع من مفاهيم الإسلام والمسيحية والماركسية بالذات، أي لا تفيد شواهد التاريخ كلها لدحضه. وهذه على أية حال معدومة، إن كان ما نبحث عنه هو المساواة بين أتباع الأديان والمذاهب في ظل سيادة أحدها.

ويتعارض الدين السياسي مع مطلب المساواة دوما، لأنه ليس ثمة مجتمع يشترك أفراده كلهم في دين واحد. إذ حتى لو تحدر السكان جميعا من أصل ديني مشترك، فإن تاريخ المجتمعات، القديم والحديث، هو تاريخ تكون فرق وملل ونحل ومذاهب، ما يقتضي تجديد أساس الوحدة بينهم، وإلا تكون مجتمعات أصغر أحادية الدين. وكما لا نتوقع أن يكون أساس توحد أمم مختلفة هو القومية (الاتحاد الأوروبي مثلا)، فإن توحد جماعات دينية ومذهبية مختلفة غير ممكن على أساس الدين. ونفترض بالطبع أن تقسيم الدول على أساس ديني ومذهبي أمر غير مرغوب.

ومن الواضح أن الدين كدعامة للهوية يتوافق مع الكيان السياسي التاريخي الذي ننظر إليه كحامل للدولة حين نفكر فيها كسلطة. بل قد يكون الدين أهم دعامة للكيان، كما هو الحال بخصوص المملكة العربية السعودية والباكستان وإسرائيل. قد تتعلمن هذه الدول تماما، وإسرائيل علمانية الآن، لكن يبقى الدين سند كيانها وحامل قوميتها. هنا، في الحالة الإسرائيلية، نرى علمنة الدولة كمؤسسة حكم وتعزيز دينية الدولة ككيان سياسي تاريخي. وقد نرى أن الوجه الثاني يتغلب على الوجه الأول، إلى درجة المساس الخطير بالمساواة التي تترتب على العلمانية. من مفهومها لذاتها نفسه، وليس فقط من مقتضيات حالة الصراع مع العرب، ينبع تمييز إسرائيل ضد غير اليهود. هذا ما يجعل الصراع ذاته جوهريا وغير عارض. على أن إسرائيل حالة حدية لكونها تقوم على مطابقة الدين والقومية، أي لكون انفصال الدولة ككيان عن الدين يقوض الدولة كسلطة. وبينما قد تتعلمن سورية ذات يوم حتى ككيان سياسي تاريخي، فإن الكيان السياسي التاريخي لإسرائيل، ومثلها باكستان والسعودية، مضاد للعلمنة.

تركيا حالة معاكسة لإسرائيل. فهنا تتصرف القطاعات المقررة من النخبة التركية كما لو أنه لا مجال لعلمنة مؤسسة الحكم دون علمنة الكيان التركي ذاته. هذا يجعل من العلمانية أقرب ما تكون إلى عقيدة رسمية للدولة.

ويثير المثال التركي سؤالا بخصوص ما إذا كانت علمنة الدولة كمؤسسة حكم تقتضي في العالم الإسلامي علمنة قسرية للكيان الوطني ذاته، أي فصله بقوة الدولة عن مكونات ثقافته التي تكونت تاريخيا. ينبغي أن يكون الرد على هذا السؤال سلبيا لأن من شأن رد إيجابي عليه أن يغير معنى العلمانية في المجال الإسلامي، جاعلا منها قرينا للاغتراب الثقافي، الأمر لا ينطبق بالتأكيد على العلمانية الأوروبية. والأهم أن هذا الصنف من العلمنة يضيق مساحة التماهي العام بدل أن يوسعها، أي أن له مفعولا مضادا للديمقراطية.

على أنه ينبغي القول إنه لم يتطور في العالم الإسلامي تصور للإسلام يستجيب لمطلب استقلال الدولة السياسي. ولا يزال الدين السياسي هو الشكل الأكثر حضورا للدين الإسلامي في عالم اليوم.

ينبغي القول كذلك إن تركيا واحدة من أكثر الدول الإسلامية تقدما، وأكثرها ديمقراطية أيضا رغم كل شيء. هذا يجعل خيارات النخبة التركية هي الأسلم، في انتظار تبلور خيارات أكثر ديمقراطية وأصالة في عالم الإسلام الفسيح.

سورية بين استفتاءات مرؤوسيها وتخبط معارضيها

سورية بين استفتاءات مرؤوسيها وتخبط معارضيها

عقبة مشوح

خاص – صفحات سورية –

قلت لصاحبي: (هل رأيت عشرات الألوف من الجماهير على الفضائية السورية وقد خرجت تهتف باسم الرئيس وتحتفل قبل الاستفتاء بولاية ثانية له.!! هل رأيت الاحتفالات الحاشدة التي سادت المدن السورية، والرقص والغناء والتصفيق والكل يمجد باسم الرئيس وينادي به زعيماً أوحداً إلى الأبد!) قال لي: (لقد رأيت مئات الألوف التي خرجت لصدام حسين في استفتاء مشابه تحتفل به وتهتف له فما أجداه ذلك شيئاً ولا نفعه يوم تهاوى نظامه كصرح من ورق!).

والتاريخ يعيد نفسه والدورة تتكرر لكن بدون إتعاظ ولا تفكير، فمن قبل أجرى السادات استفتاءاً حول معاهدته للسلام مع إسرائيل كان نتيجتها من وزن التسعات لكي يفرض بعدها قانوناً يمنع الحديث بسوء عن تلك المعاهدة ويجرم منتقديها، حينها كتب الصحفي الأشهر في ذلك الوقت مصطفى أمين : (لقد كتب السادات شهادة وفاته بيده) ولم تمض أشهر إلا وخرج عليه من جيشه من أرداه في منصته! ولا متعظ.

التاريخ يعيد نفسه

والزعماء لا يسقطون إلا بعد بلوغ الذروة في قوة أو شعبية أو نفوذ يدعونه ويُظهرونه، وقديما قالوا : (ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع) ، والأسد ليس بدعا عن بقية الزعماء، وهو لم يأت بجديد عندما أجرى ذلك الاستفتاء بل سار على أسلافه وأضاف حلقة جديدة في سلسلة (ما أريكم إلا ما أرى) السورية، فالاستفتاءات عادة أصيلة لدى أهل الحكم هناك، وكلها من وزن التسعات يرافقها بالطبع خروج المسيرات وتعالي الهتافات باسم القائد الأوحد ثم لا يلبث إلا قليلاً ليطاح به في انقلاب عسكري أو ثورة شعبية أو صحوة ديمقراطية أصيلة تعيد الأمور إلى نصابها.

ـ استفتاء حسني الزعيم في 25 حزيران 1949 ( وهو أول استفتاء في البلاد العربية ) , وافق فيه أغلبية الشعب السوري على انتخابه رئيساً للجمهورية , وتخويله بوضع دستور وحق إصدار المراسيم التشريعية .

ـ استفتاء أديب الشيشكلي في 10 تموز 1953 وموافقة شبه إجماعية على انتخابه رئيساً للجمهورية , وعلى الدستور الذي وضعه تعديلاً عن دستور 1950 والذي يكرس النظام الرئاسي .

ـ استفتاء عهد الانفصال في 1و2 كانون الأول 1961 وموافقة الشعب السوري على دستور عهد الانفصال 1961 .

_ استفتاء حافظ الأسد على رئاسة الجمهورية عام 1971م وقد وافق عليه الشعب أيضاً.

_ استفتاء على الدستور عام 1973م وقد تمت الموافقة عليه.(قراءة في الدستور السوري – جان حبش)

إذن فلعبة الاستفتاءات جاءت لتكريس سيطرة الفرد على الدولة وفرض القوانين والدساتير كما يراها الحاكم وتزويق كل ذلك بلباس الديمقراطية والحرية فلا عجب أن يوافق الشعب في كل مرة على أي استفتاء وأن يصفق لأي حاكم يعتلي منصة الرئاسة بقدرة قادر ولو كان الفاصل بينهم هو أشهر فقط.

بينما في أوروبا احترمت الحكومات إرادة شعوبها برفضهم مثلا في فرنسا والنرويج الموافقة على الدستور الموحد في الأولى والانضمام كلياً إلى الإتحاد بالنسبة للثانية رغم المصلحة الواضحة والكبيرة في ذلك، فما يريده حكام المنطقة العربية أن تكون الشعوب سر حكامها وأن تبقى مزيفة القدرة والإرادة.

أما حين النظر إلى آليات الاستفتاء وشكله الظاهري فإن المشكلة تزداد عمقا والاحترام يقل لدولة فرضت على نفسها وعلى مواطنيها أن يكونوا أضحوكة العالم أجمع حين انتهت هذه المظاهر في أغلب دول العام منذ عقود، فالجماهير تخرج وتحتفل حتى قبل التصويت وإعلان النتيجة والحياة العامة تتعطل ومئات الملايين تبذخ على أمر شكلي نتيجته محسومة سلفاً ومرشح أوحد كان الأجدى احترماً للعقول أن يعلن عن فوزه مباشرة لانعدام المرشحين كما تنص على ذلك النظم الانتخابية، وتتعطل الدراسة والجامعات ويساق الناس سوقا للتصويت بعد فشل الإنتخابات (البرلمانية) السابقة نتيجة لضعف الإقبال عليها. أما طريقة التصويت فحدث ولا حرج ، عدم احترام لإرادة الناخب حيث الكل يصوت أمام الكل فلا يجدون بدا من (الأخضر) ويسرح ناظريك أمام الممثلين وهم يرقصوا أمام الصندوق الانتخابي في مشهد لا يحدث أبدا لدى المحترمين ويشارك الرسميين والوزراء أيضا بالتطبيل والتصفيق ويأتي علماء الدين ليضفوا المسحة الشرعية على المهرجان لتكتمل حلقات الأنس الشعبي بالقائد الأوحد والاستفتاءات المحكومة سلفاً!

شعب مكبل ومعارضة ضعيفة

وليس المحبط في تغيير حقيقي في سورية هو هذه النتائج والمسيرات الشعبية الزائفة، ولكن ما يؤخر التغيير هو ضعف المعارضة السورية في الداخل وفي الخارج، إذ أن الأولى مكبلة لا تستطيع الحراك ورجالها في السجون ومازالوا، أما التي في الخارج فلا تملك تأثيراً على شعب وإن كان سئم من حاكمه إلا أنه لا يثق فيها وينظر بريبة إلى تحالفاتها وتحركاتها، فهي في الحقيقة مرتهنة للقرار الدولي على أمل أن يغير رأيه بالنظام السوري ويطيح به عبر نتائج المحكمة الدولية بإدانة رجاله أو بعضهم، وربما يخرج النظام سالماً من هذه الأزمة عبر صفقة – وهو خبير بذلك- تبرؤه وتخرج من بينه كبش فداء لكل ذلك، وإن ضيقت المحكمة الخناق على النظام وكان هناك عزم دولي على تغييره فلا يعد ذلك في صالح المعارضة بالنسبة لشعب لن يثق بمن أتى بمساعدة دولية وبدعم أمريكي كما حدث في العراق، وفي كلتا الحالتين لا معنى للمعارضة السورية ولا قوة لها إلا بإقناع الشعب ببرامجها وبشخوصها لا أن تضم إليهم من كان سابقاً من رجالات النظام! ولا سبيل لها إلا الشعب فهو القوة الوحيدة القادرة على تغيير حقيقي وسليم ونظيف.

أما السبيل الآخر المنجي للنظام السوري فهو بعقد سلام مع إسرائيل التي مافتئت تدافع عن وجوده وتنافح عنه، وثمة إشارات جديدة في هذا الطريق بإقتناع الولايات المتحدة بمفاوضات بين الدولتين تتناول جميع الشؤون خلا لبنان بعد أن كانت ترفض ذلك كلياً، وقبل ذلك زار الأمريكي السوري إبراهيم سليمان إسرائيل وعرج على سورية بشكل غير معلين في محاولة لوضع أجندة لمفاوضات محتملة في القريب العاجل، وتبدأ الدبلوماسية السورية كحليفتها الإيرانية بالتحرك على حبلين بإظهار الرفض والتمسك بأراضي الجولان ووصم الحكومة الإسرائيلية بالضعيفة، فيما تحت الطاولة تدور أمور أخرى وهذا مادفع المعارض السوري الأمريكي فريد الغادري إلى تحذير إسرائيل من عقد سلام مع النظام السوري معتبراً أن ذلك يجلب المشاكل لها ولسورية داعياً إلى عقد سلام مع أناس أحرار وديمقراطيين أمثاله وحزبه! فهو أدرك بذكاء أن الطريق إلى تغيير النظام السوري يمر بتل أبيب فلا أمل بالتغيير بدون إقناع ساستها بذلك، فحتى في أوقات اشتداد الغضب الأمريكي على النظام السوري كان شارون يظهر ليؤكد على أهمية بقاء النظام السوري لإن بديلاً محتملاً قد يكون كارثياً عليها، كل ذلك مع تجربة سيئة في العراق ومعارضة مهلهلة أقنع أمريكا بالتريث، ويبدو أن الغادري قد أعياه الحديث مع الأمريكيين ليسافر إلى إسرائيل بتغيير النظام وببديل سيعقد سلاماً معها ويؤمن حدودها وأراضيها. والغادري يعرف أن سلاماً محتملاً بين إسرائيل والنظام السوري سينهي أحلام المعارضة بتغيير النظام وسينعكس ذلك تلقائيا على نتاج المحكمة الدولية ومن هنا جائت مبادرته الأخيرة لعلها توقف شيئاً في هذا الأمر.

وما فعله الغادري سيساهم في تشويه المعارضة- المشوهة أصلاً- حتى وإن نأت بنفسها عنه فالشعب الذي يرى معارضة من أبرز رؤوسها الغادري وخدام لن يقبل بها وحتى إن حدث تغيير محتمل لن يسلم لها زمام الأمور ببساطة بعد أن رأى منهم ما رأى خارج السلطة.

نهر البارد لإفشال المحكمة

وفيما تحارب المعارضة لإفشال سلام محتمل مع إسرائيل، يحارب النظام السوري لإفشال المحكمة الدولية في لبنان عبر أحداث نهر البارد الجارية والتي يأمل من خلالها أن تشتعل المخيمات الفلسطينية الأخرى ويحصل اقتتال فلسطيني - لبناني كبير ينهي أي محكمة في تلك الدولة ويغلق ملف الحريري تماما، فليس سراً - كما يرد من الداخل اللبناني – أن مجموعة (فتح الإسلام) هي خليط ممن لهم صلة بالمخابرات السورية وممن غرر بهم بشعارات وأهداف شتى واستطاعوا بدعم سوري متواصل إيجاد مكان لهم في لبنان ومخيماته على أمل إشعال فتيلهم في أي لحظة تشاؤها سورية درءاً لخطر دولي قد يصيبها. فيما تأمل المعارضة السورية أن تؤدي إدانة المحكمة الدولية للنظام السوري بقتل الحريري إلى حصار دولي يضعف النظام ويهيئ لثورة شعبية تؤدي إلى التغيير المنشود. لكن هل هذا ما سيحدث فعلاً مع كل تلك التطورات المتجددة؟ الأيام القادمة ستجيب عن ذلك.

كاتب وباحث سوري

اليوم الاسود على النظام السوري

اليوم الاسود على النظام السوري

علي الاحمد

خاص – صفحات سورية –

ربما سيسجل التاريخ يوم امس 30/05/07 يوما شديد السواد على النظام السوري ورئيسه الفذ بشار الاسد حيث تم لاول مره اقرار نظام لمحكمة ربما يقف امامها يوما ما عتاولة الظلم والطغيان في سوريه بل والعالم . وربما كان ذلك اليوم مقدمة لايام اخرى اشد حلكة وسوادا على جبابرة دمشق وطغاتها الذين ظلوا الى حين يظنون ان بامكانهم فعل ما يشاؤون دون ادنى خوف من رقيب او حسيب مستفيدين من موازنات ومعادلات شاءت ارادة الله تعالى ان تتغير وتتبدل لنجد انفسنا بعد ما يشبه اليأس أمام واقع جديد انكشف فيه اولئك الطغاة ايما انكشاف امام الجميع على حقيقتهم : قتلة مجرمين سفاحين لا يشك في ذلك الا صاحب عقل مريض او متامر معهم .

وربما لا يعرف الكثيرين قيمة ذلك واهمية ذلك الانكشاف المريع لانهم لم يذوقوا كأس العذاب والهوان والالم التى سقى منها ذلك النظام وازلامه الملايين من السوريين واللبنانيين والفلسطينيين على مدى عقود طويله ظل فيها الاستثناء الذي يحق له ان يفعل ما يريد دون اي خوف من محاسبه ، يقتل من يشاء متى يشاء ، ويسجن من يشاء لاي اجل يريد ، ويسرق وينهب ما يشاء من خيرات سوريه ولبنان دون رقيب او حسيب وله من يحميه في ذلك ومن يربت على كتفيه ويقول له : لا عليك افعل ما تشاء .

وقد كان ذلك النظام قد وصل الى درجة من الاطمئنان الى بطشه وقوته وجبروته انه فعلا لا وجود لمن يهدد كيانه الباغي ، وحتى الامس القريب وبعد ان تبدلت المعادلات وتغيرت الثوابت التى كانت قائمة لعقود ، لم يصدق اركان ذلك النظام حقيقة التغيير الذي حصل ، وحقيقة ان القوى الميسطرة والنافذة في العالم لم تعد تعطيه تلك الميزه او ذلك الاستثناء ، لذلك وكما تشير معظم التحليلات والتحقيقات التى تمت ان اكثر الدلائل تدل على وجود يد خفية لهم وراء اغتيال الرئيس الحريري قبل عامين من الان ، لذلك فقد صعق اولئك العتاة في دمشق من ثورة الغضب التى حصلت بعد الجريمه المروعه وهالهم حجم الحقد والكراهيه التى كانت تملأ عقول وقلوب اللبنانيين من تصرفاتهم خلال عقود من الزمن حتى جاءها اليوم التى انفجرت فيه كل تلك الاحقاد والالم والخوف مستفيدة من الواقع الجديد لتطردهم شر طرده من لبنان وتكتب امرا واقعا جديدا ما زال اتباع النظام وحلفاؤه يقاومونه بكل شراسه ويحاولون ايقاف دوران تلك العجلة الرهيبه التى فضحت كل مستور كان يغطي مشاعر الالم والكبت والخوف التى كانت تغمر اللبنانيين والتى ما زالت تملأ قلوب وعقول وضمائر السوريين .

ان الكثيرين ربما لا يقدرون مدى الالم والقهر الذي يدفع مثلا رجلا مثل وليد جنبلاط ليكيل كل يوم سيل الشتائم ضد بشار الاسد ويتهمه بقتل ابيه بعد ان ظل مجبرا على السكوت والصمت عشرات السنين وهو يعرف حقيقة من هو قاتل ابيه ، بل وكان مضطرا لمدح ومباركة ذلك القاتل المتوحش الذي كان يقتل كل من يفتح فمه بكلمة واحده ضده ، او رجلا مثل سعد الحريري الذي يعبر في كل خطاب له عن اللوعه والحسره التى سببها قتل ابيه من قبل ذلك النظام او اعوانه في لبنان ، ولكنه كان محظوظا لانه استطاع ان يصرخ ويقول من قتل اباه بينما كان وليد جنبلاط مكرها على تقبيل يد قاتل ابيه ، لا يعرف قيمة ذلك الا من عاش ذلك الالم وتلك القسوه التى سببها ذلك النظام للملايين في سوريه ولبنان ، يعرفها بشكل جيد اهل مدينة حماه وحلب وحمص وكل المدن والقرى السوريه التى نكل بها اولئك المجرمين اشد تنكيل ولكن كان قدرهم الصمت والخوف والالم دون ان يكون لهم الحق حتى في اظهار الالم ، كان قدرهم ان يهتفوا لمن يقتلهم وان يرقصوا فرحا لاعادة انتخابه كل سبع سنوات ، تماما كما كان يحس بذلك اللبنانيون قبل اعوام خلت ولكنهم اليوم يصرخون باعلى صوت ويشيرون بايديهم الى القاتل والمجرم ، وهذا ما لا يملكه السوريون لحد الان ، اولئك الذين يئنون بصمت ويبكون دون ان يرى احد دموعهم ، ويرقصون فرحا بالتجديد لبشار بينما قلوبهم تفيض بالحنق والغيظ والشعور بالهزيمه امام جلاوذته الاشرار .

علينا ن ننتظر اياما اخرى قادمه حتى نرى رموز الفساد والبغي في سوريه مكبلين امام سلطان عدالة شاء القدر ان تكون بعيدة عن منطقتنا وغريبة عن امتنا المقيده التى تواطأت وسكتت وغطت لعقود عن المجرمين والقتله ولكنها اليوم تقف موحده في وجهه وتقول له : كفى كفى لن نصبر على بغيك بعد اليوم . انها حكمة الله التى لا تتغير ولا تتبدل والتى تمهل للظالم حتى يغتر بنفسه ويظن الا احد يقدر عليه ، حتى يزيد بغيه وظلمه تمهيدا لان يسلط الله عليه من ياخذه اخذ عزيز مقتدر وربما كان زواله على يد ظالم اخر ولكن ليستفيد من ذلك الزوال ملايين المقهورين والمستضعفين من ضحاياه ، انها سنة الكون والحياة التى لا يستطيع احد ان يتخلف عنها او يتمرد عليها ، ان الله يمهل ولا يهمل ، وما علينا الا نصبر قليلا لنرىتلك الاراده كيف ستتعامل مع جلادي دمشق .

/لندن

سورية: أين هم الشباب من التغيير المنشود؟

سورية: أين هم الشباب من التغيير المنشود؟

د عبدالباسط سيدا

يُعد المجتمع السوري من المجتمعات الفتية، إذ تبلغ نسبة من هم دون الثلاثين حوالي النصف من مجموع السكان. وهذا مؤداه أن القوى السكانية الأساسية الفاعلة التي تحدد بتوجهاتها ملامح المستقبل السوري هي القوة الشابة من الجنسين. والفتاة السورية تعتبر مشاركة فاعلة نسبياً في حياة المجتمع على مختلف الصعد والمستويات، وذلك مقارنة بأوضاع زميلاتها في الدول العربية، وغير العربية في كل من آسيا وأفريقيا.

ويمثل الطلبة في الجامعات والمعاهد الدراسية القسم الأكبر من هذه الطاقة الشبابية، إلى جانب أفراد الجيش الكبير نسبياً من جهة الحجم؛ بالإضافة إلى الأجهزة الأمنية والمؤسسات التابعة لها؛ وهي أجهزة لا يعرف بالضبط عدد افراداها بالضبط، وذلك بموجب الحسابات الأمنية، لكن التقديرات معظمها تشير إلى أعداد كبيرة ، ربما تصل إلى ربع مليون شخص بين موظف عامل، وتابع مرتبط، يتلقى الأوامر والتعليمات من الأجهزة المعنية. وهم رقم كبير بالنسبة إلىبلد مثل سورية، لا يتجاوز عدد سكانه 18 مليون نسمة. وهناك قسم آخر لا يستهان به من الطاقة الشبابية يعمل في القطاعات الحكومية المختلفة؛ وبهذه المناسبة لا بد من التنويه بأن الحكومة في سورية تعد صاحبة العمل الأقوى في البلاد، لأن معظم القطاعات التعليمية والإنتاجية مرتبطة بها، تخضع لخططها وبرامجها، وتلتزم التزاماً صارماً بتعليمات اجهزتها الأمنية.

إننا إذا وضعنا في اعتبارنا أن السلطة القائمة في سورية - مجسدة في الأجهزة "الأمنية"- هي التي تهيمن بصورة مطلقة على الجامعات، والجيش، والنقابات التي تتبعها مختلف القطاعات الانتاجية والخدمية؛ إننا إذا فعلنا ذلك، لأدركنا أن الطاقة الشبابية مكبلة بقيود التهديد والمصلحة، والخشية من المستقبل المجهول. كما انها في الوقت ذاته تمثل هدفاً لخبرات غسيل الدماغ والتسطيح والتزييف والإفساد؛ وهي خبرات متراكمة لدى الأجهزة السلطوية المعنية بأمور الشباب، وقد حققت الخبرات هذه على مدى عقود، لا سيما في ظل غياب الفكر الآخر المعارض الذي حكم على نفسه بالإعدام، حينما ارتضى الخضوع لمشيئة الأسد الأب، والتزم بالابتعاد التنظيمي عن الجيش والمؤسسات التعليمية. وهكذا تحول الجيش من مؤسسة دفاعية، تلتزم مصالح الوطن، إلى مؤسسة معطلة تستخدم من دون إرادة القسم الأكبر من ابنائه، اداة للتهديد والقمع عند اللزوم. أما الوصول إلى المراكز القيادية في المؤسسة المذكورة، فيتم عن طريق الولاء المطلق لمكبلي الشعب، وليس الخبرة والإخلاص للوطن وأهله.

أما المؤسسات التعليمية، وخاصة الجامعات، فقد غدت مرتعاً لعقائدي النظام والمروجين له. ولم يعد الإنتماء إلى الحزب القائد كافياً للإرتقاء الوظيفي، طالما أن الارتباط الأمني هو الأقوى والأضمن. وما يتصل بالوظائف الأخرى، فلكل منها الثمن المطلوب، يُدفع عداً ونقداً للجهات الأمنية، صاحبة الكلمة الفصل في ميدان التعيين؛ وهي - الجهات المعنية- من الحول والسلطة ما يمكنها من التدخل عند اللزوم، لاتخاذ قرار الفصل والإبعاد والنقل؛ الأمر الذي يجبر المُعيَّن على التزام المسارات المسموحة، والإبتعاد عن كل ما من شأنه تهديد الأرزاق التي هي في بلادنا - نتيجة الفاقة- أهم من الأعناق.

ويبقى قسم من الشباب ، يشمل العاطلين عن العمل، وأولئك الذين يدخلون في خانة ما تسمى بالبطالة المقنعة. ومن الملاحظ أن التفاوت قائم ضمن هذا القسم بين الذكور والإناث، فنسبة الفتيات العاطلات عن العمل أعلى بكثير من نسبة الشباب. كما ان نسبة العاطلين عن العمل في الريف ومدن الأطراف هي أعلى من النسبة المعنية في المدن الرئيسة الكبرى. وما يشغل افراد هذه المجموعة أكثر من غيره يتمثل في كيفية تأمين لقمة العيش، ومستلزمات تكوين الأسرة، خاصة في ظل الغلاء المتفشي المتصاعد من ناحية؛ وفي اجواء الثورة الإعلامية، والتواصل مع الداخل والخارج؛ وكل ذلك يتسبب في إثارة حالة من التوتر لدى هؤلاء مصدرها الرغبة في التمتّع بمقومات الحياة العصرية، أسوة بالآخرين من ناحية، وعدم قدرة الواقع المعاش على تأمين أبسط مستلزمات العيش الكريم من ناحية ثانية. كل ذلك يدفع بهؤلاء إلى الإحباط والإنزواء، وربما البحث عن أقصر الطرق المؤدية إلى الحل، من دون التفكير في العواقب أو الالتزامات الأخلاقية. كما ان العديد من هؤلاء يقعون فريسة اللامبالاة والفوضوية والعدمية، وكل ذلك يحد من فاعليتهم ، ويسلب المجتمع دورهم الحيوي في ميدان التغيير المطلوب. والأمر اللافت للنظر في هذا السياق هو ان الإهتمام بالعمل السياسي لدى أفراد هذه المجموعة لايتناسب مع معاناتها وظروفها الصعبة. فهي بدلا من أن تنخرط في العمل السياسي، وتطالب من خلاله بحقها في الضمان الإجتماعي والتأهيل، والحصول على عمل مناسب، بدلا من كل ذلك، تتخذ الموقف السلبي، الأمر الذي يلقي الضوء على وجود خلل في العمل السياسي المعارض بصورة عامة، خلل تتشخص ماهيته في عدم القدرة على استقطاب الطاقات الشابة، وعدم وجود برامج مستقبلية من شأنها البحث عن الكيفية التي يمكن بموجبها مد الجسور مع الطاقات المعنية لتتحول إلى قوة فاعلة، تتخذ مواقعها المناسبة، سواء في القيادة ام القاعدة، وتعمل على تعزيز الفعل المعارض، وتطويره، ليرتقي إلى مستوى التحديات.

إن الجهد المعارض السوري الذي تسيّره راهناً عقلية المتقاعدين وسلوكياتهم، فضلاً عن أمزجتهم، يستوجب التجديد والتزوّد بالقدرات الحيوية الإبداعية التي تعيش عصرها، وترنو نحو المستقبل. وهنا تجدر الإشارة إلى وجود تباين نسبي بين الفصائل المعارضة المختلفة من جهة احتضانها للطاقات الشبابية. فالفصائل الكرديةعلى سبيل المثال تتمتع بوضعية أفضل من غيرها في هذا المجال. كما ان وضع جماعة الاخوان المسلمين هو الآخر أفضل مما هو عليه واقع الحال في الأحزاب العلمانية، سواء اليسارية منها أم الليبرالية أم القومية العربية؛ ما عدا حزب البعث بطبيعة الحال، فهذا الأخير مفروض بقوة الدستور القسري والأجهزة الأمنية قائداً للمجتمع والدولة، يهيمن على الجيش وسائرالمؤسسات التعليمية.ولكن حتى بالنسبة إلى الفصائل الكردية والاخوان يلاحظ أن الترهل هو الطابع الغالب على قياداتها، الأمر الذي يطرح بجدية قضية ضرورة فتح ملف موقع الشباب من العمل المعارض، هذا إذا كانت هناك رغبة حقيقة واقعية في التغيير المطلوب.

د. عبدالباسط سيدا

ايلاف

زمن الأميركيين من أصل سوري: الغادري... وخلافه!

زمن الأميركيين من أصل سوري: الغادري... وخلافه!

فايز سارة

آخر أنباء الأميركي من اصل سوري فريد الغادري، انه سوف يزور اسرائيل في النصف الاول من حزيران القادم. حيث من المقرر طبقاً لمصادر مختلفة، ان يلتقي عدداً من القيادات الاسرائيلية وبعض العاملين في مراكز الابحاث الاسرائيلية، وان يلقي كلمة أمام الكنيست الاسرائيلي. وبرنامج الغادري الإسرائيلي، يكاد يتطابق من حيث محطاته مع برنامج زيارة أميركي آخر من أصل سوري، هو ابراهيم سليمان الذي زار إسرائيل قبل شهرين، وأتمّ فيها كل المراسم التي سيقوم الغادري بها مستقبلاً.

النقطة الاساسية في محتوى زيارة كل من الغادري وسليمان قبله، هي الكلام عن السلام بين سوريا واسرائيل. ورغم ان الكلام في الموضوع لا يمثل جديداً في محتواه، ولا في المرحلة السياسية الحالية، حيث ان سوريا واسرائيل واطرافاً دولية اخرى تتناول في هذه الايام موضوع السلام بين سوريا واسرائيل والسلام في الشرق الاوسط على نحو عام.

الجديد في ما طرحه سليمان، وما سيطرحه الغادري، ان الاول طرح موضوع السلام بين سوريا واسرائيل من زاوية صلته ببعض صانعي القرار في سوريا أي من موقع الموالاة للنظام، وهو أمر نفته دمشق بصورة علنية، فيما يطرح الغادري السلام بين سوريا واسرائيل من زاوية علاقته بصانعي القرار الأميركي وبالتالي في مواجهة الموقف السوري الرسمي، ومن موقع معارض حسبما يصف الغادري نفسه بعد أن أسس حزباً في الولايات المتحدة قبل سنوات، يتبنى معارضة النظام في دمشق وفي المعارضة السورية كثير ممن يعارضون موقف الغادري وأفكاره. واذا كانت نتائج زيارة سليمان لم تتمخض عن أية نتائج في موضوع السلام بين سوريا واسرائيل، فإن زيارة الغادري لن تكون نتائجها افضل حالاً، ذلك ان حكومة اسرائيل ذاتها ليس لديها موقف في موضوع السلام مع سوريا او غيرها من الاطراف العربية، وليس لدى أي من الاحزاب الاسرائيلية برنامج سياسي في موضوع السلام لا في بعده السوري ولا في بعده العربي. وإلا كانت إسرائيل تجاوبت مع دعوات للسلام توالت من سوريا ومن الفلسطينيين ومن المجموعة العربية بعد أن تبنت قمة الرياض العربية الاخيرة إعادة إطلاق مبادرة السلام العربية التي كانت قد أقرتها قمة بيروت قبل سنوات.

ورغم ان السلام ليس هدفاً اسرائيلياً، فأن يشكل بوابة يمر منها الاميركيون من اصل سوري الى اسرائيل والى الادارة الامريكية، ليس لتعزيز العلاقة مع الطرفين فقط، وإنما بحثاً عن دور لاحق في حياة سوريا المستقبلية، خاصة وان زيارات تمت للاثنين الى اسرائيل في السابق. إن ما يشجع هؤلاء على القيام بما يقومون به على حساب بلدهم ومستقبلها، يكمن في البيئة التي يوفرها الواقع السياسي المحيط في سوريا، حيث يذهب النظام الى تجاهل كل ضرورات الاصلاح والتغيير من الداخل السوري، ويجعل هذا التغيير وكأنه محصور على الخارج، وبمعونة او بتدخل اميركي على غرار ما حدث في العراق، وهذا يجعل بعض الاميركيين من اصل سوري يطمحون للعب دور احمد الجلبي الاميركي من اصل عراقي الذي رافق القوات الغازية عند دخولها العراق، ووسط تلك البيئة، فإن مطالبة المسؤولين السوريين بمفاوضات مع اسرائيل «دون شروط مسبقة» يشجع الاميركيين من أصل سوري على الدخول الى خط المفاوضات السورية ـ الاسرائيلية سواء أكانوا على صلة بالنظام كما ادعى ابراهيم سليمان، او كان يحسب نفسه على المعارضة كما يدّعي فريد الغادري.

حالة ابراهيم سليمان كما حالة فريد الغادري، تشكل خرقاً في اساسيات الموقف الوطني السوري من السلام مع اسرائيل الذي ينبغي أن يقوم فعلاً على الحق والعدل بما يعني عودة الحقوق والارض الى اصحابها، بمعنى عودة الجولان الى السيادة السورية وعودة أصحابه الى مدنهم وقراهم في إطار تسوية شاملة تضمن حقوق الاشقاء الفلسطينيين وفقاً لمضمون القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية ولا سيما القرارين 242 و.338

ولا شك في أن إغلاق الباب امام توليد مجموعة من سماسرة التسوية والمتعاملين مع واشنطن وإسرائيل من الأميركيين من أصل سوري، يكمن في امرين اثنين، أولهما إعادة تأكيد ان التغيير والإصلاح في سوريا امر داخلي ينبغي المضي فيه لقطع الطريق امام الخارج في محاولته دخول سوريا او خرقها من هذا الباب، والامر الثاني هو تأكيد النظام في سوريا، ان اية مفاوضات محتملة مع اسرائيل، انما تقوم على مبدأ استعادة الارض والحقوق، ليس فيما يخص السوريين فقط، وإنما بما يخص الفلسطينيين أيضاً، والا فلا معنى لأية مفاوضات، لان نتائجها ستبقي الامور على ما هي عليه حالياً في صورة طغيان وتحكم اسرائيليين وخضوع واستكانة عربيين، وسعي البعض للقيام بدور لا يشرف أحداً!

([) كاتب سوري

مجلس الامن الدولي يقر انشاء المحكمة الدولية في اغتيال الحريري

مجلس الامن الدولي يقر انشاء المحكمة الدولية في اغتيال الحريري

©اف ب - مروان نعماني

- نيويورك (الامم المتحدة) (ا ف ب) - اقر مجلس الامن الدولي مساء الاربعاء رسميا انشاء محكمة ذات طابع دولي لمحاكمة المتهمين باغتيال رئيس الحكومة اللبناني السابق رفيق الحريري مؤكدا بذلك رفضه لمرور هذه الجريمة من دون عقاب.

وصوت عشرة من اعضاء المجلس ال15 لصالح القرار الملزم بينما امتنعت خمس دول عن التصويت هي: الصين وروسيا اللتان تملكان حق الفيتو وجنوب افريقيا واندونيسيا وقطر وهي دول غير دائمة العضوية في المجلس.

وينص القرار الذي اقر تحت الفصل السابع الملزم وحمل الرقم 1757 على دخول الاتفاقية الموقعة بين لبنان والامم المتحدة حول تشكيل هذه "المحكمة الخاصة" حيز التنفيذ بشكل تلقائي في العاشر من حزيران/يونيو الا اذا توصلت الاطراف اللبنانية الى اقراره بموجب الآليات الدستورية اللبنانية قبل هذا التاريخ.

وتعذر اقرار انشاء المحكمة في لبنان بسبب ازمة سياسية مستمرة منذ اشهر.

وينص القرار كذلك على ان المحكمة الخاصة "تبدأ العمل في تاريخ يحدده الامين العام بالتشاور مع الحكومة اللبنانية آخذا بالاعتبار التقدم الذي تحققه لجنة التحقيق الدولية المستقلة في عملها".

واشار عدد من الدبلوماسيين في الامم المتحدة الى ان المحكمة لن تبدأ العمل عمليا قبل حوالى سنة.

وتقرر مبدأ انشاء المحكمة في 2005 بموجب القرار 1595 الصادر عن مجلس الامن الدولي. وتم التوقيع في 2006 على اتفاقية بين الامم المتحدة والحكومة اللبنانية. الا ان ابرامها في المؤسسات الدستورية اللبنانية تعذر بسبب ازمة سياسية حادة في لبنان.

واغتيل رفيق الحريري في شباط/فبراير 2005 مع 22 شخصا آخرين في عملية تفجير في بيروت التي كانت واقعة تحت النفوذ السوري.

لبناني يطل من نافذة متجره الذي الصقت عليه صور رئيس الوزراء اللباني الاسبق رفيق الحريري في وسط بيروت

©اف ب - مروان نعماني

وكان تقرير مرحلي للجنة التحقيق الدولية في اغتيال الحريري اشار الى وجود "ادلة متقاطعة" حول ضلوع مسؤولين امنيين سوريين كبار في الجريمة. لكن سوريا نفت على الدوام اي ضلوع لها في الجريمة

واتى القرار في وقت يشهد فيه لبنان توترات كبيرة تضاف اليها المواجهة الجارية بين الجيش اللبناني وجماعة فتح الاسلام فضلا عن عمليات تفجير في عدد من المناطق لبنانية.

وقدم القرار برعاية الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وبلجيكا وسلوفاكيا وايطاليا وجاء بطلب من رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة.

واتى كذلك بعدما رفع الامين العام للامم المتحدة بان كي مون تقريرا اكديه فشل المؤسسات الدستورية اللبنانية في اقرار الاتفاقية المبرمة بين الحكومة اللبنانية والامم المتحدة.

ونص القرار في احدى فقراته على احتمال استحالة التوصل الى اتفاق بين الامم المتحدة ولبنان ودولة تستضيف مقر المحكمة. وفي هذه الحالة قرر المجلس "ان يكون مقر المحكمة موضع اتفاق بين الامم المتحدة والدولة المضيفة بالتشاور مع حكومة لبنان". وقد تستضيف قبرص او ايطاليا او هولندا المحكمة.

ورحبت الدول الست الراعية للقرار باعتماده. وقال سفير الولايات المتحدة زلماي خليل زاد ان "مجلس الامن اظهر تمسكه بمبدأ عدم الافلات من العقاب (في الاغتيالات السياسة) لا في لبنان ولا في اي مكان اخر".

وقال السفير البريطاني امير جونز باري للصحافيين ان الهدف من القرار هو "توجيه الرسالة السياسية الصحيحة في لبنان بان لا افلات من العقاب وان الامم المتحدة تقف وراءالاشخاص الذين يريدون احقاق الحق". واعتبر ان القرار "حيوي للبنان وللمنطقة وللعدالة".

لبنانيون يلوحون باعلام وطنية امام لافتة عليها صورة رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري وتطالب باقرار المحكمة الدولية، في صيدا جنوب لبنان

©اف ب - محمود الزيات

وقال جونز باري ان اقرار الاتفاقية داخليا في لبنان كان"الطريقة الفضلى" لكن مجلس الامن وامام استمرار الطريق المسدود كان بحاجة الى "تحمل مسؤولياته لاصدار قرار".

وقال وزير الخارجية اللبناني بالوكالة طارق متري ان اعتماد القرار "يعزز صدقية مجلس الامن".

لكن اصواتا اخرى مخالفة علت. فالسفير الروسي فيتالي تشوركين اعتبر القرار "مشكوكا فيه بموجب القانون الدولي" لانه يلتف على شروط واردة في الدستور اللبناني.

واعرب السفير القطري عبد العزيز النصر العضو العربي الوحيد في مجلس الامن من خشيته من ان القرار "لا يدعم الاستقرار في لبنان".

ورأى سفير الصين وانغ غوانغيا ان المجلس تجاهل ضرورة حصول توافق وطني لبناني بشأن المحكمة وان هذا "سيسبب مشاكل سياسية وقانونية".

وتحفظت روسيا حليفة سوريا وجنوب افريقيا وقطر على اجزاء في النص طلبت مزيدا من الوقت للتمكن الاطراف اللبنانية من ايجادل حل داخلي.

وفي محاولة لتليين موقف هذه الدول وافقت الدول الراعية للقرار تحديد العاشر من حزيران/يونيو موعدا لدخول اتفاقية المحكمة حيز التنفيذ لاعطاء الاطراف اللبنانية فرصة اخيرة للتوصل الى ارضية مشتركة.

وتنص الاتفاقية المبرمة بين الحكومة اللبنانية والامم المتحدة على انشاء محكمة مختلطة مؤلفة من غرفتين غرفة محاكمة تضم ثلاثة قضاة احدهم لبناني ومحكمة استئناف تضم خمسة قضاة بينهم لبنانيان.

واستبقت سوريا صدور القرار الدولي بالتأكيد ان موقفها لم يتغير من المحكمة. وقال مصدر اعلامي سوري مسؤول بحسب ما نقلت وكالة الانباء السورية الرسمية "سانا" ان "لا تغيير في الموقف السوري ازاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان".

واضاف ان "انشاء المحكمة تحت الفصل السابع يعد انتقاصا من سيادة لبنان الامر الذي قد يلحق مزيدا من التردي في الاوضاع على الساحة اللبنانية".

جريمة اغتيال الحريري في عهدة القرار 1757 و الفصل السابع

واشنطن ولندن تحمّلان بري مسؤولية إحباط إقرار المحكمة الدولية في البرلمان اللبناني ...

نيويورك - راغدة درغام

تبنى مجلس الأمن قراراً تاريخياً حمل الرقم 1757، بموجب الفصل السابع الملزم للجميع، ينهي عهد الحصانة من العقاب على الاغتيالات السياسية في لبنان، ويبعث برسالة جدية بأن لا مجال للإفلات من العقوبة لكل من تورط في الاغتيالات الإرهابية التي يثبت التحقيق الدولي ترابطها مع اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري ورفاقه.

وأقر نظام تشكيل المحكمة الدولية بموافقة عشرة أعضاء في المجلس وامتناع خمسة عن التصويت (قطر وأندونيسيا وجنوب أفريقيا والصين وروسيا).

وبحسب الـ 1757 يقرر مجلس الأمن بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة:

أ - أن «يبدأ سريان أحكام» الوثيقة المرفقة بالقرار المتعلقة بإنشاء محكمة خاصة للبنان، بما في ذلك النظام الأساسي للمحكمة الخاصة للبنان، اعتباراً من 10 حزيران (يونيو) 2007، ما لم تقدم حكومة لبنان قبل ذلك التاريخ اخطاراً بموجب المادة 19 من الوثيقة المرفقة».

ب - انه إذا أبلغ الأمين العام أن اتفاق المقر لم يبرم على النحو المتوخى في المادة 8 من الوثيقة المرفقة، فإنه يحدد موقع مقر المحكمة بالتشاور مع الحكومة اللبنانية، ويكون ذلك رهناً بإبرام اتفاق مقر بين الأمم المتحدة والدولة التي تستضيف المحكمة.

ج - إذا أبلغ الأمين العام عن عدم كفاية مساهمات الحكومة اللبنانية لتحمل النفقات المبنية في المادة 5 من الوثيقة المرفقة، فإنه يجوز له قبول تبرعات من الدول الأعضاء لتغطية أي نقص.

وحمّل السفيران الأميركي زلماي خليل زاد والبريطاني السير امير جونز بيري مسؤولية احباط العملية الدستورية اللبنانية الى رئيس مجلس النواب نبيه بري. ولفت خليل زاد الى أن في إمكان رئيس البرلمان فتح باب المجلس للتصويت من أجل إبرام معاهدة انشاء المحكمة في الفترة المتاحة حتى 10 حزيران.

وستبدأ المحكمة الخاصة عملها في تاريخ يحدده الأمين العام بالتشاور مع حكومة لبنان، مع مراعاة التقدم المحرز في أعمال لجنة التحقيق الدولية المستقلة، بحسب نص مشروع القرار. كما يطلب مجلس الأمن إلى الأمين العام «أن يتخذ، بتنسيق مع الحكومة اللبنانية عند الاقتضاء، الاجراءات والتدابير اللازمة لانشاء المحكمة الخاصة في موعد قريب، وأن يقدم تقريراً الى المجلس عن تنفيذ هذا القرار في غضون 90 يوماً وبعد ذلك بشكل دوري».

السفير البريطاني قال، رداً على «الحياة» اثناء لقائه الصحافة قبل التصويت، إن انشاء المحكمة الدولية «ينهي الإفلات من العقوبة ويبعث الرسالة السياسية الصحيحة إلى لبنان وهي أن الحصانة ضد العقاب غير ممكنة، وأن الأمم المتحدة تقف مع أولئك الذين يتطلعون الى العدالة. هذه هي الرسالة، وبالمعنى السياسي إنها مهمة جداً لبلد». وأكد أن حصول القرار على 10 أو 11 صوتاً ليس أمراً مهماً على رغم أن جميع متبني مشروع القرار يفضلون الاجماع، وذلك لأن «الأهم هو أن مجلس الأمن عند تبنيه القرار يكون تصرّف واتخذ اجراء»، ملاحظاً أن تبني المجلس للقرار له «تأثير قانوني. وهذه هي النقطة الحاسمة».

وحمّل السفير البريطاني في معرض رده على أسئلة الصحافة احباط العملية الدستورية لإبرام معاهدة انشاء المحكمة ونظامها الأساسي الى رئيس البرلمان نبيه بري. وقال إن إبرام المعاهدة التي وقعتها الأمانة العامة للأمم المتحدة مع الحكومة اللبنانية وصادق عليها مجلس الأمن تعطّل لأن «شخصاً واحداً بوسعه أن يوقف البرلمان عن الاجتماع»، بحسب التركيبة اللبنانية «الفريدة». ورداً على سؤال إن كان هذا الشخص الواحد هو رئيس البرلمان، رد جونز بيري قائلاً: «تماماً».

وقال السفير البريطاني: «إني لا أعرف أي ظرف ومكان، لا يتمكن فيه البرلمان من الاجتماع ولا يأخذ بتوصيات حكومة، لأن فرداً واحداً قرر أن مجلس النواب يجب ألا يجتمع... وأنا لا أعرف بمثل آخر كهذا». وشدد على «ضرورة أن يتحمل مجلس الأمن مسؤوليته أمام هذه الحالة الفريدة. أتت حكومة إلينا وطلبت منا أن نتصرف ونتخذ اجراءات إزاء هذا الوضع» الذي هو «غير عادي». واضاف انه أمام «استحالة» إنشاء المحكمة بحسب المواثيق الدستورية اللبنانية «نحن نعتقد أن لمجلس الأمن الحق القانوني (في اتخاذ اجراءات إنشاء المحكمة). قانونياً، نحن قادرون. وسياسياً، واجب علينا. فلبنان في وضعه الحالي يستحق ويتطلب دعمنا».

وعلّق جونز بيري على الرسالة السورية الى القيادات العربية التي وصفت إنشاء المحكمة بأنه تدخل في السيادة اللبنانية بقوله إن «سورية تعرف عن التدخل في لبنان أكثر مني».

وقال السفير الفرنسي جان مارك دولاسابليير، رداً على سؤال «الحياة» عن معنى القرار وتأثير تبنيه، ان «حالة الجمود التام بين اللبنانيين سيتم التغلب عليها من ناحية المحكمة. فهذه المحكمة ستنشأ قانونياً وهذه خطوة جيدة. فإنشاء المحكمة مسألة مهمة للجنة التحقيق. ثم ان الفترة بين إنشاء المحكمة وبدء عملياتها قد تستغرق فترة سنة بسبب التفاصيل المالية والعملية وموقع المحكمة وإلى ما هنالك. وهذا النوع من النشاط يمكن البدء به الآن». وتابع يقول إن هدف إقامة «الاستمرارية» بين التحقيق وبين المحكمة سيتم تحقيقه بتبني القرار الذي «سيساعد ايضاً اللبنانيين في التغلب على الأزمة التي يواجهونها الآن».

وقال السفير الروسي فيتالي تشيركين: «ليست لنا أية مشكلة مع فكرة ضرورة المضي الى الأمام بالمحكمة. فنحن نقبل ألا تصل (المحكمة) الى حائط مسدود ذلك لأن هناك عملية معينة ولأن هناك لجنة السيد (سيرج) براميرتز (للتحقيق). ونحن نؤمن بأنه يجب أن تأخذ العدالة مجراها». لكنه اضاف: «نحن نعتقد، ولقد عبرنا عن آرائنا أمام زملائنا في مجلس الأمن بتوسع، ان هناك وسائل قانونية أفضل لتحقيقها (المحكمة) لتجنب عدد من مضاعفات وعواقب قانونية جدية وربما ايضاً سياسية. فنحن نحاول أن نساعد مجلس الأمن على القيام بما يجب القيام به بالطريقة الصحيحة». وأضاف ان البدائل التي عرضها في مجلس الأمن عن مشروع القرار المطروح هي «في الأساس التخلص من الفصل السابع من الميثاق... وفي اعتقادنا ان في هذا رسالة بالقدر الكافي من القوة وفيها أساس جيد لقيام الحكومة في لبنان والشعب في لبنان لإنشاء المحكمة والمضي نحو تنفيذ كل ما جاء في الوثائق». واضاف ان «حيز التنفيذ هو شيء يقوم به البرلمان. ولم يسبق لمجلس الأمن أن أبرم اتفاقات بالنيابة عن برلمان دولة أخرى».

وقال السفير الأميركي قال قبل التصويت إن «مسألة الاغتيالات السياسية مسألة في غاية الأهمية، ليس فقط للبنان، وإنما للعالم أجمع. ومجلس الأمن لا يمكن له أن يتجاهل هذه المسألة». وأضاف: «ان الذين ارتكبوا الاغتيالات السياسية يجب أن يمثلوا أمام العدالة، ولا يجوز لهم أن يحصلوا على الحصانة من العقاب».

واضاف خليل زاد: «يجب عدم اساءة الفهم في شأن الاختلاف في مجلس الأمن، فهو ليس خلافاً حول الرغبة في انشاء المحكمة، فالجميع يقبل أن المحكمة خطوة مهمة ويجب تشكيلها، وان جريمة الاغتيال السياسي لا يمكن لها أن تمضي من دون تحقيق وعدالة»، مشيرا الى ان الخلافات تتناول ضرورية اصدار القرار بموجب الفصل السابع من الميثاق، إنما «لا أحد في مجلس الأمن قال إنه لا يريد انشاء المحكمة، أو أنه يريد أن تمضي الاغتيالات السياسية بلا مثول أمام العدالة».

وحذر السفير الأميركي الذين يعتزمون اطلاق عنان العنف في أعقاب التصويت على القرار، وقال: «إذا حدث ذلك، ان المسؤولية ستقع على الذين يرتكبون العنف».

وعلق وزير الخارجية اللبناني بالوكالة طارق متري على معنى القرار، قائلا: «إن لبنان يسير الآن جدياً في طريق احقاق العدالة. وطريق احقاق العدالة هي نفسها طريق المصالحة لأن قرار اليوم ليس تدخلاً في شؤون لبنان، وإنما هو مساهمة في تعزيز قدرات لبنان على بناء دولة الحق. وقرار اليوم ليس انتصاراً لفريق على فريق، ولا هو استقواء من قبل فريق بالمجتمع الدولي ضد فريق آخر. إنه يضع جميع اللبنانيين أمام فرصة استعادة هذا الاجماع الذي قام حول ضرورة انشاء المحكمة الدولية».

مجموعة الثماني

وفي بوتسدام (أ ف ب)، جدد وزراء خارجية دول مجموعة الثماني دعمهم المطلق للحكومة «الشرعية والديموقراطية في لبنان»، داعين دول المنطقة وبينها سورية الى عدم التدخل في الشؤون اللبنانية الداخلية.

وجاء في البيان الختامي الصادر عن الاجتماع ان الوزراء الثمانية (الولايات المتحدة وروسيا والمانيا وفرنسا وبريطانيا وايطاليا وكندا واليابان) «مستمرون في موقفهم الداعم لإنشاء محكمة خاصة من اجل لبنان. ونطلب بإلحاح من كل اعضاء المجتمع الدولي دعم المحكمة بعد انشائها والتعاون معها».

وقال البيان: «نطلب من كل الاطراف، وفي المقام الاول دول المنطقة لا سيما سورية... وقف التدخل في شؤون لبنان الداخلية»، معتبرا ان حل مشكلة لبنان «يكون فقط عبر الحوار وفي اطار الاحترام الكامل للمؤسسات الديموقراطية في البلاد».

استنفار امني في لبنان

وفي لبنان، شهدت بيروت ومناطق أخرى استنفاراً استثنائياً للقوى الأمنية اللبنانية بدءاً من بعد ظهر امس على خلفية اجتماع مجلس الأمن، خشية حصول صدامات في الشارع بين جمهور الأكثرية المؤيد لإقرار المحكمة وجمهور المعارضة الذي يعارضه، وخشية حصول تفجيرات، بعد تحذيرات من تهديد الاستقرار في لبنان بسبب قرار الأمم المتحدة إصدار المحكمة على رغم التحفظات عليها. ومنعت القوى الأمنية الدراجات النارية من السير في الشوارع وإطلاق المفرقعات والألعاب النارية.

ونفت المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي في بيان إشاعات عن متفجرات، والتي «قد تكون مفبركة لغايات وأهداف معينة».

وقال مصدر وزاري ان الساعات التي سبقت إنعقاد جلسة مجلس الامن شهدت محاولة من الرئيس بري لاعاقة إقرار المحكمة. واوضحت ان بري بعث صباحا برسالة الى سفير دولة كبرى يقترح فيها عليه ان يقدم رئيس الوزراء فؤاد السنيورة استقالة الحكومة، بعد إجتماع لها تعين فيه قضاة المحكمة، على ان يُدعى المجلس النيابي الى جلسة اليوم لتفويت الفرصة على رئيس الجمهورية اميل لحود حل المجلس تشكيل حكومة عبر حكومة ثانية قد يشكلها. لكن اركان الاكثرية رفضوا الاقتراح، معتبرين انه يهدف الى إظهار ان اللبنانيين بدأوا يسيرون على طريق حل الامة الحكومية، وتاليا تأجيل التصويت في مجلس الامن على إقرار المحكمة.

وكرر تيار «المستقبل» دعوة مناصريه الى عدم الاحتفال بالمحكمة بإطلاق النار أو الأسهم النارية والاكتفاء بإضاءة الشموع ورفع العلم اللبناني. وانضم إليه رئيس «اللقاء النيابي الديموقراطي» وليد جنبلاط الذي أعلن أن إقرار المحكمة ليس موجهاً ضد طائفة أو حزب معتبراً ان يوم امس تاريخي. وانتشر شبان من مؤيدي تيار «المستقبل» في عدد كبير من شوارع بيروت يزرعون على الأرصفة الشموع من اجل اضاءتها عند اعلان التصويت على إقرار إقامة المحكمة ووزع هؤلاء صوراً للرئيس الراحل ونجله النائب سعد. وقابلهم مؤيدو حركة «أمل» و «حزب الله» برفع صور رئيس البرلمان نبيه بري والأمين العام للحزب حسن نصر الله.

وزارت وفود شعبية منزل الرئيس السابق امين الجميل في بكفيا خصوصاً ان قضية اغتيال نجله الوزير بيار الجميل ستكون من ضمن القضايا المشمولة بصلاحيات المحكمة. وزار مساء وفد من اشقاء وشقيقات الشهيد جورج حاوي النائب الحريري .

ومع إعلان نتيجة التصويت في مجلس الامن، قبيل الحادية عشرة ليلا بالتوقيت المحلي، كانت شوارع العاصمة ومعظم طرقاتها خالية من الناس. وأضئيت آلاف الشموع الموضوعة في اكياس صغيرة من الرمل على الارض. وامتدت الشموع المضاءة على مسافة كيلومترات في كل الشوارع الرئيسية في العاصمة، من الاحياء المسيحية في الاشرفية الى منطقة الكورنيش على شاطىء البحر مرورا بالاحياء السنية. فيما انفجرت قنبلة صوتية قرب كنيسة مار مخايل في الضاحية الجنوبية.

ورحب زعيم كتلة المستقبل النيابية النائب سعد الحريري بقرار مجلس الامن انشاء المحكمة. وقال، في كلمة عبر التلفزيون الى الشعب اللبناني، ان القرار يمثل «انتصار العالم للبنان المظلوم لكنه ايضا انتصار لبنان المظلوم في العالم». واضاف «انها لحظة فاصلة بين زمن القتل والجريمة بدون حساب وزمن الحساب والعقاب»، مشددا على ان «هذه المحكمة ليست لنصرة جهة على جهة اخرى في لبنان (بل) ستكون بداية الخلاص من مسلسل الاجرام الارهابي». واضاف ان «إقرار المحكمة لحظة للوحدة والتضامن والتلاقي»، معلنا «امد يدي الى شركائنا في الوطن واقول لاقوا اليد الممدودة. كفانا انقساما»، معتبرا ان ثمة فرصة متجددة لوحدة اللبنانيين وللحوار، داعيا الى «ان نتشارك جميعا في الارتفاع فوق الخلافات».

الحياة - 31/05/07

الديمقراطية والعلمانية في الأزمة التركية

الديمقراطية والعلمانية في الأزمة التركية

أكرم البني

خاص – صفحات سورية –

أن يستخدم الرئيس التركي، أحمد نجدت سيزر، حق النقض لإلغاء تعديل دستوري يقضي بانتخاب خلفه من قبل الشعب مباشرة وليس من البرلمان، أمر لم ينه الأزمة التي تعتمل هناك، وإن نجح في تأجيل انفجارها. فأسباب الازمة ما تزال قائمة، ويحتمل أن تتطور، وربما تتفاقم بعد الانتخابات البرلمانية المستحقة في أيلول القادم. لكن الأهم أن ما حدث ويحدث في تركيا لم يعد يخص هذا البلد وحده، بل يعني بلداننا العربية، ويثير العديد من الأسئلة الإشكالية بشأن أوضاع متشابهة تنتظر أجوبة، وبخاصة حول العلاقة بين العلمانية والديمقراطية في مجتمعات تتميز بخصوصيتها الثقافية، وبمدى تشرب الدين شعبياً في بناها.

بداية، استحضرت الأزمة التركية من جديد الشكوك القديمة حول مدى صدقية التيارات السياسية التي تستمد من الدين أصولها ومرجعياتها، لجهة حدود إيمانها بالديمقراطية، وقدرتها على احترام التنوع والاختلاف. وبدا للكثيرين أن إصرار حزب العدالة والتنمية على انتزاع مقعد رئاسة الجمهورية، بصفته الكتلة البرلمانية الأوفر حظاً، هو أشبه بمحاولة للارتداد وتجيير ما حازه من وزن لتكريس قيمه الخاصة في الحياة في مواجهة القوى والتيارات الأخرى. حتى أن بعض هؤلاء دفع موقفه إلى النهاية ليطعن في إمكانية أن تخرج القوى السياسية الإسلامية من جلدها وتغدو ديمقراطية ومعتدلة، متهماً إياها بأنها تشكل القاعدة الفكرية والاجتماعية لنمو وترعرع الأصولية والتطرف.

وإذ يصح مثل هذا الحديث عن تيارات وجماعات استسهلت تحت العباءة الدينية مصادرة كل شيء، وحاولت قسر الإسلام في حركة سياسية تخوض الصراع ضد الآخر انطلاقاً من الفروق الدينية وليس من منطق ماهية هذا الآخر ووظيفته الموضوعية في المجتمع، فإن هذا الحديث لا يصح على حزب العدالة والتنمية؛ ليس لامتثاله ولسنوات طويلة لقواعد الحياة الديمقراطية، وإنما أيضاً لثقافة دأب على نشرها تدل على رحابة صدر في احترام الآخر.

فالجوهري هنا هو وضوح تمسك هذا الحزب بقواعد العملية الديمقراطية، والتزامه العياني بها، بغض النظر عن النيات وما يحتمل أن يبيته في الخفاء، وبغض النظر إن صح التشكيك بحقيقة دوافعه، وأنها تكشف ميلاً إلى الحسابات الأنانية وضعف إيمان بقيم الديمقراطية والاعتدال. إذ لا يمكن معالجة التعارض والالتباس القائم بين الاحتكام إلى مبادئ الديمقراطية من جهة، ورفض ما تأتي به إذا كان يعارض أفكارنا ومواقفنا من جهة أخرى، إلا بتقديم أولوية الديمقراطية، وتربية النفس والآخر على الثقة بقواعدها وبقدرتها على تصحيح أي مسار خاطئ، أو أي اندفاع لسوق الأمور خارج قواعدها ونحو التطرف أو الحسابات الذاتية الضيقة!

من جهة ثانية، تتنافى أبسط مبادئ الديمقراطية مع إقحامها بأي غرض أو غاية سياسية، فلا اشتراطات لضمان صحة الحياة الديمقراطية وعافيتها سوى الإيمان بها، والالتزام بقواعدها وقوانينها، ومن الخطأ والخطر تقديم أي فكرة أو رؤية سياسية عليها حتى لو كانت صائبة وصحيحة مائة في المائة! مثلما هو حال الجيش التركي الذي يقونن العملية الديمقراطية على هواه، ما دام يعتبر نفسه وصياً على العلمانية، والمسؤول الأول والأخير عن تعاليم أتاتورك ودولته الحديثة، مسوغاً لنفسه استخدام كل الوسائل، بما في ذلك القوة العارية والانقلاب على الديمقراطية، إذا وجد أن موضع العلمانية في خطر، الأمر الذي مهد بالفعل، وخلال فترات متتالية، لأكثر من انقلاب عسكري في تركيا!

فبأي حق تنصب قوة سياسية أو عسكرية نفسها مرجعاً أحادياً للمجتمع، وتستسهل التضحية بالديمقراطية كقاعدة للتفاهم والحياة، وهي الأشمل والأغنى، لحساب رؤية فكرية أحادية تمثلها العلمانية؟! ولأي غرض ينبغي أن نصدق الجيش التركي في ادعاءاته بأنه حامي حمى العلمانية، وأنه لا يعمل تحت ذريعة حماية الشعب من اضطهاد القادة الدينيين على توجيه الأمور بما يخدم مآربه ومصالحه الخاصة؟!

وإذ درجت العادة في ثقافتنا القديمة على استخدام الديمقراطية سلاحاً تكتيكيا، أو وسيلة للوصول إلى الحكم ثم الانقلاب عليها، وتبرير الاستئثار بالسلطة تحت حجج وذرائع شتى، فإن أحد الوجوه المفيدة التي أثارتها الأزمة التركية هي ضرورة التحرر من ثقافة الماضي وتعقيداته، خاصة بالنسبة للتيارات المعتدلة والمؤمنة بالتوافق بين الأغراض السياسية التي تحملها وقواعد الحياة الديمقراطية، وتالياً التأسيس لوعي جديد، لا يأخذ الديمقراطية كوسيلة نسعى من خلالها إلى اكتساب نصر سياسي عابر، بل باعتبارها نمط حياة وغاية في حد ذاتها، علينا أن نتعلم كيف ننصهر فيها، فكراً وسياسةً وسلوكاً.

فلا مكان للاصطدام بين أي فكرة، بما في ذلك العلمانية وما تفرضه من التزامات وتفسير خاص للحياة والثقافة والسياسة، وبين الديمقراطية. بل ما نحتاجه هو حماية الديمقراطية أولاً، وربما البحث عن مفهوم آخر للعلمانية يناسب خصوصية مجتمعاتنا. وهذا هدف لا يواجه تركيا بمفردها، بل ويطرح بإلحاح في مجتمعاتنا، مخلفاً سؤالاً كبيراً أيضاً عن صدقية القوى العلمانية، ومدى إيمانها بالديمقراطية.

فمثلما يتهم العلمانيون تيارات الإسلام السياسي بأنها خطر على المجتمع، وتهدد بأخذه رهينة لمطامعها، يعتبر الناشطون الإسلاميون أن فرض أي فكرة تتناقض مع مفاهيمهم على المجتمع يضر بهم، ويشعرهم بالدونية والمرارة، الأمر الذي يتطلب موضوعياً ضرورة نزع القداسة عن العلمانية، وإعادة تعريفها بما ينسجم مع خصوصياتنا، وبداية تشجيع ما يطرح من أفكار ونماذج تحديثية ترفض التسليم بما قدمته التجربة الأوروبية عن الفكر العلماني، وأنها الوحيدة الذي تملك الحلول العقلانية والصحيحة. ففي الغرب نفسه ثمة علمانية وعلمانية. مثلاً بين النموذج الفرنسي الذي يمنحها ثقلاً مميزاً، وبين النموذج الأميركي الذي يوسع حيز الحريات الشخصية، بما في ذلك حرية التدين وممارسة الشعائر. يليه تباين في الموانع الدستورية والقانونية التي تحول دون هيمنة الدين والقوى الدينية على الحياة والخطاب السياسي.

وإذ يصح تعريف العلمانية من حيث الجوهر بأنها فصل الدين عن الدولة، أو استقلال السلطة في التشريع وإدارة الحكم عن المؤسسة الدينية، فهذا لا يعني بأي حال إلغاء الدين أو إبعاده من المجال الاجتماعي، بل العمل فقط على إخراج السياسة والتنظيم الاجتماعي من سيطرة الممارسة الدينية، مثلما إخراج الممارسة الدينية من سيطرة السياسي ورعايتها في إطارها الحيوي كحق وخيار شخصي.

وبالتالي، فالعلمانية تشتق مبادئها من قيم تتصل بالنشاط الإنساني الملموس، وليس من قيم مجردة. ومثلما لا يمكن أن نغض النظر عن ظواهر يمكن أن يفرزها المجتمع في هذا المستوى من تطوره، لا تزال تجد خلاصها في الربط بين الدين والسياسة، لا يمكن الاطمئنان إلى وسائل القهر والإقصاء والتهويل من أخطار مزعومة للتيارات الإسلامية للتجني على الديمقراطية وتشويهها.

والأهم أن العلمانية لا يمكن أن تتفتح إلا بصفتها قاعدة للتوافق على عقد اجتماعي يرضي الجميع، بينما تصبح مشوهة وهدامة عندما تفرض من فوق أو بالقوة والعنف من قبل طرف دون احترام الخيار الديمقراطي. فلا تصح الدولة العلمانية وقيامها بغير التراضي والاحتكام إلى الديمقراطية كقواعد وآليات، ما يحث الجميع على صياغة علاقة صحية بين العلمانية والديمقراطية، تبدأ برفع راية الديمقراطية كنمط حياة يجب تعزيزه وتطويره، مروراً بضرورة نقد الإرث العلماني المستند إلى الممارسات القهرية تجاه الحركات السياسية المرتبطة بالثقافة التاريخية للمجتمعات المسلمة. ما يجنب بلداننا ليس فقط التطرف والإرهاب الأصولي، وإنما الاستبداد العلماني أيضاً.

كاتب سوري