نقد مفهوم الطائفية

٢٠٠٧-٠٢-٢٨

نقد مفهوم الطائفية

برهان غليون

في اعتقادي أن أحد الأسباب الكبرى التي حالت دون فهم الطائفية وتجنب آثارها هو اختلاط مفهوم الطائفية نفسه وعدم ضبطه، مما أساء أيضا إلى فهمنا لها كظاهرة اجتماعية وسياسية وبناء تعريف واضح وصحيح لها أيضا. فقد مال معظم ا لذين أثاروا مسألتها، في الأدبيات العربية القومية المعاصرة، إلى الخلط بشكل كبير بين التعددية الدينية، أي انطواء المجتمع على تنوع ديني كبير، يتسم إلى حد أو آخر من الانسجام أو الصراع، وسيطرة إحدى هذه الفرق او الجماعات الدينية على مقاليد الأمور في السلطة أو على مواقع رئيسية منها في سبيل تأمين منافع استثنائية وخاصة لا يسمح بها القانون. أي يخلطون إذا شئنا التبسيط قليلا بين الطائفية في المجتمع والطائفية في الدولة، وهما من طبيعتين مختلفتين تماما وليس لهما النتائج ذاتها. الأول يتعلق بطريقة اشتغال المجتمع والثاني بطريقة اشتغال الدولة الحديثة، ولا قيمة له إلا من منظور بناء هذه الدولة.

ومصدر الخلط النظري هذا نابع من أن الفكرة القومية التي انتقلت إلى الثقافة العربية من الأدبيات الغربية ذات الصبغة الأحادية، ارتبطت بقوة بفكرة التجانس الاجتماعي. ونظر القوميون العرب، كغيرهم في العالم، إلى التعددية الدينية والإتنية في المجتمع كعقبة أمام نشوء وعي قومي يتجاوز الطوائف والانتماءات الدينية الفرعية. بل اعتقدوا أن استمرار عصبيات أو انتماءات جماعية فرعية لا بد أن يغذي ولاءات غير وطنية، من داخل الدولة وخارجها، وبالتالي يضعف سيطرة الدولة على إقليمها وسكانها ويعرضها لتدخل القوى الأجنبية . لكن ليس هناك أي شك في أن استمرار الولاءات الطائفية، الدينية والأقوامية معا، في المجتمعات الوطنية، ثم نموها في مرحلة تالية لدرجة وضعت فيها الوطنية نفسها في أزمة، يعكس المسار الذي اتخذه تشكل النخبة الوطنية الحديثة والصعوبات التي حالت دون تطور النسيج الوطني نفسه. وفي مقدمة ذلك ضآلة الموارد المادية واللامادية التي توفرت لهذه النخبة، وبشكل خاص غياب طبقة اجتماعية متماسكة حديثة، واضطرارها إلى الاعتماد، بشكل مباشر أو غير مباشر، في إعادة إنتاج نفسها وشروط وجودها وسيطرتها الاجتماعية، على عوامل خارجية وغالبا على الدولة نفسها. وبسبب هذا الضعف البنيوي، الذي نجم عن تعثر عملية التحديث، أو غياب الشروط المادية والجيوسياسية له، وجدت العديد من النخب الاجتماعية الصاعدة والمعزولة، فرصا أكثر لتوفير الموارد البشرية والسياسية والايديولوجية التي تحتاجها تعزز موقفها في التنافس على السلطة عبر الالتصاق بالجماعات الفرعية المنتمية لها مما كانت ستجده من تماهيها مع الجماعة الوطنية العامة التي لم تكن قد تكونت بعد، وربما لم تتكون حتى الآن، من حيث هي جماعة واعية لوحدتها السياسية ولإرادتها المشتركة في العمل والانجاز ومستبطنة لقانون الوطنية، أي لمفهوم الدولة من حيث هي دولة القانون، التي هي أساس وجودها.

ومن هنا دافعت في كتابي "نظام الطائفية، من الدولة إلى القبيلة" ، عن أطروحة تقول بأن الطائفية تنتمي إلى ميدان السياسة لا إلى مجال الدين والعقيدة، وأنها تشكل سوقا موازية، أي سوداء للسياسة، أكثر مما تعكس إرادة تعميم قيم او مباديء أو مذاهب دينية لجماعة خاصة. وتتضمن هذه النظرية أربع فرضيات رئيسية.

الأولى ان الطائفية لا علاقة لها في الواقع بتعدد الطوائف أو الديانات. فمن الممكن تماما أن يكون المجتمع متعدد الطوائف الدينية أو الإتنية من دون أن يؤدي ذلك إلى نشوء دولة طائفية أو سيطرة الطائفية في الدولة، بمعنى استخدام الولاء الطائفي للالتفاف على قانون المساواة وتكافؤ الفرص الذي يشكل قاعدة الرابطة الوطنية الأولى، وبالتالي لتقديم هذا الولاء على الولاء للدولة والقانون الذي تمثله.

والفرضية الثانية أن الطائفية لا توجد في المجتمعات التقليدية ما قبل الحديثة التي تفتقر لفكرة السياسة الوطنية والدولة الحديثة ولا تقوم إلا عبر سيطرة عصبية قبلية او دينية رئيسية، تشكل قاعدة السلطة المركزية وضمان وحدتها واستمرارها، وبالعكس لا يصبح استخدام الولاءات الجزئية داخل الدولة خروجا عن القاعدة والقانون إلا مع نشوء الدولة الحديثة التي تقوم على مبدأ العقد الاجتماعي بين أفراد أحرار ومستقلين تجمعهم مباديء مشتركة، ولا يحقق وحدتهم السياسية (الوطنية) إلا التزامهم جميعا بها ووضعها فوق انتماءاتهم الخاصة على مستوى العلاقة الكلية، أي في علاقتهم مع أفراد الجماعات الأخرى. ولأنها سياسة مرتبطة باختيار عام، وليست مفروضة بقوة الاستيلاء والعصبية والشوكة، كما كان عليه الحال في الدولة القديمة، فالسياسة الوطنية تدور من حول الرأي العام، أي الرأي الذي يشكل خلاصة رأي الأفراد وليس الجماعات، والذي يتبلور في ما يشبه السوق السياسية، أي في التنافس بين النخب السياسية، ذات البرامج المتعددة والمتباينة والمتناقضة أحيانا، التي تعكس مصالح متباينة أيضا، على كسب تأييد الأفراد ونيل ثقتهم ببرامجها السياسية وبالتالي ضمان التصويت لها او تأييدها في مواقفها. وكل تكتل داخل الفضاء السياسي الوطني، وداخل الدولة ومؤسساتها بشكل خاص، على أساس الولاءات العصبية، الدينية أو الأقوامية، على حساب الولاء الوطني القائم على الاختيار بين سياسات تعنى جميعها بالشأن العام وليس بالمصالح الخاصة، يخرب آلية عمل هذه السوق. ومن هنا يعتبر استخدام التضامن الطائفي أو الإتني داخل الدولة، خروجا عن قانون الوطنية، أي عن العقد المفترض أنه قائم بين مواطنين أفراد، أو يقبلون بأن يكونوا على مستوى العلاقة في ما بينهم، خارج دائرة مصالحهم الخاصة، المجتمعية، مواطنين أفراد يستخدمون وسائل السياسة للتعبير عن آرائهم ومواقفهم. وهو ما يشكل مصدرا لفساد السياسة الوطنية أيضا. ذلك أن الأغلبية المنبثقة عن انتخابات تخترقها التكتلات غير السياسية والولاءات الدينية والإتنية لا يمكن أن تعبر عن أغلبية اجتماعية ولا يمكن أن تضع نفسها، والسلطة العمومية التي تسقط بين يديها، في خدمة الجماعة الوطنية العمومية أيضا. فهي لا تحقق إنتصارها على أساس معايير سياسية، أي نابعة من نوعية البرامج التي تقترحها على الشعب ككل وتطلب موافقته عليها، والتي ترتبط بتحقيق مصالح مشروعة، حتى لو كانت تخدم طبقة معينة، ولكن على أساس معايير غير سياسية، تتنافى وإعادة إنتاج الجماعة الوطنية كجماعة موحدة، أي سياسية، وهي شرط وجود الجماعة السياسية أو الأمة كعلاقة متميزة عن علاقة القبيلة والدين، ومن ورائها الدولة التي تكرس وجودها وتضمن استمراره. وكما هو الحال في السوق التجارية، تطرد العملة الفاسدة، التي هي الولاءات غير السياسية، العملة السليمة التي هي الولاءات الوطنية الجامعة التي تقبل الانقسام الأفقي من حول تحديد المصالح الاجتماعية والصراع عليه، ولا تقبل النزاع العامودي الذي يعني خراب الأمة أو الجماعة السياسية والعودة إلى أولوية العصبية الدينية أو الأقوامية. وبالعكس، إن قيام السياسة بالأساس على مبدأ الغلبة، وهو ما كان سائدا قبل نشوء الدولة الحديثة، حتى لو احتاجت هذه الغلبة على تأييد ديني أو رمزي، وغياب مفهوم التنافس على السلطة بطرق سلمية، وفي سياقه أهمية الرأي العام في هذه العملية، لا يجعل من الطبيعي أن يتحقق تداول السلطة عن طريق القوة، ولكنه يجعل صاحب هذه القوة أو الفريق الذي يوفرها هو الأجدر والأكثر شرعية في استلامها بقدر ما يضمن استقرارا أطول ويوفر على المجتمعات النزاعات الدموية الخطيرة التي ترافق انتقال السلطة. ولا يمكن توفير القوة الضاربة من دون العصبية كما لا حظ ابن خلدون، منظر الدولة الاكبر في القرون الوسطى العربية والاسلامية. ولذلك فإن الحكم لا ينفصل هنا عن سيطرة عصبية حاكمة وفرض قانونها وسيادتها على كامل المجتمع، أي على العصبيات الأخرى.

والفرضية الثالثة أن الطائفية لا ترتبط بمشاعر التضامن الطبيعي بين البشر المنتمين إلى عقيدة واحدة او رابطة قرابة طبيعية، وليست حتمية، أي أمر نابع مباشرة من الاعتقاد والانتماء والقرابة لمجرد وجودها. إنها استراتيجية سياسية، أي خطة للاستفادة من التضامن الآلي الذي تنشؤه علاقات القرابة المادية أو المعنوية والعقيدية بين الأفراد من أجل تحقيق أهداف ليس لها علاقة بأسباب القرابة ولا بغاياتها، من دون أن يعني ذلك أن تحقيق الاهداف الجديدة لا يمكن أن يؤثر على بنية هذه القرابة وحدود نفوذ الجماعة النابعة منها ومركزها. فالطائفية هي النموذج الأوضح لاستخدام الدين والعصبية القرابية في السياسة، والنظر إلى الجماعة الدينية من حيث هي جماعة مصالح خاصة، لا من حيث هي أفراد يبحثون عن نشر رسالتهم الدينية. وهي تقود إلى إفساد السياسة التي تختلط بالقرابة وتفقد طابعها المدني الشامل الذي يجعلها إطارا مفتوحا على جميع أصحاب العقائد الدينية، كما هو الحال في الأحزاب السياسية. كما تقود إلى إفساد الدين الذي تحول جماعته إلى مجموعة محاربة من أجل مصالح دنيوية وتضطر إلى إعادة تفسير العقيدة نفسها بما يبرر السيطرة والعدوان والسطو على مصالح الجماعات الأخرى.

أما الفرضية الرابعة، وهي مرتبطة بالسابقة، فهي أن الطائفية استراتيجية مرتبطة بالنخب الاجتماعية المتنافسة في حقل السياسة ومن أجل السيطرة واكتساب المواقع، سواء أكان ذلك داخل الدولة أو على صعيد توزيع السلطة الاجتماعية، بالدرجة الأولى. ولا يمكن لأي ديناميكية طائفية، ومن باب أولى حرب طائفية، أن تنشأ أو تندلع من دون وجود نخب طائفية، أي من دون تبني النخب الاجتماعية، كلها أو بعضها، لاستراتيجية طائفية والتعبئة على أساسها. ومن هنا تختلف الطائفية حسب النظرية التي نطرحها عن النزاعات الدينية التي تنفجر أحيانا بين الطبقات الشعبية لأسباب متعددة في أجواء التوتر الاقتصادي والاجتماعي والديني ويمكن أن تستوعب بسهولة من قبل الدولة، سواء أكانت هذه الدولة دولة وطنية أو دولة العصبية، بل من قبل القيادات الدينية نفسها. وهو ما يصعب تحقيقه عندما تتحول الدولة نفسها إلى مسرح لتنازع العصبيات الدينية والقبلية بدل أن تكون إطار تجاوزها في علاقة جديدة وخاصة، هي العلاقة الوطنية.

ومن هنا نعرف الطائفية بأنها مجموعة الظواهر التي تعبر عن استخدام العصبيات الطبيعية، أي ما قبل السياسية، الدينية منها والإتنية والزبائنية المرتبطة بظاهرة المحسوبية أو المافيا، في سبيل الالتفاف على قانون السياسة العمومية أو تحييده، وتحويل الدولة والسلطة العمومية من إطار لتوليد إرادة عامة ومصلحة كلية، إلى أداة لتحقيق مصالح خاصة وجزئية. إنها تشكل ما يشبه الاختطاف للسلطة السياسية التي هي أداة تكوين العمومية لأهداف خصوصية. وهي تنطوي لذلك على مخاطر تدمير الدولة نفسها بوصفها بنية عمومية ومنتجة للعلاقة العمومية، ومن ورائها على مخاطر زوال الأمة نفسها بوصفها جماعة موحدة سياسيا، أو ذات قانون سياسي، يختلف نوعيا عن قانون العصبية الدينية والإتنية ويتجاوزه معا. فالطائفية لا تنطبق على استخدام الدين، ولكن على استخدام كل أشكال التضامنات الخاصة، ما قبل السياسية، التي تنجم عن تعبئة العصبيات الطبيعية، القائمة على القرابة المادية، كالعشيرة والعائلة والإتنية، أو المذهبية، كما تنطبق مع آليات شراء الضمائر والرشوة المعممة. فهي تلتقي جميعا في تزوير الإرادة العامة والتلاعب بالرأي العام في سبيل تزييف اختياراته أو حرفها عن خطها الطبيعي المعبر عن مصالح الناس واختياراتهم بحرية، والالتفاف على معايير الخيارات السياسية. ونتيجتها في جميع الحالات تزييف الحياة السياسية الوطنية وتهديد الدولة ومؤسساتها بالتحول إلى أدوات لخدمة مصالح خاصة بدل أن تكون، كما يفيد مفهومها، إطار بلورة المصلحة العامة وتقديمها على جميع المصالح الاخرى الذي يشكل شرطا لا غنى عنه لقيام الدولة واستقرار سلطة سياسية بصورة شرعية.

لذلك، بعكس ما شاع في النظرية الوطنية والقومية الشائعة، لا ترتبط الطائفية بوجود مذاهب دينية متعددة في مجتمع من المجتمعات، ولا في وجود مشاعر انتماء قوية تشد الأفراد إلى طوائفهم أو عصبياتهم القبلية. ولا حتى في وجود تضامن ديني قوي بينهم. فهذا هو الوضع السليم والطبيعي في كل المجتمعات. فالمجتمع مكون من جماعات مصالح أو انتماء أو اعتقاد. ومن الطبيعي أن يشعر كل فرد بتعاطف أكبر مع الأفراد الذين يشاركونه المصلحة أو العقيدة أو الثقافة أو الموقع الاجتماعي الذي يحتله. ومن دون التضامن والألفة الخاصة الذين يجمعان بين أفراد جماعة واحدة لن يكون هناك أي معنى ولا مضمون للحياة الاجتماعية أو للتجمعات الأهلية. ينطبق هذا على مستوى الجماعات القومية الكبرى كما ينطبق على الجماعات الفرعية داخل هذه الجماعات القومية.

إن تعزيز التكافل والتضامن داخل جماعات الانتماء للمذهب أو الدين أو العشيرة أو المؤسسة التجارية أو الاقتصادية، وبشكل عام جميع هياكل ما نسميه بالمجتمع المدني هو غاية هذه الجماعات وهدفها. إن الطائفية تنشأ عندما تنقل إحدى هذه الجماعات هذا التضامن والتكافل إلى مستوى الدولة. والسبب في ذلك أن انتقال قانون الجماعة الخاصة أو العصبية، من مجال عمل المجتمع إلى مجال عمل الدولة يخرب الدولة نفسها بقدر ما يحرمها من تحقيق ماهيتها بوصفها بالتعريف إطار إنتاج العلاقة العمومية بين افراد ينتمون لمذاهب وعصبيات متعددة، أي علاقة الوطنية، وضمان نجاعتها واستمرارها. ومن هنا ليست الدولة حاصل جمع العصبيات القائمة أو الجماعات الدينية المتواجدة على أرض إقليم من الأقاليم، ولكنها تجاوز لها من خلال تأسيس علاقة جديدة مختلفة تماما عنها، في غايتها واهدافها ووسائل تحقيق هذه الأهداف. فغاية الدولة بناء الشأن العام فكرة وقيما وممارسة والحفاظ عليه، واهدافها خدمة المصلحة العامة والمصالح العليا للجماعة الوطنية ككل، وهو ما يفترض أيضا تحقيق التوازن بين المصالح الخاصة وإخضاعها لقواعد ومباديء شرعية ومقبولة، وهي تستخدم في ذلك أدوات عمومية تخضع في سلوكها وتحديد مهامها إلى الدولة، أي البنية العمومية المستقلة تماما عن البنى الخاصة، وتتلقى أوامرها وتعليماتها.

ومن هنا لم تصبح الطائفية ظاهرة سلبية، ولم نبدأ في الحديث عنها بصورة نقدية إلا بعد نشوء الدولة الحديثة، وبقدر ما أصبحنا نعتقد أنها تشكل تقويضا عميقا لنظام سياستها الوطني، بل ربما حالت دون ولادة هذه الدولة نفسها بوصفها دولة الحريات والحقوق الأساسية الفردية. لكن الذي يفسر وجودها واستمرارها في الدول الحديثة، العربية وغير العربية، هو من دون شك غياب نخبة سياسية وطنية، أو بالأحرى افتقار النخب الجديدة شبه الوطنية، لسبب أو آخر، للنضج السياسي، ونقص تمثلها فكرة الدولة الحديثة ومفهوم السياسة المرتبطة بها . وعدم النضج والاستيعاب العميق لمفهوم الدولة والسياسة بالمعنى الحديث هو الذي يفسر نزوع هذه النخبة إلى الخلط، المقصود أو غير المقصود، بين قانون المجتمع القائم على منطق التضامن الجزئي بين الأفراد، حسب المصلحة والعقيدة والثقافة والسمات المشتركة العديدة، وهو ما نسميه ميدان المجتمع المدني بالمصطلحات الشائعة، وقانون الدولة الحديثة الذي يقوم عليه وينبع منه مفهوم المصلحة العمومية الذي يتوقف على وجوده نشوء رابطة سياسية تجمع بين أفراد الجماعات الأهلية جميعا، وترتفع بهم وبسلوكهم نحو مستوى نسميه المستوى السياسي، يتصور فيه كل فرد نفسه مواطنا شريك المواطن الآخر، في جماعة عليا. وأساس هذه المواطنية الخضوع لقانون واحد، يتساوى في إطاره الجميع في الحقوق والواجبات.

لا يلغي نظام القانون السياسي نظام المجتمع العرفي ولا يحل محله. إنه يتركه يعمل على مستوى الحياة المدنية، لكنه يضيف إليه مستوى آخر يلتقي فيه الأفراد من حيث هم أعضاء في جماعة سياسية. وأهمية هذا المستوى الجديد من العلاقات هو توسيع إطار التواصل والتبادل والتفاعل بين البشر. ذلك أن رابطة السياسة، التي لا تطلب من الفرد سوى الخضوع للقانون المصاغ بصورة واعية ومشتركة، تستوعب درجات من الاختلاف والتمايز الثقافي والديني بين الجماعات أكبر بكثير مما تستوعبه جماعات العصبية الطبيعية والدينية. وهي تشكل بالتالي الوسيلة الوحيدة لبناء الفضاءات الحضارية المتنوعة والمنفتحة والمنتجة. فنظام الدولة السياسي يجمع تحت سقف القانون الواحد الأفراد أنفسهم الذين تفرق بينهم، على صعيد قانون المجتمع المدني، وحسب منطقه القائم على بناء التضامنات الجزئية، المصالح والاعتقادات والثقافة. ويعني سقف القانون ضمان المعاملة الواحدة والمتساوية، التي تضمن لجميع الأفراد، بصرف النظر عن أصلهم وعقائدهم وولاءاتهم القبلية، فرصا متكافئة، في التنافس على مواقع المسؤولية والشغل والإدارة، وبالتالي على اختيار الأطر الأصلح لقيادة الشؤون العامة. ولذلك لا يتحقق وجود الجماعة الوطنية الواحدة إلا عبر الدولة وبوجودها، من حيث هي إطار للمساواة القانونية والسياسية . ولذلك أيضا يشكل الارتقاء إلى مستوى الرابطة السياسية، التي هي في أصل نشوء الدول، مرحلة اعلى وأكثر تعقيدا من مراحل التنظيم الجمعي. ولا يمكن ردها إلى الرابطة العصبية، أي إلى مفهوم الهوية الثقافية او الدينية او الأقوامية، من دون القضاء عليها وتدميرها. فمتى ما حل قانون المجتمع القائم على التضامنات الجزئية في الدولة ومؤسساتها، فقدت هذه المؤسسات سمة العمومية، وتحولت إلى مؤسسات شبيهة بمؤسسات المجتمع، أي لم يعد بإمكانها بناء المواطنية ومفهوم العمومية، وبالتالي الجمع بين أفراد ينتمون إلى جماعات ثقافية ودينية مختلفة.

وهاهنا، في هذا الخلط المقصود أو العفوي بين قانون الدولة السياسي ومنطقه وقانون المجتمع الأهلي وتركيبته الجزئية تولد الطائفية. وأول ما يقود إليه نقل منطق المجتمع التضامني الأهلي إلى ميدان الدولة هو إحلال العرف وعاطفة القرابة المادية والروحية محل منظومة الحق والقانون والتضامن الوطني العام والعلاقات المؤسساتية. ويفضي التكتل داخل المؤسسات وفي السلطة بين أعضاء عشيرة او طائفة واحدة إلى تعطيل قواعد المساواة، والحظوظ المتكافئة، وبالتالي إلى إلغاء المنافسة النزيهة بين الأفراد على تبوء مراتب المسؤولية، ويجعل الولاء بديلا للانتقاء على أساس الكفاءة والمعايير الموضوعية. وبدل أن تكون الدولة مركز سلطة عمومية وإنسانية تضمن وحدة المجتمع المقسم والمتنافس على صعيد الحياة الطبيعية اليومية، تتحول إلى إطار لتنظيم الدفاع عن المصالح الخاصة وتعظيم المنافع الاستثنائية.

لكن مخاطر الطائفية لا تقتصر في الواقع على تدمير قانون الدولة وتحويل أجهزتها إلى أدوات وقواتها إلى ميلشيات موضوعة في خدمة الطائفة الحاكمة فحسب، ولكنها تذهب أبعد من ذلك لتدمر المجتمع المدني نفسه. فبقدر ما تنجح قيبلة أو جماعة دينية في السيطرة على الدولة وأجهزتها وتقوم بتحييد قانون السياسة العمومية، فإنها تتملك وسائل تمكنها من إخضاع الجماعات الأخرى وفك تنظيماتها الأهلية وكسر أي مقاومة يمكن أن تبديها لهذه السيطرة، سواء أكانت ذات محتوى عصبوي تقليدي أو ذات محتوى تحرري حديث. وهكذا تتحول الدولة نفسها، التي من المفترض ان تكون إطارا قانونيا لضمان اشتغال قانون المواطنية، أي المساواة، وتأكيد أسبقية المصالح العامة وضمان التوازن بين المصالح الخاصة الاجتماعية، إلى أداة جبارة في يد العصبية الحاكمة لحل العصبيات الأخرى وتدميرها واستتباع أفرادها بالقوة وتسخيرهم لخدمة أهدافها الخاصة. من هنا لا تقضي الطائفية، أكثر من أي مرض آخر، على الرابطة الوطنية، ولكنها تدمر أيضا قاعدة المجتمعات الأهلية، وتحول مؤسسات المجتمع المدني إلى خرائب لا تفي بأي حاجة اجتماعية. وبهذا فهي لا ترد المجتمع ثانية إلى مرحلة ما قبل الدولة، وإنما تحكم عليه بالخراب والفساد الشامل. فهي تجوف البنية السياسية المنتجة للفردية السياسية المكونة للرابطة الوطنية وتقضي على شروط إنتاج التضامنات الأهلية الضرورية للسير الطبيعي للحياة الجمعية.

وكما يؤدي استيعاب الدولة من قبل العصبيات الجزئية إلى دمار الرابطة الوطنية وتجفيف ينابيع الحياة السياسية، يلغي تطبيق قانون العمومية داخل المجتمع وتجمعات مصالحه الخاصة روح المجتمع المدني الابداعية، ويجعل منه هيئة بيرقراطية ميتة، كما تبرز ذلك المنظمات النقابية التي تبنيها السلطات الفاشية والاستبدادية التي تفرض عليها قوانين الدولة في الوقت الذي تفرض على الدولة قوانين المجتمعات الأهلية التعددية.

من هنا تشكل دراسة الظاهرة الطائفية، كما أصبحت تتظاهر اليوم، مدخلا رئيسيا للكشف عن الأمراض التي تعاني منها الوطنيات التي ولدت من رحم الاستعمار وفي حضن الحركات الوطنية. فمن حيث هي تقديم للولاءات الفرعية على الولاء الوطني تشكل الطائفية الخطر الأول على بقاء الوطنية، بما هي رابطة جامعة تمثل تجاوز الانتماءات الفرعية، الدينية والأقوامية، وتؤسس لتضامن أشمل من التضامن الأهلي، يحفظ وحدة الجماعة الوطنية، أو يجعل منها كتلة متراصة، متضامنة ومتكافلة، قادرة على أن تكون فاعلا مستقلا في الفضاء الجيوسياسي العام. وفي أساس هذا البناء تكوين مفهوم المصلحة العامة بوصفها الإطار الذي يرسم حدود المصالح الخاصة ويضمن استمرارها وتفتحها على قاعدة احترام حظوظ متساوية للجميع، أو على الأقل منع بعض المصالح الخاصة من أن تتطور على حساب مصالح خاصة أخرى. وهو ما يضمن الانسجام والتفاهم والتعايش بين الجميع، وينشيء من فوضى المصالح والتنازع على الموارد والبقاء نظاما اجتماعيا ثابتا ومستقرا، ويحل التعاون والسلام محل العنف والاقتتال. وفي مقدمة هذه المصالح العامة، التي لا تتأسس مصالح خاصة اجتماعية من دون تعيينها واحترامها، الحق الذي يعني مجموع القوانين التي تضبط النظام الاجتماعي وفلسفتها معا. فالحق مصلحة عامة كبرى، وتجاوز القوانين التي تقوم على أساسها العلاقات الاجتماعية السلمية يعني بالضرورة تهديد الكيان الجمعي وتعريضه للخطر.

والخلاصة، بعكس ما يؤكد عليه القوميون في أيامنا الحاضرة، ليست التعددية الدينية هي المسؤولة عما حصل، لا في البلاد العربية ولا في غيرها من البلدان التي عاشت، ولا تزال، الظاهرة نفسها، وإنما قصور الحركة الوطنية والقومية وعدم اكتمال الدولة أو ضعف مفهومها عند النخب والرأي العام معا، وانعدام الثقافة السياسية. وفي اعتقادي أن الخلط النظري الذي نشأ من الربط، داخل الأدبيات القومية في البلاد العربية بين التعددية الدينية والإتنية القائمة على مستوى المجتمع المدني، والتي هي ظاهرة طبيعية، وضرورية، حتى لو لم تكن مرتبطة بمفاهيم حديثة أو بممارسات مدنية سليمة، واستخدام الولاءات الجزئية من قبل النخب الحاكمة داخل الدولة وفي سبيل ضمان السيطرة غير المشروعة عليها، قد أساء إساءة كبيرة إلى إدراك حقيقة الظاهرة ووضع اليد على الآثار الخطيرة المرتبطة بها. فقد استسلم السياسيون والمنظرون لفكرة اعتبروها بديهية، وهي غير ذلك، مفادها ان المجتمع العربي مجتمع متعدد الطوائف والمذاهب والإتنيات، فسيفسائي، وأن هذه التعددية هي المسؤولة عن اختراق الدولة بالطائفية، وبالتالي فليس هناك ما يمكن عمله لمقاومتها سوى الاشتغال على وعي المجتمع وثقافته لاقناعه بخطر التحيزات الدينية والأقوامية. وكانت نتيجة هذه السياسة سلبية على مستويين. على مستوى الوعي الجمعي الذي ما كان من الممكن أن يقتنع بسوء التضامنات الدينية والأقوامية التي يستند إليها في ضمان الحد الأدنى من التعاون والتضامن، خاصة في إطار دولة تتلاعب بها المصالح الخاصة الطائفية. فاستمر يراهن على علاقات التضامن الدينية والمدنية القديمة لكن مع شعور بالاثم يدفع به إلى إخفائها، وإظهار التمسك المبالغ فيه وأحيانا المرضي بمباديء الوطنية المجردة وشعاراتها، أي الوطنية والقومية الفارغة من أي التزام والمفتقرة إلى أي محتوى سياسي، بل عاطفي خارج إطار ترداد الشعارات وتكثيرها. وعلى مستوى النخبة الاجتماعية نفسها، الرسمية والأهلية، التي منعها هذا الخلط بين طائفية المجتمع وطائفية الدولة من اكتشاف خصوصية الطائفية السياسية والعمل على استئصالها داخل الدولة، وهو أمر ممكن وضروري، بصرف النظر عن وعي المجتمع المدني ودرجة تمثله لقانون الدولة السياسي.

موقع برهان غليون

أما آن للكرد أن يتفكروا قليلا في غدر التاريخ وأقدار أجيالهم؟!!

أما آن للكرد أن يتفكروا قليلا في غدر التاريخ وأقدار أجيالهم؟!!

بشار العيسى

خاص – صفحات سورية –

إذا صح ما تناقلته الأنباء عن قرب وصول قوات كردية للمشاركة في الخطة الأمنية الخاصة ببغداد ( القدس العربي 26 شباط 2007 ) إلى جانب فيالق حكومة المالكي والقوات الأمريكية، تكون القيادة الكردية في العراق قد ذهبت، في مغامرتها هذه، بقدرها وقدر الشعوب الكردية إلى الغرق في مستنقع تأزم الاحتلال والمشاريع الإقليمية التي تتنشط شرق أوسطيا على قدم وساق انطلاقا من تداعيات العراق، وتناوب أعمال القتل والتهجير وجرائم اغتصاب، تتشارك بها قوات الشرعية الحاكمة ( وزارة الداخلية ) وتلك المحتلة ( الأمريكية ـ البريطانية ) مع الميليشيات النظامية وعصابات الارهاب، سواء بسواء، بفتاوى مستولدة من ثقافتين تكمل الواحدة الأخرى، واحدة تقول بمواجهة التكفيريين الإرهابيين، والأخرى تقول بشرعة المقاومة ضد الاحتلال والمتعاونين معه. فالرمال العراقية المتحركة، تكاد تودي بأقوى جيش في العالم، وتعجز قوى الاحتلال عن أن تجد لنفسها طريقا مشرفا للخروج منه، لقوة وشدّ التعقيدات الداخلية والإقليمية ذات البعد الدولي يظهر في ثالوث اللعنات:

ـ لعنة الاحتلال الذي لم يعد يعرف حجم احتلاله ولا مداه الزمني.

ـ لعنة تمركز الصراع الإقليمي في نقطة ملتهبة لشعوب المنطقة، وتداخل مصائر أنظمته الاستبدادية.

ـ لعنة الفوضى التي تستقطب كل المغامرات التي تفضي إلى أبواب جهنم الفتنوية حروب مذهبية وأهلية في فضاء الثروات المنهوبة.

كل المؤشرات تقول أن الوضع في العراق العربي قد بلغ نقطة التأزم التي لم تعد تنفع معها، فالعراق وقد دمرت سلطته المركزية، بعمودها الفقري الجيش والإدارة، منذ الأيام الاولى لسقوط نظام "صدام حسين"، غدا ملعب عبث الجيران الذين نقلوا إليه كل غسيلهم القذر، ومعاركهم المنظورة وغير المنظورة، سواء أكانت تركيا اللاعب المنافق على كل الموائد، أو إيران ومشاريعها الإمبراطورية المذهبية، للسيطرة على الخليج النفطي، أو سوريا حليفة إيرانوعصا جزرتها، أم الحكومات العربية السنية فاقدة الحيل والحَول ؟ عبث يوحي بأن المستقبل لن يعفي الحدود القائمة ومصائر شعوبها من المجهول والتغيير، بيوم سيبكي فيه الكثيرون على سايكس ـ بيكو.

يبقى من غير المفهوم والمستهجن هذه الاستضافة الجديدة للشروال الكردي الذي يترصده ألف لغم ولغم، ولا نعرف ما الذي يدور في ذهن القيادة الكردية وهي تغامر بهذه الخطوة غير المحسوبة، وكأنه لم يبق للكرد من هم غير ترف الانزلاق إلى هاوية الفوضى. خاصة وأن القيادة هذه، فوتت على نفسها وشعبها أكثر من فرصة تاريخية منذ العام 1991، مرورا بإقامة المنطقة الكردية الآمنة، وصولا إلى اشتداد الحصار على نظام صدام عشية سقوطه، إلى وسقوطه الذي حرر الكرد من كل الالتزامات والموانع القانونية والحقوقية في فوضى انهيار الدولة سلطة وشرعية دولتية.

لقد فوتت القيادة الكردية العراقية فرصا تاريخية لإعلان دولة كردية مستقلة في شمال العراق بما فيه كركوك، وملفاتها التي تذهب إلى التعقيد يوما عن يوم، منذ اليوم الذي أقرت له المنطقة الآمنة، وهي تتعفف عن إحراج الحلفاء الغربيين!!!، وهي لم تخطو الخطوة الصحيحة مع الحكومة المركزية العراقية طيلة سنوات الحصار حين كانت الحكومة المركزية، أحوج ما تكون إلى حل بالتراضي مع الكرد تذهب إلى حد الاعتراف باستقلالهم شرعا وقانونا أو على الأقل بدستورية حدود إقليمهم بما فيه كركوك. لقد أمضت القيادة تلك، عشر سنوات تتقاتل فيما بينها على إيرادات الجمارك والبحث عن الحظوة لدى الجيران للاستقواء بهم على بعضهم في ترسيم حدود عشائرها بدل تثبيت حدود كردستان الحقوقية والاقتصادية مع سلطة مركزية، كانت تنهار كل يوم على ضعفها وكثرة وشدة خصومها بمن فيهم الحكومات العربية كلها.

وها قد مضت أربع سنوات على سقوط السلطة المركزية في بغداد، وإيران والإطراف الشيعية تقضم العراق قطعة، قطعة، وتفككه حارة تتلو حارة، وقوى الإرهاب الدولي تفخخه جدارا، إثر جدار، وغدت أحلام الكرد بتصحيح وضع كركوك أسيرة استعصاءات أمراض النفس الخبيثة لجعفري والمالكي بوجوههم الكالحة، عن تنفيذ الاتفاقات التي على ظهور الكرد ومنطقتهم الآمنة أصبح هؤلاء المشبعون بالشعوذة المذهبية، حكام فعليين للعراق الذي حولوه إلى محمية إيرانية، هذا في الوقت الذي لا تنفك تركيا ترفع كل يوم البطاقات الحمراء والصفراء في وجه قيادة اقليم كردستان، عن حصتها في مناطقهم بحجة ضمان حقوق خمسة آلاف تركماني في كركوك، تعطي لنفسها حق تقرير مصير أكثر من ستة ملايين من الكرد، عنهم في أرضهم، وفضائهم، وغدا ربما يتدخل السيد أردوغان أو رئيس أركانه، في عدد وزمن ساعات نوم الكرد.

أن تركيا التي قسمت قبرص إلى دولتين أمام بصر وسمع العالم المتمدن- الفاجر، بالشرعة الدولية لأجل مائتي ألف مستوطن تركي في قبرص، ها هي تتدخل في تفاصيل الحياة الكردستانية العراقية بحجة حقوق تركمانها دون أن نسمع من القيادات الكردية ولو من باب ردّ الابتزاز، والدفع بمثله موقفا، كردستانيا، في مواجهة تركيا التي تنكر لأكثر من عشرين مليونا من الكرد في كردستانهم الملحقة بتركيا الكمالية بشرعة الفجور القانوني الدولي، كما لا نسمع لهم، القيادة الكردية في العراق، رجاء وهم يرتادون مقامات الأئمة في طهران لرفع الحيف الإلهي عن عشرة ملايين كردي في كردستان إيران حين تتعاون الجيوش الإيرانية والتركية في قصف مناطقه بحجة مطاردة الثوار الكرد وهم هاربون هائمون من التعسف والطغيان التركي- الإيراني، ما عدا التصريحات المرتجلة التي نسمعها من وقت لآخر من السيد مسعود البرزاني عن حق الكرد في الاستقلال قبل أن يطويها النسيان لتعود ثانية للحديث في مناسبة أخرى.

لقد كانت حاجة الإدارة الأمريكي للكرد، كذريعة، وفضاء لوجستي لاسقاط نظام صدام حسين، فرصة تاريخية لان يرفع الطرف الكردي المستقوي بمنطقته الآمنة، والمستقرة، اجتماعيا واقتصاديا شروطه ليس على الاحتلال وحده، بل على الطرفين الاقليميين الذين يحتلون أجزاء كبرى من كردستان يخضعون به أكثر من ثلاثين مليون كردي لعسفهم واضطهادهم بحرمانهم من معايير الحد الأدنى لشرعة حقوق الإنسان. لكن للأسف، بدل من ذلك أخضعت القيادة الكردية مصالحها الإقليمية ومصالحها الكردستانية لرغبات موظفين أمريكيين أمثال "خليل زاد" وقبله " بول بريمير" بحجة الوفاء للأصدقاء، ومتى كان لأمريكا أصدقاء غير مصالحها الوقتية؟ ومتى كانت مساعدة الأصدقاء تتقدم على مصالح وحقوق الأمة والوطن؟

إن الحكمة والقدسية القومية، تحتم على القيادات الكردستانية في أن تلتف من حول القضية الكردستانية باعتبارها الحجر الأساس للأمن القومي الكردستاني في عالم يقوم على الأحلاف والاستقطاب والمصالح، في غابة متوحشة، فضلا عن أنه سيكون من الحماقة أن ينعزل الكرد، عن محيطهم الأوسع شرق أوسطيا، حليفهم الثقافي في الإطار الإسلامي واقصد الجماعة العربية، اقصد الشعوب العربية ونخبها المتنورة.

أن السياسات التي تؤسر القيادة الكردية العراقية تخسر القضية الكردية، بضم التاء، والشعوب الكردستانية كل يوم أرضية مشتركة، بدونها، سيؤكل الجميع يوم أكل الثور الأبيض، فالخصوم المحيطين بالكرد من الجشع لدرجة لن ترحم خصما عنيدا فكيف بحلفاء ضعفاء مثل الكرد الذين يتخلون طواعية عن سلاحهم الأقوى، " الوحدة الكردستانية " وفضاءها الجغرافي بثرواته الهائلة: المائية، والنفطية، على أطراف الحدود، وهم في المستوى عينه يخسرون الجمهور العربي المهزوم، والمنكفيء، بفعل استبداد حكامه وتداعي أنظمته في مواجهة الاحتلالات والصراعات المذهبية.

يغدو استمرار القيادة الكردية في تعاونها مع القوى الشيعية سكوتا، يحمـّل وزره كل الكرد، عن جرائم شركائهم قادة الميليشيا الشيعية في العراق: الجعفري والمالكي والحكيم فضلا عن الصدر و السيستاني في تنظيم وتنفيذ عمليات التهجير والقتل المنظم، وآخرها عمليات الاغتصاب الشائنة، ليس في عرف شعوب المنطقة وإنما في الأعراف الدولية لفحشها الإنساني. وأخشى ما نخشاه في ظل الإدانة الدولية الشعبية المتزايدة للاحتلال الأمريكي وأعوانه في العراق في فوضى الحرب الأهلية القائمة، أن يصبح الكرد موضع إدانة هذه الشعوب، التي طالما تعاطفت معهم بالنظر إليهم كضحايا سياسات عنصرية استبدادية.

أن الشرق الأوسط يذهب بخط مستقيم إلى استقطابات مذهبية متصارعة، تنذر بحروب أهلية بدأ اشتعال نارها، وفي الوقت الذي يحشد الجمعان حشودهما وثقافتهما التعبوية، تغط القيادة الكردستانية في نوم أهل الكهف فلا نرى لها طحنا، ولا نسمع لها حتى جعجعة، فما الذي يدور بخلدهم غير التشكرات التي أسبغها السيد "جلال الطالباني" على النظام السوري، المتواطىء مع أشد خصمين للكرد وكردستانهم، النظام الإيراني والدولة التركية، هذا في حين ضاق وقته عن استقبال القيادات الكردية السورية أكثر من نصف ساعة، فهل تكلموا في نصف الساعة هذه، في قضايا الكون والمجرات أم حدثهم عن لا حيله وضعف قوته أمام الحكيم والجعفري والمالكي. وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، في زيارته الأخيرة لدمشق، خرج زعيم الميليشيا الشيعية الشاب " مقتدى الصدر" من القصر الجمهوري إلى مدينة " الرقة " ليزور المركز الشيعي الإيراني مقام " ويس القرني" الذي أهداه حافظ الأسد للدولة الإيرانية.

ماذا لو أن النباهة أخطرت للسيد الطالباني زيارة الجزيرة وعفرين وكوبانة؟ لتقديم واجب العزاء لشهداء الكرد بدل تكلف عناء السفر إلى "قرداحة" ليبكي على قبر حافظ الأسد حسبما ذكرت الأنباء.

ليست الطوائف هي مكونات الشعب السوري

ليست الطوائف هي مكونات الشعب السوري

لؤي حسين

لا يخلو حديث أي صحفي أو باحث أو دبلوماسي غربي مع مثقفين أو سياسيين موالين أو معارضين، منذ أتيح في المجال الأمني مثل هذه اللقاءات، من دون أن يتناول هؤلاء الغربيون المسألة الطائفية في سوريا، تساؤلا واستيضاحا، إن كان الحديث أو اللقاء رسميا أو غير رسمي. بل إنهم ينظرون إلى الأشخاص الذين يحادثونهم على أنهم أفراد في طوائف، أو ممثلون لطوائف إن كانوا في مواقع سياسية أو سلطوية.

لا يُعتبر الحديث، مع الغربيين أو غيرهم، مأخذا على أصحابه. فالكلام عن المسألة الطائفية ليس جديدا على الحديث العام بين السوريين. فمنذ تواجدت الطوائف والمذاهب والأديان في سوريا، كان من الطبيعي أن يتحادث الناس في هذا الموضوع. فلا هو يشكل عيبا على قائليه، وما كان يمكن أن يشكل عائقا بين أفراد الطوائف السورية. وما زال هذا الحديث بين العموم، على حد علمي، لم يتعد هذا المستوى، على الرغم من أن مفردات كالسنة والشيعة والعلويين والمسيحيين والدروز لم تكن بهذا الحضور العلني التي هي عليه الآن. وهذا، على الأرجح، ناجم عن كثرة تداول هذه المفردات في الإعلام الفضائي، خاصة بعد الاحتلال الأميركي للعراق، الذي فتح الباب على مصراعيه ليس فقط للحديث بالمسميات الطائفية فحسب بل للنزاعات والحساسيات الطائفية.

الغربيون المتحدثون مع سوريين لا يرون في التركيبة المجتمعية والسياسية السورية غير علاقات ما قبل مدينية بل وما قبل مجتمعية، محكومة ببنى طائفية ومذهبية، وأفرادها محكومون، بحكم مشاربهم الطائفية، بدوافع وغايات ومصالح طائفية. مما يجعلهم يعتبرون أن المحرك الداخلي-الذاتي السياسي لمجمل الكيان السوري ولمكوناته مقتصر على العلاقات الطوائفية.

هذا التصور الغربي عن سوريا ليس دقيقا، ولا أعتقد أن أصحابه بذلوا أي جهد علمي يجعلهم يرتكنون إليه. فهم، في أغلبهم، يعتمدون تصورا مسبقا على أن بلداننا تقوم على تركيبات وتكوينات دينية وطائفية. وهذا الموقف، إضافة لكونه خاطئا، فإنه غير نزيه.

من موقع آخر، فإن عددا من المثقفين والكتاب السوريين تناولوا المسألة الطائفية في سوريا بكتاباتهم وأبحاثهم، معتقدين أنهم ينجزون بذلك فتحا معرفيا جديدا إن كشفوا الغطاء عن أمر «مسكوت عنه»، كما يفضلون توصيفه. وبالتالي كل «مسكوت عنه»، حسب تصورهم، يوجب على الكاتب الجريء ألا يقبل بهذا السكوت ويقوم بالإفصاح عن حقيقة هذا المخبوء. لكن، فات أصدقاءنا أن الحلول الممكنة لبعض الأمور هي بالسكوت عنها. وليس المقصود بذلك أن تتحول هذه الأمور إلى تابو ممنوع الحديث أو التفكير فيها. بل يفترض في تناولها أن يكون محكوما بنفع مجتمعي-سياسي أو معرفي، لا أن يحكمه موقف مناكف للسلطة السياسية، التي يحمّلها أغلبنا مسؤولية التسكيت على هذا الموضوع، وأحيانا مسؤولية الوضع الطائفي عموما. وذلك، تقديرا على أن السلطة البعثية، أو التصحيحية التي قامت من لدنها، طمرت المسألة الطائفية من دون أن تجد لها حلا دائم، كتعاملها مع مسألة الأقلية القومية الكردية التي طمرتها من دون حل منصف للأكراد يقوم على تعاقد وطني بينهم وبين الأكثرية العربية. ولهذا سنجد أن بعض الإفصاحات، التي قام بها بعض الكتاب، كانت لغاية سياسية هي النيل من السلطة، ليس إلا.

ولم نجد في هذه المحاولات الإفصاحية طروحات يمكن اعتبارها تجاوزا لسياسة السلطة على هذا الصعيد. فجل ما قدمه البعض (أشدد على البعض) انحصر في عملية إحصائية تعسفية للتعداد الطائفي في سوريا، وفي نسبة حجوم الطوائف لبعضها، ومدى كبر حجم الكتلة السنية قياسا بغيرها، خاصة الكتلة العلوية. وصولا إلى إن كان يتيح لها حجمها الكبير أن تقيم نظاما سياسيا على مقاسها. واستنادا لرأي هذا البعض من أن النظام الطائفي هو استئثار جماعة طائفية، أو طائفة ما، بالسلطة، فقد توصل إلى أن إنهاء الطابع الطائفي للسلطة الحالية (هناك من يرى أن هذا الطابع يشمل النظام السياسي ككل) يمكن أن يأتي عن طريقة محاصصة طائفية عادلة لها. فالسلطة القائمة على محاصصة طائفية، شرط أن تكون عادلة، ليست سلطة طائفية.

أصحاب هذه الآراء، وغيرهم، يعتمدون في كشف «المسكوت عنه» على أن أفراد شعبنا أو ناسنا مسكونون بالحس الطائفي، وأن الطائفية تنغل في تلافيف مجتمعنا وعلاقاته، ساكنة تحت الغطاء السلطوي التسكيتي. فإن كان جزء من هذا، وغيره مما يراه البعض في المسألة الطائفية، صحيحا، فمن غير الصحيح إطلاقا الانتقال من هذا المستوى الشعبي الطبيعي إلى الحديث عن طائفية سياسية، أو حتى النظر إلى أحوال الطوائف من الزاوية السياسية أو السلطوية.

وبالتعارض مع هذه الآراء، أعتقد أنه لا يوجد في سوريا طوائف بالمعنى الكياني ولا بالمعنى السياسي. ولا يقوم الوطن السوري (مع التحفظ الشديد على استخدام هذا التعبير) على توافقية أو قسمة طائفية. مع التنويه إلى أن ما كان مطروحا في بعض فترات المرحلة الانتدابية غائب عن الذاكرة السياسية السورية. ولا يغيّر من ذلك قول طائفي من هنا ورَدّ مذهبي من هناك ينبش في هذه الذاكرة. بل ليست مكونات الشعب السوري هي طوائفه الدينية، كما ترى وتطرح بعض الأطراف السياسية. إذ يوجد عدد كبير جدا بين السوريين يرفض بشكل إرادي وواع أن يكون من بين الطوائف، وهناك من يرفض احتسابه على طائفة، رافضا أن يعتبر ولاءه لمشايخ أو أئمة يعتبرون أنفسهم زعماء لهذه الطائفة؛ فهؤلاء علمانيون بفهمهم وموقفهم من العلاقات الاجتماعية والسياسية. وأغلب هؤلاء، وغيرهم، يرفضون احتسابهم ضمن عِداد الطوائف في القسمة السياسية أو السلطوية، أو حتى الإحصائية. حتى إن بعضهم يعتبر تصنيفه ضمن إحصائيات الطوائف يشكل اعتداء معنويا مباشرا وفظا على حريته وهويته. لكن، بالمقابل، لا يعني هذا أن ننظر إلى المجتمع السوري على أنه يتكون من أفراد مواطنين ضمن دولة مواطنة.

لا يوجد في واقع المجتمع السوري الراهن حالة طائفية بارزة ولا كامنة. فالطائفية لا تشكل حالة ما لم تكن طائفية سياسية. أما شعور الأفراد، ولو كانوا كثرة، بانتماء طائفي على مستوى دينهم وعباداتهم، أو حتى إحساسهم بأن طائفتهم أكثر صوابية من الناحية الدينية من غيرها، فهذه لا تشكل حالة طائفية. مع التأكيد أن وجود مثل هذا الشعور الطائفي عند الأفراد هو أمر طبيعي جدا، ولا يتناقض مع إمكانية انتمائهم إلى دولة علمانية. ولا شك في وجود أشخاص وجماعات، غير هؤلاء، ممن لديهم غايات سياسية طائفية؛ إلا أنهم لا يشكلون حالة مقلقة لحد الآن. كذلك، فإنه يوجد، أيضا، العديد من الأشخاص، ومن جميع الطوائف، يديرون تعاملاتهم الاجتماعية وفق نواظم طائفية. فمنهم من يفضل حصر تعاملاته المالية والاستهلاكية بأبناء طائفته، ومنهم من يمنع أبناءه من الاختلاط خارج طائفته... الخ، وينظر للآخرين على أنهم أبناء طوائف. لكن كل هذا يبقى ضمن الحالة الطبيعية لمجتمع متخلف لم يتمكن لحد الآن من بناء دولته المدينية، ولا يجعل منه مجتمعا طائفيا.

ما يوجد في المجتمع السوري هو عناصر للطائفية لم تتحول بعد إلى مكونات لها. يلزمها لذلك استمرار السياسات الإقليمية الطائفية التي نجحت، لحد الآن، في ترويج خطابها الطائفي على مساحة المنطقة، مع تمركزه في لبنان والعراق. خاصة ما يتم ترويجه عن حركات تشييع أو تسنين. هذا الخطاب سيساهم بلا شك في خلق مكونات حالة طائفية في سوريا، خاصة إن لم تتخل النخب السورية عن تسليمها «بالأمر الواقع»، وتحملت مسؤولياتها بنشر الخطاب العقلاني والعلماني.

وضع الطائفية في سوريا، لحد الآن، ليس بحاجة إلى مصالحة طائفية أو سياسية. هو بحاجة إلى استكمال علمانية الدولة السورية: إبقاء رجال الدين بعيدا عن الشأن والعمل السياسي، وحيادية إيجابية للدولة تجاه جميع الطوائف والاعتقادات، وحصر التربية والإعلام الدينيين في المؤسسات الدينية ودور العبادة. فالوضع الطائفي في سوريا ليس حاضرا ولا مهددا للحالة السياسية ـ الاجتماعية القائمة. أي ليس في تطور ذاتي متنام، بل هو مرهون بإخفاقات النخبة السياسية، في السلطة وخارجها، عن التنبه إلى أن أي انهيارات سياسية ستودي بنا إلى حالة طائفية صريحة. من دون أن تأتي بالضرورة على صورة اقتتال طائفي. بل يكفي أن تتم القسمة السياسية على أساس طائفي لنكون قد عدنا القهقرى عن أي ملمح أو تصور نهضوي، حتى لو كانت هذه القسمة مبنية على أساس الإنصاف أو رفع الغبن الطائفي.

(٭) كاتب وناشر سوري

السفير

الديكتاتورية والبنية الإجتماعية

الديكتاتورية والبنية الإجتماعية

محمد سيد رصاص

عندما قال الملك الفرنسي لويس الرابع عشر(1638-1715)في أواخر القرن السابع عشر عبارته الشهيرة:"أنا الدولة",فإنه كان يلخص عقوداً طويلة من الزمن استطاعت من خلالها سلطة الدولة الفرنسية,عبر عهدي الوزيرين ريشيليو(1624-42)ومازاران(1642-61),أن تكون في حالة عوم فوق الطبقات الاجتماعية وأن تعيش حالة من الاستقلالية عنها,أثناء لحظة تاريخية لم تعد فيها الأرستقراطية قادرة على الاستمرار في الحالة القديمة ولم تستطع فيها البرجوازية الجديدة أن تتبلور بعد:ربما كان أكبر تلخيص لتلك الفترة هو حركة(الفروند) التي ثارت,عبر مكوناتها الضامة لتركيبة واسعة من النبلاء والبرجوازيين والفلاحين والمثقفين المدينيين,ضد الحكم المطلق في ثورات فاشلة بين عامي1648و1653,فيما أعطى قرار الملك الفرنسي في عام1685بإلغاء (مرسوم نانت)|1598-المنظِم للتعايش بين الكاثوليك والبروتستانت الفرنسيين,وماأدى إليه ذلك من طرد غالبية البروتستانت الفرنسيين(الهوغنوت)إلى سويسرا وانكلترا- صورة عن مدى قدرة السلطة على إعادة صياغة التركيبة الاجتماعية,بعد ترحيل فئات كانت تشكل عماد البرجوازية الفرنسية الصاعدة,والتي ساهمت بعد ذلك في ازدهار صناعة النسيج في مانشستر وفي ازدهار البنوك في جنيف.

كان ذلك متزامناً مع اضطراب انكليزي عام بدأه البرلمان بثورته ضد الملك في عام1642 حتى انتهى إلى تنظيم شكل الحكم الملكي دستورياً في عام1689:سبق ذلك شكل من الحكم المطلق وضع أسسه الملك هنري الثامن عبر تأميم ممتلكات الأديرة والكنيسة المتحالفة مع الأرستقراطية في عام1534,وعبر أخذه لمنحى تأسيس استقلالية دينية ومؤسسية عن كنيسة روما ترافقت مع بروز نزعة قومية وطموح للسيطرة على البحار والقارة الأميركية الجديدة,أخذ شكله ومداه بعد هزيمة الانكليز للإسبان في معركة الأرمادا في عام1588.هنا,كان تبلور البرجوازية الانكليزية في المدن(والذي ساهم فيه كثيراً سيطرة لندن على التجارة الدولية) وفي الريف من خلال نموذج المزارع الغني,عاملاً أساسياً في نشوء صراع البرلمان ضد القصر الملكي حتى اعدام الملك عام1649,فيما أدى التوازن القلق الذي أعقب ذلك إلى تسليم البرلمان لصلاحياته إلى فرد أصبح عبر ذلك ديكتاتوراً في عام1653,هو أوليفر كرومويل.

قام الحكم المطلق في الحالتين الانكليزية والفرنسية(=هنري الثامن- لويس الرابع عشر)على تحجيم نفوذ الأرستقراطية,وقد أتت قوة الملك من قدرته على سد فراغ القوة الناتج عن ديناميات عملية انحسار قوة طبقة وعن عدم بزوغ طبقة كانت مازالت في الحالة الجنينية,فيماكانت ديكتاتورية كرومويل ناتجة عن حالة توازن قوة حاولت الطبقة المستولية على السلطة حسمه عبر تسليم مقدراتها إلى ديكتاتور فرد,وهو ماحصلت حالة شبيهة له مع نابليون بونابرت عبر انقلابه في(9تشرين الثاني1799) الذي نصَب نفسه من خلاله ديكتاتوراً(قنصل أول),لما وصلت صراعات البرجوازية والأرستقراطية إلى حالة توازن انسدادي بعد عشر سنوات من ثورة1789,ماتزامن منذ صيف1799 مع حالة لم يعد فيها الفرنسيون"يمارسون السياسة,وأصبحت الشؤون العامة وقفاً على النخبة"(فرانسوا فوريه-ديني ريشيه:"الثورة الفرنسية"-ج2-,طبعة د مشق1993,ص316),ومع حالة اجتماعية ,ظهرت منذ انهيار حكم اليعاقبة صيف1794,من تفجر الإنحلال الجنسي عند العامة والخاصة,بينما وجد الديكتاتورالجديد تأييداً واسعاً وسط الفلاحين المشكلين لغالبية تعداد الأمة الفرنسية آنذاك,الشيء الذي تكرر,بعد نصف قرن مع ابن أخيه,أي لوي بونابرت,عبر انقلاب 2كانون الأول1851 الذي حلَ فيه بوصفه رئيساً للجمهورية الجمعية الوطنية ونصَب نفسه بعده امبراطوراً,وذلك في لحظة سياسية أتت فيها (البونابرتية),إذا أخذنا المصطلح الماركسي,كحصيلة لتوازن صفري بين الطبقات الاجتماعية لاتستطيع فيه احداها أوبعضها حسم الصراع ولاالركون للبرلمان كحالة توازنية للصراعات والتوافقات الاحتماعية,لتميل معظمها إلى تسليم المقدرات لفرد واحد ليبدو الصراع وقد "انتهى بحيث أن جميع الطبقات,وقد تساوت عجزاً وسكوناً,جثت على ركبها أمام عقب البندقية"وفقاً لتعبير كارل ماركس في كتابه"الثامن عشر من برومير".

بالمقابل, لم تأت ديكتاتورية ستالين بالقرن العشرين من ذلك,بل من ضيق القاعدة الاجتماعية للبلاشفة,والتي ظهر مدى ضعفها خلال انتخابات الجمعية التأ سيسية بعد أسابيع من ثورة أوكتوبر,عبر حصولهم فقط على168مقعداً من مجموع المقاعد البالغ696,مادفعهم لحلها وهو ماكان بداية للحرب الأهلية التي انتصروا فيها عام1920,ليجدوا أنفسهم في قمة خراب عام,دمرت فيه الصناعة والطبقة العاملة التي حملتهم للسلطة,وهاجرت فيه الأرستقراطية والبرجوازية والفئات الوسطى المدينية,فيما شكَل الفلاحون القوة الاقتصادية الكبرى في المجتمع,حيث لم تنشأ ديكتاتورية ستالين(الذي كانت صراعاته مع تروتسكي وبوخارين بالعشرينيات متمركزة حول طريقة التعامل مع الفلاحين)إلاعبر الصراع وحسمه مع الفلاحين من خلال فرض المزارع الجماعية عليهم وتهجير عشرات الملايين منهم للمدن كجيش للصناعة الناشئة بين عامي1929و1932.

كانت حالة عبد الناصر أقرب إلى الحالة البونابرتية حيث كان "التقليد التاريخي المتوارثقدولَد عند الفلاحين الفرنسيين الاعتقاد الصوفي بأن رجلاً يدعى نابليون سيعيد لهم جميع الخيرات المفقودة"وفقاً لتعبير كتاب ماركس المذكور,فيماكان وضع البعثيين العراقيين وصدام حسين أقرب لحالة البلاشفة وستالين,والذي روى السياسي الكردي محمود عثمان,أثناء مقابلة تلفزيونية,مدى اعجاب صدام به ومدى شغفه بقراءة الكتب عنه : في تموز 1968 كان البعث العراقي أضعف من القوة المنفردة لجناحي الشيوعيين المنقسمان,أي(القيادة المركزية)بزعامة عزيز الحاج,و(اللجنة المركزية)بقيادة عزيز محمد,ولم يكن يملك امتداداً اجتماعياً مؤثراً أوقوياً,ولكنه استطاع ,في ظرف انقسام خصومه وأثناء حالة عجز لسلطة متآكلة وضعيفة عند عبد الرحمن عارف,الوصول إلى الحكم عبر ضباطه ,وبمعاونة قوى مفصلية في السلطة سرعان ماتخلص منها بعد أسبوعين من انقلاب 17تموز1968.

في كل الحالات المذكورة,كانت الطبقة الوسطى(=البرجوازية)إما في حالة عدم تبلور,أوفي وضع من عدم القدرة على حسم الصراع,أوأنها كانت في حالة هزيمة وتراجع.أيضاً,أتت الديكتاتورية(أوالحكم المطلق الذي أخذ بالقرن العشرين أشكالاً شمولية )مع الحاجة لدولة حديثة تواجه الخصوم الخارجيين(لويس الرابع عشر),ومع الميل لانشاء دولة قومية ذات مطامح خارجية(هنري الثامن),ومع ميول نحو التحديث(ستالين-عبدالناصر- صدام حسين) ولوعبر وسائل قسرية تعيد من خلالها آلة السلطة صياغة البنى الاقتصادية-الاجتماعية-الثقافية,فيماجمع نابليون بونابرت بين تحديث فرنسة وبين النزوع نحو انشاء امبراطورية عالمية تنافس وتحاول تقويض تلك البريطانية التي لم تأخذ مكانة الدولة الأعظم إلابعد هزيمة الفرنسيين في حرب السنوات السبع(1756-1763).

كان نضوج البرجوازية الانكليزية مؤدياً إلى أن لاتكون ديكتاتورية كرومويل متجاوزة لحدود الخمس سنوات وإلى الوصول إلى تسوية1689,فيماكان الطريق الفرنسي أكثر ايلاماً ليستغرق طوال القرن التاسع عشر حتى استقرت وترسخت الديموقراطية الفرنسية في العقد الأخير من القرن المذكور مع السيطرة الاقتصادية-الاجتماعية-الثقافية للبرجوازية,بينما نجد أن القاعدة الاجتماعية لعملية التغيير في ديكتاتوريات الكتلة السوفياتية(والتي جاءت مع ظرف توازن دولي مختل لصالح المعسكر الغربي)قد استندت إلى بنية اجتماعية(أنشأها واستحدثها التحديث الستاليني)وجدت غالبية فئاتها مصلحة في تجاوز البنية الاقتصادية القائمة(=رأسمالية الدولة)والبنية السلطوية(=الحزب الواحد)إلى (اقتصاد السوق)و(الديموقراطية).

كيف سيكون الطريق إلى ذلك في العالم العربي؟.......... )

الحوار المتمدن

2007 - 2 - 28

من أجل الغزال

من أجل الغزال

منهل السراج

خاص – صفحات سورية –

قامت إحدى بلديات استنبول، بتنظيم مهرجان للقراءة على مدى ثلاثة أيام بالتعاون مع عدد من المكتبات ودور النشر. نصبوا فانوسين ضخمين في ساحتين عامتين في قلب استنبول، يمكن من يشاء أن يستخدمهما «خلوة» للقراءة، ومن باب تشجيع عامة الشعب على استخدامهما، قرأ رئيس بلدية «غلاطة» تحت أحد الفانوسين في اليوم الأول، الأعمال الشعرية الكاملة لأورهان ولي رائد قصيدة النثر في الشعر التركي الحديث.

حين قرأت هذا الخبر في جريدة، رن مثل، كانت أمي تردده بكثرة: كلّ الكلاب أحسن من حمّور. كانت توبخنا به حين تسبقنا إحدى البنات فتنال درجة أعلى من درجتنا في المدرسة. طبعاً، حمور هو كلب الدار.

سرعان ما تبادر إلى ذاكرتي مشهد "نقش الغزال" المطمور في حماه، بقرار أو بقلة قرار من بلدية حماه، وبإهمال مقصود أو غير مقصود من دائرة الآثار.

قمت ومن باب الوفاء لهذا الغزال المطمور، ومن أجل لفت الأنظار لأهمية إظهار أثر نقش هذا الغزال إلى العيان، تاريخياً أو حتى سياحياً، قمت وعلى مدى أربعة أشهر بإعداد بحث عن قيصر بن مسافر، وهو عالم من بلاد الشام سكن في حماه خلال القرن الثالث عشر للميلاد، ونقش هذا الغزال كمقياس مائي يدل على الإرتفاع اللازم لمياه العاصي لتدوير جميع طواحين المدينة. فإذا وصل ارتفاع سطح الماء إلى مستوى معين من قدمي الغزال، فهذا يعني أن غزارة المياه كافية لإدارة جميع طواحين المدينة. وقد كان مقابل هذا النقش سوق المدينة الذي يشتري منه الناس حاجياتهم اليومية، فإن وجدوا أن مياه النهر قد لامست هذا المستوى يدركون أن طواحين المدينة كلها دائرة وبالتالي يمكنهم أن يقوموا بطحن ما يلزم من حبوب. أنهيت بحثي بكل همة، متأكدة بأن تنبيه البلدية إلى أهمية هذا النقش يكون بالعلم، وأني إن أوصلت هذا البحث للمسؤولين، سيرحمون الغزال ويزيحون حائط الاسمنت الذي يطمره أو يحجبه. حملت بحثي ومضيت أولاً إلى نقابتي، نقابة المهندسين، كي أحجز موعداً مع زملائي من المهندسين الذين من المفروض أن يهتموا بمهندس سبقهم بمئات السنين، ويشاركوني مهمتي في إظهار الغزال. بدأت بأحد المهندسين المناضلين، من أجل الثقافة تاريخاً وحاضراً، استمع إلي باهتمام، وأبدى اطلاعه الجيد على تاريخ العلم وتاريخ العالم قيصر بن مسافر والغزال المطمور، وكان موافقاً تماماً على أهمية البحث، لكنه بادرني باقتراح آخر، وهو أن أكون عضواً مساهماً ودائماً في لجنة الإعلام في نقابة المهندسين، أشارك معهم في تحرير مجلة تختص بشؤون المهندس، وأتابع النشاطات الثقافية لنساهم معاً في تشجيع المهندسين والمهندسات على القراءة، كان متحمساً، ومن شدة حماسه اندفعت موافقة، وقلت: لِمَ لا نحاول؟ ربما نستطيع أن نضيء شمعة في شارع الثقافة في طرق حماه شديدة العتمة ويزيدونها تعتيماً.

رتبت أحلامي في ذهني، ومضيت إلى أول اجتماع للجنة الإعلام.

مضت نصف الساعة الأولى، تحدثنا عن نية كل منا ورغبتنا بأن نجدد في الوجه الثقافي لنقابة مهندسي حماه.

يوجد فسحة مكانية وزمانية ليست صغيرة مخصصة للتسلية. بعض مهندسي النقابة يلعبون الورق في المساء، ويتسامرون، وأحياناً "يُحَلّون ضرسهم"، بقطعة من حلاوة الجبن، ويتسلون بالنميمة على بعضهم أو على المهندسات، يبدؤون بالسخرية من شكل مشروع المهندسة الذي ترسمه وتقدمه مخططاً إلى لجنة الدراسة، إلى شكل تنورتها وحركة التفافها على جسمها.

اقترحت أن تشغل هذه الفسحة بنشاطات ثقافية أو حوارات جادة، وتداركت حتى لايفهموا أني أقصد حوارات سياسية، بأن تكون حوارات حول قراءات أدبية، تاريخية، علمية.. أوعلى الأقل أن يخصص يوم للثقافة وبقية الأسبوع للتسلية، على أن تقام في هذا اليوم ندوة ثقافية تساهم في تنويع وجه النقابة الواحد وتنبه المهندسين أن هناك أمراً في الحياة اسمه ثقافة، فن، جمال..

كنت كل الوقت أرمي باللوم على المهندسين، ولم يخطر ببالي أبدأً أن أحمل المسؤولين مسؤولية هذا التراجع، على أساس أن المراكز الثقافية مفتوحة لكن لايوجد رواد لها.

رتبنا ورقتنا ووقعنا على توصياتنا التي كتبناها بخط جميل، واتفقنا على أحلامنا، وانتظرنا قدوم نقيب المهندسين. ليبارك كالعادة الاجتماعات في لحظاتها الأخيرة.

كعادة أغلب المسؤولين لايأتون وحدهم، بل برفقة اثنين على الأقل. مرافقو نقيب المهندسين، ليسوا حرساً، هم من الزملاء المهندسين الملازمين له كظله. كثيراً مافكرت بحجم المصالح والمكاسب التي ينالها المرافقون وتعادل تحمل "غلاظات" المسؤولين. كنت أتعاطف معهم، وأقول إنهم سذج وطيبون وعلتهم فقط أنهم قليلو الموهبة.

ألقى النقيب سلاماً سريعاً ونظرة سريعة خصصت لي، كوني مهندسة امرأة جديدة في اللجنة. سحب كرسيه، وبدون أن يأخذ نفساً قال متململاً: هاتوا..

أصابني الصمت من "هاتوا" هذه. شردت بمنصب نقيب المهندسين، وبسحبة كرسيه السريعة، ورحت أفكر بأسلوب مناسب أدخل عبره، لإقناعه بأهمية لجنتنا في النقابة وأهمية الثقافة في الحياة. أنجدني صاحبنا المهندس رئيس اللجنة، تبين أن لديه خبرة عميقة بالخطاب مع المسؤولين، سرعان ما استغرق بشرح منمق وبدون تلعثم عن رغبتنا بأن ننشط دور الثقافة في النقابة، طال شرحه، لدرجة أحسست أن مذياعاً أدير، ورحت أراقب وجه النقيب وتفاعله كي أرتب خطواتنا وأشعل شمعتنا في شارع الثقافة.

كان وجهه جامداً كأنه لم يسمع شيئاً، أو كأنه يعرف مايسمع.

أنهى صاحبنا حديثه، وحمل ورقتنا بأناقة، ومع ابتسامة خاصة، وضعها نصب عيني النقيب. التفتنا كلنا باتجاه النيقب، منتظرين تفاعله وموافقته على بنود اجتماعنا: إصدار مجلة، إقامة نشاطات أدبية علمية اجتماعية..

بعد سكوت ليس بقصير، نظر النقيب في ورقتنا نظرة سريعة، وضحك، ثم ضحك. ثم التفت الى مرافقيه من زملائنا المهندسين وسمح لهم بمشاركته الضحك، فضحكوا. نظر إلينا مهدداً، فضحكنا.

وبعد أن اهتز عدة هزات، أنهى الضحك، وقال وهو يشير إلى مكتبة النقابة التي ربما لم يتحرش بكتبها أحد، كانت مغطاة كلياً بالغبار:

ـ بربكم هل قرأتم أي كتاب من هذه المكتبة؟ وأضاف: من ناحيتي لم أفعل.

تشجع البقية ومنهم رئيس اللجنة وقالوا:

ـ ولا نحن.

عاود ضحكاته وقد تحولت إلى قهقهات.

نظر ناحيتي، فوجدني أبتلع ريقي.

أنهى الضحك، وطلب لنا شاياً، ومضى.

التعذيب.. الصمت = الموافقة

التعذيب.. الصمت = الموافقة

رزان زيتونة

على الرغم من أن 141 دولة قد صادقت بحلول عام 2006 على اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة لعام 1984، فإن التعذيب لا يزال يمارس بشكل منتظم أو متقطع في أكثر من نصف بلدان العالم، وفقا لمركز البحوث وإعادة التأهيل لضحايا التعذيب (RTCالدانمارك). سوريا التي صادقت بدورها على الاتفاقية المذكورة عام 2004، تعتبر من الدول التي يمارس فيها التعذيب بشكل منتظم في مراكز التوقيف والاحتجاز.

وتأتي هذه الممارسة في ظل بعض القوانين الاستثنائية التي تحمي مرتكبي التعذيب "كما في المادة 19 مرسوم إحداث إدارة أمن الدولة"، جنبا إلى جنب مع اعتبار التعذيب جزءا من سياسة الأمر الواقع ضمن الإجراءات العقابية المختلفة.

يهدف التعذيب إلى "تحطيم" الضحية عقليا وجسديا للحصول على معلومات، أو انتزاع اعترافات، أو نشر الرعب والذعر ضمن مجموع السكان (RTC). ويجري تعريفه في اتفاقية مناهضة التعذيب المادة الأولى على أنه "أي عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد، جسديا كان أم عقليا ، يلحق عمدا بشخص ما بقصد الحصول من هذا الشخص، أو من شخص ثالث، على معلومات أو على اعتراف، أو معاقبته على عمل ارتكبه أو يشتبه في أنه ارتكبه هو أو شخص ثالث أو تخويفه أو إرغامه هو أو أي شخص ثالث، أو عندما يلحق مثل هذا الألم أو العذاب لأي سبب يقوم على التمييز أيا كان نوعه أو يحرض عليه أو يوافق عليه أو يسكت عنه موظف رسمي أو أي شخص يتصرف بصفته الرسمية ولا يتضمن ذلك الألم أو العذاب الناشئ فقط عن عقوبات قانونية أو الملازم لهذه العقوبات أو الذين يكون نتيجة عرضية لها".

بينما لم تتضمن القوانين السورية مواد صريحة عن ممارسة التعذيب بالمفهوم السابق.

معظم ضحايا التعذيب يصابون بأذى معنوي أو جسدي يحول بينهم وبين القدرة على العيش حياة طبيعية. فهم يعزلون أنفسهم عن الآخرين، وغالبا ما يجدون من الصعب الحديث عن تجربتهم حتى إلى أقرب المقربين. ومن بين آثار التعذيب على الصعيد الفردي، المعاناة من الكوابيس، ضعف تقدير الذات، الصداع المزمن، القلق، الإحباط، استرجاع لحظات التعذيب لدى الاستيقاظ وغيرها.

ولا تقتصر نتائج التعذيب على الضحية بل تمتد أحيانا لتؤثر على العائلة بأكملها وقد تمتد إلى أجيال عديدة. (RTC)

انطلاقا من ذلك تجهد عشرات المنظمات الدولية والإقليمية من أجل مناهضة التعذيب والحد منه ومعالجة ضحاياه وإعادة تأهيلهم. حيث توجد على سبيل المثال العديد من المواقع الأمريكية التي تنظم الحملات وتنشر الوعي حول التعذيب في غوانتانامو وسجن أبو غريب والسجون السرية الأمريكية. إحدى هذه المنظمات act against torture تقترح عشرة خطوات لمناهضة التعذيب يمكن تلخيصها بما يلي:

ثقف نفسك (القراءة عن الانتهاكات ذات الصلة بالتعذيب، المواثيق الدولية...الخ) ، تحدث عن ذلك (عندما تسمع أو تقرأ شيئا حول التعذيب تحدث إلى الناس عن ذلك، ناقشه مع أصدقائك وزملائك، يقول مارتن لوثر كينج: حياتنا تبدأ بالنهاية في اليوم الذي نصبح فيه صامتين عن قول الأشياء ذات القيمة.)، شارك في اجتماعات ومظاهرات ذات صلة، ابق على علم بآخر المستجدات، احصل على ملصقات حول مناهضة التعذيب ، مثلا "نحو مناهضة التعذيب، الصمت= الموافقة"، ضعها على سيارتك أو دراجتك، اكتب رسائل إلى ممثليك في البرلمان وإلى السلطات للتعبير عن رفضك لممارسة التعذيب، اكتب وانشر مواد في الصحافة والإعلام حول الموضوع، اطبع "البوسترات" وضعها في منزلك، عملك، أو على الطريق، عندما تقرأ مقالات غير متداولة عن الموضوع قم بتوزيعها على الأصدقاء، اطبع بطاقات تتضمن معلومات عن التعذيب واتركها في المقاهي، المدارس، مقر العمل، محلات الثياب...، تبرع للمنظمات التي تعمل على مكافحة التعذيب، شجع الأصدقاء على اتخاذ مثل هذه الخطوات وبمعنى آخر، ابدأ بعمل أكثر تنظيما.

قد تكون معظم الخطوات السابقة عصية على التطبيق في بلد مثل سوريا، بحكم غياب الحريات العامة وسريان القوانين الاستثنائية ومجمل حالة القمع التي تشهد ارتفاعا مستمرا منذ شهور.

لكن ذلك لا يمنع من الاعتراف بأننا لا نستغل كما يجب حتى المساحات الضيقة التي انتزعها المجتمع المدني خلال السنوات القليلة الماضية لحركته ونشاطه. ومن الملفت للنظر، أن العديد من الجماعات الإسلامية المتطرفة، قد بادرت إلى إنشاء المواقع الالكترونية والحملات المستمرة باللغتين العربية والانكليزية لإثارة مواضيع تتعلق بضحايا الحرب على الإرهاب ومعتقلي غوانتانامو و غير ذلك، فيما تغيب مجموعات العمل الحقوقية خاصة على الساحة السورية، عن مثل هذا النشاط البسيط لكن الهام.

وفي هذا الإطار يمكن اقتراح إنشاء مواقع الكترونية، تتيح لضحايا التعذيب تسجيل شهاداتهم وتبادل تجاربهم، خاصة في ظل غياب إمكانية خضوعهم لإعادة التأهيل. وكذلك التشجيع على إرسال الرسائل إلى المنظمات المعنية بمناهضة التعذيب من أجل مزيد من الاهتمام بقضايا التعذيب في سوريا، إرسال رسائل السلطات المعنية التي قد لا تغير من واقع الأمور شيئا، لكنها تنقل القضية من خانة الأمر الواقع إلى الأمور المرفوضة التي تواجه سعيا لإلغائها ولفت النظر إليها رسميا، إتاحة الاستشارات القانونية لضحايا التعذيب، إلى غير ذلك من الخطوات الممكن اتخاذها ضمن إطار المتاح حاليا.

وإن كانت جميع الخطوات السابقة تكاد تكون معدومة المردود على الصعيد الرسمي، إلا أنها على الأقل تشكل بداية من أجل نشر الوعي بقضية التعذيب كأحد أقبح أشكال العنف ارتكابا بحق الإنسان.

موقع ثرى

الإنسان و الحرية

الإنسان و الحرية

مازن كم الماز

خاص – صفحات سورية –

تفاجئك عبارات بليغة ببساطتها و بداهتها فتجرنا إلى محاكمة ما نعتقد أنه أساسيات لا تقبل المحاكمة أو المناقشة..هذا ما أحسست به عندما قرأت ما قاله ويليام غودوين في أواخر القرن الثامن عشر مع اندلاع الثورة الفرنسية ( "البرجوازية الديمقراطية" ) أن الإنسان كائن عاقل و لذلك لا بد من إطلاق سراح تفكيره من القيود لا بد من تحريره..هكذا دون مقدمات يضعنا هذا الكلام أمام حقيقتنا كبشر أمام واقعنا بكل تفاصيله المرة و احتمالات حريتنا المغيبة..هل هذه الحقيقة البسيطة البدائية تعني أننا كبشر نستحق الحرية و إذا كنا كذلك فعلا فلماذا؟..أي هل نستحق الحرية لأننا كائنات عاقلة أم كائنات مطيعة..هل وظيفة العقل الذي هو مبرر الحرية حريتنا نحن البشر و ربما مصدرها أو موجدها هي التفكير دون قيود "الواقع-الطغيان" و إسقاطاته على عقولنا أو تبرير و "عقلنة" هذه القيود على تفكيرنا..أو إذا أردتم يمكن أن نطرح الأمر بصيغة أخرى : ما هو جوهر وجودنا كبشر : العقل أم الطاعة ؟..هل الطاعة هنا هي قبول ب ( أو عملية تأقلم و تكيف مع ) السائد الاجتماعي-السياسي-المعرفي أم استسلام لممارسة قطيعية أم تماهي مع سيكولوجيا المجموعة حتى لو كانت هذه الممارسة تعني الاستسلام لحالة قهر مباشر, الاستسلام للقمع أي بمعنى آخر متى يكون الإنسان كائن اجتماعي أو كائن عاقل..أين هو إذا هامش التغيير في الواقع و لأي درجة هو واعي أو غير واعي أو حتمي أي هل علينا أن ننتظر تحقق حتمية ما ( قد يكون من أسلحتها الحديثة الدبابات و القاذفات و الصواريخ الأمريكية مثلا ) أو أن إنجاز حريتنا يتطلب منا إدراك جوهرنا كبشر ككائنات عاقلة و تحطيم قيودنا باتجاه الحرية , كيف ستتحقق هذه الحرية التي اعتبرنا أنها تقوم على واقع الإنسان ككائن عاقل و هل الوضعية الجديدة التي سننتقل إليها هي وضعية أكثر عقلانية في مواجهة لا عقلانية الاستبداد..سؤال هام للغاية تطرحه علينا حقيقتنا المفترضة ككائنات عاقلة و كوننا نحقق حريتنا من خلال "تفكيرنا العقلاني" أو عبر نشاطنا العقلي الحر , ألا يعني هذا أنه يجب ليس فقط تقنين العنف ضد الإنسان أي إنسان ( مهما بدت أفكاره هرطقية أمام السائد ) بل و إلغائه و اقتصار أي حوار بين البشر على الجدل العقلاني الذي نستخدم فيه عقولنا أو ثمرة تفكيرنا العقلاني إذا ما قررنا أننا كبشر كائنات عقلانية أي في وضعية يكون فيها العقل هو حقيقتنا الأساسية و بالتالي لا معنى أو لا شرعية لأي حوار يستبعد العقل كمرجعية...و سؤال آخر أساسي للغاية و بسيط في آن واحد يتعلق بوضعيتنا كبشر مقهورين هنا, هل نحن في تناقض مع سلطة بعينها ( القائمة حاليا مثلا ) أم مع أية حالة استبداد و طغيان لا عقلانية أي أنها تعمل و تقوم أساسا على كبت و إلغاء عقولنا و تفكيرنا أمام مرجعيتها المطلقة التي تصادر عقولنا كأفراد و كمجتمعات لصالح خطابها الأوحد "المنزه الكلي الصحة", و إذا ما زعمنا أننا نعارض القهر و الفساد و الاستبداد أينما كان و بأي صيغة فما هو في تركيبة السلطة الذي نعاديه أو ما هو مصدر هذا الطغيان في السلطة, أية مؤسسة في السلطة تولد ( أو تتضمن إمكانية توليد الطغيان ) و تحمي الطغيان و تعززه و تساعده على سلب المجتمع صوته و حراكه..أية مؤسسة ضمن مؤسسة الدولة الأكبر تحولها إلى ذلك الغول الذي يلتهم أبنائه أو إلى كيان قابل للطغيان , هل هو احتكارها للقوة و استخدامها في يدها ؟ هل هو في تساوي قوتها بالقانون ( أو اللا قانون ) ؟ هل هو احتكارها للحقيقة سواء "العقلية" أو "فوق عقلية-المقدسة" ؟ هل هو في احتكارها لحق الإبداع الفكري أو أي نشاط عقلي , إما بقمع "العقل الآخر" و إلغائه أو بتأسيس شروط سيادة "خطابها الخاص"..و من هنا يمكن التساؤل عن البديل القادم "العقلاني" أو الأكثر عقلانية على الأقل من الطغيان القائم..ما حجم قوة القهر أو القمع البوليسية التي يحتاجها لإدارة جدل عقلاني بين بشر بين كائنات عقلية و ما هو حجم السجون التي عليه أن يحافظ عليها أو يفتتحها ليحاسب كائنات عقلية في حالة جدل حر و ما هو حقها في فرض موقفها الخاص على الآخر أو المجتمع بأسره إذا كانت المرجعية الحقيقية التي ترجح و تقدم هي مرجعية العقل غير المقيد الحر..هل يمكن تأسيس حالة نعترف فيها كبشر بوضعيتنا ككائنات عاقلة أساسا أن نضع إنسانيتنا التي افترضنا هنا أن جوهرها الأصل هو العقل البشري و قدرته على فهم الواقع و محاكمته و محاولة تطويره , هذه العملية التي بلغت مراحل متقدمة من تغيير الواقع الفيزيائي و تعديله لصالح الإنسان رغم تأخرنا, الشديد غالبا, اجتماعيا و ربما سياسيا عن تطوير و عقلنة حياتنا كبشر.

المسؤولية العربية تجاه العراق

المسؤولية العربية تجاه العراق

د. برهان غليون

يمكن للعرب أن ينكروا مسؤوليتهم عما وصلت إليه الأوضاع في العراق، ويلقوا باللائمة كلية على الولايات المتحدة الأميركية التي ليس هناك أي سبب عند أي عربي لتوفير نقدها وتجريمها. ويمكنهم أن ينسوا ما قدموه، حكومات ورأياً عاماً، من دعم كبير لنظام صدام حسين ولخياراته التي كانت توصف بالقومية منذ انتزاعه السلطة، ومن تأييد لسياسات مراكمة القوة العسكرية، سواء أكان ذلك لضمان استمرار الحكم في الداخل أو لتأكيد النفوذ في الخارج. كما يمكنهم تناسي تحريض العديد من دولهم وأحزابهم وجماهيرهم على الحرب ضد إيران واستنجادهم بالعراق بوصفه البوابة الشرقية للوطن العربي. ويمكنهم كذلك تناسي موقف الجامعة العربية بأغلبية أعضائها من الحرب الأميركية الأولى على العراق عام 1991 ومشاركتهم العسكرية فيها، والصمت عن عقد ونيف من الحظر على الشعب العراقي وما أحدثه من تدهور مخيف لشروط معيشته. ويمكنهم أيضاً نسيان ما قدموه من دعم للتمرد الطائفي أو العشائري على أمل تحويل العراق إلى مقبرة للجيوش الأميركية وإنزال هزيمة بواشنطن تردعها عن الاستمرار في تطبيق أجندتها الاستعمارية الجديدة، ما يعني تحميل الشعب العراقي فاتورة الصراع ضد السياسة الأميركية العدوانية، بصرف النظر عن سلامة الموقف المناوئ لهذه السياسة.

لكن العرب لا يستطيعون التنكر لمسؤولياتهم اليوم في إنقاذ العراق من كارثة إنسانية، وتخليص شعبه من دوامة الاقتتال والفوضى التي دخل فيها أو قيد إليها من قبل الأطراف الدولية والإقليمية. والسبب أن نتائج انهيار الأوضاع في العراق لم تعد تقتصر على الشعب العراقي وحده، بل تهدد مستقبل الشعوب العربية المحيطة به، وتزيد من مخاطر انتشار العنف، بل تزيد من احتمالات فتح جبهة صراع إقليمية طائفية لن يستطيع أحد البقاء بمعزل عنها أو الاستفادة منها. إن تنكر العرب لمسؤولياتهم تجاه العراق، سيكون اليوم تنكراً لمسؤوليتهم تجاه بلدانهم وشعوبهم نفسها.

أقول هذا لأن كل الدلائل تشير إلى أن المرحلة القادمة في العراق قد تكون أكثر خطراً على الشعب العراقي والشعوب العربية من كل ما شهدناه في السنوات الماضية. فمن شبه المؤكد أن مخطط تأمين بغداد الذي تراهن عليه واشنطن لكسب الوقت، لا يملك أي أمل في النجاح. وها هي بريطانيا تعلن سحب قواتها من الجنوب العراقي، في وقت بدأنا نشهد فيه لأول مرة تطوراً خطيراً في نوعية السلاح المستخدم من قبل الميليشيات العراقية المتنازعة. فإذا حصل وقررت هذه الميليشيات، في صراعها الدامي على الموارد والسلطة، استعمال الأسلحة الكيماوية، وإن كانت أسلحة حرفية أو يدوية، فسيدخل العراق والمشرق العربي كله في دائرة تصعيد غير مسبوقة، ولن يكون معيار الانتصار السيطرة على المواقع الجغرافية أو السياسية أو اقتسام الموارد، وإنما المزاودة في عدد القتلى. وستكون تلك دائرة الموت المعمم في المشرق العربي كله.

من المشروع أن نفرح بهزيمة القوات الأميركية وبإخفاق واشنطن في فرض أجندتها العدوانية على منطقة عانت من تجاهل إرادة شعوبها وحكوماتها معاً من قبل الدول الكبرى. لكن بعد التعبير عن هذا الفرح، يتوجب على الدول العربية، حكومات وشعوباً، أن تتحمل مسؤولياتها تجاه العراق والشعوب العربية الأخرى، وتفكر في بديل عن الفشل الأميركي وأن لا تكتفي بالتصفيق، بل عليها أن تشرع منذ الآن في بناء شبكة إنقاذ تجنب العراق السقوط في الجحيم وتضمن انتقاله إلى ما بعد الاحتلال بحد أدنى من المخاطر والمفاجآت. من دون ذلك ستكون نهاية المغامرة الأميركية أسوأ عواقب على العرب من استمرارها. فلن يكون العراق أفضل حالاً بالنسبة لشعبه، ولا أقل خطراً على جيرانه، إذا كرس خروج القوات الأميركية والبريطانية أو هزيمتها سيطرة الميليشيات على السلطة وفتح الباب أمام مرحلة تعميم الحرب الأهلية الطائفية في جميع مناطقه. فمثل هذا الاحتمال يعني ببساطة اندلاع حروب تطهير عرقية ستمتد من الشمال حتى الجنوب. لأن منطق الصراع سوف يدفع لا محالة كل فريق إلى تطهير ما يعتقد أنها أرضه أو موطنه الأصلي الطبيعي في سبيل تعزيز موقفه الاستراتيجي في مواجهة الخصم.

حتى الآن وقف العالم العربي على الحياد لأن سياسة القوة الأميركية واجهت إجماعاً واسعاً حول هدف واحد هو إحباط السياسة الأميركية في العراق. أما الآن وقد تحقق هذا الهدف ولم يعد هناك ما يمكن إضافته إليه، فينبغي أن يكون الهدف الجديد إنقاذ العراق. ويعني الإنقاذ وقف الحرب الأهلية ومساعدة العراقيين على التوصل إلى تسوية تضمن مصالح جميع الأطراف وتفاهمهم على العيش المشترك. وبديل ذلك هو الحرب الدائمة وسير المنطقة بأكملها نحو الهاوية.

يمكن للعرب أن يسترشدوا بتجربة مؤتمر الطائف الذي نجح في تحقيق تسوية لبنانية أوقفت الحرب. مع الأخذ بالاعتبار أن العراق ليس لبنان، لا من حيث طبيعة النزاع وظروفه ولا عدد الأطراف الإقليمية والدولية المنخرطة في النزاع. إن إيجاد تسوية في العراق غير ممكن بالاقتصار على المحيط العربي. إنه يستدعي تفاهماً إقليمياً يجمع بين بلدان المنطقة الرئيسية، والتي يشكل النزاع في العراق اليوم مناسبة لإبراز تباين خياراتها ولإظهار خلافاتها وتصادم استراتيجياتها القومية والإقليمية المختلفة. فمثل هذا التفاهم وحده هو الذي يخلق فرص تسريع انسحاب القوات الأميركية بقدر ما يؤمن العراق أمام مخاطر توسع الحرب الأهلية ويخلق شروط ملء الفراغ الذي أحدثه انهيار الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط بأكمله. فأي تفاهم حول العراق ينبغي أن يمر بتفاهم مسبق بين بلدان المنطقة، كما يتطلب إيجاد تسويات للنزاعات القائمة بين تلك الأطراف. وهو ما يستدعي التفكير بمشروع نظام إقليمي جديد قائم على دول الشرق الأوسط نفسها، لا يهدف إلى معاداة الأميركيين أو غيرهم، بل يسعى إلى ملء الفراغ الذي تركه منذ الآن، وسوف يبرز بشكل أكبر، إخفاق التكتل الغربي الذي تحكم بمصير المنطقة منذ أكثر من قرن، في الاحتفاظ بسيطرته المطلقة عليها وهيمنته الدائمة على شؤونها الإقليمية. إن المطلوب هو خلق إرادة جماعية إقليمية تأخذ على عاتقها المساهمة الكبرى في حل شؤون المنطقة ونزاعاتها وإيجاد الفرص والحلول المناسبة لمشكلاتها الخاصة، بعيداً عن تدخل الدول الكبرى الخارجية ونزاعاتها. نظاماً يضمن مصالح الأطراف الشرق أوسطية ولا يضحي بالمصالح الحيوية للدول الكبرى التي تحتاج إلى نفط المنطقة وتعاونها.

في هذا الإطار لا يبدو من المفيد عقد مؤتمر القمة الإسلامي المصغر في باكستان دون مشاركة إيران وسوريا. لكن لن يقلل ذلك من أهميته إذا كان هدفه توحيد مواقف الدول القريبة من الغرب قبل بدء مباحثات جماعية تضم جميع دول الشرق الأوسط، وتفتح الطريق أمام تسوية مقبولة في العراق، وربما الاتفاق على إرسال قوات إقليمية مشتركة تهدف إلى وقف القتال والتمهيد لرحيل قوات الاحتلال

الاتحاد الاماراتية

الأربعاء 28 فبراير 2007

النظام السوري وطبعة جديدة من فيلم الحدود

النظام السوري وطبعة جديدة من فيلم الحدود

بدرالدين حسن قربي*

خاص – صفحات سورية –

في 18 شباط- فبراير 2007 طلعت علينا وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل السورية السيدة- ديالا الحاج عارف بنغمةٍ جديدة (فَنْـتَـكِـه)، ليست معهودة من قبل بمطالبتها بسحب الجنسية وإسقاطها عن مواطنها السيد- أنور البني المعتقل في غياهب معتقلات النظام، لتؤسس بطلبها لقصة فيلمٍ جديدٍ من أفلام الوطن على شاكلة فيلم الحدود من بطولة السيد- دريد لحام (عبدالودود) الذي عرفه الخلق كلهم من يوم عرضه على شاشات التلفزيون عام 1987 حيث أقام عبدالودود بيته بين نقطتي الحدود لبلدين عربيين لعدم وجود وثائق سفر لديه أو شيء من مثله، وليَعْرِض وضعاً مأساوياً ساخراً فيما حصل ويحصل في الشام. فهل جاءت مطالبة الوزيرة الكريمة هالأيام بسحب الجنسية وإسقاطها عن مواطنها المعارض السيد-أنور البني بهدف إخراج طبعة حقيقيةٍ مُعَاشة من الفيلم المذكور، ولكن من بطولة هذا المعارض..!!؟

والشئ بالشئ يُذكر، فإنه للإنصاف والتاريخ نقول: إنه قبل عرض الفيلم المشار إليه في السينما، كان قد حصل ماكان فيه حقيقةً على أرض الواقع من 1985 في سينما النظام السوري ولكن مع بعض الاختلافات.

فلقد حملت سلطات الأمن السورية مواطنها السبعيني الدكتور- محمد فايز المط (أستاذٌ عَلَم في كلية الطب ومعروفٌ لكل من درس الطب في جامعة دمشق في نصف القرن الماضي) وهو في (بيجامة) النوم مخفوراً من العاصمة دمشق لترمي به خارج الحدود السورية مع الأردن، وليس معه شيء من وثائق أو مستنداتٍ شخصيةٍ فضلاً عن النقود. ولكن ماحدث مع الدكتور-المط لم يكن كما كان مع (عبدالودود)، حيث قدم نفسه لأمن الحدود بوثائق ومستنداتٍ شفهيةٍ بحتةٍ، يشهد على صحتها وسلامتها المئاتُ من الأطباء الأردنيين من طلابه وتاريخُه المعروف، ليواصل بعدها مشواره إلى عمّان التي أمضى فيها بقية عمره كريماً حراً شهماً عزيزاً أبيّاً، ولتكون وفاته فيها يوماً مشهوداً لجنازةٍ مشهودة من بعض أكبر الجنازات التي شهدتها العاصمة الأردنية رحمه الله.

الطبعة الجديدة من فيلم الحدود التي تريد الوزيرة استصدارها هذه الأيام مغطاة لاشك بطلب وطني سميك صادر عن وزيرة وطنية ثقيلة في حكومة وطنية غير شكل، ليست كحكومة لبنان الشقيق الغير وطنية كما يحلو للنظام السوري أن ينعتها.

تهمة السيد- البني قوله مالايقال، وارتفاع صوته فوق صوت المعركة التي يخوضها النظام منذ يومه الأول للسيطرة على مقاليد الحكم بالقوة العسكرية الباطشة قبل 44 عاماً، مما يتسبب بتوهين نفسية الأمة وتفشيل عزمها في المقاومة والممانعة والصمود والتصدي، وهو ضرر مابعده ضرر للوطن والأمة فضلاً عن السلامة والأمن.

التهمة تعيد إلى الأذهان ماكان في ذروة الحرب الإسرائلية العدوانية الظالمة على لبنان الصيف الماضي، وصواريخ حزب الله مما قبل حيفا ويافا ومابعدهما تتدافع في الأجواء لأكثر من ثلاثين يوماً، كانت أصوات الناس في الداخل الإسرائيلي عاليةً عاليةً، تصرخ منتقدةً أداء قواتها وطبيعة حربها، وتتحرك المظاهرات بمن فيها زوجة أولمرت وابنته بل أكثر من هذا، قام من يقول ويكتب ويتهم رئيس الدولة بأفعال (بتوطّي) الراس وتنكس (العقال) لو كانوا يعقلون. ولكن ماسمعنا من أسكت هؤلاء الناس أو اتهمهم أو اعتقلهم أو طالب بإسقاط الجنسية عنهم. كما تستدعي التهمة أيضاً أمراً أكثر أهميةً من سابقه، ويصعب فهمه. كيف لأمتنا بتاريخها الحافل - من (أمجاد ياعرب أمجاد) إلى (سوريا ياحبيبتي) الحضارة الممتدة إلى آلاف السنين في عمق التاريخ إضافةً إلى ثورة البعث التي مضى عليها 44 عاماً - أن تكون ضعيفة وهشةً (واقفة على لقه أو لمسة) إلى الحد الذي يجعل فرداً فيها إذا ما تكلم منتقداً ومصوّباً ومسدّداً ضعُفتْ نفسها وتفشّلت عزيمتها ، ووهنت قوتها وذهب ريحها..!؟ كلام غير معقول ويجافي المنطق إلا إذا كان المراد تفهيم الناس أن أي كلام عن عتاولة القمع والاستبداد والفساد والنهب هو نيل من هيبة الوطن وكرامة الوطن فهذا أمر آخر، وهو ماعبر عنه السيد- البني نفسه عندما قال: إن طلب الوزيرة سحب جنسيتي موجه لكل من تسول له نفسه من السوريين أن يكون حراً وصاحب قرار ورأي".

تصرفات بعض (الناسات) ولاسيما الوزيرة تبدو أحياناً غير مفهومة فضلاً عن أن تكون مُبَرَّرَة. فالسيد- البني متهم من طرف النظام الذي يحاكمه في محكمة الجنايات، والمحكمة عندها من الأحكام والصلاحيات ماالله به عليم لتواجه فيها هذا المتهم. فلماذا لاتُتْرك القضية للنائب العام والمحكمة طالما أن القضية من الناحية الصورية على الأقل معروضة أمام القضاء، أم أن الكيد العظيم للسيدة الوزيرة لن يَكّنّ ولن يَهْمَد مهما كانت معاناة المتهم في المعتقلات وعائلته أيضاً، ومهما كان حكم المحكمة إلا بسحب الجنسية عن السيد- البني، وتركه( بدون) ليكون عبرةً للمعتبرين وآية للمتوسمين كغيره من عشرات الآلاف من مواطنينا الأكراد الذين حُجبت جنسياتهم عمداً وعن سابق إصرار منذ أكثر من أربعين عاماً في فيلم آخر مختلف. مالكم كيف تحكمون وتُحَاكِمون، وتُحصون وتَعدّون، وتمنعون الجنسيات وتحجبون.!!

بهذه المناسبة نُذَكِّر أن الحكومة السورية نفَّذت حكم الإعدام بالجاسوس إيلي كوهين السوري الأصل عام 1965 وقصته التجسسية معروفة، ومع ذلك لم يتدخل حينها أحد من الوزراء في محاكمته، ولم يطالب أحد منهم بإسقاط الجنسية السورية عنه، ولكن يبدو أنه لم يكن لدينا في حينه وزيرة في سماكة وطنية السيدة- الحاج عارف. ونستدعي أيضاً تصريحاً لمفتي الجمهورية الشيخ أحمد حسون بتاريخ 10 أيلول- سبتمبر 2005 وهو رسالة فيها مافيها حيث قال:

"لا تزال بيوت اليهود في سورية تنتظر عودة اليهود السوريين إلى بلدهم في أي وقت من الأوقات ليكونوا بين أهلهم".

ولكن أن تأتينا وزيرة هالأيام – والعياذ بالله- مطالبةً بإسقاط الجنسية عن قامة نضالية من قامات الوطن معنيةٍ بالدفاع عن حقوق الإنسان في سورية، وكأن سورية ليست بلده ووطنه، وناسها ليسوا صحبه وربعه، وليس له بيتاً ولا أهلاً ينتظر عودته ورجعته، فهو سلوك غير سوي يعبر عن سياسةٍ استحمارية لم يجرؤ عليها أحد حتى الفرنسييون أيام احتلال سوريا.

طلب السيدة الوزيرة بهذه (الفنتكة الجديدة أو الفتوى بتاعها) يمسح - من دون مؤاخذة - كلام سماحة المفتي (بالأستيكه)، ويؤكد بوضوح أن ولاة الأمر في هالوطن من سماكة وطنيتهم عميت أبصارهم وبصائرهم عن وطنية الآخر، فتراهم يتصرفون في الوطن وكأنه ملكية خاصة لهم، أو بعقلية أصحاب المزرعة التي خلفها لهم المرحوم الوالد، فيعطون من يشاؤون، ويمنعون عمن يشاؤون، ويستبيحون وينهبون ويشبّحون كما يشاؤون، ويطالبون بإسقاط الجنسية وحجبها عمن يشاؤون.

أنور البني ..!! لأنك لستَ الفاسدَ ولاالمفسد، ولستَ اللصَ ولا النهّاب، تدافع عن حقك وحق بني وطنك في حياةٍ حرةٍ كريمةٍ بعيدةٍ عن القمع والاستبداد والتشبيح والقرصنة، فأنت مواطننا كابراً عن كابر، ومحبوك كثيرون كثيرون كثيرون. نعم..! هؤلاء هم مواطنونا أنور وأكرم وميشيل وعارف وفاتح والكرام كلهم.... فأين مواطنوهم..!!؟