واقع الاقتصاد السوري
مروان سليم حمزة
بداية لابد لنا من التوقف لتقديم التحية الى شيخ المعتقلين السياسيين وأستاذ علم الاقتصاد السياسي الدكتور عارف دليلة ورفاقه في السجون السورية ولنستذكر كلماته حين قال في بداية محاضرة قدمها في منتدى جمال الأتاسي للحوار الديمقراطي 2 أيلول 2001، واعتُقل بعدها وأُحيل إلى محكمة أمن الدولة العليا:
ما زلنا نعيش في نظام تؤخَذ فيه الناس بجريرة أقوالها، وما زال النظام حتى الآن لا يأخذ الناس بجريرة أفعالهم. أصبح القول جريمة، أما الفعل مهما بلغ من الخطر على البلاد والعباد، فلا يُعتبر جريمة يُحاسب عليها. آن الأوان أن نعترف بحرية الرأي والكلمة والقول، وأن نحاسب الناس على أعمالهم ونتائج أفعالهم التي يتحمّل الوطن والشعب والحاضر والمستقبل أعباءها.
عندما طرح فوكوياما نظرية نهاية التاريخ، استهدف إعادة رسم ملامح الصراعات السياسية على المستوى الكوني والتسويق لسياسات تتناسب مع مرحلة سيادة العولمة في جميع أبعادها. هكذا اعتبر أن الغرب (لاسيما أوروبا والولايات المتحدة) هي شعوب وصلت الى المطلق وتجاوزت التاريخ أو المرحلة التاريخية، أما بلدان العالم الثالث فبقيت شعوباً تاريخية، بينما اعتبر أن هناك بلداناً لم تحسم خياراتها بعد، فهي حلقة وسيطة، يمكن أن تتجاوز التاريخ أو أن تبقى شعوباً تاريخية، مثل بلدان الاتحاد السوفيتي السابق.
هكذا انفرط عقد التحالفات السياسية والعسكرية المتبلورة حول قطبين إيديولوجيين ونظامين اقتصاديين واضحين: الرأسمالية والاشتراكية، لتحل مكانهما إيديولوجية سميت بالعولمية تعبر عن نقلة نوعية في ميدان العلاقات الاقتصادية تتمثل - كما وصفها د. صادق جلال العظم- بتعميم أنماط الإنتاج أو دوائر الإنتاج وعولمتها ونقلها الى الأطراف.
على أي حال، وضعت التحولات الجديدة والانقلابات السياسية والاقتصادية العالمية بلدان العالم الثالث أمام خيارات محدودة وتكاد تكون إجبارية. فماكينة العولمة وتقدمها الموضوعي طالت أشد المفاهيم رسوخاً وعمقاً مثل الوطنية والتنمية والخصوصية الثقافية، بل إن تلك الماكينة أنتجت ذراعاً عسكرية للتدخل في الصراعات الجارية، أو الأصح لإعادة إنتاج الصراعات وتهدئتها على المستوى العالمي، بحسب ما تقتضيه مصالح الدول الكبرى.
والذي نتمناه ان تتنبه سوريةً الى طبيعة التحولات الجارية، وان تدرك ان الشروط الدولية من حولها أصبحت معادلات صعبة ومعقدة، وكان لا بد من العمل فيها وبها لإعادة إنتاج خصوصية سورية قابلة للتكيف من جهة وقادرة على الحفاظ على استقرارها من جهة أخرى.
يقول د. عارف دليلة: (الأخطر هو الاقتصاد. يمكن أن نزاود إلى الأبد بالشعارات والمواقف الثورية، ولكن من المؤسف أن لا نكتشف أنه تحت هذا الغطاء من الشعارات الثورية هنالك من يفعل فعلاً مضاداً على الأرض، ومن يفرّغ إمكانيات هذه الأمة ويمتصّ الدماء من عروق مواطنيها، ومع ذلك فهناك من يغطيه بالشعارات والخطابات والمقالات وكأن شيئاً لم يكن، فكيف يمكن لهذين النقيضين أن يجتمعا في وقت واحد، في سلطة واحدة، في دولة واحدة، في حزب واحد؟ كيف يمكن أن يستمر القول نقيض الفعل، والفعل نقيض القول؟ لقد دفعت سورية، دولة وشعباً، ثمناً غالياً لهذا التناقض. على مدى العقود الماضية عشنا في ظل نظام ذي وجهين، كعملة لا افتراق بين وجهيها: وجه عسكري أمني سياسي يرفع الشعارات القومية الثورية الوطنية الاشتراكية، ووجه اقتصادي اجتماعي يقطّع أوصال الدولة والشعب والمواطن.)
لم تعد إذاً مقولات التنمية الاقتصادية والاجتماعية التقليدية المعروفة موجودة في حياتنا، وإن كنا أحياناً نسمعها ونقرأها في النصوص الرسمية. أولاً لأنها تتبع منهج النفاق الاقتصادي، الازدواجية، تزوير الأرقام والوقائع والحقائق على طول الخط. إننا في سورية لا نمتلك رقماً واحداً حتى، حيث لا يمكن تزوير الرقم، أي في المصارف أو ميزانية المصرف المركزي وخزينة الدولة. هناك في سورية تُطبّق أشد أشكال السرية حيث الشفافية يجب أن تكون كاملة ومطلقة. يجب أن توضع هذه الأرقام المالية والمصرفية والنقدية في أيدي الشعب وكل باحث. فكيف نفسر هذه السرية التي لا مثيل لها في العالم : سرية الرقم المالي، سرية الرقم النقدي في المصرف المركزي.
بين العام والخاص، كانت العملية «الإصلاحية» في الاقتصاد السوري، التي بدأت في الثمانينات، وتجسدت بمشروع إصلاحي حمل عنوان «نحو اقتصاد اشتراكي متطور» أعده الاقتصادي السوري القادم من البنك الدولي «د. نبيل سكر» بتمويل من رجل الأعمال اللبناني المرحوم «رفيق الحريري» وبرعاية داخلية من قبل نائب الرئيس السوري المنشق «عبد الحليم خدام» الذي نقل المشروع إلى القيادة القطرية. وكانت الخطوط العريضة لذلك المشروع تقوم على مبدأ أساسي هو الانتقال من التخطيط المركزي إلى التخطيط التأشيري وتشجيع دور القطاع الخاص مع خلق منافسة بين القطاعات الثلاثة، دون الدعوة إلى خصخصة عامة بل الاقتصار على خصخصة جزئية حيث اقتضت الحاجة مع الحفاظ على دور الدولة، بحيث تؤدي تلك الإجراءات كما يقول الدكتور سكر «إلى تغيير صيغة الاشتراكية وليس الاشتراكية ذاتها». إلا أن المشروع المكون من ستة مجلدات ضخمة وأنيقة والتي لا تزال تقبع حتى الآن في مكتب الدكتور «سكر» لم ير النور إلا بعد 18 عاماً مع المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث، ولكن بطبعة جديدة حملت اسم «اقتصاد السوق الاجتماعي».
وجاء خطاب القسم الدستوري مع وصول الرئيس بشار الأسد إلى سدة الجمهورية وتأكيده على أولوية الإصلاح الاقتصادي الذي يقوم على مبدأ الاستثمار الأمثل للموارد وإصلاح القطاع العام ودعم التعددية الاقتصادية وتعميق مبدأ الرعاية الاجتماعية والازدهار الاقتصادي، فأصبح الإصلاح بذلك «المفردة» الأكثر حضوراً في الخطاب السوري اليومي.
وبعض ما قاله الدردري في مقابلة صحافية مع جريدة السفير: على أن الدولة السورية حسمت أمرها، واتبعت خط الاقتصاد الحر، بصيغة اقتصاد السوق الاجتماعي. ورسم صورة متفائلة للاقتصاد السوري، مستعيناً بتقرير صندوق النقد الدولي، والقوانين الكثيرة التي أقرّت في السنتين الماضيتين. وأكد أنه بعكس ما يقال، ثمة توسع في علاقات سوريا الاقتصادية نحو العالم، وخصوصاً أوروبا، التي تواكب حركة الاستثمار النشطة في بلاده.
ويعتبر الدردري أن الخطة الخمسية العاشرة بمثابة <إطار كامل لقضية تحوّل المجتمع السوري لاعتماد اقتصاد السوق الاجتماعي>، بحيث تضع <إشارات واضحة لتحوّله إلى مجتمع يعتمد التعددية السياسية والاقتصادية، وحقوق الإنسان، والتوازن بين الحرية الاقتصادية وحرية الفرد ومصلحة المجتمع>، بالإضافة إلى <تطوير استكمال مسيرة الدولة الديمقراطية ودولة المؤسسات، والتوجّه نحو اقتصاد المعرفة والانفتاح على الاقتصاد العالمي والاندماج فيه>.
لكن الإجراءات والتوجهات الحكومية على الأرض أخذت منحى مغايراً من خلال توجه الحكومة نحو تقليص الإنفاق العام الاستثماري الذي ألقى بظلاله الداكنة على عملية إصلاح القطاع العام وأدى إلى تراجع مستوى النمو والمعيشة».
فأحسن المصطلحات والشعارات لا تعني شيئاً، إذا لم تؤكد الممارسة مصداقيتها. فالاقتصاد السوري كان يوصّف خلال عقود، في النصوص القانونية وفي الوثائق الرسمية على أنه اشتراكي، بينما كان في واقع الحال رأسمالياً مشوهاً ومتخلفاً. إذن فقوة النص أو المفهوم تأتي من الواقع وليس العكس.
واليوم في إطار الصراع الجاري مع قوى السوق الكبرى التي تريد سوق فوضى تسميها «بالحرة»، يأتي مفهوم اقتصاد السوق الاجتماعي ليفتح إمكانية، مجرد إمكانية، للقوى المناهضة لأخطار السوق الحرة، كي تمنع حدوث كارثة إذا أحسنت تنظيم قواها وعبأت قوى المجتمع معرفياً وسياسياً في الاتجاه الصحيح.
وبعبارة أدق، إن مصطلح اقتصاد السوق الاجتماعي، ليس تعويذة قادرة بلمسة ساحر على إيقاف قوى السوق الكبرى المنفلتة والمتوحشة والمرتبطة بقوى السوق العالمية. فالشكل النهائي والملموس له ستحدده على الأرض محصلة صراع القوى الاجتماعية المختلفة، والذي يجري في بيئة إقليمية وعالمية غير ملائمة مؤقتاً للقوى النظيفة في جهاز الدولة والمجتمع.
لذلك فإن وضوح صياغة المفاهيم، وإيجاد أشكالها التطبيقية على الأرض سيرتدي أهمية كبيرة بالنسبة لمآل الصراع الجاري في البلاد حول آفاق التطور اللاحق.
وتبدو الصورة قاتمة حيث ازدادت خلال هذه الفترة معدلات البطالة التي وصلت حسب وزير النفط السابق د. مطانيوس حبيب إلى أكثر من 3 مليون عاطل عن العمل واتسعت دائرة الفقر لتشمل 30% من السكان حسب الأرقام الجديدة وانتشر الفساد الذي كلف البلد في العام 2000 نحو 50 ألف دولار يومياً، وظهر في الساحة رجال أعمال جدد لم تكن وجوههم مألوفة في السابق، فكان أن انقلب الإصلاح إلى «تصليح» أوضاع المقربين والمدعومين، وشعر المواطن بسخافة الشعار وهزالة القضية في دولة الشعارات الكبيرة والنتائج البغيضة منتظرا مصيره القاتم الذي ربما لن يطول انتظاره مع نقلة اقتصاد السوق الاجتماعي "الذي تريده قوى السوق الكبرى باتجاهها،" بعد أن أصبح محصوراً في الزاوية الأخيرة من الرقعة.
أرقام الإصلاح بعد هذه السنوات تشير الى أن متوسط معدل النمو الاقتصادي بين أعوام 1997 ـ 2003 كان بحدود 2.27% سنوياً، أي أنها لم تغط الزيادة السكانية التي كانت بمعدل 2.58% سنوياً خلال هذه الفترة، وبقي متوسط معدل نمو حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي خلال هذه الفترة بمعدل -0.2%، أما في التعليم العالي فقد انخفض نصيب الطالب الواحد من المبالغ المنفقة على التعليم الإنمائي إلى 8071 ل.س عام 2002 بعد أن كان 8931 ل.س في العام 1998، وكان متوسط نمو نصيب الطالب الواحد خلال هذه الفترة باستثناء عام 2001 بمعدل -10.75% سنوياً. وفي قطاع التربية والتعليم فإن نسبة المدارس الرسمية إلى إجمالي عدد المدارس خلال 2000 ـ 2004 ورغم الزيادة السكانية الكبيرة فإنها لم ترتفع إلا بنسبة 1% فقط،، كما أن متوسط عدد التلاميذ في الشعبة الواحدة للتعليم الأساسي والثانوي لم ترتفع سوى نسبة طالب واحد فقط... ويعلق الدكتور نبيل سكر على هذه النسب بالقول: «إنه لم يكن هناك إصلاح اقتصادي بالمعنى العميق بل كانت هناك حالة تردد وعدم وضوح، وما قمنا به خلال الـ 15 سنة الماضية هي خطوات على طريق الإصلاح الاقتصادي وليس إصلاحاً اقتصادياً، حيث كانت هناك خطوات لم تجمعها رؤية ولم تكن ضمن برنامج، وبالتالي كان هناك تدني في مستويات الاستثمار من الدولة كما من القطاع الخاص لأن المستثمر لم يشعر بالأمان الكافي ولم يشعر بتغير في البيئة التشريعية والتنظيمية».
وأضاف سكر: « أن مخرجات التعليم لم تكن متناسبة مع متطلبات سوق العمل، مما أدى إلى البطالة مع تدني مستوى النمو، إضافة إلى عدم وجود شبكات كافية للحماية الاجتماعية، فخلال 30 عاماً من "الاشتراكية" لم يكن هناك تعويض بطالة رغم أن الصحة والتعليم كانت مجانية».
واعتبر كذلك أن التردي في مستوى الخدمات الاجتماعية والنمو الاقتصادي كان بسبب «التردد في اعتناق نظام السوق كعقيدة، حيث كانت هناك قرارات توصي بالدخول إلى نظام السوق ولكن دون أن يتم تبنيه، لأنه حسب البعض كان يتناقض مع فكر الحزب ولم يكن أحد يسعى لإيجاد مخرج لهذا التناقض أو مواجهة الفكر، إضافة إلى البترول الذي أمن المزيد من القطع الأجنبي مما قلص العجز في الموازنة وبالتالي تم خلق انطباعاُ بأن الاقتصاد السوري في وضع جيد لأن المؤشرات الكلية كانت جيدة؟ ولكن في العمق كانت الأوضاع عكس ذلك تماماً حيث كان تدني مستوى النمو وازدياد الفقر والبطالة إضافة إلى ازدياد مشاكل القطاع العام، والقطاع الخاص لم ينطلق كما يجب دون أن نواجه ذلك بشجاعة لأن نقمة النفط أعطت شعوراً بالاطمئنان الكاذب، فكانت النتيجة هي أننا خسرنا فترة التسعينات رغم أنه كان بالإمكان الاستفادة من أموال النفط التي كانت تتجاوز المليارين دولار».
أما الدكتور الياس نجمة فيرى بأن التراجع في مستويات الدخل «يعود إلى التسعينات بسبب رؤية وقراءة سطحية للواقع الاقتصادي السوري، بالإضافة إلى خطأ منهجي في تصوراتنا للتنمية الاقتصادية، حيث ذهب عدد كبير من الاقتصاديين«البيروقراطيين» على وجه الخصوص بالرهان على القطاع الخاص في الوقت الذي لم يكن فيه القطاع الخاص مؤهلاً لأن يقوم بما طلب منه، مع إهمال كل ما له علاقة بالاستثمارات في القطاع العام. وكانت النتيجة أن الدولة أهملت وتقاعست بما يتصل بالقطاع العام في الوقت الذي لم يستطع القطاع الخاص أن يعوض ذلك التراجع في القطاع العام فأدى ذلك إلى نوع من التعثر الاقتصادي».
وأضاف «إن التعثر والركود الاقتصادي كان له علاقة أيضاً بالسياسات المالية التي اتبعت، حيث حكم وزارة المالية منذ 20 عام عقل محاسبي رديء يفتقد إلى أدنى درجات الحس بالمسؤولية والمنطق الاقتصادي، وقامت على أساس تخفيض الإنفاق إلى أقصى الحدود علماً أن التطور الاقتصادي يقاس بمستوى الإنفاق، وأدت هذه السياسة الإنفاقية الانكماشية التي مورست خلال سنوات طويلة ولا تزال حتى الآن، إلى تراجع كبير في مستوى الخدمات والصحة والتعليم، ففي حين كانت موازنة التعليم في سورية بمراحله المختلفة بحدود 20 ـ 22% قبل التسعينات من إجمالي الموازنة العامة فهي لا تتجاوز الآن 12%،. وعلى صعيد الصحة حدث شيء مشابه حيث لا يصل الإنفاق على الصحة 1.6% من الموازنة وبالتالي حصة الفرد ضئيلة جداً، حيث أنها قياساً إلى لبنان مثلاً ل لا تساوي 1-10 في حين أن حصة الفرد الواحد في الدول المتقدمة تتجاوز 2000 دولار سنوياً.. وبالتالي فإن هذه السياسة لعبت دوراً كبيراً في تراجع الخدمات على مستوى التعليم والصحة وغيرها».والأجور أقل من الحد الأدنى للمعيشة.
من بابٍ آخر وبرغم من أن سياسات الإصلاح الاقتصادي كانت تستمد مشروعيتها من الإسهاب في الحديث عن تحسين مستوى المعيشة وزيادة الأجور والرواتب إلا أن ما ناله المواطن من ذلك الشعار لم يكن أكثر من منحة أو هبة أو حسنة تصرف قبل العيد. وحتى هذه المنحة لم تكن تصرف إلا للموظفين المحظوظين نوعا عن باقي شرائح الشعب الأخرى من العمال العاطلين عن العمل بعد إقفال كل جبهات العمل أمامهم وخاصة لبنان، أو الفلاحين الذي يمضون أيامهم في سنة مثل هذه السنة في التضرعات إلى الله في كرنفالات أم الغيث المتنقلة، والتي قد يرونها ارحم بكثير وأفضل من منح الحكومة. ورغم هذه المنحة وضآلتها فنجد انها قد امتصت في السوق قبل استلامها وذلك بسبب غلاء الأسعار!!.
تشير أرقام المكتب المركزي للإحصاء بأن مجموع الأجور في القطاعين العام والخاص كان بحدود 212301 مليون ل.س في حين أن عدد المشتغلين في القطاعات المختلفة كان بحدود 4 مليون و700 ألف عامل، وحسب التقديرات فإن 60% من العاملين بأجر يعملون لدى الدولة’، أي أن متوسط أجر العامل الواحد كان أقل من 5000 ل.س شهرياً. وإذا علمنا أن عدد السعرات الحرارية التي يحتاجها المواطن كي يبقى على قيد الحياة هي بحدود 2400 حريره يوميا ًتصل تكلفتها الشهرية إلى 1680 ل.س شهرياً ،وباعتبار أن متوسط حجم الأسرة السورية هو 5.6 فرد ينتج عن ذلك أن إنفاقها على السلع الغذائية التي تسمح بتأمين 2400 حريره يوميا ًلكل من أفرادها يساوي 9408 ل.س شهرياً.
وإذا أضفنا إلى ذلك إنفاق الأسرة على السلع غير الغذائية للحياة اليومية العادية فإننا نحصل على رقم 23520 ل.س شهرياً وهو الحد الأدنى لمستوى المعيشة الذي لايؤمن لوسطي الأسرة السورية أكثر من مستوى الكفاف، وباعتبار أن مستوى الإعالة في سورية يبلغ 1-4 لكل دخل، ينتج عن ذلك أن قيمة الدخل الشهري للفرد الواحد يجب أن تصل إلى 17220 ل.س كحد أدنى، إلا أن واقع الأجور لا يعترف بذلك، حيث كان أجر بدء التعيين للعامل من الفئة الخامسة بحدود 3175 عام 2003.
ويقول الدكتور نبيل سكر: «إن أجور القطاع العام غير مقبولة على الإطلاق ويجب مضاعفتها مرتين على الأقل» فيما اعتبر الدكتور الياس نجمة: «بأن الأجور في بلدنا لم تكن مسؤولة عن التضخم كما كان يصور، بل في كل مرة كان يعمد لزيادتها، كان ذلك يتم للحاق بركب الأسعار المتزايدة وتصحيح الغبن والوضع الذي تردى، ويخطئ الاقتصاديون في سورية عندما يعتقدون بأن التضخم هو ناتج عن الطلب، فالتضخم هو تضخم كلفة، وليس بزيادة الطلب تزداد الأسعار في سورية بل بسبب زيادة الكلف والفساد الإداري وازدياد كلفة المستوردات وعدم استخدام التكنولوجيا، والقول بأن زيادة الأجور تؤدي إلى التضخم هو في الحقيقة تضليل وتمويه».
وأضاف نجمة: «إن كتلة الرواتب الحالية تؤدي إلى نقص في الطلب، أي هناك عامل انكماش إضافي، حيث الدولة تنكمش بالإنفاق العام والأجور لا تشكل 20% من الدخل السوري، وبالتالي هل من الممكن تحقيق الازدهار الاقتصادي؟».
وإذا كانت السياسات السابقة قد فشلت في تحقيق أهدافها لجهة تحسين مستوى المعيشة وتخفيف وتائر البطالة والفقر فإنها أفرزت إلى الوجود طبقة معينة استفادت من مكامن الانفتاح بفعل الاحتكار وحصدت ثروات هائلة يطال الشك جزءاً كبيراً منها، ويضيف: «إن كل عملية نمو أو سياسة اقتصادية يمكن أن تؤدي إلى محاباة فئات على حساب فئات أخرى، حيث استفادت الفئات المقربة من المسؤولين في بلدنا من كل إجراءات الانفتاح وكانت معظم القوانين التي صدرت منذ 10 سنوات في صالحهم مثل تخفيض الضرائب وقوانين الاستيراد وغيرها».
«وإن تخفيض الجمارك على السيارات مثلاً سيزيد من فوائد أصحاب الوكالات بمقدار 40 مليار ل.س خلال هذا العام، لأن هناك قانون وضعه مدير الجمارك ينص على أن كل فرد يستورد سيارة يجب أن يأتي بفاتورة، وإذا كانت هذه الفاتورة أقل من تسعيرة الوكيل، يدفع المواطن التسعيرة وإذا كانت الفاتورة أعلى من تسعيرة الوكيل، يدفع الفاتورة، وبما أن الفاتورة دائماً أعلى من تسعيرة الوكيل بسبب إن الوكلاء لديهم تسعيرات مخفضة فهذا معناه أنه لايوجد شخص يمكن أن يستورد سيارة لحسابه إطلاقاً في ظل قرار مدير الجمارك، بحيث جعل هذا القرار الوكالات حصرية، لأن المواطن إذا استورد لحسابه فإنه سيدفع للجمارك ضعف ما يدفعه الوكيل».
بين شعار الإصلاح والفائض منه، كانت العمليات التنظرية والجراحية في الاقتصاد السوري، أصواتاً عالية تدعو إلى الانفتاح والسير باتجاه اليمين الاجتماعي، وأخرى تدعو إلى الحفاظ على ما تبقى من إنجازات الماضي، اتجاه يعلو وآخر يهبط. وفي هذا المقطع أصبح المواطن أسيراً لمعادلة العرض والطلب، واحد يزداد ثراءٍ ومئة يتسولون لقمة العيش على الأرصفة ، وما نشهده هذه الأيام من تفشي ظاهرة السرقات التي تطال كل شيء وظواهر أخرى قد نخجل من ذكرها إلا انعكاس للحالة الاقتصادية المتردية!!
وقد حذر وزير الاقتصاد السوري عامر لطفي من أزمات اقتصادية واجتماعية، حين قال :
"إن سوريا بصدد "الانتقال الى اقتصاد السوق الاجتماعي"، وان هذا الانتقال "سيولد بعض الأزمات لأننا لم نتمكن حتى الآن من بناء المؤسسات الخاصة التي يمكن لها ان تواكب احتياجات اقتصاد السوق الاجتماعي".
ويقول الخبراء انه يتعين على الاقتصاد السوري ان يسجل نسبة نمو اقتصادي سنوي من 7% لامتصاص 300 الف وافد جديد الى سوق العمل سنويا وتسوية مشكلة البطالة، إضافة الى الحاجة الى استثمارات سنوية بما بين ثمانية الى تسعة مليارات دولار.
وسجل النمو نسبة 2.4% في العام 2004. في حين بلغت نسبة النمو الديموغرافي 2.7% بحسب الأرقام الرسمية.
- ولتوضيح الخصوصية السورية لابد لنا من التعرف على الواقع:
يشترك القطاع الخاص مع القطاع العام في بناء الاقتصاد السوري حيث دخل القطاع الخاص في قطاعات المال والاتصالات والسياحة ويستعد لدخول سوق التأمين ليعمل بالتوازي في هذه القطاعات مع القطاع العام الذي لا يزال مسيطراً على الصناعات الاستخراجية وبعض الخدمات الرئيسية.
وقد بلغت الصادرات السورية في العام -2004- حوالي 249 مليار ليرة سورية (4.9 مليار دولار) تشكل المواد الأولية والخام 70% منها (67% صادرات نفطية- 3% صادرات مواد خام أخرى)، مقابل نسبة 81.6% لعام -2000- مما يشير إلى تغير نسبة الصادرات السورية لصالح زيادة الصادرات من المواد نصف المصنعة وتامة الصنع (التي تحقق قيمة مضافة) التي وصلت إلى 30% في عام -2004- بعد أن كانت 18.4% لعام -2000-.
فيما بلغت المستوردات السورية لعام -2004- ما يعادل 327 مليار ليرة (6.4 مليار دولار) وبذلك يكون الميزان التجاري السوري قد دخل حالة عجز بمقدار 78 مليار ليرة بعد أن كان يحقق فوائض تجارية خلال السنوات الخمس السابقة.
أما الإنتاج الصناعي فقد حقق زيادة في القيمة المطلقة حيث بلغ الإنتاج الصناعي 708 مليار ليرة في العام -2004- مقابل 632 مليار ليرة سورية للعام -2000- كما ارتفع صافي الناتج المحلي لقطاع الصناعة إلى 384 مليار ليرة سورية عام -2004- مقابل 274 مليار ليرة للعام -2000-.
إلا أن نسبة مساهمة القطاع الصناعي في تكوين الناتج المحلي الإجمالي قد تراجعت من 30% إلى 20% في العام -2004- ويمكن إرجاع السبب في ذلك إلى التطور والتوسع اللذين شهدهما القطاع الخدمي الذي ازدادت مساهمته في تكوين الناتج المحلي الإجمالي.
وتسهم الصناعات الاستخراجية بنسبة 38% من إجمالي الإنتاج الصناعي لعام -2004- بعد أن كانت بحدود 32% لعام -2000- قد تحققت هذه الزيادة رغم التراجع في إنتاج النفط إلى 25.7مليون م3 عام -2004- بعد أن كان 31.7 مليون م3 عام -2000- و 36 مليون م3 عام -2002- ويعود ذلك إلى الارتفاع العالمي في أسعار النفط.
وقد أسهم القطاع الخاص بنسبة 27.8% من إجمالي الإنتاج الصناعي.
بلغ الدخل القومي في عام -2004- حوالي 1110 مليار ليرة سورية وتوزع هذا الدخل بين الادخار والاستهلاك بنسبة 17% للادخار و83% للاستهلاك فيما بلغ الاستثمار 21% من الدخل القومي.
فإذا كانت النظرة العلمية تبدأ من تحليل الواقع، كي تتعرف على نقاط قوته لتعززها، وعلى نقاط ضعفه كي تتجاوزها وعلى إمكاناته المهدورة كي تستغلها، وان تكون قادرة على وضع حلول قابلة للتنفيذ، فإن الإدارة الاقتصادية السورية ما زالت تعاني من ضعف معرفتها وضعف آلية تعرّفها على الواقع الاقتصادي على نحو علمي صحيح، فليس لديها تقاليد جيدة للبحث الميداني والدراسة والتحليل العلميين، حيث تفتقد للمعاهد الخاصة بالدراسات الاقتصادية والاستشارات الخاصة في مختلف القطاعات، والجامعات معزولة عن المجتمع،على خلاف كل دول العالم المتقدمة حيث مثلا كلية الاقتصاد بما فيها من كوادر متميزة هي المشرفة على أكثر الخطط الاقتصادية التي تضعها الحكومة ، ورغم كثرة الأرقام والمعلومات والوقائع التي تتوفر لديها، فهي لا تقوم بدراستها منهجياً وتحليلها علمياً. حيث تحتاج الحكومة لتأسيس هيئات تدرس الواقع وتحلله باستمرار، ولتعزيز تقاليد الدراسة والتحليل العلميين لدى مختلف أجهزتها، ف! المعلومة الصحيحة تصنع قراراً صحيحاً، والعكس صحيح.
نقاط قوة الاقتصاد السوري وضعفه عديدة ، أهمها أنه اقتصاد منوع، يعتمد على صناعة استخراجية وصناعة تحويلية وزارعة وسياحة وموقع جغرافي يقدم العديد من المزايا، وقوة عمل متعلمة وماهرة في العديد من القطاعات، ورجال أعمال مشهود ببراعتهم.
ولا تعاني سورية من مديونية كبيرة ترهق اقتصادها، وتجبرها على إتباع وصفات تفرضها الجهات الدائنة، وهذا يمنحها مرونة كبيرة في تحديد خياراتها. وروح وطنية لدى الشعب يمكن إيقاظها وتحويلها إلى طاقة دفع هذا إذا توفرت النية الصادقة في ذلك وان يكون القرار السياسي في مكانه ليخدم بذلك كل القرارات والمراسيم التي تصدرها الحكومة. وكل ذلك يتعزز بظل استقرار سياسي طويل الأمد (مفتقد حاليا لأسباب كثيرة)؟؟ يحقق شرطاً هاماً للنمو الاقتصادي.
ونقاط الضعف : أيضاً عديدة:
1- ضعف القدرة التكنولوجية الوطنية، ولعلها أبرز نقاط الضعف، فالعلم والتكنولوجيا قاطرة التقدم. ويتمثل الضعف في اعتماد شبه كلي على استيراد التكنولوجيا، دون أية نجاحات تذكر في نقلها وتوطينها. وانعكس هذا الضعف في سيادة صناعات تحويلية ذات قيمة مضافة ضئيلة، ودخل وطني منخفض، وانخفاض متوسط دخل الفرد ومستوى المعيشة.
2- ضعف مردود مؤسسات البحث العلمي الحكومي، وضعف مستويات التأهيل والتعليم الجامعي، وعدم ارتباطه باحتياجات الاقتصاد الوطني، وعزلة الجامعات وطلابها عن المجتمع.
3- على سورية أن تخصص جزءاً كبيراً من دخلها كاحتياطي إن كان مادي أو معنوي، حيث تحتفظ بعدد كبير من قوة عملها تحت السلاح ( مدرسين ، مهندسين ، شهادات جامعية من كل الاختصاصات ) كعدد مضاف، بدلاً من مواقعها الحقيقية في خطوط الإنتاج، لمواجهة تهديدات إسرائيلية مزعومة على مدى أكثر من نصف قرن..ورهن أكثر من نصف الميزانية لصالح المؤسسة العسكرية دون جدوى.
4- غياب برنامج استراتيجي عام وبرامج قطّاعية توجّه جميع النشاطات باتجاه أهداف مرسومة، وبأدوات مدروسة، مما جعل معالجة المشاكل أقرب لإدارة الأزمات منه إلى الإدارة الإستراتيجية العلمية، بحيث أصبحت المشاكل التي تنتج كل يوم أكثر من المشاكل التي يجري حلها.
5 - ضعف في الإدارة على مختلف المستويات حيث الإدارة الحسنة تنتج الكثير من القليل، وتحول الضعف إلى قوة، ويتمثل هذا الضعف في الجوانب التالية:
أ - قدم التشريعات والأنظمة والإجراءات وتعقيدها وبيروقراطيتها وارتفاع تكاليفها وبعدها عن أنماط الإدارة العصرية الحديثة.
ب - ضعف تأهيل الكادر الإداري وتدني كفاءته، وضعف التدريب وغياب مراكزه، وضعف معرفة الكادرات بالعالم ، وتلعب مستويات الرواتب والأجور المنخفضة دوراً سلبياً وحاسماً في ذلك.
ج - أنماط القيادات غير المناسبة،حيث المقياس الوظيفي لدى السلطة التزامه البعثي ، وشرط أن يكون التعيين بقرار سياسي بدءا من مدير المدرسة وانتهاء بالوزير ، وشرط مهم آخر أن يكون من أصحاب الملفات ، يضاف إلى ذلك قدرته على تقديم التنازلات لصالح الجهات التي قامت بالسعي لمنحه هذا المركز ، ومن جهة أخرى يعني هذا : إبعاد كل الكادرات المتميزة بكفاءتها ونزاهتها. وانتشار الممارسات الفاسدة، إلى حد أن أصبحت هذه الممارسات السيئة غير مدانة، بل مقبولة اجتماعياً. حيث يسجل في سوريا ميزة خاصة تضاف إلى المزايا الكثيرة بأنه لم نشهد خلال الثلاثين سنة الماضية استقالة مسؤول واحد من تلقاء نفسه إلا ، وللتاريخ ، الدكتور حسين القاضي كوزير للصناعة في عقد الثمانينات ، وانتحار آخرين ؟؟.
د - تضخم في الإدارة وزيادة في نفقاتها، مع مردود لا يتناسب وهذا الإنفاق ، حيث من الطبيعي جدا لدى السلطات الحكومية والإدارية والحزبية والأمنية ان تخرج موظفا من إحدى الدوائر، أو مدرسا لمادة علمية تحتاجها مؤسسات التربية أو غيرها ليكون ( مفرغا )في مكاتب حزب البعث كأمين فرقة مثلا ، أو أعضاء في الشعب أو الفروع الحزبية ، ليس له من الأعمال على أرض الواقع إلا كتابة التقارير وتقاضي زيادة عن راتبه ربعا أخر من الراتب مكافأة له على ذلك ، وإذا حسبنا حسبة بسيطة في ذلك أقدر إن هناك لا يقل عن 5000 وظيفة على مستوى القطر تتسابق عناصرها لدى كل الجهات الرسمية وغير الرسمية لنيل الرضا في كسب هذه الوظيفة.
ه - لعل أبرز نقاط ضعف الإدارة يتجلى في عمل الحكومة، كمصدر لتنفيذ المراسيم والقرارات وهي التي تترجم توجهاتها الى أفعال في الواقع العملي، ويتسم للأسف عمل الحكومات السورية بالتردد وضعف قدراتها على اتخاذ قرارات حازمة تطبقها بفاعلية وكفاءة ،كون مركز القرار عند التنفيذ يبتعد كثيرا عن مقدرة الحكومة على تجاوزه.وأعتقد أن ما يربك عمل الحكومة وقرارات الدولة ككل هو تعدد المراكز التي تتدخل في أدق تفاصيل التنفيذ، مثل الحزب، وكل ما يتفرع عنه من منظمات يسمونها شعبية ؟؟ (بدءا من منظمة الطلائع واتحاد الشبيبة واتحاد العمال، واتحاد الفلاحين ، والهيئة المركزية للرقابة والتفتيش) وفوق ذلك كله كافة فروع أجهزة الأمن على تعددها.
و- "شخصنة" مؤسسات الدولة، وطبعها بطابع من يتولى إدارتها، ولكن على نحو سلبي، أي يفعل ما يريد دون أن يسأل عن نتائج عمل مؤسسته، فيما إذا لاقت نجاحاً أم فشلاً.
ز- ضعف القدرة التنافسية للاقتصاد السوري هي المحصلة المنطقية لنقاط الضعف السابقة.
والمحصلة الاقتصادية لكل ذلك هي انخفاض معدلات الادخار ومعدلات الاستثمار ومعدلات النمو إلى مادون معدلات تزايد السكان، مما يعني نمو سلبي.
النتيجة أن القدرة على توليد الدخل الوطني لا ترقى لمواجهة كل هذه الأعباء، ونقاط الضعف تعيق رفع قدرة الاقتصاد الوطني، وأن هذا الوضع ليس طارئا، بل يملك الكثير من مقومات الديمومة، مما يستدعي جهداً مبرمجاً كبيراً للتغلب عليه.
ح – مشكلة الفساد: يقول د. عارف دليلة : لن أتحدث عن الفساد الفردي الذي لم يعد فردياً، إنما أصبح نظام حياة عاماً. هناك ما هو أخطر من الفساد، وهو سياسات عامة تخلق الأرضية التي تجعل الفساد حتمياً. منذ بداية التسعينات وحتى اليوم تقوم مثلاً وزارة المالية بوظيفة واحدة هي تجميع الأموال من عروق الاقتصاد الوطني ومؤسساته ومواطني هذا البلد. مثلاً في عام 1993 كان حساب ودائع الدولة لدى البنك 100 مليار ليرة سورية، أصبح في شهر حزيران من عام 2000، أي قبل عام ونيف، أصبح 365 مليار ليرة سورية. إذاً وزارة المالية أضافت إلى حسابها في البنك 265 مليار ليرة سورية، بمعدل 3.5 مليار ليرة سورية شهرياً، وهي حالة غير معروفة في التاريخ الاقتصادي. وهناك تكديس للدولارات خارج القطر وبمعدل، خلال هذه الفترة، 3 مليارات ليرة سورية شهرياً. إذاً نحن أمام 6 مليارات ليرة سورية شهرياً وبشكل منتظم منذ عام 1993 وحتى اليوم تُسحب من الاقتصاد الوطني مجموعها السنوي يزيد عن مجموع الرواتب والأجور في سورية ويزيد عن مجموع الاستثمار الإنتاجي في الاقتصاد السوري، بل في الستة أشهر الأولى من عام 2000 ارتفعت حصيلة هذه المسحوبات إلى ما يقارب 14 مليار ليرة سورية شهرياً.
نحن البلد الوحيد في العالم الذي نطّلع فيه على أحدث الأرقام التي مضى عليها عام ونصف أو عامين في أحسن الأحوال. ففي لبنان ومصر والأردن وأمريكا واغلب دول العالم المتحضرة تعطيك وسائل الإعلام دون أن تطلب وتبحث، آخر الأرقام المالية وأرقام التجارة الخارجية وكل الأرقام الاقتصادية الهامة يوماً بيوم وأسبوعاً وشهراً بشهر. حكوماتنا اتبعت منهجاً غير معروف في العالم، وهو تأخير المعلومات من 3 إلى 5 سنوات، علماً بأن إظهار ميزانية العام الماضي كأساس لوضع الميزانية التقديرية للعام الحالي لا يتطلّب غير كبسة زر. فالأرقام موجودة بين أيديهم. فهم يتعمدون هذه التعمية وكتم المعلومات حتى لا يمتلك أحدنا القدرة على التحليل والمواجهة. بعد 5 سنوات عندما تظهر الأرقام الحقيقية تكون كل الأمور في طي النسيان. فالمسألة الاقتصادية في سورية ببساطة هي ليست اقتصادية للأسف، بل هي سياسية بالدرجة الأولى.
وقد كشف التقرير الصادر عن منظمة الشفافية العالمية بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة الفساد الموافق لـ التاسع من كانون الأول، أن سورية احتلت المرتبة الرابعة عربيا في انتشار الفساد، ولم يتجاوزها عربيا إلا ثلاث دول عربية فقط، هي ليبيا والسودان والعراق، في حين جاءت في المرتبة 93 بالترتيب العالمي.
ويتابع التقرير بأن مقدار المبالغ المدفوعة كرشاوى في صيغ متعددة "رشاوى نقدية، عينية، إبرام عقود، نهب وسلب المال العام وفق الأنظمة.. إلخ". قد وصل إلى أكثر من ألفي مليار دولار على مستوى العالم حسب ما أشارت إليه المنظمة ، في حين اعتمد التقرير لتشخيص حالة الفساد على عدد من المظاهر السائدة في المجتمع السوري نشير إلى بعضها:
انتشار الرشوة التي هي نوع من الفساد الإداري يتمثل في سوء استغلال الموظف للسلطة الممنوحة له لتحقيق مكاسب مالية غير مشروعة. وهذه الممارسات تساهم جديا بتعطيل العديد من المشاريع وإهدار المال العام والخاص، وهروب الاستثمار، وهجرة الأموال السورية بعيداً عن الوطن.
استغلال المناصب الرسمية للثراء الخاص. ودخول الموظفين الكبار في قطاعات الأعمال الخاصة، عبر استغلال مواقعهم الإدارية في نمو أعمالهم التجارية والصناعية والمالية، مع تجاوزات في القوانين.
استغلال المنصب العام لتحقيق مصالح سياسية مثل تزوير الانتخابات أو شراء أصوات الناخبين، أو التمويل غير المشروع للحملات الانتخابية، أو التأثير على قرارات المحاكم، أو شراء ولاء الأفراد والجماعات.
المحسوبية والمحاباة والوساطة في التعيينات الحكومية، كقيام بعض المسئولين بتعيين أشخاص في الوظائف العامة على أسس القرابة أو الولاء السياسي أو بهدف تعزيز نفوذهم الشخصي، وذلك على حساب الكفاءة والمساواة في الفرص، أو قيام بعض المسئولين بتوزيع المساعدات العينية أو المبالغ المالية من المال العام على فئات معينة (عشائرية أو مناطقية) بهدف تحقيق مكاسب سياسية.
تبذير المال العام من خلال منح تراخيص أو إعفاءات ضريبية أو جمركية أو شراء بعض الذمم بسيارات فارهة لأشخاص أو شركات بدون وجه حق بهدف استرضاء بعضهم في المجتمع أو تحقيق مصالح متبادلة أو مقابل رشوة، مما يؤدي إلى حرمان الخزينة العامة من أهم مواردها. ناهيك عن التبذير الهائل الناتج عن مصاريف أسطول سيارات المسؤولين رغم القرارات والمراسيم العديدة لوقف ذلك.
ما يتم من تجاوزات وتعديات على الأملاك العامة والتي لها أساليبها المبتكرة والعديدة ، حيث يترافق ذلك مع تفشى الفساد الإداري في أغلب المؤسسات والمديريات، أصبحت مؤسسة الفساد لها ركائز في جميع مواقع الحكومة دون استثناء.
ومن جهة أخرى ارجع التقرير أسباب انتشار الفساد في سورية إلى عدة عوامل منها:
عدم الالتزام بمبدأ الفصل المتوازن بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية في النظام السياسي وطغيان السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية وهو ما يؤدي إلى الإخلال بمبدأ الرقابة المتبادلة، كما أن ضعف الجهاز القضائي وغياب استقلاليته ونزاهته يعتبر سبباً مشجعاً على الفساد.
غياب حرية الأعلام وعدم السماح لها أو للمواطنين بالوصول إلى المعلومات والسجلات العامة، مما يحول دون ممارستهم لدورهم الرقابي على أعمال الوزارات والمؤسسات العامة.
ضعف دور مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الخاصة في الرقابة على الأداء الحكومي أو عدم تمتعها بالحيادية في عملها.
المناخ السائد في سورية يشهد تحولات ضخمة من الاقتصاد الشمولي إلى اقتصاد السوق، وهذه المرحلة تمثل بيئة مناسبة لظهور أنواع شتي من الفساد ، إضافة للروتين الإداري ودوره في التأسيس الداخلي لمنظومة فساد لها شخوصها و علاقاتها وقيمها.
الفقر والجهل ونقص المعرفة بالحقوق الفردية، وسيادة القيم التقليدية والروابط القائمة على النسب والقرابة.
ضعف أجهزة الرقابة في الدولة وعدم استقلاليتها.
ازدياد الفرص لممارسة الفساد بسبب عدم وضوح اكتمال البناء المؤسسي والإطار القانوني مما يوفر بيئة مناسبة للفاسدين مستغلين ضعف الجهاز الرقابي على الوظائف العامة في هذه المراحل.
ضعف وانحسار المرافق والخدمات والمؤسسات العامة التي تخدم المواطنين، وغياب مؤسسات المجتمع المدني ، وتدني رواتب العاملين في القطاع العام وارتفاع مستوى المعيشة مما يشكل بيئة ملائمة لقيام بعض العاملين بالبحث عن مصادر مالية أخرى حتى لو كان من خلال الرشوة.
غياب قواعد العمل والإجراءات المكتوبة ومدونات السلوك للموظفين في قطاعات العمل العام والأهلي والخاص، وهو ما يفتح المجال لممارسة الفساد.
غياب التشريعات والأنظمة التي تكافح الفساد وتفرض العقوبات على مرتكبيه.
ضعف الإرادة لدى القيادة السياسية لمكافحة الفساد، وذلك بعدم اتخاذ أية إجراءات وقائية أو عقابية جادة بحق عناصر الفساد بسبب انغماسها نفسها أو بعض أطرافها في الفساد.
كما واقترحت المنظمة في تقريرها عدد من الحلول الإستراتيجية لمكافحة الفساد: كالمحاسبة والشفافية والنزاهة. وهذا ما يتطلب استخدام وسائل شاملة ومتواصلة وذلك على النحو التالي:
تبني النظام السياسي مبدأ فصل السلطات، وسيادة القانون، من خلال خضوع الجميع للقانون واحترامه والمساواة أمامه وتنفيذ أحكامه من جميع الأطراف.
بناء جهاز قضائي مستقل وقوي ونزيه، وتحريره من كل المؤثرات التي يمكن أن تضعف عمله، والالتزام من قبل السلطة التنفيذية على احترام أحكامه.
إعمال القوانين المتعلقة بمكافحة الفساد على جميع المستويات، كقانون الإفصاح عن الذمم المالية لذوي المناصب العليا، وقانون الكسب غير المشروع، وقانون حرية الوصول إلى المعلومات، وتشديد الأحكام المتعلقة بمكافحة الرشوة والمحسوبية واستغلال الوظيفة العامة في قانون العقوبات.
التنسيق مع أجهزة الرقابة والتفتيش.ومنحها الاستقلالية الكاملة عن السلطة التنفيذية التي تؤمن لها ممارسة دورها على أتم وجه،وان يعتمد البرلمان جميع التقارير في الكشف عن الحالات التي تنطوي على الفساد وسوء الإدارة.
السماح بالتحقيق في فساد المسئولين وفي ممارساتهم الخاطئة،وإجبار المتهمين بالفساد على المثول أمام لجنة قضائية لمساءلتهم،وان تكون جميع المداولات معلنة.
تبيان جميع الثغرات القانونية التي تمارس من خلالها عمليات الفساد، وإرسالها إلى مجلس الشعب ليصار إلى إصلاحها وتجاوزها بشكل سريع.
السماح بالتحقق من إيرادات الحكومة ونفقاتها والتحقق من صحة الإنفاق العام وسلامة تنفيذ الموازنة العامة للدولة وقطع حساباتها في المواعيد المقررة.
تطوير دور الرقابة والمساءلة للهيئات التشريعية من خلال الأدوات البرلمانية المختلفة في هذا المجال مثل الأسئلة الموجهة للوزراء وطرح المواضيع للنقاش العلني، وإجراء التحقيق والاستجواب، وطرح الثقة بالحكومة.
• التركيز على البعد الأخلاقي في محاربة الفساد في قطاعات العمل العام والخاص والأهلي وذلك من خلال التركيز على دعوة كل المواطنين إلى محاربة الفساد بأشكاله المختلفة، مثل التوقف عن دفع الرشاوى للموظفين في الدوائر الحكومية أو لرجال الشرطة وذلك للتسريع في معاملاتهم أو لفك عقدها !!.
• إعطاء الحرية للصحافة وتمكينها من الوصول إلى المعلومات ومنح الحصانة للصحفيين للقيام بدورهم في نشر المعلومات وعمل التحقيقات التي تكشف عن قضايا الفساد ومرتكبيها.
الفرص والحلول: الفرص متاحة، ولكنها دائماً مشروطة بالجهد الصائب لاكتشافها والانتفاع بها، بل لخلقها عبر خلق ظروف وشروط تحققها. وأول هذه الشروط هي الوعي والإرادة، ثم تأتي دراسة نقاط القوة لتعزيزها، ودراسة نقاط الضعف لإضعافها، عبر العلاقة مع المحيط الدولي القريب والبعيد. ومن الفرص مثلاً إمكانية رفع القدرة التنافسية للاقتصاد السوري بإجراءات تشريعية وتنظيمية ومالية وتنفيذية متاحة غير مكلفة، وتحسين الصادرات وتنويعها، وإمكانية تحسين السياحة عبر تطوير الترويج الخارجي لها، وهذا يتطلب ميزانية وافية، وإمكانية تطوير صناعات طليعية منتقاة تتوفر سورية على مزاياها النسبية والتنافسية، مثل صناعة الخدمات التي تلعب فيها القوة البشرية دور حاسم مثل صناعات البرمجة والتصاميم الهندسية وما شابهها، وأيضاً رفع القيمة المضافة في الزراعة، وتطوير تجارة الترانزيت و غيرها.
ولدى سورية فرصة ثمينة للتعاون مع دول الاتحاد الأوروبي حيث تملك قدرات تكنولوجية مناسبة قد نستفيد منها كي تساعدنا في النهوض بالاقتصاد الوطني..
التحديات: أيضاً ليست قليلة، وأهمها:
1 - تحدي الآثار الاقتصادية الناجمة من سياسية اللا حرب واللا سلم التي يتبعها النظام في مواجهة التحدي الإسرائيلي، والسعي لحل مشكلة الصراع مع إسرائيل ومن وراءها ، على أسس عادلة تقضي بانسحاب العدو الصهيوني من جميع الأراضي العربية المحتلة منذ الرابع من حزيران 1967.
2 – تصويب السير بالاقتصاد السوري، من نمط الاقتصاد شبه الشمولي المأخوذ عن النمط السوفيتي السابق إلى نمط اقتصاد السوق ، بعيدا عن المسميات الجديدة التي تظلل المواطن ، وتحديد نمط الاقتصاد البديل الذي تسعى إليه، ورسم سماته ومساره، دون الوقوع في أزمات طاحنة على نمط ما جرى في بلدان عدة.
3 – حل مشكلة نقص المياه، سواء بما يتركه من آثار على الحياة الاقتصادية والاجتماعية أو ما يتطلبه من تكاليف كبيرة لمواجهة المشكلة، والتوترات المحتملة مع دول الجوار. والسعي الحثيث إلى مكافحة التصحر وما تنتج عنه من آثار مدمرة على الطبيعة وعلى نفسية الإنسان بنفس الوقت، مما يجعل الهجرة الداخلية مشكلة صعبة الحل بين الريف والمدينة.
4 - تحدي الفساد وتكاليفه، ولا نقصد فقط مبالغ الخسائر التي يسببها، بل الأخطر هو تعطيل قدرة أجهزة الدولة والمجتمع عن القيام بأعمالها ووظائفها على النحو المطلوب، والتخريب الذي يسببه في النفوس وقتل الروح الوطنية وقدرتها على الإنتاج في مختلف الميادين. من أخطر آثار الفساد أنه يعيق القدرة على الإصلاح.
وان الكثيرين ممن يعلقون آمالهم على حزب البعث الحاكم، كالبيروقراطيين والقطاع العام والجيش وأجهزة الأمن يشعرون بتهديد الإصلاح الحقيقي لمواقعهم، إنهم لا يستطيعون أن ينهوا الحديث عن الإصلاح ولا أن يوقفوا اتخاذ بعض الإجراءات. لكنهم يستطيعون، وقد فعلوا، إبطاء العملية الإصلاحية.
5 - العمل على وقف تآكل قدرات سورية الاقتصادية، إذا ما استمرت نفس الظواهر السائدة اليوم، من تهريب الأموال والآثار وكل شيء ثمين إلى الخارج ، مما سيؤدي إلى مزيد من تعطيل للقدرة الإنتاجية واستنزاف لخيرات الوطن والمؤسسات والأفراد، وخاصة مع استمرار تراجع إنتاج النفط وتهديدات الجفاف.
6 - في الجانب السياسي: أمور عدة منها - عدم توفر فرص قادمة تتيح الحصول على مكاسب طارئة دولية مثل الذي منح للنظام إبان حرب الخليج الأولى والثانية ، ووضع العراق الحالي وما يحمل من مخاطر تذرره الطائفي والاثني مما قد يهدد بالعدوى جميع دول الجوار وقد تكون سوريا هي الأقرب لذلك. فالمستقبل يبنى أولاً على ثوابت متجذرة داخلياً، تتيح لجميع أفراده حق المشاركة في صنع القرار السياسي بما ينسجم مع المصلحة الوطنية العليا، وذلك من خلال حل المسألة الديمقراطية والسعي إلى الاستفادة من تجارب الآخرين في كل المجالات، وإفساح الباب أمام كل القوى والأحزاب السياسية للحديث عن المشكلة الاقتصادية أو غيرها، من خلال رفع حالة الطوارئ وإلغاء الأحكام العرفية وكافة المحاكم الاستثنائية، والإفراج عن كافة المعتقلين السياسيين، وتعديل بعض مواد الدستور التي تجعل الاستئثار بالسلطة من حق الفئة الحاكمة دون غيرها.. وإيجاد قانون عصري للأحزاب لتستطيع بذلك التعبير عن أرائها وبرامجها وتصوراتها ، ولتشعر المواطن من جهة ثانية ، إن كان بالداخل أو بالخارج بالأمان الكافي لاستثمار أمواله بحرية تامة في سوريا ، دون تداخلات متعددة ، تسبب في كثير من الأحيان هروب كل رجال الأعمال وإلغاء مشاريعهم. ومن الطبيعي جدا أن يقوم موظف لا يتجاوز راتبه 5000 ليرة أن يعطل مشروع اقتصادي تتجاوز قيمته العشرة ملايين دولار!!
ولإتمام الحديث عن المشكلة السياسية لابد وان نذكر بوضوح تام ودون مواربة، قصور كافة قوى المعارضة الوطنية في سورية من طرح برنامج اقتصادي متكامل يعالج أو يضع خطة أو رؤية واضحة وشاملة لكل جوانب ومفاصل الاقتصاد السوري، وذلك للخروج من الأزمة الخانقة التي يعانيها..
خلاصة:
إن وضع الاقتصاد السوري يظهر أن إمكاناته غير مستغلة على نحو رشيد، بينما يمكن لهذا الاقتصاد أن يعطي نتائج أفضل بكثير، بحيث يصبح مستوى المعيشة أفضل والرفاه الاجتماعي للناس عموماً يتحدد بمستوى النمو الاقتصادي أولاً وبسياسات توزيع الدخل بشكل عادل ثانياً..
فيما لو تم تأمين الشروط التشريعية المناسبة والبنية التنظيمية المطابقة والإدارة الحسنة.
ومن جهة أخرى فإن سورية مقبلة في السنوات المقبلة على الدخول في الشراكة الأوروبية المتوسطية وفي منظمة التجارة العالمية. ويتطلب الدخول إلى هذه المنظمة إلغاء القيود على تجارة الخدمات ومنها الخدمات المصرفية، وسيأتي وقت سيُطلب منها السماح بإقامة المصارف الأجنبية والفروع لهذه المصارف في بلادنا، ومعاملتها معاملة المصارف المحلية، وسيطلب كذلك إلغاء القيود على حركة الأموال وليس فقط على حركة التجارة. إذاً علينا الاستعداد لكل هذا من الآن وهذا الاستعداد هو جزء من دخولنا النظام الاقتصادي والمالي العالمي.
وقد لخصت مجلة الأهرام الاقتصادية المصرية في عددها الأخير، وضمن تقرير عن أبرز مؤشرات الأداء الاقتصادي العربي لعام 2006، لخصت أبرز التطورات التي شهدها الاقتصاد السوري بصدور المرسوم التشريعي القاضي بتعديل نسب الرسوم الجمركية على المواد الداخلة في الصناعة، والهادف الى تعزيز القدرة التنافسية للمنتجات السورية ، وتخفيف الأعباء وتخفيض التكاليف. واعتبرت المجلة أن أهم انجازات العام 2006 إصدار المرسوم التشريعي الخاص بسوق الأوراق المالية الى جانب إنشاء صندوق ضمان للتسوية ، ومركز للمقاصة والحفظ المركزي للأوراق المالية.
واختتمت المجلة تقريرها بالإشارة الى النصيحة المقدمة لسورية عبر صندوق النقد الدولي بضرورة إجراء تعديل مالي كبير عن طريق فرض ضريبة (قيمة مضافة) على نطاق واسع، وإلغاء تدريجي لدعم المنتجات النفطية بسبب تراجع إنتاجنا من النفط ، وبدء استيراده ، مما يؤثر سلبا على التوقعات الاقتصادية في الأجل المتوسط.
وحتى تستطيع سوريا الاستفادة من الفرص والتخفيف من التهديدات المقبلة عليها، تحتاج لرؤية جديدة حول مستقبلها الاقتصادي والسياسي في المنطقة وترجمة هذه الرؤية إلى عملية إصلاح عميقة وشاملة ومتعددة الجوانب، مترافقة مع خطة تنمية شاملة، وذلك حتى ترقى سوريا إلى مستوى التحدي الداخلي والتحدي الخارجي الذي تواجهه. كذلك تنبع الحاجة للإصلاح الشامل والعميق من أن سوريا قدمت في مفاوضات اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي التي تم إنجازها بتاريخ 9 كانون الأول 2003 التزامات بالنسبة لتحرير تجارتها الخارجية بحلول العام 2012، مما لا يمكن لها تحمل تبعاتها سواء الاقتصادية منها أو الاجتماعية إذا لم تقم بالتحرير الداخلي وبتقوية قدراتها الذاتية المحلية وبسرعة كبيرة.
ويؤكد د. سكر على إن الإصلاح الذي تحتاجه سوريا ليس هو إصلاح (التطوير والتحديث ) الذي تنتهجه اليوم، لكنه إصلاح (القفز إلى الأمام) الذي اعتمدته الصين من أواخر الستينيات إلى اليوم. حيث إن (التطوير والتحديث) يعني طريق الخطوة خطوة وهذا الطريق لا يرقى إلى مستوى التحديات، وقد يكون أكثر تهديداً للاستقرار الاجتماعي من خطر القفز إلى الأمام، خاصة أن سوريا تأخرت بما لا يقل عن خمس عشرة سنة عن جاراتها بالنسبة للإصلاح المطلوب، وقد ضيعت عقد التسعينيات، الغني بالموارد النفطية، وتواجه الآن تهديدات اقتصادية واجتماعية بسبب ذلك. كما ان الموجة المتصاعدة للعولمة والتقدم العالمي الحاصل في تكنولوجيا المعرفة والمعلومات يهدد غير القادرين على مواكبته بالتهميش. وقد علمتنا تجارب ماليزيا والصين وتجارب دول أوروبا الشرقية والوسطى أن الإسراع بالإصلاح، مع التحصن والاستعداد ومواجهة التبعات الاجتماعية له، هو الأسلوب الأفضل له.
ويضيف: لا بد من التأكيد على أن تأخر سوريا بالإصلاح سيفرض عليها أن تتعامل دفعة واحدة مع ثلاثة أجيال من الإصلاحات، مرت وتمر بها دول الجوار ودول العالم النامي على مدى الخمس وعشرين سنة الماضية. ويتمثل :
الجيل الأول من هذه الإصلاحات باعتماد نظام السوق وأولوية القطاع الخاص في العمل الإنتاجي وبالحفاظ على إطار اقتصادي كلي وسليم ليخدم كل شرائح الشعب.
ويؤكد الجيل الثاني على الإصلاح المؤسساتي وإصلاح التعليم والتركيز على التنمية البشرية ومكافحة الفقر،
ويتشكل الجيل الثالث من الإصلاح من التركيز على الابتكار والتجديد والارتقاء التكنولوجي، كما على إصلاح القضاء وعلى ممارسة الشفافية الصادقة، والحكم الصالح ، وتعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني. ولا شك بأن التعامل مع هذه الأجيال الثلاثة في الوقت نفسه سيجعل عملية الإصلاح في سوريا عملية صعبة ومعقدة !!.
* شهبا - سوريا
شفاف الشرق الأوسط