تبنّي الإخوان المسلمين للنموذج التركي مخرج لمصر ولغيرها

٢٠٠٧-٠٣-٣١

تبنّي الإخوان المسلمين للنموذج التركي مخرج لمصر ولغيرها

محمد علي الأتاسي

جاءت التعديلات الأخيرة التي أدخلها الرئيس حسني مبارك على الدستور المصري، وتمت المصادقة عليها من قبل مجلس الشعب ومن ثم من خلال استفتاء شعبي مشكوك في شرعيته، لتقضي على الآمال المتبقية في إمكان أن تقود النخب المصرية الحاكمة (أو بعض منها على الأقل) عملية التحول الديموقراطي السلمي والتدريجي في مصر، ولتعلن استمرار بقاء أهم وأكبر بلد عربي أسير الحجر الديموقراطي المفروض عليه منذ عشرات السنين، وتالياً إبقاء المنطقة العربية برمتها أسيرة هذه المعادلة المغلقة: الاستبداد أو الفوضى.

إن أخطر ما في هذه التعديلات التي تشمل 34 مادة من الدستور، أنها تعطي رئيس الجمهورية الحق في حل مجلس الشعب وتحظر إنشاء الأحزاب على أساس ديني وتحصر الترشيح إلى انتخابات الرئاسة بالأحزاب الممثلة بالبرلمان، و"تدستر" حالة الطوارئ من خلال قانون للإرهاب يسمح بانتهاك الحريات الفردية ويجيز تقديم المدنيين إلى محاكم عسكرية لا تخضع لسيطرة الجسم القضائي. وأخيراً وليس آخراً، فإن هذه التعديلات تقلص من الإشراف القضائي على انتخابات مجلس الشعب، وهذا الأمر هو الأخطر، كونه يلتف على أهم تطور شهدته الانتخابات النيابية المصرية في دورتيها الأخيرتين في 2000 و2005، وأعني به إشراف القضاء المصري على لجان الانتخاب الرئيسية تطبيقاً للحكم التاريخي الذي صدر في 8 تموز 2000 عن المحكمة الدستورية العليا والذي قضى بضرورة إشراف القضاة على الانتخابات، تطبيقاً لنص المادة 88 من الدستور المصري.

لكن بدلاً من الإبقاء على مبدأ إجراء انتخابات مجلس الشعب على ثلاث مراحل ليتمكن الجسم القضائي، المحدود العدد، من الإشراف على العملية الانتخابية برمتها من خلال زيادة إمكاناته لتشمل الإشراف على لجان الانتخاب الفرعية بالإضافة إلى اللجان الرئيسة، فإن التعديلات الجديدة للمادة 88 من الدستور تنص على إجراء الانتخابات في يوم واحد وزيادة عدد لجان التصويت والفرز بما يجعل رئاسة القضاة للجان الفرعية مستحيلة بسبب نقص عددهم، بحيث يجري الاستعاضة عنهم بموظفين وإداريين تابعين لأجهزة السلطة.

لقد حاول النظام المصري في العام 2005، في أعقاب تعديل المادة 76 من الدستور بشكل يسمح بتعدد المرشحين لرئاسة الجمهورية، أن يروج لجديته في المضي قدماً في عملية الإصلاح السياسي، وافتتح الرئيس المصري ولايته الخامسة بخطاب حاول من خلاله مجاراة الضغوط الداخلية والخارجية ووعد أن تكون فترة حكمه الجديدة حافلة بالتحول الديموقراطي الحقيقي. لكن لم تمضِ فترة وجيزة على هذا الخطاب حتى تبين في أي اتجاه ستتم هذه التغيرات، فرئيس "حزب الغد" أيمن نور الذي خولت له نفسه أن ينافس، ولو شكلياً، مبارك في الانتخابات الرئاسية، يقبع اليوم في السجن، في الوقت الذي يتابع فيه ابن الرئيس السيد جمال مبارك صعوده السريع في مؤسسات الحزب الوطني الحاكم، في حين يزداد التضييق السياسي على أحزاب المعارضة الفاعلة وسجن ناشطيها كما حدث اخيراً جماعة لـ"الإخوان المسلمين" وحركة "كفاية".

إن هذا النكوص المصري عن وعود الإصلاح يأتي في ظل ظروف إقليمية ودولية مواتية ومختلفة جذرياً عن تلك التي تلت أحداث الحادي عشر من ايلول 2001. فمع اكتشاف الإدارة الأميركية أن معظم الانتحاريين المشاركين في هذه الهجمات أتوا من السعودية ومصر، الحليفين الأقرب لها في المنطقة، ساد الاعتقاد لدى البعض أن الولايات المتحدة باتت مستعدة للتضحية بالجمود الأزلي للأنظمة الحليفة لها في المنطقة من أجل الدفع في اتجاه إصلاحات حقيقة تسمح بتنفيس الاحتقان السياسي المزمن ضدها وتجنبها غضب الشعوب العربية والمسلمة وكراهيتها.

وإذا وضعنا جانباً الضغوط الاميركية الخجولة التي لاحت في البداية، فإن هذه الأوهام سرعان ما تبددت مع انكشاف الاستخدام الذرائعي لمقولة نشر الديموقراطية من قبل الإدارة الاميركية من أجل غزو العراق وتبرير احتلالها له، وعجزها عن ممارسة الضغوط الحقيقية على حليفتها إسرائيل ومن ثم رفضها السافر للخيارات الديموقراطية للشعب الفلسطيني.

في ضوء هذه المعطيات، لم تعد النخب الحاكمة في مصر تخشى أن ينالها أي ضغط حقيقي من جانب حليفها الاميركي المتورط حتى النخاع في المستنقع العراقي والخائف من تكرار سيناريو فوز "حماس" في بلدان عربية أخرى. لا بل إن هذه النخب باتت تتجرأ على هذا الحليف في مواجهة الانتقادات المبطنة التي قد يوجهها البعض من المسؤولين الاميركيين، كما حدث أثناء الزيارة الأخيرة لوزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس إلى القاهرة وتعبيرها الخجول عن القلق وخيبة الأمل من التعديلات الدستورية الأخيرة. فرداً على رايس، ما كان من وزير الخارجة المصري أحمد أبو الغيط إلا أن صرح أن "مصر لا يمكن أن تقبل أي تدخل في شؤونها من أي من الأصدقاء" مضيفاً بأن "الشعب المصري فقط هو الذي له الحق في إبداء الرأي بشأن الاستفتاء، وإذا لم تكن مصرياً فشكراً كثيراً لك". والطريف في هذا الأمر أن النخب العربية الحاكمة لا تتجرأ على عصيان رغبات راعيها الاميركي، إلا عندما يتعلق الأمر بالدعوة لإجراء إصلاحات سياسية داخلية، عندها تتبارى هذه النخب في إظهار جرعات زائدة من الشجاعة والغيرة الوطنية في مواجهة الطلبات الاميركية المواربة! لقد جرت العادة لدى تقصي أسباب حالة الضعف العربي المزمن، أن تتم الإشارة إلى خروج مصر من معادلة الأمن القومي العربي جراء توقيعها معاهدة "كمب - ديفيد" وما رافقها من محاولة عزل عربية لم تدم طويلاً، وما نتج عنها من التزامات وشروط وحوافز أميركية وإسرائيلية لا تزال مفاعيلها قائمة إلى يومنا هذا. غير أن ما هو أعمق وأشد خطراً في هذا التحول الكبير، كان خروج مصر، الثقافة والسياسة ومختبر الأفكار، عن دورها كقاطرة للحراك العربي لمصلحة ما بات يعرف بالحقبة النفطية، التي كان من علائمها الأساسية خلال الأربعين سنة الماضية، النزوع الدائم نحو التقليد والمحافظة والاستقرار الكاذب وإبقاء الأمور على حالها، والخوف الغريزي من أي دينامية تغييرية فاعلة في المجتمعات العربية.

إن مصر التي كانت في قلب كل دينامية التغيير السياسي والاجتماعي والثقافي في منطقتنا العربية منذ بداية ما سمي عصر النهضة العربية في أواخر القرن التاسع عشر، هي اليوم في قلب الاستعصاء السياسي الذي يشل منطقتنا العربية ويقصي شعوبها عن الفعل ويجعلها أسيرة النظم الاستبدادية من جهة والأطماع الاستعمارية من جهة ثانية. أما الوجه الآخر لهذه الثنائية فهو نمو تيارات الإسلام السياسي كفعل احتجاجي أخير في وجه هذه المعادلة المجحفة.

لقد ارتكبت جماعة "الأخوان المسلمين" المصرية في الآونة الأخيرة الكثير من الأخطاء الفادحة، مثل تلهي نوابها الثمانين بمعركة الحجاب مع وزير الثقافة المصري بحثاً عن شعبية رخيصة أو انزلاق جسمها الطالبي إلى استعراضات عسكرية فارغة أو رغبة بعض رموزها بالاستئثار بالعمل المعارض من دون بقية أحزاب المعارضة. ومن المؤسف أن هذه الممارسات تمت بدلاً من تركيز الجهود على معركة التحول الديموقراطي ومنع توريث السلطة وطمأنة التيارات السياسية الأخرى لقبول الجماعة الحقيقي بشروط اللعبة الديموقراطية واحترام الرأي الآخر. لكن بالرغم من كل ذلك، فلا شيء آخر غير دمج جماعة "الأخوان المسلمين" في اللعبة السياسية وشرعنة وجودها وتشجيعها على تبني نموذج الإسلام السياسي التركي وتمكينها حتى من المشاركة بالسلطة وفقاً لشروط محددة، يمكنه أن يخرج مصر، ومن خلفها الكثير من البلاد العربية، من ثنائية الاستبداد أو الفوضى

النهار

التدمير الممنهج لدمشق وضواحيها

التدمير الممنهج لدمشق وضواحيها

هيثم المالح

لا أظن أن أياً من المواطنين السوريين والمطلعين من العالم العربي وحتي الغربي يخفي عليه أن دمشق أقدم عاصمة في التاريخ كانت تشكل واحة خضراء في بادية الشام، تحيط بها غوطتان غربية وشرقية، وكانت هذه المدينة تعتبر مصيفاً لأبناء البلاد العربية لما فيها من جمال الطبيعة والمياه العذبة التي تخترقها في مجري بردي الذي تشكل فروعه السبعة جواً خاصاً بهذه المدينة، وكان هذا النهر يزود جميع دور دمشق دون استثناء بالمياه الجارية.

ابتليت هذه المدينة بإدارات فاسدة، كان همها نهب ثرواتها الطبيعية وتدمير بنيتها الأساسية، طمعاً في جميع المال الحرام، الذي كثيراً ما صرف علي موائد القمار، في مونت كارلو وغيرها من المنتجعات الغربية، أو تكديس الأموال في مصارف أجنبية لتكون بمأمن من الطامعين والحاسدين!

ما هو ملفت للنظر أن الأبنية متراكبة، وتعود بنا القهقري إلي الماضي حين كان يوصل إلي الدور القديمة بواسطة أزقة ضيقة، فمن يريد أن يشتري داراً يجد نفسه مضطر لسلوك هذا النوع من الأزقة للوصول إلي داره! وفي الحقيقة إن ما ينطبق علي الهامة، سبق أن طبق علي غوطة دمشق الشرقية، حيث تم تحويل المساحات الخضراء والتربة الزراعية التي عمرها آلاف السنين إلي كتل أسمنتية خارج القانون وخارج نظام العمران للمدن. بعض المحافظين الذين تعاقبوا علي إدارة ريف دمشق لم يكن همهم سوي جمع المال بطرق غير مشروعة مما أدي لتدمير معظم المناطق الخضراء.

مؤخراً ومنذ سنوات تم تنظيم منطقة كفرسوسة والتي كانت تشكل الرئة الوحيدة لدمشق التي اكتظت بالسكان الذين أتوا من خارجها وانتصبت الأبنية العالية المتراكبة بحيث انعدمت المساحات الخضراء في المدينة، في حين كان بالإمكان تنظيم المنطقة علي أسس الدار الواحدة لمساحة خضراء معقولة، بحيث تحتفظ المنطقة بجوها وطبيعتها، إلا أن ما حصل هو عكس ذلك تماماً.

معلوم أن مجاري الأنهار لا يجوز اللعب بها أو الاعتداء عليها، ونهر بردي هو مخصص طبيعياً لإرواء الغوطتين، وحقوق أصحاب المزارع والبساتين بالسقاية من النهر ثابتة ثبوتاً طبيعياً وقانونياً فماذا حصل لبردي؟ لقد تم غرس مضخات في النهر وسوق مائه بأنابيب لتضم إلي مياه نبع الفيجة لإمداد دور دمشق المرخصة والعشوائية بالمياه من أجل الشرب.

هذه الخطوة التي اتخذت تمثل اعتداءً علي الطبيعة، وإفساداً لها، واعتداءً علي حقوق أصحاب البساتين في الغوطتين، هذا أولاً، كما تشكل ثانياً دعوة مفتوحة لسكان سورية لهجر مدنهم وقراهم وللتوجه نحو دمشق لاستيطانها، وهكذا أضحي السكان الأصليون للمدينة وما حولها لا يتمتعون بحقوقهم الكاملة بل وقد اعتدي علي هذه الحقوق.

لا أدري لماذا لا تعمد الدولة إلي تحسين منطقة الجزيرة، والتي هي أغني منطقة في سورية، عن طريق وصل عواصم المحافظات هناك بطرق سريعة جيدة، وإنشاء مرافق كما في دمشق في مركز كل محافظة، ثم تشجيع إنشاء معامل حلج القطن وغزله، والصناعات التحويلية الزراعية بصورة تشجع علي الهجرة المعاكسة، فبدل أن يعمد المواطن للقدوم من الجزيرة إلي دمشق واستيطانها تتم عملية عكسية بحيث يذهب المتمولون إلي هناك ويؤسسون المنشآت والمعامل ليجد العمال والفلاحون هناك عملاً لهم وتفتح أمامهم ساحة للعمل، ويثبتون في قراهم ومناطقهم، وحتي الذين يتخرجون من الجامعة أطباء ومهندسين وغيرهم يجدون فرص العمل في المشافي التي يجب أن تنشأ هناك والمشاريع الأخري، وبالتالي يخف الضغط علي العاصمة ويعود أهل المناطق البعيدة عن دمشق إليها، وتعود الحيوية والنشاط إلي تلك المناطق ويجري أحياؤها بصورة صحيحة!

كما يقال الآن يوجد في دمشق ما يعادل 35% من سكان سورية أليس هذا تدميراً للمدن وللريف معاً؟

مقابل الفساد الذي أشرت إليه أنفاً، أحد أصحاب الدكاكين في المهاجرين الذي يستعمل دكانه مطعماً صغيراً ويقع في خورشيد جانب مستوصف غرفة التجارة، أقدم علي تبديل السيراميك الذي يغطي جدران محله إلي نوع جديد جيد وعلي حسابه الخاص، فثارت ثائرة رئيس بلدية المهاجرين وأرسل عماله وآلياته واقتحم الدكان في غيببة صاحبها، وكسر العمال الغلق ونزعوه من محله، كما كسروا سيراميك الجدران الذي كسي به صاحب المحل جدران محله، وكذلك تكسير الرخام وكل شيء ثم نزع الغلق وترك المحل عارياً للصوص.

كيف لنا أن نوفق هذه الواقعة بما يجري علي مستوي المدينة والريف من انتهاك فاضح لأنظمة البناء يقوم بها متنفذون ومسؤولون كبار لا يستطيع أي شخص اعتراضهم، وبصورة متناسقة مع الفساد والرشوة وإفساد البيئة وتدميرها دون عائق أو حدود! رضي الله عن الخليفة العادل عمر بن الخطاب الذي رفض توزيع أراضي الفتح في مناطق الشام وسواد العراق علي الجيش الفاتح حيث قال للصحابة يومئذ ماذا ستبقون للأجيال القادمة ؟

تنتشر اليوم جمعيات ومؤسسات الأعمار لتشييد مساحات كبيرة من الأرض حول دمشق أبنية سكنية مما سوف يضطرها لاستنزاف المياه الجوفية بقصد إيصالها للدور وهو ما يؤدي مستقبلاً لتصحر هذه المناطق، باعتبار أن نبعي بردي والفيجة قد جري استهلاكهما جميعاً في الوقت الحاضر بقصد إمداد دور السكن، ولا توجد في منطقة دمشق أنهار أخري، فكيف يمكن تزويد دور السكن بالمياه سوي استنزاف المياه الجوفية؟ فهل هناك من يستمع لهذا النداء ويعيد دراسة المشكلات السكنية في دمشق وحولها؟

إنني أضع هذه الأمور أمام المسؤولين وأمام وزارة البيئة وأمام جمعية أصدقاء دمشق وأمام الدمشقيين الأصلاء كي يدافعوا عن مدينتهم من الدمار، فلرب مبلغ أوعي من سامع.

القدس العربي

31/03/2007

ماذا يريد العم سام؟

علي العبد الله*

خاص – صفحات سورية –

لقد كانت لافتة الحركة السريعة والواسعة التي قامت بها وزير الخارجية الأميركية د. رايس في المنطقة خلال الأسابيع القليلة الماضية :الدول التي زارتها والأشخاص الذين التقتهم والاجتماعات التي عقدتها .ناهيك عن التصريحات والمواقف التي أطلقتها.

ما هدف الإدارة الأميركية من وراء ذلك؟.

قامت السيدة رايس بأربع جولات في منطقة الشرق الأوسط خلال أربعة أشهر وقد اجتمعت إلى معظم قادة المنطقة ووزراء خارجيتها.وقد اجتمعت خلال زيارتها الحالية إلى وزراء خارجية الرباعية العربية ( مصر السعودية الأردن والإمارات العربية المتحدة) في أسوان (24/3) - قيل أنها ستجتمع إلى رؤساء الأجهزة الأمنية في هذه الدول كذلك – وناقشت معهم الموقف السياسي الراهن وجدول أعمال القمة العربية والتوجهات المحتملة التي يمكن أن تتبناها القمة العربية في الملفات الساخنة ( العراق لبنان فلسطين السودان الصومال والملف النووي الإيراني ).

ولقد كان واضحا وبارزا هدف الإدارة الأميركية الذي عكسته السيدة رايس في تصريحاتها ومواقفها : تكريس انقسام سياسي بين الدول العربية بين دول معتدلة ودول متشددة.حشد الدول المعتدلة لمواجهة الدول المتشددة،ولمواجهة إيران أيضا،وتحريك عملية السلام العربي الإسرائيلي باعتبارها الجزرة التي ستحصل عليها الدول العربية المعتدلة والوسيلة التي ستفتح الطريق لقيام تحالف المعتدلين في الشرق الأوسط (الدول العربية وإسرائيل).

تسعى الإدارة الأميركية إلى تشكيل المشهد السياسي العربي قبيل القمة العربية،التي ستعقد في الرياض يومي 28 و29 الجاري،وتكييف القرارات العربية التي ستصدر عنها بما يجعلها منسجمة مع المصالح الأميركية وتوجهاتها في العالمين العربي والإسلامي ويضعها في خدمة الإستراتيجية الأميركية الجديدة .إذ المطلوب من الدول العربية تبني خط متشدد ضد إيران والتصدي لها في العراق وتنفيذ قراري مجلس الأمن1737و 1747 بحيث تشدد العزلة عليها ،ومساعدة الولايات المتحدة في تهدئة الأوضاع في العراق بما يؤدي إلى تقليل الخسائر الأميركية وعدم الاعتراض على الممارسات الأميركية في العراق أو انتقادها ،والمشاركة الفعالة في محاربة الإرهاب من جهة ومن جهة ثانية تليين المواقف من إسرائيل بما يتيح تحقيق سلام بين إسرائيل والفلسطينيين.

لكن الإدارة الأميركية التي تسعى لكسب الوقت عبر إدارة الأزمة لم تطالب إسرائيل بإعطاء الفلسطينيين حقوقهم المشروعة بل طالبت الدول العربية بتقديم محفزات لإسرائيل بالتخلي عن شرطي حق العودة والعودة إلى حدود 1967 بتعديل مبادرة السلام العربية التي أقرتها القمة العربية في بيروت عام 2002 بإعادتها إلى نسختها السعودية،التي لم تؤكد على حق العودة،أو عبر مزاوجة المبادرة العربية وخطة خارطة الطريق وشروط الرباعية الدولية،وإقامة علاقات سياسية وتجارية محدودة مع إسرائيل دون انتظار تحقيق تسوية فلسطينية إسرائيلية،وهو ما طالبت به وزير خارجية إسرائيل تسيبي ليفني في كلمتها في مؤتمر الإيباك في واشنطن منذ أيام ،يمكن التمهيد لهذه العلاقات بعقد لقاء موسع يجمع الرباعيتين الدولية والعربية وإسرائيل. بحيث يسمح للرئيس الأميركي بالإدعاء أن خطته تحقق تقدما في العراق وفلسطين.

غير أن وزراء خارجية الرباعية العربية لم يستطيعوا مجارات السيدة رايس في تصوراتها وتحمل تبعات التفريط بالحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني،وهذا ما أكده قرار وزراء الخارجية العرب في الرياض والذي رفض تعديل المبادرة العربية،أو تسويق الممارسات الأميركية في العراق بعد أن انزلق الوضع بسبب هذه الممارسات إلى حرب مذهبية سنية شيعية ،امتد لهيبها إلى دول الجوار،مع تزايد احتمال الانزلاق إلى حرب أهلية شاملة،ناهيك عن نهب الثروات العراقية والبترول بخاصة في ضوء قانون البترول الجديد في العراق،الذي وضعته الحكومة العراقية،وفق ما قاله خبير البترول انطونيو جوهاز،تحت ضغط أميركي،والذي سيتم عرضه على البرلمان خلال هذا الشهر،والذي سيؤدي - إذا أجيز- إلى تحويل صناعة البترول العراقية من شركة مؤممة إلى صناعة تجارية ،بحيث يكون" من حق شركة البترول الوطنية العراقية السيطرة على ‏17‏ حقلا فقط من حقول البترول المعروفة في العراق وعددها‏80‏ حقلا‏،‏ وترك ثلثي الحقول المعروفة، بالإضافة إلى ما لم يتم اكتشافه بعد من الحقول،للسيطرة الخارجية‏،‏ وهذا سيتيح للشركات الأجنبية التمتع بعقود المشاركة في الإنتاج لفترة تتراوح بين‏20‏ و‏35‏ عاما".

وهذه سابقة استفزت الدول العربية المصدرة للبترول لأنها تمس مصالحها بشكل مباشر- كانت مجموعة سياسة تنمية الطاقة الوطنية في الولايات المتحدة‏، والتي عرفت بمجموعة العمل التابعة لديك تشيني نائب الرئيس الأميركي وتضم المسئولين التنفيذيين في أكبر شركات الطاقة الأميركية قد أصدرت في مارس‏2001‏ توصيات بأن تدعم حكومة الولايات المتحدة مبادرات من جانب دول الشرق الأوسط لفتح مجالات في قطاعها البترولي أمام الاستثمارات الأجنبية- بإعادة بترولها إلى سيطرة الشركات الأجنبية الكبرى،هي شركات أميركية بالأساس، وتفقدها موارد مالية كبيرة خاصة مع الارتفاع الحالي لأسعار البترول.

تحتاج الدول العربية كي تحافظ على مصالحها وتحمي أمنها الوطني إلى أكثر من عدم مجارات السياسة الأميركية،وإلى تبني سياسات تنطلق من أولوية وطنية وعربية وإقليمية،وصياغة خطة أمنية تحفظ الأمن الوطني والعربي في ظل تفاهم عربي وإقليمي ونبذ سياسة المحاور والأحلاف وإعطاء الدور الأكبر في حل مشكلات الإقليم للأمم المتحدة.

*كاتب سوري.

سوريا :الثمار المرة للسياسات الليبرالية

سوريا :الثمار المرة للسياسات الليبرالية

غياث نعيسة

خاص – صفحات سورية -

"الذكرى الباهتة لا قوة لها"

هيغل

لم يكد ينقضي عام 2006 حتى أعلنت الحكومة السورية بشارة أن العام الجديد سيشهد افتتاح "بورصة دمشق" للأوراق والأسهم المالية. و بخلاف توقع الحكومة فانه بدلا من أن تعم جماهير بلادنا مشاعر البهجة والفرح لهدا الخبر المتوج لسياسات ليبرالية جديدة تطبقها الحكومة السورية بتسارع مند اكثر من خمس سنوات ، فقد أصابت شرائح المجتمع السوري الواسعة و خاصة في بداية عام 2007 حالة ذعر وهلع من الزيادات الهائلة في الأسعار للمنتجات الأساسية لمعيشة الناس بعد أن رفعت الحكومة، بسياساتها الليبرالية، الدعم عنها.

وفجأة تناثرت مقولة "اقتصاد السوق الاجتماعي" ، وهو اللباس الأيديولوجي ، الذي تغطي به الحكومة السورية سياساتها الليبرالية الجديدة "اللاجتماعية" وفق التزامها الدقيق بوصفات المؤسسات المالية الدولية ، ولا سيما البنك الدولي ، لصالح حقيقة اقتصاد السوق الرأسمالي الذي يعني غناء اقلية على حساب شقاء وعمل الاغلبية.

وقدمت الجهات الحكومية تفسيرات عديدة لهذا "الخلل"- كما تسمى الازمة الطاحنة بسسبب غلاء الاسعار وتدهور الاجور وارتفاع البطالة- تراوح ما بين القول بان اقتصاد السوق يقوم على مبدأ أساسي هو"العرض والطلب" وهي لذلك لا تتدخل . أو كما قال وزير الاقتصاد ،دون خجل، أن أسباب الأزمة هو "تحسن دخل المواطنين مما أدى إلى زيادة الطلب". وبين مسعى إلى طرح قضية ما يزيد عن مليون لاجئ عراقي في سوريا باعتبارهم "كبش فداء" و مصدر هدا "الخلل"، مما يعني توجيه الأنظار بعيدا عن الأسباب العميقة والحقيقية لهدا التدهور في مستوى الحياة لغالبية السكان وحالة التمايز الاجتماعي والطبقي الحادين التي يعاني منهما المجتمع السوري بسبب السياسات الاقتصادية والاجتماعية الليبرالية الجديدة التي تطبقها الحكومة السورية وهي مطلقة اليدين ، فالاحتجاجات الاجتماعية ما تزال يافعة والنقابات ما تزال تحت السيطرة الحكومية .

ورغم دلك فقد لاحت مند اكثر من عامين تباشير نضالات جماهيرية ،ما تزال جنينية وعفوية، من احتجاجات وإضرابات عمالية وغيرها ، لم تسترعي اهتمام يذكر ولا حتى من القوى المعارضة. كان آخرها اضرابان من اجل الأجور في الشركة العامة للبناء والتعمير في دمشق شارك فيهما المئات من العمال في شهر أيار 2006 مع صدامات مع قوى الأمن. سبق هذه الإضرابات إضراب سائقي التاكسي في حلب ، ومظاهرات في أحد المشافي وعدد من المصانع في عدة مناطق من سوريا .. أو المواجهة العنيفة في شهر ت1 \أكتوبر 2006 بين سكان أحد الأحياء في حمص مع قوى الأمن ضد محاولة هدم عدد من المنازل لصالح بعض المقاولين ...الخ.

والحال فان مسؤول السياسات الليبرالية الجديدة في الحكومة عبد الله الدر دري كان اكثر صراحة وصفاقة من غيره من المسؤولين عندما صرح لصحيفة السفير بان "الحكومة اختارت اتخاذ القرار غير الشعبي .. حتى وان تسبب بآلام اجتماعية". مضيفا ، بما لا يدع مجالا للشك لدى من لا يزال يعتقد بأن بلادنا ما تزال بعيدة عن العولمة الرأسمالية وتأثيراتها ، بان " الدولة السورية حسمت أمرها ، واتبعت خط الاقتصاد الحر ، بصيغة اقتصاد السوق الاجتماعي".

لم يبق بعد اكثر من 44 عاما من استلام حزب البعث للسلطة من خطابه عن "الاشتراكية" و "العدالة" ووو. سوى ذكرى شاحبة لم تعد قادرة على اقناع أحد.

فالحقيقة أن شكل ما من رأسمالية الدولة التي أسستها سلطته، إن كانت قد أضعفت في البدء أقسام من البرجوازية السورية إلا أنها استطاعت- تحت جناحها وبرعايتها-أن تعيد تكوين برجوازية سورية جديدة – قديمة أقوى بما لايقارن من تلك القديمة. لم يكن النظام السوري ، منذ استلام حزب البعث للسلطة في اذار-مارس 1963 ، اشتراكيا ولا ليوم واحد.

الطبقة السائدة

شهدت السبعينات نشوء نخبة جديدة هجينة – بفضل اقترابها من او اندماجها في السلطة ، ومن خلال اليتي الفساد ونهب القطاع العام- تشمل ضباطا من اصول متنوعة وكبار الموظفين ومديرين في القطاع العام وملاكي اراضي متوسطين ازدهروا من جديد ، اضافة الى الى مجموعة جديدة من رجال الأعمال والمضاربين والوسطاء .. لتتكون منها الأقسام المتعددة من البرجوازية ، والتي وصفها الباحث الألماني فولكر برتز وصنفها بأنها تتكون من " الطبقة البرجوازية القديمة وصناعيين جدد وبرجوازية الدولة والطبقة الجديدة". وانه ساد بين أطراف هذه البرجوازية الصاعدة المتعددة وطرفها الأقوى أي "برجوازية الدولة" نوع من العقد فيما بينها يقوم علىمبدأ "ابتعدوا عن السياسة واتركوها لاهلها ، في المقابل فان السلطة توفر لكم الاستقرار الضروري لاغتنائكم" (غسان سلامة).

ما حصل في الثمانينات والتسعينات هو سيناريو مشابه لما حصل في بلدان أخرى كمصر ، بمعنى ان هذين العقدين شهدا عملية اندماج البيروقراطية البرجوازية مع الطبقة البرجوازية الجديدة بل وحتى مع البرجوازية القديمة التي وافقت على شروط اللعبة . ليحصل معها –منذ عام 2000-ما يمكن أن نسميه نوع من "تطبيع الشريحة الحاكمة الممسكة بزمام السلطة".

و اذا كان صحيحا أن القطاع الخاص النامي في ظل الدولة له مصلحة في تحسين هامش مناورته الاقتصادية ، لكنه لا يرى ضروريا من اجل ذلك القيام بعمل سياسي مفتوح ، بينما هو يستطيع ان يحصل على ما يريد بأقل تكلفة.

ولعل لسان حال غالبية برجوازيتنا السائدة اليوم هو ما قاله أحد منهم " ما نريده هو الحرية الاقتصادية والاستقرار السياسي . بالنسبة لنا فان الديمقراطية تعني انقلابا عسكريا كل سنتين"(نقلا عن جوزيف باهوت"المقاولون في سوريا"). ويمكن القول ان" أحزاب "البرجوازية السورية اليوم انما تتجسد في غرف التجارة والصناعة فحسب، وليس لها وجود سياسي مستقل عن الدولة .

شهد نمو البرجوازية السورية ايضا ارتفاع عدد المنشآت الصناعية الخاصة من 31 ألف وحدة إلى 36 ألف وحدة بين عامي 90- 95 . وبات عدد العاملون في القطاع الخاص الصناعي يشكلون ثلاث أرباع اليد العاملة الصناعية البالغة 1،1 مليون عمل يعملون في القطاع الخاص والمشترك. مثلما يشير مكتب الإحصاء المركزي أن "عدد العاملين هو بحدود 4 مليون و700 ألف عامل في القطاعات المختلفة ، وحوالي 60 في المئة من العاملين باجر يعملون لدى الدولة".

بيد أن متوسط الأجر هو اقل من خمسة آلاف ليرة شهريا، مما يجعل العمال في حالة عوز دائمة.

أن نمو البرجوازية والسياسات الليبرالية الجديدة التي تطبقها الحكومة السورية له في المقابل ثمن اجتماعي قاسي جداَ وهو "ان نصف السوريين صاروا تحت خط الفقر ... ونسبة البطالة وصلت إلى عشرين بالمئة و انضمام اكثر من ربع مليون شخص سنويا إلى قوة العمل التي لا توفر الدولة والقطاع الخاص فرص العمل سوى لثلثهم في احسن الاحوال" (العرب اليوم، 6 ك2 2007 ) . ويقدر وزير النفط السابق مطانيوس حبيب ان معدلات البطالة وصلت الى "اكثر من 3 مليون عاطل عن العمل" وان" الفساد كلف البلد عام 2000 نحو 50 الف دولار يوميا " وان سوريا تشهد ظهور متواصل " لرجال اعمال جدد لم تكن وجوههم مألوفة في السابق".

النضالات الجماهيرية القادمة

لا يمكن تصور أن يستمر هدا الازدهار المريع للبرجوازية السورية في ظل حماية دولتها، والتي لا هم لها سوى الربح والاغتناء على حساب قوت وعمل الغالبية الساحقة من السكان ، التي لا تفتقر فقط إلى حد أدنى من مستوى المعيشة بل تفتقر إلى الحرية أيضا.

لا يمكن تصور أن القوى العاملة التي تشكل نحو 28 بالمئة من السكان(بادنى الاجور وبلا ضمانات اجتماعية) اضافة الىالعاطلين عن العمل والمهمشين من سكان المدن والريف والشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى ، ستبقى خاضعة الى نهب وقهر متواصلين دون ان تنهض الى ساحة الفعل لطرح مطالبها.

هدا الحراك الاجتماعي القادم تتجلى بشائره الأولى و يستدعي من اليسار الاشتراكي ومناهضي العولمة الرأسمالية العمل من اجله ودعمه والانخراط فيه وحركة مناهضة العولمة الرأسمالية تراهن عليه .

بينما يعاني التيار الليبرالي السائد لدى النخب المعارضة من معضلة انه يطرح برنامج ليبرالي "برجوازي" كلاسيكي تخلت البرجوازية السورية وهي الطبقة السائدة بلا جدل عن شقه السياسي منذ زمن طويل ، وبذلك يصبح توجه ليبراليينا الى الشرائح الاخرى ، التي هي ضحية السياسات الراسمالية، من اجل حمل برنامجهم "الليبرالي" مفارقة مستعصية تطلبت منهم ،دون نجاح يذكر، القيام بإضافة جرعات من خطاب شعبوي لتبريره ، لكنه برنامج يبقى بلا حامل اجتماعي له.

تعلمنا التجارب أن النضالات الجماهيرية من اجل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحدها هي القادرة على مواجهة الرأسماليين ودولتهم ، وعلى مواجهة الإمبريالية ومشاريع الهيمنة والتفكيك الطائفي في منطقتنا. وعلى فتح افاق مستقبل اكثر انسانية.

وبوابة هذا الافق تتطلب العمل الجاد والشاق والصبور في أن معاَ من اجل "الخبز والحرية".

اذار – مارس 2007

خيط من الشعر يربط دمشق بالعالم

خيط من الشعر يربط دمشق بالعالم

دمشق ـــ خليل صويلح

قصائد غير مكتملة في متاهات الغواية والضوء

امتدّ خيط الشعر بين دمشق والعالم، مثل خيط أريان الذي أنقذ تيزيه من المتاهة في الميثولوجيا الإغريقيّة. خمسة شعراء التقوا في “ورشة عالميّة” نجمها أدونيس، بحثاً عن مفاتن المدينة السريّة بين باب توما وضريح الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي

إن الذات لا تولد في مسقط رأسها وحده، وإنما تولد في الآخر، كأن الآخر طريق للإنسان لكي يصل إلى نفسه”. بهذه العبارة اختزل أدونيس، مساء أول من أمس، جوهر فكرة “ورشة الشعر العالمي” التي استضافت دورتها الأولى “دارة الفنون” في دمشق. وأعلن صاحب “هذا هو اسمي” الذي تقام الورشة على شرفه: “بين دمشق وبيني مسافة هي مسافة الهجر، وفقاً لتعبير الشاعر أبي تمام”. وأضاف: “إن كل مدينة تشبه وردة، عطرها الثقافة والإبداع، ومن دون هذا العطر تتحول المدينة إلى وردة اصطناعية”.

الجمهور الذي غصّت به خشبة “مسرح الحمراء”، أتى متعطّشاً لسماع قصائد جديدة للشاعر الكبير. لكنّ أدونيس اكتفى بقراءة مقطع قصير من شعره، أراده حواراً بين الطفولة والشيخوخة: “ذلك الطفل الذي كنت، أتاني مرة وجهاً غريباً. لم يقل شيئاً. مشينا وكلانا يرمق الآخر في صمت. خطانا نهر يجري غريباً، جمعتنا باسم هذا الورق الضارب في الريح الأصول، وافترقنا غابة تكتبها الأرض وترميها الفصول”.

شعراء الورشة التقوا في دمشق، قبل أسبوع من هذه الأمسية، ليعيشوا تجربةً مثيرةً في فضاء المدينة القديمة وحواريها: يواكيم سارتوريوس من ألمانيا، وأنجيلا غارسيا من كولومبيا، ولاس سوديربرغ من السويد، وجريس سماوي من الأردن، وهالا محمد من سوريا.هالة محمدهالة محمد

أن تكتب قصيدة عن مدينة تتعرف إليها لأول مرة بعد أيام قليلة من وجودك فيها، يبدو سؤالاً شعرياً صعباً وربما قسرياً. فالتجوال في أرجاء مدينة قديمة مثل دمشق، يحتاج إلى بوصلة دقيقة كي يكتشف المرء أين تكمن بذرة القصيدة... وأية ريح ستهب على الشاعر حتّى يلتقط رنين الكلمات. هل ستأتي العبارة من جهة سور قلعة دمشق؟ أم من مئذنة الجامع الأموي؟ أم في زقاق ضيق يكاد لا يتسع لمرور شخصين في حي باب توما؟ أم لعلها تختبئ قرب ضريح الشيخ محيي الدين بن عربي عند كتف جبل قاسيون؟ وربما في معلولا، هناك بين الصخور الآرامية القديمة.

لا شك في أنّها قصيدة عصيّة” يعلّق الشاعر السويدي لاس سوديربرغ (1930). ويضيف “ما كتبته في هذه الأيام القصيرة عن دمشق هو انطباعات خاطفة تشبه الضوء السري المنبعث من وراء أبواب الخشب العتيقة، والجدران الرمادية وشقوق الصخر في معلولا. هكذا ستبقى قصيدتي غير مكتملة. إذ أجد نفسي مثل عابر سبيل في بلاد أزورها للمرة الأولى”. قرأ صاحب “حجارة أورشليم” مقاطع من قصيدته بمرافقة عازف القانون توفيق ميرخان، وعازف التشيلو موفق الذهبي: “ها أنا أمي مرة أخرى مثل الشعراء العميان القدامى، أسمع كل ما هو مكتوب. إن المآذن علامات تعجّب، حيث لا يوجد سوى السؤال”. سوديربرغ ظلّ مفتوناً بالأسرار المخبأة في البيوت الدمشقية القديمة، ينصت إلى همهمات اللغة وأحلام العابرين وابتهالاتهم وامتزاج الديانات، حيث “رجال يصلّون إلى قبلة التلفزة” وآخرون يهمسون “أنقذنا من البرابرة”.

أما الشاعر الألماني يواكيم سارتوريوس (1946)، فالأمر بالنسبة إليه مختلف. لقد سبق أن زار دمشق واعتبر زيارتها للمرة الثانية، رحلةً إلى سحر الشرق وشمس الحضارات المتعاقبة”. فدمشق، على حد تعبيره، من المدن القلّة في العالم التي تختزن ثقافات متعددة. ويستدرك “نحن كأوروبيين أهملنا العالم من حولنا وآمل أن تمنحني الأيام القليلة هذه شحنةً جديدةً لكتابة قصائد أخرى غير التي أنجزتها للتو في دمشق. فمن العسير أن تكتب قصيدة لأنه عليك أن تكتب”. في قصائده الثلاث، خاطب الشاعر الألماني دمشق بخضرتها وألوانها الشاحبة وروائح أسواقها القديمة، لينتهي به المطاف عند ضريح ابن عربي: “على طرف المدينة ثمة قبة خضراء، تحتها يرقد ابن عربي في ضريحه وعلى لوح مضيء هائل تظهر أرقام أرجوانية تحدد بدقة مواقيت الصلوات الخمس”.

وفي المرآة وجدت الشاعرة الكولومبية أنجيلا غارسيا (1957)، مفتاحاً لاكتشاف صورتها الأخرى، وهي تطأ دمشق للمرة الأولى، محمّلةً بمخزون من الكتاب المقدس وحكايات “ألف ليلة وليلة”... وإيقاع لغة إسبانية، تعتقد أنها شبيهة باللغة العربية. هكذا، وجدت نفسها في فضاء المدينة، كمن يقتفي آثار أمكنة وبشر التقت بهم في منام ملتبس وغامض، وعليها اليوم أن تفسر هذا المنام، وتفكّك خيوطه المتشابكة، لتقبض على السّر في مرآة ذاتها أولاً ومرآة الآخر. طالما أنّ الشعر هو من يختزل المسافات، ويمزّق الخرائط والحدود بين جغرافيا وأخرى، في امتحان الكتابة الآنية. تقول أنجيلا غارسيا “كتبت خلال إقامتي في دمشق قصيدةً واحدةً، استخدمت فيها المرآة كرمز لانعكاس مشاعري. إنّ هناك خيطاً رفيعاً يجمع البشرية كلها، بعيداً من الاختلاف في الأيديولوجيات والأديان، وهو خيط الشعر”. تقول في قصيدتها “مرآة دمشق”: “استيقظ من نوم هادئ مترددة في تحركاتي.لا أجد ثيابي بين الحقائب. صوتي يكاد لا يسمع. ورغم ذلك، في نفسي فطرة، أقدم من الليل. فلنعترف أنّ ذلك هو العشب الجاهلي الصامت الذي ينبت من الصخر، في منام لا يتوقعه أحد”. وتختتم قصيدتها في لعبة مرايا متبادلة “أما أنت، فإنك هنا بوجهك المغبر. في نظرتك اختصار لكل القرون الماضية. هواؤك المزيّن بنقوش عربية من صيحات السنونو”.

المشاركة العربية في هذه الورشة تمثلت في صوتين هما: الشاعر الأردني جريس سماوي، والشاعرة السورية هالا محمد. بدت مهمة هذين الشاعرين أصعب في تلمّس هواء المدينة. إذ إنّ الكتابة عن مدينة تعرفها جيداً، أو تعيش في شوارعها وبشرها وتاريخها، مهمةٌ عسيرةٌ لالتقاط حالة شعرية في مخاض قسري، وخصوصاً بالنسبة إلى شاعرة سورية لطالما كتبت قصائدها في مسارب أخرى. شاعرة تعمل على اكتشاف الداخل، في رسائل برقية موجعة، تسائل الذات أولاً، فكان عليها هنا أن تستعير نصاً آخر، وعيناً أخرى لاكتشاف المدينة والدخول “في متاهات الغواية والضوء والظل والشبابيك العتيقة”. هكذا وجدت نفسها هالة محمد غريبة في بلادها... “كأنني عشت فيها من قبل”.

الاخبار

أدونيس، سارتوريوس، سويدبرغ، غارسيا، محمد، سماوي في ورشة الشعر إلــه دمشــق ووردتهــا

سارتوريوس: روعة الإلقاء

راشد عيسى

اختتمت مساء أمس الأول الخميس ورشة الشعر التي نظمتها «دارة زرقان للفنون» على شرف الشاعر أدونيس، واستضافت في مقرّ الدار (بيت دمشقي تقليدي في الحارات القديمة) خمسة شعراء تحت عنوان «حوار الحضارات في الشعر، ياسمين الشام». وبالإضافة إلى أدونيس حضر الألماني يواكيم سارتوريوس، ومن السويد لاس سوديربرغ، ومن كولومبيا أنجلا غارسيا، ومن الأردن جريس سماوي، ومن سوريا هالا محمد. فكرة الاستضافة تقتضي العيش في المدينة بما يتيح للمدعوين التعرف إليها عن قرب «ليس فقط على المستوى السياحي بل أيضاً على الصعيد الإنساني، ويتم ذلك من خلال اللقاءات والدعوات والزيارات والتعرف على شخصيات هامة في المجتمع».

وفي الحفل الختامي قال أدونيس: «المدينة، كل مدينة، تشبه وردة، عطرها الثقافة، ثقافة الإبداع بخاصة؛ موسيقى وفنون تشكيلية، أدباً وفكراً وفلسفة. دون هذا العطر تتحول المدينة إلى وردة اصطناعية، فالإبداع هو الذي يجسد هوية الشعب، وهو الذي يفصح عنها الإفصاح الأكمل». وبعد شكره لـ«دار الفنون» ومنظمي الورشة أضاف: «إن الذات لا تولد في مسقط رأسها وحده، وإنما تولد أيضاً في الآخر. وكأن الآخر طريق للإنسان كي يصل إلى نفسه، وكي يحسن معرفتها (...) بين دمشق وبيني مسافة هي مسافة الهجر، وفقاً لتعبير أبي تمام. وهي مسافة كمثل مرآة أتمرأى فيها، حتى ليكاد وجهي أن يحــملها بين أهـدابه». وباسم هذه المسافة، كما قال، قرأ أدونيس قصيدة قصيرة قال إنها صورة لحوار داخل هذه المسافة، أو لحوار بين الطفولة والشيخوخة.

الأمسية الشعرية التي أقيمت في مسرح الحمراء بعد أن حشرت ضمن فعاليات الاحتفال بيوم المسرح العالمي، حملت إرث الحفل المسرحي (بعكس ما هو في الواقع، حيث المسرح يحمل إرث الشعر)، فكانت الدمى الضخمة، البشعة وغير المفهومة، موزعة على جنبات المسرح وسقفه وردهاته. كذلك الستائر المسرحية الحمراء خلف طاولة الشعراء وحولهم. ولكن اللافت هو أن لحضور الشعراء أنفسهم طقس المسرح. قرأ الشعراء قصائدهم بلغاتهم، ثم قرأها زملاؤهم بلغات أخرى. فاكتظت الخشبة بلغات عدة، ألمانية وسويدية وإسبانية وإنكليزية وعربية.

سارتوريوس في إلقائه بدا رائعاً، حتى من دون أن نفهم شيئاً من مفرداته الألمانية، التي ترجمتْها العربية إلى شجرة ليمون، ومآذن، وأصابع مغموسة في أطعمة إلهية. ولقد بدا قوله: «ثمة إله في دمشق، في متحف رحب، في واجهة صغيرة، إله أخضر فاقع... إحدى يديه مرفوعة دائماً بالتحية، والثانية تحمل شيئاً اختفى. على طرف المدينة ثمة قبة خضراء فاقعة، تحتها يرقد ابن عربي في ضريحه، يرقد الصوفي الذي أحس دمشق عبئاً...»، بدا مثل جواب، لسؤال شاعر إسباني يصف مواطنه المعماري أراندا الذي بنى عمارات رائعة في دمشق وعاش ومات فيها، في مقطع يقول: «بأي إله يؤمن أراندا في دمشق؟». لكن عين قصيدة سارتوريوس «هل ثمة شيء آخر يا دمشق؟» لم تنس أن تلاحظ شيئاً آخر غير الآلهة؛ مثل فواكه مجففة في ورق السلوفان المخشخش، والحلاق، والصبية على الزاوية، وواجهة الصائغ الذهبية.

السويدي لاس سوديربرغ بدا، بطوله الفارع وجرسه المعدني الصغير الذي يحمله، والذي أسكت الموسيقى وافتتح به القصيدة، بدا مثل مهرج نبيل، وبدت قصيدته كما لو أنها بين قوسين، جرس البداية وجرس النهاية. قال: «أين هي الأشجار؟ يسأل عابر السبيل، فيجيب الهواء: لقد رافقت الناس إلى داخل البيوت... دمشق تزيد حبي بالخشب العتيق، بالأبواب التي لا تنفتح إلا إلى الداخل، فيركع قلبي على عتبة أبوابها».

جريس سماوي لفته بردى الذي كفّ عن الجريان، فنادى: «يا بردى عد قليلاً كي تمرّ العذارى، عطشى بناتك يا نهر، وابنك عطشان..»، ثم سرعان ما يتخذ الشاعر من بردى ذريعة للذهاب إلى نهره في بانياس (في الجولان)، وإلى حوران، حيث أجداد أمه، وحيث «عائلة القمح والدالية». صورة الكولومبية أنجلا غارسيا كانت على شيء من الذهول وهي تقرأ لدمشق: «كيف تعصرين الماء من الأيام». كانت تحمل ذهول من وصل للتو وهي تقرأ قصيدتها الصعبة، بعكس قصيدة هالا محمد السهلة: «صدّقت دمشق أنني شاعرة حين رأتني مع الشعراء».

ختمت الأمسية بأغنية لمنظم الورشة وصاحب «دارة زرقان للفنون» الفنان بشار زرقان مع هالة أرسلان لقصيدة الحلاج «ما لي جُفيتُ وكنت لا أُجفى». بعد أن رافقت الموسيقى كل الأمسية بعزف لموفق الذهبي على التشيللو، وتوفيق ميرخان على القانون، وجمال السقا على الإيقاع.

(دمشق)

السفير

المسقـّف و الانتحابات (أخطاء لا-مطبعية فادحة)

المسقـّف و الانتحابات (أخطاء لا-مطبعية فادحة)

خالد الاختيار

خاص – صفحات سورية -

في حال لجأنا لتقنية الوثب العالي و قفزنا براغماتيا فوق توصيفات الانتخابات في هذا البلد و التي عادة ما تأخذ أنماطا لغوية (بضم اللام و فتحها) تضادية , تنافرية , من قبيل ( ديموقراطية - لا ديموقراطية , شرعية - لا شرعية , و لاحقا ... "تم - لا تم " ثيلية , "شك - لاشك" لية ) ؛ فكيف عسانا ننجو من شقيقة تناول استعصاءات الهوية و التعريفات المتناحرة ايبستمولوجيا حول ماهية المثقف عموما و المثقف العربي خاصة و السوري على الأخص , ناهيك بنا _ كما الحال هنا _ و نحن نضع الكلمتين كلتاهما معا في هذا السياق التتابعي المنهك.

غير أن العادة قد درجت _ لحسن حظ السيئين منا _ على أن نستمرئ دائما في تناولاتنا الصحفية عملية استحضار هذا المثقف من غياهبه و تيهه الفكري المستفحل ؛ لنستنطقه بما يخص أي شيء و كل شيء , و هنا وحاليا جدا : الشأن الانتخابي المحلي , مع أن الأمر مبرر تماما من حيث أن المعمعة الانتخابية نفسها تتغذى على أمثال هذه الاستحضارات , و بغرض ليس أقل جهوزية من الدراسة المخبرية للعلاقة المتبادلة بينهما (مثقف - انتخابات) إن وجدت , (و دائما على افتراض وجودهما هما أصلا) , مع أن الأجدى بالدراسة ميدانيا هو ذلك الشيء إياه الذي كان الأخ _ من آخ ِ التوجع لا من أخْ الأخوة _ المثقف يفعله بالضبط في الثواني المصيرية التي سبقت هذا السؤال مباشرة , و ذلك الذي ينوي على وجه السرعة أن يقوم به توا بعد (الفراغ) من الإجابة عنه , في حال تسنى له ذلك بالطبع .

و إذا كان "المثقف" يُصرّف أصلا من "الثقافة" كنحت لغوي لا يشك بسلامته, فإن السلامة تستتبع _ و نحن نسأل المثقف عن الانتخابات _ أن نتأكد ثقافيا من جذوره الانتخاباتية هذه المرة , و التي ستسلمه زمام شرعية الحديث في هذه الـ(انتخابات) و عنها , و إلا فأي فائدة ترتجى من إراقة كل هذا الحبر مطبعيا , و البايتات انترنيتيا حول هذا الشأن بالذات ؛ لتوثيق هيولات و استيهامات من قد لا يعدون كونهم كتيبة من ربيبي التلقين و الإملائية و التبصير الإنشائي لـ(تبييض) الفال الأسود .

فمن يعرّج أو يعرُج مثلا على الإرث الانتخابـ(ـو)ي المكرس منذ أربعين حولا ..( .. ولا قوة إلا بالله) لـ"اتحاد الكتاب العرب" بوصفه مؤسسة مطوّبة رسميا على أنها ثقافية , و تضم عرفيا كماً لا بأس به ( أو عليه ) من مثقفي البلد ؛ ماذا تراه هذا الباحث (لا) يجد ؟!!

الملاحظ في الملاحظات , أنه و في أماكن أخرى من العالم _ بعيد الشر عن قلبنا _ يبدو الأمر ببساطة , وكما قد تشرحه لي ابنتي يوما _و لكل من يرغب_ عبارة عن تعاقب دوري لعدد لا بأس به من الجالسين على الكرسي الواحد , في حين أن العرف لدينا هو تعاقب عدد لانهائي من الكراسي على عقب الجالس نفسه . انتهى – موضوعيا .

و بدون أي حاجة لأدنى تثاقف ..........

النظام السوري والتطرف ...أيهما أنتج الأخر؟!(1).

النظام السوري والتطرف ...أيهما أنتج الأخر؟!(1).

د.نصر حسن

خاص – صفحات سورية –

من وجهة نظر سياسية بحته يمكن القول أن التطرف في الموقف السياسي لأي نظام أو حزب أو حركة ينتج حالة من التعصب والإنغلاق حول زيف فكري يتحول تدريجيا ً إلى فوبيا امتلاك صحة الرؤى وأحقية القيادة ويؤدي بالضرورة إلى التخندق في فكر إيديولوجي جامد وفي معظم الحالات يبقى صاحب هذه النظرة أسير هذه الحالة ولايستطيع أن يخرج منها طوعيا ً لأنها تمثل شكل من أشكال التحجر في منظومة فكرية أنتجتها مرحلة محددة وظروف معينة تجاوزتها حركة التطور لعدم قدرتها على ربط المجموع ووتخلفها عن مواكبته ومرافقته لمرحلة أخرى وعليه يمكن القول إن عوامل الفشل والنجاح تكمن بعدا ً أو قربا ً من الواقع المباشر وحركته والتفاعل الصحيح مع معطياته , والتطرف بشكل عام هو متنافر مع النجاح الذي يعتمد أساسا ً على القدرة بالتعامل مع المستجدات والتفاعل مع البرامج المختلفة والأفكار المتنوعة التي بمحصلتها العامة تفرز عوامل النجاح , أي التطرف الذي يعني الرفض ( جبهة الرفض ) والرفض يعني عدم قبول الآخر وهنا نتكلم عن هذا الآخر الذي هو شريك في الوطن وليس آخرا ً آخر ,وهذا هو في أحد أهم وجوهة هي الفردية أي تغييب المشاركة العامة وبالتالي غياب الديموقراطية التي تؤدي بشكل بسيط إلى العزلة والعزلة تعني الإخفاق في التعامل مع العام والمجموع , وفي أحسن حالاتها مراوحة في المكان وجمود في الزمان الذي يزيد الإفتراق مع حركة الأحداث التي تجري بسرعة ولاتنتظر المتطرفين التائهين النائمين في كهوف عصبيات التاريخ .

وفي إعادة النظر إلى مسيرة النظام السوري والكثير من الأنظمة العربية منذ بدايته إلى الآن نرى أنه طغى عليه بشكل كبير صفة التطرف التي دفعته إلى الواجهة حركات وأحزاب وأنظمة حكم عربية في مجملها لاتشذ عن حالة التطرف سواء ً بتعاملها مع الواقع السياسي والإجتماعي المحلي أو الخارجي وانسحبت عليها مقاييسها في تجاوز ماواجهته من تحديات على مستوى الحفاظ على الإستقلال والحرص على السيادة الوطنية وتحرير الأرض أو على مستوى التنمية الإجتماعية والبشرية والإقتصادية أي عجزها من الحفاظ على الدولة الوطنية , وكان وقود قوتها ليس موازين قوى داخلية حقيقية بقدر ماكان السطو واغتصاب وسائل القوة في دولها وهو العسكر لأنها افتقرت للشرعية السياسية والشعبية والدستورية ولاتملك من مقومات القوة الإقتصادية المحركة للواقع الإجتماعي شيء وبالتالي تمسكت بمراكز القوة بيديها وأسنانها وارتهن استمرار وجودها عضويا ً بقدرتها على احتكار هذه القوة الأمر الذي دفعها إلى احتكار السلطة وبالتالي التفرد بالقرار مواكبا ً بشكل مباشر بإلغاء التعددية السياسية ومحاصرة الشعوب في سياساتها, بتعبير آخر بدأت متطرفة عفويا ً وتمرست بالتطرف وأصبحت مع مرور الزمن منهجية أنتجت ثقافة التطرف المغلفة بخطاب إيديولوجي حينا ً ومتناغمة مع ظواهر سياسية وثقافية موضوعية متطرفة هي الأخرى , أي أصبحت منتجة وفيما بعد مسوقة ومصدرة للتطرف بامتياز.

وليس غريبا ً كل هذا الإخفاق في الواقع العربي لأن المرحلة الماضية كانت محكومة بالقوة من أحزاب وقوى سياسية تتميز بنيويا ً بحالة التطرف وتغطيه لفظيا ً بخطاب وطني أجوف حاد ومتطرف هو الآخر تحكمه العلاقة الرعوية مع الشعب والإطاعة العمياء على مبدأ أني الحق والخير كله والآخر هو الباطل والشركله وكمثال حي مباشر وملموس هو حالة النظام السوري وخطابه السياسي سواء ً على مستوى الداخل السوري نفسه حيث الحزب الواحد هو القائد للدولة والمجتمع بقوة القمع والتهميش والتغييب والقتل أحيانا ً أو على مستوى معالجة الأزمات العربية وعلاقاته معها كانت إما محورا ً أي تكبير الحاضنة السياسية للتطرف أو قطيعة وحرب البسوس مع نظام عربي آخر لايتقاطع معه في تطرفه وخطابه الإيديولوجي وفي أحسن الحالات عندما تفرض موازين قوى إقليمية أودولية المهادنة مع هذا النظام العربي أو ذاك كانت تتم على حساب الفائدة المباشرة لتغذية التطرف واستمراره بهذا الشكل أو ذاك .

لكن الغريب هو أن كل هذا الإخفاق والتخلف والإنحطاط والتشويه الثقافي والسياسي والوطني لم يستطع أن يفرز قوى اجتماعية وسياسية وثقافية معتدلة أو مطالبة بالتأسيس لسياسة الإعتدال في الواقع العربي وفي سورية على وجه التحديد لأن النظام السياسي في سورية هو أول بل رمز التطرف والمتطرفين في المنطقة العربية والعالم وبديهي أن نظام يقوم على احتكار الدولة بمعنى أنها وعاء اجتماعي للمجموع قد فككها بل حولها إلى مزرعة لفئة وفي ظل هذا الوضع الشاذ لايمكن أن ينتج النظام الفردي سوى التطرف والكراهية بل والطائفية التي تعتبر هي التطرف الصافي الذي يرفض الآخر كائنا ً من كان , وهذا ما يفسر عصبية النظام السوري وتعميمه ثقافة التطرف على مستوى الشعب والوضع في سورية ومافيه من حكم بالإعدام على هذا الطرف الوطني وحرمان من الحقوق والجنسية لهذا الطرف الوطني أو ذاك باختصار النظام السور ي ألغى الدولة الوطنية وروابطها وفرض محلها التطرف وروابطه وعلاقاته بالقوة وبتهميش الأخر وإن لم يقبل ويشارك في مسيرة التطرف فبالصمت أو بالقتل والسجن والنفي في معظم الأحيان وتعبر عنها بشكل فج وصارخ مقولة " إلى الأبد يا ....أسد " ...

القمة العربية تحرك للخارج وعطالة في الداخل

القمة العربية تحرك للخارج وعطالة في الداخل

غسان المفلح*

خاص – صفحات سورية –

في كل قمة نتمنى دوما كمواطنين عرب وغير عرب نعيش على هذه البقعة من العالم أن تؤخذ همومنا وهواجسنا الحياتية واليومية بعين الاعتبار . ولكن كيف يمكن ذلك والمنطقة مزدحمة بالدم والصراعات المكشوفة والمستترة ? ومع ذلك لا يجد المواطن العربي بديلا عن التمني والرجاء من القمم العربية . من الواضح أن هذه القمة قد أعادت الاعتبار لقضية نحن نراها على غاية من الأهمية وهي العودة لموضوع الصراع العربي الإسرائيلي من بوابة أعلى مؤسسة سياسية عربية ثم العودة إلى إحياء المبادرة العربية من دون تعديل . ثم الحديث القوي لخادم الحرمين الشريفين عن الاحتلال غير المشروع للعراق . والذي أدى الى هذا الخراب في العراق . وتأجيج صراعات كانت موجودة تحت تكلس الاستبداد العراقي . وهنالك من يقول من المحللين السياسيين أن القادة العرب إنما يحاولون أخذ المبادرة من إيران في موضوع الشرق الأوسط . كنا دوما وما زلنا نأمل من القادة العرب أن يبحثوا في جذور الإشكاليات العربية المزمنة . وفي كل دولة على حده . ولكننا منذ أن وعينا على هذه الدنيا والقمم العربية تناقش أوضاعا متفجرة, لم نشهد قمما تناقش أوضاعا قابلة للتفجر في العالم العربي, لم تناقش أوضاعا مأزومة لبعض البلدان العربية ! وقابلة للتشظي والانفجار, فالوضع اللبناني كان واضحا منذ اغتيال الراحل رفيق الحريري أنه يسير نحو الهاوية ولكن لم نجد هذا الاهتمام إلا بعد أن وصل الوضع لشفير الهاوية . والوضع الفلسطيني الداخلي كان منسيا تقريبا قبل أن تحط إيران الرحال فيه ويتحول إلى وضع يشبه حربا أهلية في داخل المدن الفلسطينية .

اسمحوا لنا أن نقول بكل صراحة :لنهتم بالمتفجر ولكن لننظر إلى الأوضاع الأخرى لكي نمنعها وإلى الأبد من الانفجار. لندخل في تأسيس حقيقي لدول عصرية بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى . وهذا أمر مطلوب ومحقق نسبيا في بعض الدول التي تسير بتؤدة نحو دول عصرية كالكويت ودول المغرب العربي وتؤسس لدولة طويلة المدى, وليس لسلطات قابلة للتفجر في كل لحظة, دول تسير بزحزحات لكافة الأشكال القديمة من سيطرة السلطة على الدولة والمجتمع, نحن نوافق أن أميركا ارتكبت خطأ لا نعرف متى يمكن إصلاحه في العراق والمنطقة عموما . ولكن السؤال :

هل فعلا أميركا هي المسؤولة عما كشفت عنه في العراق ?

من المهم رؤية الوضع في حركيته اليومية وفي تفاصيله التي تكرس لكي تنفجر المجتمعات القطرية في حال تهددت سلطها . على الأقل في مشرق العالم العربي .

بالمحصلة نجد أن حراكا مهما قامت به القمة على مستوى الخارج وبقيت عطالتنا على مستوى الداخل في كل دولة على حده . فالقمة أوصلت رسالة للإدارة الأميركية بشأن عدم شرعية احتلالها للعراق . كما أنها حاولت أن تعطي صورة أن قادتنا العرب طلاب سلام مع إسرائيل . وحضور الوزير الإيراني ربما جعل الملف الإيراني أقل حضورا في مشروع البيان الختامي . وهذا بحد ذاته يعتبر حراكا على مستوى الخارج .

نتطلع لقمم عربية تكون أولوياتها هموم مواطنيها أيضا, فالبطالة وانتشار الفقر وغياب الحريات والمؤسسات التي تهيئ الأرضية لقيام مواطن عصري في دولة عصرية بقيت هذه في حالة عطالة مزمنة .

* كاتب سوري ¯ سويسرا

مبادرة قمّة الرياض: مهزلة التانغو براقص واحد!

٢٠٠٧-٠٣-٣٠

مبادرة قمّة الرياض: مهزلة التانغو براقص واحد!

صبحي حديدي

كُتبت هذه السطور صبيحة انعقاد مؤتمر القمة العربية في العاصمة السعودية، الرياض، أي قبل أن تتحوّل إلي حبر علي ورق معظم، إنْ لم يكن كلّ، مشاريع القرارات التي اتفق وتوافق عليها وزراء الخارجية العرب، وقبل أن يتمّ إفراغها من أيّ مضمون عملي وأية أوالية تطبيق ملموسة.

هنالك، مع هذا وذاك، عنصران أساسيان اكتنفا انعقاد القمّة، ولاح أنّ التاريخ يعيد تكرارهما من قبيل السخرية المرّة التي يحدث أحياناً أن تكون ديدن السجلّ التاريخي. العنصر الأوّل هو نفض غبار الزمن عن مبادرة الأمير، الملك اليوم، عبد الله بن عبد العزيز، تماماً كما أطلقها في قمّة بيروت 2002؛ والعنصر الثاني هو الدراما الطريفة التي اعتاد الزعيم الليبي معمّر القذافي علي إخراجها وتمثيلها في توقيت محكم مع اجتماع ملوك وسلاطين وأمراء ورؤساء هذه الأمّة العربية المبتلاة!

ومن الخير أن نبدأ من القذافي، وسلسلة تصريحاته إلي قناة الجزيرة القطرية، حيث أعلن أنّ أجندة قمّة الرياض صُنعت في الولايات المتحدة، وليبيا قررت أن تقاطعها لأن القادة العرب عبّروا عن استهتارهم في القمة السابقة؛ كما جدّد فلسفته المبتكرة حول ضرورة ترحيل الفلسطينيين من ليبيا، ومن أية أرض تواجدوا فيها، ليذهبوا إلي فلسطين (لا يخبرنا العقيد كيف؟ وهل ستستقبلهم سلطات الاحتلال الإسرائيلية بالورود أم بالرياحين!) لكي لا يُباعوا؛ وأعاد التذكير باقتراحه الشهير حول إقامة دولة ثنائية القومية اسمها إسراطين ، تتكوّن من نصف كلمة إسرائيل ونصف كلمة فلسطين (كما نقول نحن، للإنصاف، وليس العقيد الذي يؤمّن أنّ هذا الوليد الخلاسي يمكن أن يتخلّق من ائتلاف إسرائيل/فلسطين!)...

هل غيّرت خمس سنوات (غير عجاف في الواقع، لأنها شهدت مسارعة الولايات المتحدة والغرب إلي تبييض صفحة ليبيا والعقيد شخصياً، بعد التخلّي عن برامج التسلّح والقبول بأحكام قضية لوكربي وسداد التعويضات المالية السخية) من أفكار العقيد القذافي، في ما يخصّ المسائل ذاتها؟ بل هل تبدّلت، تطوّرت أو حتي تراجعت، تلك الأفكار عمّا كانت عليه حالها في قمّة الجزائر 2005، مثلاً؟ وهل يليق بهكذا أصحاب فخامة وجلالة وسيادة إلا هذا العميد العقيد الأطول زمناً في الحكم، والأعلي كعباً في الحكمة؟

ذكّرْ، تحثّ الآية القرآنية، علّ الذكري تنفع العباد، وهنا بعض أفكار القذافي قبيل وخلال تلك القمّة:

ـ رئيس وزراء الدولة العبرية، آنذاك، أرييل شارون ليس ذلك السفّاح العتيق العريق، بل هو عميل عند الفلسطينيين!

ـ والإرهاب إسلامي صرف، ولا إرهاب إلا في بلاد الإسلام، وفي فلسطين والعراق وأفغانستان تحديداً وحصراً...

ـ والديمقراطيات العربية والآسيوية والأفريقية (وبينها مملكة أوغندا، مثلاً ساطعاً!) هي الديمقراطيات الحقّة، مقابل الديمقراطيات الدكتاتورية في الدول الغربية حيث الشعوب كأنها كلاب تنبح ...

ـ ونحن، أصحاب الفخامة والجلالة، تسقط عنّا الواجبات شرعاً (في ما يخصّ الحرّيات العامة واحترام حقوق الإنسان والديمقراطية) ما دام الغرب يعتبرنا متخلّفين...

ـ واندثار العرب وشيك ما لم ينضمّوا إلي تكتّل الفضاء الأفريقي ...

ـ والفلسطينيون، مع رجاء أن لا يزعل خونا محمود عباس ، أغبياء لأنهم لم يقيموا دولة سنة 1948، والإسرائيليون كذلك أغبياء لأنهم لم يضمّوا الضفّة الغربية سنة 1948...

وهذا العميد ، صاحب الاختراقات الكبري أعلاه، هو نفسه الزعيم العقيد الذي وصل ذات يوم إلي العاصمة اليوغوسلافية بلغراد، أيّام جوزيف بروز تيتو، ترافقه طائرة خاصة، غير الطائرة الرئاسية بالطبع، تحمل النياق التي سيشرب من لبنها، والفرس المطهمة التي سيدخل بها قاعة قمّة عدم الإنحياز. وهو الذي طرد آلاف الفلسطينيين من جماهيريته العظمي إلي خيام نصبها في الصحراء، ورفض الإعتراف بدولة فلسطينية لأنها تناقض نظريته في دولة إسراطين ، وأسقط أخيراً كلّ أوراق التوت النووية ، وأهدر من ثروات الشعب الليبي المقهور مئات ملايين الدولارات علي مغامراته ومؤامراته ونظرياته.

غير أنّ الشعوب العربية ينبغي أن تكون مدينة اليوم، كما كانت مدينة في قمّة الجزائر والحقّ يُقال، للعميد العقيد لأنه كشف الكثير من السيئات والسوآت التي سهر إخوته أصحاب الفخامة والجلالة والسيادة علي إخفائها أو تمويهها أو قلبها رأساً علي عقب. لا أحد منهم كان سيقول لنا: متشكرين، مش عاوزين ديمقراطية! أو: ليس عندنا لوردات لنصنع منهم مجلساً، فهاتوا لنا لوردات! ولا أحد كان سيتجاسر علي الحنين إلي استبداد صدّام حسين هكذا: أرأيتم؟ أيّام صدّام لم يكن الزرقاوي قادراً علي دخول العراق! ومَن ذاك الذي كان سيعلن علي رؤوس الأشهاد: ليس هناك أمريكي أو هندي أو أوروبي فجّر طائرة، وهذه الأفعال محصورة في فلسطين والعراق ؟

وأمّا أخطر ما نجح العميد العقيد في هتكه فهو مصطلح تفعيل مبادرة السلام العربية، المعروفة باسم تجاري مسجّل أكثر شهرة هو مبادرة الأمير عبد الله . وكما لا يعرف أحد اليوم علي وجه الدقة (ما خلا وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس، ورئيس وزراء الدولة العبرية إيهود أولمرت، والأمير بندر بن سلطان بنسبة أقلّ، واللواء عمر سليمان بنسبة أقلّ من نظيره السعودي، والشيخ هزاع بن زايد أقلّ من نظيره المصري، ومحمد الذهبي مدير المخابرات الأردنية أقلّ من نظيره الإماراتي...) معني العبارة ـ المفتاح التي ستخيّم علي قمّة الرياض، أي تبنّي المبادرة العربية دون تعديل ، فإننا لم نتمكن حتي الساعة من معرفة المقصود بالمفردة ـ المفتاح التي خيّمت علي قمّة الجزائر، أي تفعيل المبادرة إياها.

ولكنّ علي المرء، في غمرة كلّ هذا الجهل والتجهيل، أن يتذكّر جيداً أصل هذه المبادرة، وكيف اتخذت في الأساس صيغة مقترح بسيط وتبسيطي تكشّف في سياق دردشة (لم تكن بريئة، كما برهنت الأيام) بين الأمير السعودي عبد الله والصحافي الأمريكي الشهير توماس فريدمان، قبل أن تنقلب الدردشة سريعاً إلي مبادرة سلام تهلّل لها الأمم شرقاً وغرباً. لماذا، إذا صدّقنا رواية فريدمان كما نقلها عنه ناحوم برنياع في يديعوت أحرونوت آنذاك، كان مكتب الأمير عبد الله متلهفاً علي نشر مقالة فريدمان، التي تزفّ بشري المبادرة إلي العالم، أكثر بكثير من لهفة الصحافي الأمريكي نفسه؟ ما الذي كانت الرياض تريده حينذاك، وماذا تريد اليوم؟ ما الذي سعي إليه الأمير عبد الله شخصياً، حينذاك واليوم؟

ولأنّ المعطيات لم تتبدّل بين اليوم وآنذاك إلا علي نحو أكثر انحطاطاً في مستوي ومحتوي تبعية الحاكم العربي، وأشدّ كارثية في الوضع العربي الجيو ـ سياسي في فلسطين والعراق ولبنان، فإنّ مفاتيح الإجابة علي الأسئلة السابقة ظلّت سارية المفعول عموماً، أو لم تطرأ عليها تعديلات أخري غير تلك التي تقتضيها متطلبات الحال الطارئة في المشهد الجيو ـ سياسي ذاته، الأمر الذي تشهد عليه مسوّدة البيان الختامي لقمّة الرياض في بنود فلسطين والعراق ولبنان تحديداً. أوّل تلك المفاتيح هو الريبة الغريزية، المبرّرة تماماً، التي تقود إلي القول بأنّ المبادرة كانت موجهة إلي البيت الأبيض أكثر ممّا كانت موجهة إلي أرييل شارون، وأنّ حاجة المملكة العربية السعودية إلي ترميم علاقتها مع الإدارة الأمريكية وتحسين صورتها أمام الرأي العام الأمريكي كانت أشدّ إلحاحاً من رغبة الأمير عبد الله في إطلاق مبادرة سلام لا يمكن أن تحظي بشعبية داخلية، في أوساط مشايخ الوهابية بصفة خاصة.

ولا ريب في أنّ تدهور العلاقات الأمريكية ـ السعودية بعد هزّة 11/9 تحوّل إلي ورقة ضاغطة في التوازنات الداخلية التي تحكم علاقات الأمراء السديريين بالأمير عبد الله، وبات حُسن إدارة هذه الورقة معياراً لآفاق انتقال سلس للخلافة من الملك فهد إلي وليّ العهد. صحيح أنّ هذا الضغط بالذات قد انحسر بعد استتباب أمور الخلافة نسبياً، إلا أنه ما يزال قائماً بدرجة تكفي لاعتباره أحد أفضل السياقات الصالحة لتفسير ما يتغيّر سريعاً من موازين القوي الداخلية في المملكة، من نوع صعود بندر بن سلطان في هرم القرار الأمني السعودي، علي حساب هبوط سعود الفيصل وشقيقه تركي، أو انفراد بندر بالتنسيق السرّي مع الولايات المتحدة (إليوت أبرامز، في المقام الأوّل) بخصوص طرائق مجابهة ما يُسمّي بـ القوس الشيعي .

مفتاح آخر يفيد أنّ الأفكار السعودية كانت تقدّم للإدارة الأمريكية ـ تماماً كما تفعل اليوم، سبحان الله! ـ طوق نجاة من نوع ما، يساعد الصقور مثل الحمائم علي السباحة الآمنة في بحر ظلمات الشرق الأوسط: سنة 2002، كانت واشنطن بحاجة إلي نوع من مضيعة الوقت في المنطقة، أو بالأحري اللعب في الوقت الضائع، قبل إكمال الاستعدادات العسكرية والسياسية لغزو العراق؛ وفي سنة 2007، تظلّ واشنطن بحاجة إلي وقت مثيل، ولكن هذه المرّة من أجل تدبّر استراتيجية المخرج من مستنقع العراق، و... استراتيجية افتتاح فصل الحرب ضدّ إيران! وهل ثمة ما هو أفضل من هذه المبادرة السعودية بغية إلهاء الجميع في تصاريف بنودها (غير القابلة للتطبيق، غير المطروحة أصلاً للتطبيق!)، والتشاور حولها، قبيل دفنها حال لجوء رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت إلي اقتباس عبارة العقيد القذافي: متشكرين، مش عاوزين مبادرة؟

ذلك لأنّ قرارات الأمم المتحدة، و242 بصفة خاصة، لا تشترط حال الغرام التامّ بين الدولة العبرية والدول العربية مقابل الإنسحاب من الأراضي العربية المحتلة عام 1967، ومبدأ الأرض مقابل السلام ، الذي استند إليه مؤتمر مدريد لا ينصّ علي ما تقول به مبادرة عبد الله بن عبد العزيز، أي التطبيع التامّ بين الدولة العبرية والدول العربية كافّة. وفي هذا تكون المملكة قد ذهبت أبعد ممّا ذهبت إليه أيّ مشروعات سلام سابقة، من مبادرة الملك فهد في العام 1981، إلي مفاوضات كامب دافيد بين الفلسطينيين والإسرائيليين برعاية الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون، مروراً بمؤتمر مدريد دون سواه.

في المقابل، إذْ أنّ التانغو يحتاج إلي راقصَين اثنين، لا يلوح البتة أنّ شارون سنة 2002 كان أكثر حماسة لمراقصة المبادرة العربية من خليفته الحالي، المثخن بجراح حرب فاشلة ضدّ لبنان، المتكسرة في جسده نصال الفضائح المالية علي نصال المحاق السياسي المضطرد. فما الذي سيجبر الدولة العبرية علي مقايضة غرام أصحاب السيادة والفخامة والجلالة (والغرام هنا هو الترجمة الأكثر حرارة لبند التطبيع الشامل والكامل الذي تقترحه المبادرة)، بالانسحاب الشامل والكامل إلي حدود 1967 (بما في ذلك القدس، والجولان، و... مزارع شبعا)؟ وأيّ غرام هذا الذي لن يكرّر إلا التجربة الإسرائيلية العاثرة الخاسرة في التطبيع مع مصر والأردن، أي التطبيع مع الأنظمة الحاكمة، والعزلة التامّة عن الشعوب، بل الحرج الدائم مع الأنظمة والمقت الدائم من جانب الشعوب؟

الرقصة/المبادرة هي مزيد من اللعب في الوقت الضائع، ومزيد من ذرّ الرماد في العيون، ومزيد من الضحك علي اللحي، ومزيد من النفخ في قربة مثقوبة... حتي آخر ما تتيحه بلاغة اللغة العربية من مجاز لتفضيح مبادرة لم تبدأ إلا جوفاء زائفة، وليس لها ان تنتهي إلا إلي مستقرّ وحيد لائق بها: مزبلة التاريخ، حيث تُمسخ الوقائع المكرورة إلي مهزلة!

عوالم المعتقلين السياسيين السابقين في سوريا

عوالم المعتقلين السياسيين السابقين في سوريا




ياسين الحاج صالح

خاص – صفحات سورية –

مدخل منهجي

Imageلم يتسن لأحد من السوريين أن يتناول حياة المعتقلين السياسيين السابقين بعد الإفراج عنهم. تبدو هذه الحياة فاقدة للندرة والفرادة التي تميز تجربة السجن مثلا، والتي تجعلها جديرة بأن تروى أو تدرس أو يكتب عنها، أن تتناول بوصفها موضوعا متميزا. الواقع أن السجناء السابقين أنفسهم يتكلمون كثيرا عن اعتقالهم والتحقيق معهم وسجنهم، لكنهم لا يكادون يمنحون اهتماما لحياتهم بعد السجن.

على أن تجربة السجن ذاتها، ورغم تميزها المضمون، لما تنل ما تستحقه من التناول والدرس في سوريا. لا تزال التجربة الخام أكبر بكثير مما قيل فيها وعنها. الشرط السياسي الأمني الضاغط سبب أساسي لذلك. ثمة من كتبوا عن السجن ولم ينشروا خوفا. والأرجح أن هناك الكثير مما هو مكتوب،

تحول دون نشره الشروط السياسية الأمنية نفسها، لكن كذلك الشروط الكتابية: يعتقد سجناء كثيرون أنهم غير مؤهلين للكتابة عن تجاربهم، لأن مقتضيات "الكتابة الصحيحة" لا تعترف بما قد يكتبون!

غير أنه ليس لنقص تغطية تجربة السجن السورية أن يسوغ انعدام الاهتمام بشروط حياة ما بعد السجن، بل لعل الانكباب على هذه الأخيرة يناسب أن يكون مدخلا وبداية مناسبة لتناول السجن والتفكير فيه.

إن وضع المعتقل السابق ما زال، بعد 15 عاما في بعض الحالات، يترك آثاره على المعني، وما زال يفرده عن غيره، وبالخصوص من جهة نوعية تصرف النظام حياله. من المتوقع أن تكون حيازة معتقل سابق لجواز سفر أصعب من غيره، وحصوله على عمل أعسر من غيره، وإكماله للدارسة ما بعد الجامعية أشد تعذرا. ومن البديهي أنه لن يحظى بأي نوع من المساعدة العامة، الصحية أو النفسية أو الاجتماعية، حتى حين يكون في أمسِّ الحاجة إليها، وكثيرا ما يكون. الواقع أن هناك استثناءات دوما. فطبيعة النظام السياسي والقانوني السوري إنما تقوم على الاستثناء، وبالخصوص لمصلحة المال والقرابة، لكن يبقى أن المعتقلين السياسيين السابقين أكثر تعرضا للوجه الأعنف من نظام الاستثناء، وهم اليوم يشكلون مجتمعا افتراضيا يحظى أقل من غيره بفرص الاستفادة من الاستثناءات الإيجابية.

في ظل الصمت على تجربة ما بعد الخروج من السجن (عدا جانبها الحقوقي، كما سنرى) أجد نفسي في وضع غير ملائم. وقد يدفعني ذلك إلى كتابة إسقاطية، أعني أن أكتب عن المعتقلين السابقين كما لو كانوا يشبهوني. ليس لدي حل لهذه المشكلة. فحلها الوحيد يقتضي مقاومة الموضوع لذات الكاتب، أي "اعتراضه" (الموضوع) على ما يقول الكاتب و"احتجاجه" على تمثيله غير "الديمقراطي". وهذا غير متاح، بفعل ندرة المواد التي تتحدث عن الشرط ما بعد السجني. وهذه، فوق ذلك، ندرة غير متكافئة: فالحصول على معلومات عن سجناء يساريين سابقين أيسر من الحصول على المعلومات عن سجناء إسلاميين أو موالين لـ"بعث العراق"، وتوفير معلومات عن معتقلي موجات عقد الثمانينات أيسر لي من توفير معلومات عن معتقلي ما بعد 2000، إن كانوا من مجموعات إسلامية بالخصوص. هذا بسبب كون كاتب هذه السطور منخرط في عالم اليساريين السابقين الذي اعتقلوا في الثمانينات على العموم وأفرج عنهم في التسعينات أو العامين الأولين من القرن الحالي؛ هذا من جهة، ومن جهة أخرى لأن عالم المعتقلين السابقين الإسلاميين أشد حذرا وانكفاء على نفسه. بالنتيجة ستتكلم هذه الورقة عن سجناء يشبهوني بعض الشيء، فكريا و سياسيا أو جيليّاً. وهو ما يعطي صورة مشوهة، فكأننا كبرنا جزءا من لوحة عشر مرات بدلا من رؤية اللوحة كاملة.

علي أن أضيف أني حرمت نفسي من الاستفادة من بعض المواد المكتوبة والمصورة التي أنجزها أو أنجزت عن معتقلين سابقين أضحوا مشاهير، مثل رياض الترك ورياض سيف... وهم، على كل حال، تكلموا إما عن السجن أو عن السياسة خارج السجن. وكلا الأمرين خارج نطاق هذا التناول.

لمحة عن تاريخ الاعتقال السياسي في سوريا

ارتبط الاعتقال السياسي في سوريا المستقلة بأنظمة الحزب الواحد. فأول موجة كبيرة نسبيا من الاعتقال والتعذيب جرت في عهد الوحدة بين سوريا ومصر 1958-1961 برئاسة جمال عبد الناصر، وكان ضحاياها من الشيوعيين أساسا؛ والموجة الثانية وقعت في العهد البعثي بعد شهور أربعة من الانقلاب البعثي الأول في آذار 1963. في هذه الموجة فتك البعثيون بحلفائهم الناصريون وأعدموا العشرات منهم وسجنوا المئات. وفي العهد البعثي الثاني، 1966-1970، اعتقل بعثيون موالون للعهد الأول وناصريون وشيوعيون وغيرهم. وحين استولى الرئيس حافظ الأسد على الحكم في سوريا بانقلاب عسكري عام 1970، دشن عهده بموجة اعتقالات جديدة، طالت رفاقه البعثيين الذين انقلب عليهم. بعد ذلك وأثناءه، كانت تقع اعتقالات، يُحوَّل حصادها إلى محاكم استثنائية مثل محكمة أمن الدولة العليا في دمشق أو محاكم ميدانية، حتى لو لم يكن المعتقلون عسكريين. على أن الاعتقال السياسي لم يمس قضية عامة ووطنية في سورية إلا في مطلع ثمانينات القرن العشرين، حين بلغ عدد المعتقلين لأول مرة في تاريخ البلاد الألوف، وناف على العشرة آلاف، ولأن المعتقلين كانوا من خلفيات سياسية وإيديولوجية متنوعة: إسلاميين، شيوعيين، بعثيين موالين للعراق، ومن عامة المواطنين، ممن شاء حظهم المنكود أن يشي بهم أحد المخبرين الذي تجاوز عددهم في عقد الثمانينات عدد المعتقلين السياسيين أضعافا. كذلك لأن الشيء الروتيني كان تعذيب السجناء وعدم تقديمهم لمحاكمة لوقت طويل. ويعتقد أن ألوفا من معتقلي الإسلاميين قد أعدموا في سجن تدمر الذي كان التعذيب يوميا فيها حتى أواخر تسعينات القرن العشرين. وتتحدث منظمات لحقوق الإنسان عن حوالي 15 ألفا أعدموا هناك، وجلهم من الإسلاميين. ويتعمد أحد مصادري، وقد كان معتقلا في سجن تدمر هو ذاته، الإدلاء بأرقام متحفظة: 15 ألف سجينا إسلاميا، قتل منهم في سجن تدمر 6000. وهو يلح بشدة على أن تقديراته هذه متحفظة جدا.

لكن مصدرا آخر يقول إن عدد من أفرج عنهم حوالي 6 آلاف، وهو رقم مضبوط تقريبا. ويقدر أن عدد من أعدموا لا يقل، تاليا، عن 10 آلاف. وينسب إلى مصدر ثالث، وصف بأنه "مهووس بالأرقام ويتمتع بذاكرة خارقة"، عدد من أعدموا بـ15 ألفا[1].

كان الاعتقال السياسي جزءا أساسيا من حملة إرهابية، قادتها أجهزة أمنية وميليشياوية، هدفت إلى سحق أي تحد لنظام حافظ الأسد الذي قاومه الإسلاميون بالسلاح، واليساريون بالكلام والتعبئة ضده. من عناصر الحملة تلك أيضا أكثر من مجزرة صغيرة أو كبيرة جرت في حلب ومناطقها، ومناطق إدلب، وسجن تدمر (قتل رشّاً في مهاجعهم قرابة 1000 معتقل إسلامي يوم 26 حزيران 1980، إثر محاولة اغتيال فاشلة للرئيس حافظ الأسد)، وذروتها مذبحة مدينة حماة التي يعتقد أن ما بين 10 و30 ألف قتلوا فيها إثر تمرد إسلاميين محليين في شباط 1982. من وجوه الحملة تلك أيضا احتلال كثيف لعناصر أمنية وعسكرية وميليشياوية للشوارع والجامعات وحضورهم البارز في الحياة اليومية للناس وانتشار الوشاية و"كتابة التقارير" والاستدعاءات الأمنية والاعتداء على الناس في الشوارع لترهيبهم وطردهم من المجال العام. نتيجة الحملة تلك كانت استيلاء بالقوة على المجتمع، بعد أن كان انقلاب عام 1970 ضمن لنظام الأسد استيلاء بالقوة على السلطة. وغرزت حملة الإرهاب تلك في جسم النظام عداء عنيفا لكل أشكال الانتظام الاجتماعي المستقل، ولم يعد في سوريا أحزاب سياسية أو جمعيات أو أنشطة ثقافية أو طلابية، عدا الداجن منها. وتدنت نوعية ما هو موجود لغياب المنافسة ودافع تطوير الذات.

في أواخر الثمانينات كان المجتمع السوري قد أنهك تماما. فبفعل حملات اعتقال استنزافية دامت طوال العقد، والاختراق الأمني العميق والعنيف للمجتمع، وأزمة اقتصادية في النصف الثاني من العقد، أخذ المجتمع السوري يبسط أطرافه الأربعة، بعد أن كان تكوّر على نفسه دفاعا لبعض الوقت في مطلع الثمانينات.

كان عقد التسعينات عقدا مريحا للنظام على الصعيد الداخلي. وشهد آخر عام 1991 أول إفراج مهم عن معتقلين إسلاميين وشيوعيين. قالت الجهات الرسمية إن 2865 قد أفرج عنهم، لكن لا سبيل إلى التحقق من صحة هذه المعلومة. فقد دأبت مجموعات حقوق الإنسان التي تكونت في السنوات الأخيرة على التشكيك في صحة الأرقام التي تعلنها السلطات، علما أن هذه لا ترفق أبدا بقوائم اسمية لمن تقرر الإفراج عنهم. وفي ربيع 1992، حول 600 شخص إلى محكمة امن الدولة العليا بدمشق، وكان بينهم كاتب هذه السطور. كان قد انقضى 11 عاما وأربعة أشهر على اعتقالي قبل أن أحال على المحكمة، واتهم بـ"مناهضة أهداف الثورة" (الانقلاب البعثي الأول في 1963) و"الانتساب لجمعية سرية بهدف قلب نظام الحكم". كان المحالون للمحكمة ينتمون إلى تنظيمين شيوعيين، وإلى جناح حزب البعث الموالي للحكم البعثي في العراق، وعدد صغير منهم إلى تنظيم ناصري وتنظيم بعثي حافظ على ولائه للعهد البعثي الثاني 1966-1970. ولم تكن ثمة قاعدة واضحة لإصدار الأحكام، ولا ضمانة بالإفراج عن المعتقلين بعد إنهاء أحكامهم. فقد قضيت عاما إضافيا فوق السنوات الخمسة عشر التي حكمتني بها محكمة أمن الدولة العليا، بل نقلت إلى سجن تدمر الفظيع مع ثلاثين آخرين تراوحت أحكامهم بين 8 و15 عاما. وكان منهم من أتموا، حتى نفينا إلى تدمر، ما بين 6 و14 عاما.

كان النصف الثاني من التسعينات وحتى عام 2005 زمن الإفراج عمن بقي من السجناء، أي عمن لم يمت ولم يفرج عنه عام 1991. على أن الإفراج عن المعتقلين السياسيين لم يعن في أي يوم من الأيام الإفراج عن السياسة. لقد خرج السجناء إلى مجتمع مذعور ومنكفئ على نفسه، إلى حياة سياسية غائبة. وكانت أحزابهم قد أبيدت سياسيا بالكامل، أو حافظت، بمشقة بالغة، على استمرار رمزي طفيف.

عن التحقيق والسجن

يقدم المعتقل إلى التحقيق فور توقيفه. التعذيب روتيني جدا لانتزاع المعلومات منه. ويتفاوت التعذيب حسب التنظيم: الإسلاميون أشد من الشيوعيين؛ وحسب أهمية الشخص المعتقل والمعلومات المهمة التي يفترض أنه يحوزها. على العموم، كان تعذيب الشيوعيين هادفا، يتوقف إذا تم الحصول على المعلومات، أو استطاع المعذَّب إقناع جلاديه بأنه لا يحوز معلومات. فيما هناك عنصر انتقامي قوي في تعذيب الإسلاميين. قتل بعض الشيوعيين تحت التعذيب، لكن الراجح أن قتلهم لم يكن سياسة معتمدة من قبل أجهزة الأمن، فيما كان القتل مألوفا أثناء التحقيق مع الإسلاميين. في الحالين، يتمتع الجلادون ورؤساؤهم بحصانة مطلقة، تمنع عنهم أية مساءلة على ما يقترفونه أثناء التحقيق.

بعد فترة تطول أو تقصر، بين أيام وأسابيع أو شهور، ينتهي التحقيق ويحال المعتقلون على السجن، لكن يمكن لبعضهم أن يبقوا شهورا أو سنوات في فروع الأمن، دون أن يكون هنا أيضا ثمة قاعدة مطردة لتفسير بقائهم.

تتفاوت شروط الحياة في السجون السورية. في سجن حلب المركزي (المسلمية) الذي قضيت فيه احد عشر عاما وأربعة أشهر، كنا، لبعض الوقت، 26 شخصا، شيوعيا، في مهجع مصمم أصلا لسبعة. بعد شهور رُحّل الإسلاميون، وكانوا أكثر من أربعة أضعافنا عددا في جناح السياسيين المشترك بيننا في السجن ذاك، إلى سجن تدمر، فانقسمنا إلى مهجعين مناصفة.

وطوال عامين وخمسة أشهر لم يكن مسموحا لنا بالخروج إلى باحة السجن. بعدها صرنا نتنفس لمدة ساعة أو ساعة ونصف يوميا. لكن الزيارات كانت متاحة أسبوعيا لكل سجين بعد وقت قصير من تحويله إلى السجن، مدتها عشر دقائق، ويفصل بين السجين وزواره شبكان حديديان بينهما مسافة 80 سنتمترا. قطعت الزيارة الأسبوعية لمدة شهر في شباط 1982 أثناء مذبحة حماة، وصارت كل أسبوعين في بداية عام 1985، ثم كل شهر مرة بعده بشهور قليلة، وقطعت لمدة عشرين شهرا بين عامي 1988 و1989. وعادت كل شهر بعدها. في سجن عدرا الذي أحيل إليه معتقلو جهاز الأمن السياسي ممن لم يفرج عنهم آخر عام 1991 من أجل أن يحاكموا أمام محكمة أمن الدولة العليا، كانت الزيارة مرتين في الشهر. لكن رئيس المحكمة فايز النوري قطعها على مجموعتنا، 10 من أعضاء الحزب الشيوعي - المكتب السياسي لمدة ثلاثة أشهر، لأننا، فيما يبدو، كنا طوال الألسنة أثناء إحدى جلسات محاكمتنا.

بعد عام ونصف سمح لنا في سجن حلب المركزي (المسلمية) بإدخال الكتب والمعاجم. ثم توقف الإدخال بعد شهرين لكن لم تسحب الكتب الموجودة بحوزتنا. وقد استفدنا من الفساد ومن المحسوبيات لمضاعفة غلتنا من الكتب، ما يعني بالطبع أننا أسهمنا في شبكة الفساد كلية الإحاطة.

كنا متفاوتي الأعمار والتأهيل العلمي ومستوى الحياة. 5 متزوجون من 26 سجينا. الباقون طلاب جامعيون، واثنان فقط تجاوزا الثلاثين دون زواج. معظمنا من الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى، صغار البرجوازية حسب ماركس، وبيننا خمسة موظفين وعامل واحد وخريج جامعي واحد، والباقون طلبة.

اذكر هذه المعلومات لأنها تعطي فكرة عن كتلة المعتقلين السياسيين السوريين الإجمالية. المعتقلون الإسلاميون لم يحظوا، ولو بزيارة واحدة، خلال 15 عاما وأكثر. بعضهم لم يعلم أهلوهم إن كانوا أحياء أو أموات حتى اليوم، أو حتى لحظة الإفراج عنهم بعد 15 أو عشرين عاما. وهم ينتمون عموما إلى شريحة اجتماعية أعلى قليلا، سن الزواج لديهم أدنى، وتاليا نسبة المتزوجين أعلى. لكن الشريحة الشبابية عالية في أوساطهم أيضا، بل وأعلى من غيرهم. لم يكن ثمة من اعتقلوا أحداثا دون الثامنة عشر إلا في صفوف الإسلاميين (هناك دوما استثناءات). والمقاتلون من أوساطهم كانوا شبابا بالكامل تقريبا.

هذه كلها معلومات تقديرية، مبنية على الملاحظة والتجربة الحية، لأنه لا تتوفر حتى اللحظة دراسات موثقة.

بعد تحويلهم إلى سجن تدمر، أحيل الإسلاميون والبعثيون الموالون للعراق إلى محاكم ميدانية حكمت كثيرين من الإسلاميين بالإعدام، أو بمدد متفاوتة قد تصل إلا الحبس المؤبد. كان المعتقل ينال الحكم بعد جلسة أو اثنتين، بل كان يبلغ الحكم دون أن يحضر أية جلسة أحيانا[2]. لكن لم يكن لأحكام السجن قيمة، لأنه يمكن أن يحكم المرء خمس سنوات، ويقضي عشرا أو حتى عشرين عاما. هذا إن لم يمت في ظروف سجن تدمر الوحشية.

في عام 1988 جلب من تدمر إلى سجن صيدنايا، الذي كان افتتح حديثا وقتها، كل من أتموا أحكامهم. بعضهم كان أنهى حكمه منذ عامين مثل م. ب الذي سنتحدث عنه لاحقا. وسيفرج عنهم عشوائيا بدءا من نهاية عام 1991، أي بعد أن كان بعضهم أنهى حكمه بسنوات. بعض "المحكومين بالبراءة" قضوا 13 أو 14 عاما.

السجناء اليساريون ظلوا موقوفين عرفيا، أي لا يعرفون متى يفرج عنهم، بل لا يعلمون شيئا عن مصيرهم. إن تجريدنا طوال سنين، 11 عاما وأربعة أشهر في حالتي الشخصية وعشرات غيري، من الحق في معرفة المصير، كان يعني عمليا أننا رهائن، مصيرنا تحدده تقلبات أحوال وأذواق مختطفينا الرسميين.

كانت أجهزة الأمن تبلغ الأهالي أن أبناءهم مسؤولون عن بقائهم في الحبس، لأنهم عنيدون أو "يابسو الرؤوس"، ما يعني أنهم يرفضون التعاون مع أجهزة الأمن والانضمام إلى جيش الوشاة الإجباري والتطوعي الذي لغّم المجتمع السوري في الثمانينات، وبدرجة أدنى فيما بعد حتى اليوم. وغالبا ما كان الأهالي، الزوجات بخاصة، يمارسون ضغطا على الأبناء والأزواج للتعاون والخروج من السجن، ما يجعل حياة السجين أحيانا بالغة العسر.

حتى أواسط التسعينات كان المعتقل السياسي يخرج أما بـ"واسطة" قوية جدا، وهذا ينطبق على عدد قليل منهم، أو بعد مساومة قاسية تفرض عليه أن يبدل نفسه، ويتعاون مع أجهزة الأمن، حتى بعد أن يكون قد نال عقابه العادل المفترض. بعد الإحالة إلى محكمة امن الدولة تغير الأمر، لكن بحدود فقط. خرج البعض دون مساومات، لكن بعد تحذير، وأخضع آخرون لمساومة، ومنهم كاتب هذه السطور. بعد عام 2000، لم يعد المعتقلون اليساريون يخضعون لمساومات. أما الإسلاميون والموالون للبعث العراقي فقد كانوا طوال الوقت، وحتى اليوم، يجبرون على توقيع عقود إذعان، تضعهم تحت رحمة أجهزة أمنية لا ترحم.

أخذ الثلج يذوب ببطء شديد عن الحياة السياسية السورية في النصف الثاني من التسعينات، وبالأخص بعد عام 1998 الذي تفاقم فيه مرض حافظ الأسد وشهد الإفراج عن رياض الترك (المعتقل الوحيد الذي لم يقدم إلى محكمة، والذي كان يوصف بأنه سجين لحساب القصر الجمهوري)، وبدرجة أكبر بعد سنة 2000 حين مات الرجل الذي حكم البلاد 30 عاما. هذا يعني أن عددا كبيرا المعتقلين السياسيين السوريين خرجوا من سجونهم إلى مجتمع يحكمه النظام نفسه، وقد جعل منه بالفعل سجنا كبيرا. خرجوا إلى مجتمع خائف و"متحجب"، ولا تزال الأجهزة ذاتها التي اعتقلتهم تحكمه، وحالة الطوارئ ذاتها التي شرعت اعتقالهم تخيم عليه. خرجوا وقد كبر كل فرد في أسرهم 10 سنوات أو 15 أو 20، أو حتى ثلاثين: عماد شيحا وفارس مراد اللذين أفرج عنهما عام 2004. خلال ذلك غاب بعض أفراد الأسرة، أمهات أو آباء، وربما طلقت الزوجة زوجها السجين، أو تركت الحبيبة رجلها السجين (أو العكس في حالات اقل).

شروط ما بعد السجن

هناك عدد من العوامل التي تحدد كيف يعيش المعتقل السابق بعد الإفراج عنه. أولها، كيف عاش السجن، وهو ما يتحدد بدوره بكيفية تفاعله مع التحقيق، وما يواكبه روتينيا من تعذيب. فالسجين الذي "انهار"، يعاني السجن اكثر من سجين "صمد"، ومن قاد المخابرات إلى أحد رفاقه يحمل شعورا بالذنب قد يكون باهظا خلافا لمن لم يفعل. وثانيها، سنه وحالته العائلية ومستوى الدخل المتاح له. الشاب يكون وقْع السجن عليه أقل ممن هو أكبر سنا، والعازب أقل من المتزوج، ومن لا أولاد لديه أقل ممن لديه أولاد، والصحيح الجسم أقل من المريض، ومن يتاح له دخل معقول غير من لا يتوفر له مثل هذا الدخل. وكانت حياة التكافل التي يعيشها السجناء في الغالب تعمل على الحد من تأثير هذا العامل الأخير، بنجاح حقيقي أحيانا.

تتحدد كيفية الحياة في السجن أيضا بنوعية السجن ذاته، وما قد يتوفر فيه من أدوات ومرافق، تتيح للسجناء ترويض الوقت، أو حتى فتح صفحة جديدة من حياتهم: وجود الكتب يساعد، وجود أدوات طبخ يساعد، الزيارة الدورية تساعد السجين على طرد الزمن المتراكم داخل السجن وتقريب زمنه من زمن حياة أسرته في الخارج وزمن الحياة العامة. ومن البديهي أن شروط حياة المعتقلين الإسلاميين، بصورة خاصة في سجن تدمر، كانت بالغة القسوة، لخلوها بالكامل مما يساعد على تحمل السجن، لكن كذلك لأنها حياة تعذيب يومي وعشوائي طوال أكثر من عشرين عاما في بعض الحالات. إن سجونا مثل المسلمية في حلب وعدرا وصيدنايا قرب دمشق تتيح للمعتقل إقامة درجة من التواصل بين حياته قبل السجن وحياته في السجن. وتاليا، يسهل عليه اعتبار السجن مرحلة عضوية من حياته. لكن سجن تدمر يقيم قطيعة جذرية بين الحياة فيه والحياة قبله.

على أن المحدد الأهم لكيفية الحياة في السجن، وللحياة بعده، هو المدة التي يقضيها السجين فيه. وقد يبدو للوهلة الأولى أنه كلما طال المقام في السجن ازداد صعوبة. لكن الأمر ليس كذلك دائما. الفترة الأولى تكون قاسية دوما. وهي تستغرق عاما أو عامين أو أكثر، حسب سن السجين (المتزوج والأب تكيفه أصعب بكثير)، وطبعه، وشروط الحياة بما فيها الزيارة الدورية، وكذلك وجود سجناء قبله (كنا "مؤسسين" للجناح السياسي في سجن المسلمية بحلب، وكان علينا حل عدد كبير من المشكلات والمصاعب تخص تأمين أواني الطعام مثلا وموقد الكاز والفرش التي ننام عليها، وعشرات التفاصيل الأخرى التي شغل توفيرها جميعا أكثر من أربع سنوات؛ من أتوا بعدنا، في النصف الثاني من الثمانينات خصوصا، قدموا في ظروف مناسبة جدا تطرح عليهم تحديات أقل). بعد السنوات الأولى، قد "يستحبس" السجين ويستوطن السجن، و"يترحرح" بتناسب طردي مع طول المقام في السجن. على أن هذا ينطبق على السجناء الشبان، غير المتزوجين، الذين يتيسر لهم دخل معقول، والذين يمكن لهم أن يفتحوا صفحة جديدة في السجن. لقد وصلت شخصيا أعلى مراحل "الاستحباس" بعد وفاة والدتي عام 1990، وبدرجة أكبر بعد الإفراج عن أخوي في نهاية عام 1991. لكن لا استحباس في سجن تدمر، إذ لا يمكن للمرء أن يألف التعذيب والخوف اليومي.

العامل المهم جدا ايضا الذي يحدد كيف يعيش السجين في الخارج هو كيفية الإفراج عنه. الفارق النفسي والمعنوي كبير بين من يخرج "موقّعا" على التعاون مع أجهزة الأمن، ومن لم يوقع؛ بين من يجبر على زيارة فروع الأمن دوريا وبين من لا يزورها أبدا. معظم السجناء اليساريين لا يزورون فروع الأمن، حتى لو كانوا وقعوا على التعاون معها مقابل الإفراج عنهم. بينما الإسلاميون مكرهون على تجرّع مذلة زيارات دورية لها: مرة كل شهر أو شهرين أو ثلاثة. ليس ثمة قاعدة مستقرة. هم، على العموم، تحت رحمة أجهزة اعتباطية تتصرف على هواها. هذا ينطبق حتى على من أفرج عنهم منذ 15 عاما.

الظروف العامة بعد الإفراج عامل مهم أيضا. اليساريون الذين أفرج عنهم بعد عام 2000 خرجوا إلى مجتمع أقل هلعا، وإلى أجهزة أمن أدنى جبروتا، وإلى رفاق لهم يعملون علانية في المجال العام. هذا يرمم معنوياتهم بسرعة ويدمجهم في عالم ما بعد السجن بسرعة أيضا. ويوفر كذلك شبكة من العلاقات والمعونات التي تسهل إعادة تأهيل السجين. الإسلاميون أيضا استفادوا من شرط أقل قسوة، وإن بقيت الحواجز المنصوبة دون دخولهم المجال العام مرتفعة كحالها منذ أواخر السبعينات.

تتدخل أيضا عوامل من نوع حالة أسرة السجين بعد خروجه. بالخصوص مستوى الدخل ودرجة تماسك الأسرة وقدرتها على دعم المعتقل خلال فترة بضع الشهور الأولى القاسية، التي يحتاج فيها إلى رعاية خاصة. لا حاجة إلى القول أن المعتقلين السياسيين السوريين لم يتلقوا دعما ماديا أثناء اعتقالهم ولا بعده، لا من النظام الذي ما انفك يعتبرهم أعداء، ولا من أية منظمات دولية. لقد تحملت عشرات ألوف الأسر عبئا باهظا طوال سنوات غياب أبنائها أو معيليها، عبئا معيشيا وأمنيا، إذا لطالما اعتبرت اسر المعتقلين أسرا مشبوهة، وتعرض إخوتهم وأخواتهم وأقاربهم لضغوط أمنية متنوعة، تتراوح بين استدعاءات متكررة إلى حجب الموافقات الأمنية عنهم للعمل في إدارات الدولة ومؤسساتها، وبالخصوص التعليم. ولما كانت الدولة هي رب العمل الأساسي، فإن هذا يعني رمي أكثر المعنيين للبطالة. لقد تولت الأسرة السورية وحدها أعباء إعادة تأهيل ألوف المعتقلين المفرج عنهم، جسديا ونفسيا واجتماعيا ومهنيا، وقد كانت مهمة عسيرة، ومستحيلة في بعض الحالات، حين كان العائد من السجن يشكو من مرض عضال في جسمه أو في روحه.

والواقع أن الضغط الذي تمارسه الأسرة السورية على عضوها المعتقل، حين يكون سجينا، أو على أعضائها الآخرين كيلا يتورطوا في عمل عام، يعكس ما تتعرض له هي ذاتها من ضغط في غيابهم، وحقيقة أنها ستتحمل دون عون احتضانهم ومعالجة آلامهم النفسية والجسدية بعد عودتهم. وهي في الغالب تنجح في ما انتدبت نفسها له، لكن ثمن ذلك هو الحجر على أعضائها سياسيا، كما كان يحجر على مرضى الطاعون في أزمنة سالفة، والانكفاء على ذاتها، واحتكار حياة أعضائها العامة أو الإشراف على جوانبها كافة.

بهذه الطريقة، أي بحرق الأرض الاجتماعية السورية كي لا تنبت عليها أحزاب سياسية ومنظمات اجتماعية مستقلة، استطاع نظام حافظ الأسد أن يصادر الحياة السياسية للسوريين ويطردهم من المجال العام. وإنما إلى مجال عام سكنه الخوف، وأجلي عنه سكان البلاد، خرج أكثر المعتقلين السياسيين السوريين.

مجتمع سجناء سابقين؟

هل يصح الكلام على مجتمع من المعتقلين السياسيين السابقين في سوريا؟ بتحفظ شديد فقط. فقد نجح النظام في تفكيك المجتمع السوري ذاته، وعزل الناس عن بعضهم، وحراسة العزلة هذه بالخوف. وبعد عشرين عاما من الخوف والعزلة آلت شبكات العلاقات الأفقية بين سكان البلاد إلى الاضمحلال، فيما أضحت السلطة، وأجهزة الأمن في قلبها، الممر الإلزامي للعلاقات بين الناس. من باب أولى، إذن، ألا نتوقع نظاما من علاقات متنوعة يربط بين أفراد الفئة التي مثلت في أعين السوريين المصير الذين يسعون إلى تجنبه ما استطاعوا.

يضاف إلى مفعول الخوف المبعثِر والمولِّد للعزلة حاجة المعتقلين إلى إعالة أنفسهم وأسرهم من أجل استعادة احترامهم لذواتهم وإحياء الثقة بقدراتهم الشخصية. يعود أكثر الطلاب الجامعيين لمتابعة دراستهم، ويبحث أرباب الأسر عن أعمال تتيح لهم دخلا يعتاشون منه ويعيلون أسرهم. يندمج المحظوظون في مشاريع عائلية، أو يلقون دعما ماديا قويا يمكنهم من الوقوف على أقدامهم بسرعة. في كل الحالات يستهلك هذا الجهد وقتا كبيرا، يكون في الغالب على حساب الاهتمام بالشأن العام، وبناء علاقات جديدة والتعرف على أشخاص آخرين. يعزز من هذا الشرط أن معظم من حافظوا على درجة من التماسك الشخصي من المعتقلين السياسيين السابقين يتملكهم شعور بضرورة إنجاز أكثر ما يمكن في الوقت المتاح لهم. هذا بدوره يقصّر الروابط حتى مع زملاء السجن السابقين، دع عنك تجريب التعرف على أوساط جديدة.

على أن الملاحظة المؤكدة تثبت أن السجناء اليساريين السابقين أقرب إلى تشكيل "مجتمع"، أي شبكة علاقات شخصية تتيح لجميع المنخرطين فيها حيازة خبرات سابقيهم ومعلوماتهم، وتمد القادمين الجدد إليه (من أفرج عنهم متأخرين) بأنواع من الدعم الاجتماعي والمعنوي الضروري. فالأمر هنا كما في السجن: من يأتي متأخرا يستفيد مما راكمه السابقون من خبرات ومعارف عملية وحلول للمشكلات المتواترة. ويعود تمايز السجناء اليساريين في هذه النقطة إلى عاملين: أولهما أنهم يتمتعون بدرجة اكبر من الأمن قياسا للمعتقلين الإسلاميين أو المنتمين إلى البعث الموالي للنظام العراقي، ما يوسع من مجال حركتهم وتنوع معارفهم. ثانيهما، إن عددا يقدر بالعشرات منهم مشاركون نشطون في الحياة العامة خلال السنوات المنقضية من هذا القرن: كتاب، مترجمون، ناشطون حقوقيون وسياسيون..، الأمر الذي يعطيهم درجة من الحصانة، ويوسع اكثر شبكات علاقاتهم. ولعل مقياس الحصانة النسبية هذه يتمثل في انه لم يتكرر اعتقال أي معتقل يساري سابق خلال السنوات الخمسة ونصف السابقة، رغم مساهمتهم المهمة في حركة المعارضة، باستثناء رياض الترك بين عامي 2001 و2002، ومحمد حسن ديب الذي قضى ثمانية شهور معتقلا، [ميشيل؟، فاتح، علي العبدالله، خليل حسين، محمود عيسى، علي الشهابي] لأنه كان يصور وينشر مقالات ونشرات معارضة في مكتبته في بلدة سلمية وسط البلاد (أفرج عنه في شهر كانون الأول 2006). ولم يعتقل إسلاميون مفرج عنهم ثانية في حدود علمي ولكن لأن الحجر السياسي عليهم محروس بصرامة مفرطة.

على أن اليساريين أنفسهم يتوزعون إلى أكثر من عالم حسب الأحزاب التي كانوا ينتمون إليها. كان هناك تنظيمان شيوعيان اعتقل أكثرية أعضائهما في ثمانينات القرن الماضي. وشبكة التفاعلات الداخلية بين معتقلي كل من التنظيمين، أكثف من شبكة تفاعل كل منهما مع الأخرى أو مع شبكات أخرى. أي أن تبادل العون والمعلومات والخبرات وشراكة أوقات التمتع اقوى بين أفراد كل من المجموعتين.

بالمقابل، لا تكاد تكون ثمة علاقات بين المعتقلين السابقين اليساريين والمعتقلين الإسلاميين. أحد الأسباب القوية لذلك تباعد أنماط الحياة والأذواق وطرق قضاء أوقات الفراغ ونماذج السلوك والأزياء. من غير النادر أن يسهر سجناء يساريون معا، وهم يتناولون مشروبات كحولية، وبرفقة نسائهم أو صديقاتهم. فيما لا يتذوق الإسلاميون الخمر، ويراعون الفصل بين الجنسين بقوة. من أسباب ذلك أيضا قوة الرقابة الأمنية على الإسلاميين مقارنة باليساريين، علما أن هؤلاء بدورهم مراقبون ويتعرضون لأشكال متنوعة من التقييد والضغوط. لقد أعاد اليساريون بناء أحزابهم، وغيروها أو أعادوا بناءها في بعض الحالات (الحزب الشيوعي - المكتب السياسي عقد مؤتمرا في نيسان 2005، وغير اسمه إلى حزب الشعب الديمقراطي السوري) ما يعني أنهم دشنوا لأنفسهم تاريخا جديدا. وهم ينشطون علنا أو بصورة نصف علنية دون أن يعيد النظام اعتقالهم (بعض السبب في ذلك يعود إلى أنهم تعرضوا لقمع غير متناسب على الإطلاق مع معارضتهم للنظام: لم تنزف قطرة دم واحدة من أهل النظام أو من عموم السوريين على يد سجناء يساريين، فيما قضى مئات منهم سنوات طوال في السجون، وتعرضت أكثريتهم للتعذيب وقتل بعضهم تحت التعذيب). وأعاد يساريون أيضا صلتهم بالميدان العام عن طريق الكتابة السياسية والأدبية، التي تنشر في الانترنت أو في الصحافة العربية واللبنانية، أو عن طريق النشاط الحقوقي. فيما عزل الإسلاميون عزلا محكما عن المجال العام وتقطعت عمليا روابطهم بغير أسرهم وأوساط ضيقة حولهم. ومن المحتمل أن يواجه تنظيم الإخوان المسلمين السوريين مشكلات سياسية في المستقبل حين يتاح لقيادات التنظيم خارج البلاد أن تعود، لأنه لم يتح لهم ما أتيح لليساريين من تمرس بمشكلاتهم ومحاولة التغلب عليها.

على أن الإسلاميين يجدون تعويضا عن الانخراط في الشأن العام بسهولة استئناف حياتهم الاقتصادية والعثور على فرص عمل. يميل الناس إلى منح فرصة عمل إلى سجين إسلامي سابق لأنه "أمين". لا يقال إن اليساريين غير أمناء، لكن يفضل كثيرون نموذجا من الأمانة يألفونه ويرتاحون إلى سنده الديني. والواقع أن السوريين عموما يحترمون "أصحاب المبادئ"، وبالخصوص أخلاقياتهم، وإن لم يشاركوهم شيئا من مبادئهم.

ثمة استثناءات لعلاقات مفتوحة بين إسلاميين سابقين ويساريين سابقين. لقد ذللت السجون عند البعض من الطرفين الحواجز الإيديولوجية والفوارق بين أنماط الحياة، لكن خطوط التواصل ظلت محدودة ونادرة بالفعل.

أصناف المعتقلين السابقين

يختلف تصنيف المعتقلين السابقين وفقا للمعايير التي يمكن أن نعتمدها. سأعتمد هنا خمسة معايير تترتب عليها خمسة تصنيفات تقريبية.

علاقتهم بالشأن العام؛ 2- علاقة المعتقلين بأسرهم؛ 3- علاقتهم بالمرأة /علاقتهن بالرجل؛ 4- حياتهم العملية وكيفية تحصيلهم للمعيشة؛ 5- علاقتهم مع أنفسهم وتعاملهم مع صورتهم.

العلاقة بالشأن العام

أشرت للتو إلى أن فرصة المعتقلين اليساريين، وغير الإسلاميين بصورة أعم، في الانخراط في العمل العام السياسي والثقافي أوسع من فرصة الإسلاميين. غير أن التمعن في الأمر يكشف تلوينات أغنى.

إن نسبة من اظهروا درجة من الاهتمام بالشأن العام بين الشيوعيين كانت متدنية جدا بين المفرج عنهم في نهاية عام 1991. هنا أيضا لا مجال لإعطاء نسب دقيقة لغياب أية معطيات موثوقة. كذلك لأن التنظيمات المعنية لا تزال اليوم، مطلع 2006، تعمل بصورة غير شرعية. وبين يدي قائمة بأسماء معتقلي الحزب الشيوعي المكتب السياسي (حزب الشعب الديمقراطي حاليا) غير مكتملة، ترد فيها أسماء 217 معتقلا، وحافلة بالأخطاء فوق ذلك.

كان ثمة من حرصوا على قطيعة تامة بكل ما يذكرهم بماضيهم السياسي. وهناك زملاء سجن لي قضيت معهم سنوات، ولم أرهم أو أسمع عنهم أي شيء بعد الإفراج عني متأخرا عنهم بسنوات. كانت التنظيمات تلك مطلع التسعينات منهكة، إن لم نقل منهارة. وتروى طرائف مأساوية عن أشخاص سلكوا دربا آخر لأنهم لمحوا عن بعد زميل سجن قادما باتجاههم. لقد حولوا خوفهم من السلطات إلى موقف معاد لكل ما من شأنه تذكيرهم بالاعتقال والتعذيب والسجن.

ومن يحتمل أنهم شاركوا في نشاط الأحزاب المحدود فعلوا ذلك بصورة بالغة السرية. واستمر هذا الشرط كذلك حتى أواخر التسعينات. لكن نسبة أعلى من أولئك الأفراد أنفسهم الذين ابتعدوا عن المخاطر في التسعينات اقتربت من الأنشطة العامة المتاحة بدءا من عام 1998، وبالخصوص بعد عام 2000. وحتى من آثروا الابتعاد عن أحزابهم صارت مواقفهم أكثر إيجابية حيالها وحيال رفاقهم الذين أظهروا نشاطا علنيا.

على أن العديد من المعتقلين اليساريين، يتعلق الأمر بإجمالي يتعدى ألف رجل وبضع عشرات من النساء، استأنفوا العمل العام بطريقة مختلفة: تحولوا مثلا من السياسة إلى الثقافة، أأو من الحزب السياسي إلى منظمة لحقوق الإنسان. ومن العائدين من لم يغيروا في أنفسهم شيئا، ومنهم من تغير فكريا وسياسيا، ومنهم (قلة) تحولوا إلى أعداء ألداء لأحزابهم السابقة.

أشرنا، فيما يخص الإسلاميين، إلى الدور الحاسم لعنصر التضييق الأمني في الحد من مشاركتهم في الشأن العام. بالفعل، لا نكاد نجد أي معتقل إسلامي سابق شارك في الحراك المستقل والديمقراطي الذي شهدته البلاد أثناء "ربيع دمشق. إن ربيع دمشق، وهو كناية عن انتزاع هوامش أوسع في حرية الكلام والتعبير عن الرأي، وفي التجمع الطوعي المستقل (وقد أكملت السلطة إعادة احتلال حيز التجمع العلني والمستقل بالكامل في أيار الماضي حين أغلقت منتدى الأتاسي) نتاج علماني محض، أسهم معتقلون سياسيون سابقون بقسط وافر فيه. وبخصوص بعض الإسلاميين، قد يكون هناك عنصر إيديولوجي خلف ابتعادهم عن الأنشطة العامة، أعني رفضهم المشاركة في نشاطات يهيمن عليها علمانيون. ولا ريب أن بعضهم يرفض، مثل النظام البعثي تماما، فكرة مجال عام مفتوح لمختلفين على قدم المساواة فيما بينهم. ما يصعب تقديره هو نسبة المعتقلين الإسلاميين السابقين الذين يمكن أن يشاركوا في النشاط العام في ظروف آمنة، ونسبة من يتقبلون الشراكة مع علمانيين، ونسبة من يأخذون موقفا عدائيا ضد العلمانيين.

التنظيم البعثي الموالي للنظام العراقي السابق تحلل بفعل مزيج من سبب أمني (حظي بالمعاملة الأسوأ بعد الإخوان المسلمين بين التنظيمات السورية المعارضة)، ولسبب إيديولوجي يتمثل في تراجع الفكرة القومية العربية التي كانت إيديولوجية التنظيم، وتدهور طاقتها التعبوية. وأخيرا انهيار النظام الذي كان يسند الجناح البعثي السوري المعارض. علما أن الجناح هذا كان دوما متورطا في لعبة العلاقة السيئة بين النظامين البعثيين.

العلاقة بالأسرة

طوال شهورا عانى ص. ع، الذي قضى 15 عاما في السجن، من صعوبة في التفاهم مع ابنته الشابة التي كانت بلغت الخامسة عشر من عمرها حين أفرج عنه عام 1998. كانت أم الفتاة حاملا بها حين اعتقل الأب؛ الأم ذاتها اعتقلت لوقت قصير مع الزوج عام 1983. كان الرجل الذي خرج من السجن وهو في أواسط أربعينات عمره والفتاة المراهقة يتنازعان الأم ويغاران من بعضهما عليها، حسب رأي الأم نفسها.

وواجه ف.م الذي قضى 10 سنوات حالة معاكسة. فقد أفرج عنه عام 2000، وكان سمع عن المصاعب التي يواجهها زملائه الذين سبق أن أفرج عنهم مع أبنائهم. لذلك تعمد أن لا يتدخل في حياة ابنه البالغ من العمر 17 عاما. بعد عامين، شكا الابن الكتوم من أن والده لم يكن مباليا به، ولا مهتما بمعرفة ما يفكر فيه وما يحتاجه. أما ابنته، وكانت في الثالثة عشرة، فقد كانت تنكمش حين يضع أبوها يده على كتفها، وظلت لبضعة أشهر تتصرف حياله بتحفظ، فلا تخلع شيئا من ثيابها أمامه. لكن حالتي ص. ع و ف.م كانتا مخففتين قياسا إلى حالات كثيرة أصعب.

أخفق م.د، وكان عضوا في حزب يساري، في ترميم علاقته مع ابنته البالغة 12 عاما حين أفرج عنه بعد 8 سنوات ونصف سجنا. تقول الفتاة إنه لطالما تعامل معها كطفلة عمرها أربع سنوات، أي كما تركها قبل اعتقاله، ورغم ذلك لطالما نعى عليها وعلى جيلها أذواقهم وتصرفاتهم، وكان لا يمل من تذكيرها بأن جيله أفضل من جيلها. وتلخص موقفه حيالها: "يناقشني ككبيرة، ويعاملني كصغيرة". ولأنها اعتقدت أنه كان يريد لحياتها أن تكون مثل حياته، صارحته مرة بأنها تتمنى له أن يعود إلى السجن. في السادسة عشر من عمرها بلغ ضيقها من أبيها حد أنها أخذت حبوبا منومة بِنيّة أن تنتحر، لكنها بدلا من أن تموت نامت 20 ساعة. وهكذا قررت أن تستمر في اخذ الحبوب لتنام أوقاتا طويلة، وكي تكبر وهي نائمة دون أن تحس بالوقت، ودون أن ترى أباها. وكم استمتعت وهي تراه يأخذها من طبيب إلى آخر ويجري فحوصا مكلفة: تحاليل لوظائف القلب والدماغ، CT scan, MRI وغيرها، لتفسير سبب نومها المستمر. تقول، "كنت سعيدة وأنا أراهم يتعبون بي". انقضى شهران طويلان قبل أن ينكشف سبب النوم، وخلالهما، شيئا فشيئا، أخذ يتكون بين الفتاة وأبيها "تواصل روحي" حسب تعبيرها، وأخذت تحبه كثيرا دون أن تكف أحيانا عن كرهه كثيرا. "اكتشفت"، تقول، "أن حب الأب يأتي بالمعايشة والمشاركة وليس من تلقاء نفسه". "ليس لأبي وجود في ذاكرتي السابقة، لقد حضر فجأة، وكان والدي و..فقط.

قد لا يكون كل ما تقوله الفتاة التي تبلغ الآن الثالثة والعشرين، وترى أن أباها أضحى الآن صديقا لها، صحيحا أو دقيقا، لكنه يلقي ضوءا على صورة جانبية للآباء في عيون أولادهم الذين كانوا صغارا وكبروا في غيابهم واعتادوا عليه.

بعض الأزواج لم يتمكنوا من استئناف حياتهم الزوجية. يرتطم تعبان، تعب الزوجة المنتظرة والتي كانت تعيل الأسرة في غياب الزوج وتعب الزوج الذي قضى سنوات طوال حبيسا، فيتولد عن ارتطامهما حياة شقية أو طلاق. خلال تلك السنوات، كبرت الزوجة، وذبل جمالها، وصارت تريد أن توسد رأسها ذراعا قويا. وبعد غيابه يريد الزوج حبا ورعاية وعملا، وقلما تتسنى تلبية هذه المطالب بسهولة. الزوجة التي قاست الكثير خلال سنوات قد تغدو شخصا قاسيا لا يلين، ولا تسمح للزوج أن يتدخل في نظام البيت وكيفية التعامل مع الأولاد. وهؤلاء أنفسهم قد لا يتقبلون هذا الدخيل الذي شبوا في غيابه ولا يشعرون بأي التزام حياله، فكيف إن حاول فرض سيادته في البيت، كما يحصل كثيرا!

في روايتها "كما ينبغي لنهر" تصور منهل السراج، الروائية السورية من مدينة حماة التي شهدت مذبحة فظيعة في شباط 1982، عسر العلاقة بين أحمد الذي كان صغيرا و"بال في ثيابه" حين اعتقل وقضى عشر سنوات في سجن تدمر المرعب، وبين شقيقته فطمة: يحاول أن يفرض تفضيلاته وقراراته عليها وعلى البيت الذي يعيشان فيه. كان عدد من الإخوة قد اعتقلوا ولم يعودوا[3].

لم يحدث أن كان زوجان معتقلان سابقان، وأفرج عنهما في الوقت نفسه. فعلى العموم قضت النساء مدة أقل في السجون، وخرجن قبل أزواجهن. كانت ف.خ على وشك أن تطلق زوجها الذي قضى 8 سنوات ونصف في السجن، بينما قضت هي أربع سنوات. لم يتمكن زوجها، ب. ج، من تأمين عمل يدر دخلا كريما. لكن الأهم أن ف. التي كانت في الثالثة والثلاثين حين أفرج عن الزوج، وهذا الذي كان في التاسعة والثلاثين، لم يعرفا كيف يتواصلان، وكيف يشرحان لبعضهما ما يتوقعان من بعضهما، وكيف يحبان بعضهما. اليوم وبعد عشر سنوات من الإفراج عن الزوج يتمتع ب. وف. بعلاقة ممتازة. تأسف ف. لأنها لم تنجب أطفالا، لكن زوجها المحب يسهل الأمر عليهما. (بالمناسبة، ليس قليلا عدد السجناء السابقين الذين لم ينجبوا لارتفاع نسبة الإصابة بدوالي الحبل المنوي، وهو من أهم أسباب العقم لدى الذكور).

ويسهل الأمر ايضا أن ب.، وهو مهندس، حصل على عمل يدر دخلا محترما نسبيا. وبعد جهود مضنية حصلت ف. التي تحب الأطفال كثيرا على عمل كمعلمة في مدرسة غير حكومية حيث تعلم أطفالا فلسطينيين في السادسة من أعمارهم (تفاصيل أوسع أدناه).

العلاقة بالجنس الآخر

يتزوج سجناء كثيرون بسرعة بعد الإفراج عنهم. إن حاجات عاطفية وجنسية ضاغطة تدفعهم إلى الارتباط بأول من تلاطفهم تقريبا. هذا لأن السجناء قلما يميزون في الفترة الأولى التالية للإفراج عنهم بين امرأة وامرأة: كلهن لطيفات وحنونات وجميلات. بل كلهن أمهات رقيقات للطفل الذي خرج لتوه من ذاك الرحم الفظ: السجن. في الغالب تكون الزيجات السريعة غير موفقة. ويميل بعض السجناء السابقين إلى استغلال ما ينالونه من تعاطف وتقدير بعد خروجهم من السجن لإقامة علاقات جنسية متعددة تروي لديهم عطشا معذبا للحب والأمن.

أما النساء بين السجناء فتكون معاناتهن أشد: يفضل الرجال امرأة حديثة كرفيقة وصديقة وربما شريك جنسي، لكن قليلين منهم يقبلونها زوجة. بوصفهن العنصر الأضعف، تتحمل النساء الوطأة الأشد للأوضاع الأصعب. فقدت بعضهن فرصهن في الزواج، أو كان ثمن زواجهن الاستسلام للأعراف المستقرة في مجتمعاتهن المحلية. وقد تكون المعاناة الأقسى هي معاناة امرأة غير متزوجة اعتقل حبيبها سنوات طوالا. انتظرت ه.غ حبيبها 11 عاما، كانت تزوره خلالها بانتظام، لكن ما إن أفرج عنه حتى أبلغته أنها قررت الرهبنة واعتزلت في دير.

أما السجينات الإسلاميات السابقات فإن العازبات منهن تزداد فرصهن في الزواج، بدل أن تقل. إن السوريين بعامة محافظون في اختيار زوجاتهم، ولذلك يتوفر بسهولة أكبر زوج لامرأة محافظة. وفي مجال أخلاقيات الزواج والعلاقة بين الجنسين، تهيمن بقوة اكبر الأخلاقيات الدينية، لا فرق تقريبا بين الطوائف، ولا فرق مهماً بين علمانيين ودينيين.

يفاقم من صعوبات السجناء المفرج عنهم حديثا والذين قضوا وقتا طويلا في السجن حقيقة أن نسبة عالية منهم فقدت أبا أو أما في غيابهم. كانت والدتي قد توفيت بعد اعتقالي بعشر سنوات، ثم تزوج أبي بعدها، وعاش مستقلا، وكذلك أخوي الأكبرين وأختي الوحيدة. وكان اصغر أخوتي الثمانية في الرابعة والعشرين وقت خروجي. وهكذا وجدت نفسي بعد ثلاثة أسابيع من الإفراج عني وحيدا تقريبا، في بيت بلا نساء، كان قبل السجن يعج بالحياة دوما. ولعل هذا ما زاد من احتياجي للمرأة حدة. كنت أتضور جوعا لعطف أنثوي لا ينتهي، ولا أعرف كيف اطلبه، ولا كيف أحافظ عليه.

العمل والعيش

على أن المشكلة الأكبر التي يتعين على السجين السابق حلها هي تدبير المعيشة. على العموم لم تمانع السلطات في عودة طلاب الجامعة إلى كلياتهم. كان مشهد رجال في ثلاثينات أعمارهم أو حتى في أربعيناتها مألوفا في جامعة حلب حين عدت إلى الدراسة فيها بين 1997 و2000. كنت أكبر من زملائي ب16 عاما. لكن كان في صفي عام 1997/1998 خمسة آخرين قضوا بين ست سنوات و12 عاما في السجن. وخلال سنوات الجامعة يعتمد السجين على دعم أسرته، أو يعمل ويدرس معا.

كان تعامل السلطات مع السجناء الذين كانوا موظفين عشوائيا لا يخضع لقاعدة مطردة. أعيد بعضهم إلى وظائفهم ونالوا تعويضاتهم، فيما لم يعد بعض آخر. ومنعوا من الحصول على عمل في جهاز الدولة الإداري أو الإنتاجي، و، بالطبع، التعليمي الذي تم تبعيثه بالكامل منذ أواسط سبعينات القرن العشرين.

يعتقد م. ب (انظر أدناه) أن نسبة المعتقلين الإسلاميين الذين أمن أهاليهم لهم عملا لا تكاد تبلغ 20%. أما الباقون فقد ابتدءوا من الصفر كما فعل هو. وتوجه نصفهم نحو أعمال إدارية في القطاع الخاص: مدير صالة بيع، كاتب قبان، مراقب دوام العاملين... أما ن.د، وقد اعتقل وهو في السادسة عشر من عمره بتهمة العضوية في تنظيم الإخوان المسلمين، وقضى 12 عاما بين سجني تدمر وصيدنايا، فيقول إن من لم تمكنهم أسرهم، لعدم قدرتها، من انطلاقة قوية في عالم العمل، "تلوّعوا". يبدأ احدهم بمشروع صغير، ورشة خياطة مثلا أو تجارة مفرق، لكن كثيرين منهم "أكلهم" التجار الكبار بسهولة.

ويسهم تكافل العائلة الواسعة دورا بالغ الأهمية في مساعدة السجناء بعد الإفراج عنهم سواء عبر منحهم مبالغ مالية أو عبر المساعدة في تأمين عمل. وهي في ذلك تمد يد العون إلى الأسرة الصغيرة أو النووية، وتحل محل الدولة والمجتمع ككل. ولا يستطيع عموم المتعاطفين تقديم الدعم لأن كل أشكال الروابط الصنعية والطوعية مقيدة بشدة، فيما الروابط الأهلية، العائلة الواسعة والعشيرة، أكثر حرية ولا مجال لتقييدها. لقد عمل النظام البعثي على نزع مدنية المجتمع السوري و"أهلنته" وتطييفه.

معظم من تسنى لهم السفر إلى أوربا قبل عام 2000 فضلوا، حيثما تسنى لهم ذلك، اللجوء السياسي هناك، كذلك فعل بعض من سافروا بعد عام 2000. كان من سوء حظهم أن قوانين اللجوء في بلدان أوربا كانت تزداد صرامة. قضى بعضهم سنوات في ظروف بالغة القسوة في معسكرات خاصة، قبل أن يتم قبولهم. ولا ريب في أن دافع الأمن امتزج لدى معظمهم مع دافع التخلص من شروط عيش قاسية في بلادهم. لكن ظروف عيشهم في أوربا لم تكن دوما أحسن. وربما أساء إلى أوضاعهم أن سوريين آخرين كانوا في الواقع لاجئين اقتصاديين، دون أن يسبق لهم أن عانوا من اضطهاد سياسي يتخطى ما يعانيه مواطنوهم جميعا. ليس هناك معطيات يمكن الاعتماد عليها عن عدد اللاجئين السياسيين السوريين في أوربا ممن سبق أن كانوا معتقلين، تخمينيا ربما مئة أو أكثر.

بين المعتقلين السابقين عدد غير قليل ممن يعيشون مما تعلموه في السجن: الترجمة، وخصوصا من اللغة الانكليزية، الكتابة الأدبية والصحفية والفكرية، وفي حالات أخرى قليلة التفرغ للعمل السياسي في أحزابهم التي تعمل في شروط نصف سرية. إن عددا من أهم المترجمين في سوريا كانوا معتقلين سابقين، من أغزرهم إنتاجا ثائر ديب الذي قضى أكثر من أربع سنوات في السجن. وهو اليوم يعمل في وزارة الثقافة السورية متخليا عن ممارسة ما تعلمه في الجامعة، الطب البشري. على أن الأمر يتعلق بعدد محدود، عشرات قليلة، جميعهم تقريبا معتقلين يساريين.

المعتقلات السابقات اللاتي لم يتزوجن يواجهن مصاعب العمل والعيش بحدة أكبر. تقول حسيبة عبد الرحمن، وهي روائية وناشطة سياسية، قضت ست سنوات في السجن، إنها ظلت طوال سنوات اسما محروقا، لا يقبل أحد بتشغيلها خشية إثارة غضب أجهزة الأمن. ولم تكن حتى قادرة على وضع اسمها على عمل تكتبه حتى أواخر التسعينات حين نشرت روايتها الأولى. هذا ينطبق على أخريات، ويتفاقم مع الزمن ومع تقدمهن في السن.

علاقة المعتقل السابق بصورته

حتى أواخر سبعينات القرن العشرين كانت صورة المعتقل السياسي في سوريا محفوفة بالهيبة والندرة والأسطورة. بعد ذلك أخذ يغمرها الابتذال لكثرة عدد المعتقلين السابقين ولخروج كثيرين منهم "مكسورين". مع ذلك ثمة درجة من السحر والأسطورة تحيط بصورة المعتقل السياسي، بالخصوص الذي يعود إلى الانخراط في العمل العام. وهو ما ينطبق على اليساريين. وللأسف، هنا أيضا، لا أملك معلومات موثوقة عن السجناء الإسلاميين. لكن م. ب (انظر أدناه) يرصد أنه وأمثاله "من التيار الإسلامي يحظون بثقة عالية واحترام كبير" بين عموم الناس، "ولاسيما في الأيام التي يبرز فيها أثر فساد النظام وتشتد الضائقة على المواطنين".

لكن السحر ذاك مقصور على دوائر محدودة نسبيا ويتصف بسهولة التبدد. يخرج المعتقل من السجن حاملا "رأسمالا رمزيا" مهما، لكنه ضعيف المرونة: يتبدد فور استخدامه، وشرط بقائه هو أن لا يستخدم. فالمعتقل الذي يستخدم رأسماله لنيل أفضليات خاصة، مادية أو عاطفية، سرعان ما تتدهور قيمة رأسماله. والمعتقل الذي يتوقع أن تحبه النساء، أو يبيح لنفسه الاستفادة من رأسماله الرمزي لصيد النساء، يتبهدل بسرعة. والمعتقل الذي يكثر من الكلام على ما قاساه في السجن يجازف بأن ينفر منه الناس. والواقع أن هناك دافعا غير مدرك عند المعتقلين السابقين كافة لتطلب رعاية خاصة من الآخرين أو للاستفادة من وضعهم كمعتقلين سابقين. السجن في أحد وجوهه رحم حنون يلقى فيه السجين عطف وعناية أسرته وتقدير معارفه، إن كانت الزيارة ممكنة، (وفي وجه آخر هو رحم يابس لأم قاسية، يخنق السجين ويضغط عليه، وقد يقتله). لذلك، كل سجين دون استثناء، يحمل نزوعا لا شعوريا للبقاء في السجن أو للاستفادة من ميزات الحياة السجنية المناظرة للحياة الرحمية. قد يتجلى ذلك في تذكير مستمر بأنه كان في السجن، أي في مبادرة السجين إلى سجن نفسه في صورة السجين السابق. لسان حاله يقول: أحبوني! اهتموا بي! اعتنوا بشؤوني! "احترموا نضالي"! لقد قضيت كذا سنة في السجن! ولقد تعرضت لكذا وكذا من التعذيب! ثمة شيء من الطفالة في ذلك، يمنع السجين من أن يكبر. كأنه يرفض الخروج من السجن، أو يحتج على هذا الخروج. إن الشخص الذي يختزل نفسه إلى سجين سابق يفشل بالفعل في أن يعيد تأهيل نفسه لحياة جديدة وتاريخ جديد. وكم هو شائع في أوساطنا، نحن معشر السجناء السياسيين السابقين الناجين، الحنين إلى أيام السجن التي تكتسب شيئا من البريق بعد أن تنأى عنا. غير أنه لا "يحن" إلى السجن إلا من لم تحطمهم تجربة السجن. حنينهم هو احتفال مقنّع بنجاحهم في تحمل السجن والنجاة منه.

وقد يبدو غريبا، إذن، أنه، رغم انشدادهم إلى السجن، لم يكتب السوريون سجنهم. هذا ربما لأنهم لم ينفصلوا عنه، أو لا يريدون الانفصال عنه. فلكي نكتب عن السجن لا يكفي أن نخرج منه، ينبغي أن نتحرر نهائيا من الحنين إليه ومن دافع الاستفادة منه كما قد يستفيد مريض من مرضه. إننا لا نكتب السجن، ما يقتضي أن ننفصل عنه، لأنه لا يزال مشروعا نفسيا أو معنويا أو حتى ماديا رابحا. ولعل الانفصال عن السجن غير ممكن دون أن ينال السجناء حريات وحقوقا مادية ومعنوية تساعدهم على إدارة وجوههم للسجن. إن المعنى السياسي لذلك هو انتهاء النظام السياسي الحالي، المحروس بالسجن، واقعا وفكرة ومنعكسات شرطية.

ليست قليلة، أخيرا، نسبة السجناء السابقين "المتحررين من الأوهام"، أي الذين ينظرون إلى ماضيهم السياسي بسلبية أو حتى بازدراء. بعد خروجه من السجن، لم يكتف غ. خ بقطيعة مطلقة مع رفاقه السابقين وكل ما يذكر بنشاط شبابه، بل قاطع شقيقته التي أحبت ثم تزوجت معتقلا سياسيا سابقا. بعض المعتقلين السابقين جعلوا من موقفهم هذا قضية عامة و"رسالة شخصية لهم، وأخذوا يهاجمون أحزابهم أو النشاط المعارض ككل، ساعين إلى كسب أناس آخرين لهذا الموقف.

مبادرات حقوقية

رغم أن الإفراج عن المعتقلين السياسيين وإعادة الحقوق المدنية إلى المحرومين منها بنود ثابتة على أجندة العمل الديمقراطي في سوريا في السنوات الأخيرة، بل منذ أضحت قضية الاعتقال السياسي قضية وطنية في أواخر السبعينات، إلا أنه ليس ثمة نشاط منظم أو هيئة مستقلة معنية بقضايا المعتقلين السياسيين السابقين في سوريا. ثمة مبادرات، تُقصِّر عن مخاطبة القضية في وصفها قضية سياسية ووطنية ومستقبلية، وليست محض قضية إنسانية تتصل بمعالجة مظالم جرت في الماضي. بل نميل إلى الاعتقاد بأن الحضور الحقوقي البحت لقضية المعتقلين السابقين ما انفك يحجب الحاجة إلى مقاربتها معرفيا ومعالجتها سياسيا.

من أهم المبادرات تلك عريضة وقع عليها 387 معتقلا وملاحقا سابقا، قدمت إلى السلطات في عام 2005، تتضمن المطالب التالية:

إلغاء آثار الأحكام الصادرة عن كافة المحاكم بحقنا وإعادة الاعتبار لنا.

التعويض المادي لكل منا حسب سنوات اعتقاله، سواء كان موظفاً أم غير موظف عند اعتقاله. وحساب سنوات السجن وما بعدها سنوات خدمة فعلية، على أن يشمل ذلك المفصولين من عملهم بعد إطلاق سراحهم.

3 ـ إعادة من لم يعد إلى عمله، الذي كان له قبل الاعتقال، وإيجاد عمل للسجناء الذين لم يكن لهم عمل عند الجهات الحكومية قبل الاعتقال، ويرغبون في ذلك.
4 ـ اعتبار سنوات الملاحقة الأمنية بمثابة سنوات اعتقال ومعاملتها بالمثل.
5 ـ إلغاء قرارات السوق إلى الخدمة الإلزامية الصادرة بحق كل سجين اعتقل أو أجلت خدمته دون إرادته، وتسريح من سبق سوقه إلى الخدمة من هؤلاء.
6 ـ منح جوازات سفر لكل السجناء السياسيين السابقين، وإزالة جميع إجراءات منع السفر والمغادرة الصادرة بحق أي منهم، وإلغاء الإجراءات الأمنية التي تمنع ذلك[4].

إن الأسماء الواردة في قائمة الموقعين على العريضة هي لسجناء أو ملاحقين سابقين لحساب تنظيمات شيوعية أو ناصرية أو التنظيم البعثي الموالي للعراق. وهي تخلو من معتقلي الإسلاميين، وقد كانوا أكثرية المعتقلين السياسيين في سوريا. وقد يكون هذا، وطغيان الطابع الحقوقي على حساب الطابع السياسي والوطني للقضية، هو السبب في امتناع معتقلين يساريين آخرين عن التوقيع على العريضة. وجدير بالذكر أن المعتقلين السابقين الذين قضوا خمس سنوات فما فوق لا يستدعون إلى الخدمة العسكرية في سوريا. وكان معتقلون قضوا أقل من 5 سنوات قد نالوا تأجيلا إداريا متكررا من الخدمة العسكرية ايضا، لكن بعضهم استدعوا خلال عام 2005، وسيقوا إلى الجيش، وبعضهم في أربعينات أعمارهم. جدير بالذكر أيضا أن بعض المعتقلين السابقين لم يحصلوا على جوازات سفر، فيما حصل عليها آخرون، دون أن يكون ثمة منطق متسق دوما وراء هذا التمييز.

وكانت اللجنة التي صاغت العريضة السابقة قد تلقت وعودا بحل المشكلة قبل أيلول من العام الماضي، لكن شيئا لم يحصل. ويبدو أن القضية ماتت، بعد أن كانت اللجنة قد ظنت أنها حصلت على وعد برفع الحرمان عن الحقوق المدنية عن المحرومين، وأشيع وقتها أن السلطات وعدت بمنح كل منهم 100 ألف ليرة سورية (أقل بقليل من 2000 دولا أميركي) عن كل عام قضوه في السجن، كمساهمة منها في إعادة تأهيلهم من جهة، وعملا على طي الملف من جهة أخرى.

ولم يحل بعد مكان هذه المبادرة نشاط آخر متمحور حول العون المتبادل والتوجه إلى المجتمع، لحل المشكلة بدلا من التوجه إلى السلطات. وقد يكون السبب المهم وراء ذلك هو الصراعات والمنافسات الحزبوية التي لطالما كانت مصدر إفساد وتسميم للعمل العام في سوريا. كذلك افتقار السوريين إلى تقاليد وتجارب في التكافل الاجتماعي غير الخيري وغير القائم على أسس دينية. بالنتيجة، بقي الجانب العام من قضية المعتقلين السابقين محتكرا من قبل أحزابهم غير القادرة على مساعدتهم فعليا. أما الجانب الخاص فلا يزال واقعا على عاتق أسرهم. وهو ما يفتح الباب واسعا أمام سعيهم إلى البحث عن حلول شخصية كيفما اتفق.

في كتاب مفتوح وجهه إلى رئيس الدولة في مطلع عام 2006 الحالي، يقول معتقل سابق، اسمه جابر سلمى، قضى فترة ما بين 1987 و1994، وجرد من حقوقه المدنية على يد محكمة أمن الدولة العليا التي قدم أمامها بعد خمس سنوات من توقيفه، وحكمته ست سنوات، يقول: "أتوجه إليك يا سيادة الرئيس بإعطاء الأوامر لهم [مديرية التربية في محافظة اللاذقية] ليسرعوا في إعادتي إلى عملي عملا بقاعدة إن كنت مظلوما لرفع الظلم عني، وان كنت مسيئا فرأفة بأسرتي وأطفالي. وكلي ثقة انك لن تخذلني وشكرا سلفا". قبل اعتقاله كان سلمى معلما. وكي يقنع الرئيس بسلامة طويته، يبلغه: "يهمني يا سيادة الرئيس أن أوضح أن كأس عرق عندي أهم من كل سياسة الأرض، وأن وضعي اليائس يدعوني إلى التفكير في الانتحار". ويؤكد انه ترك الحزب اليساري الذي كان ينتمي إليه منذ عام 1984، أي ثلاث سنوات قبل اعتقاله. ويبدو أن سلمى اهتدى إلى هذا الحل لأنه لم يجد غيره. يقول: "ومع أنني وضعت نفسي تحت تصرف مديرية التربية اثر خروجي من السجن إلا أن الحكم [حكم محكمة أمن الدولة عليه بالسجن 6 سنوات] حرمني من العودة إلى عملي مثل رفاقي الذين لم يحكموا. منذ ذلك التاريخ بدأت غربتي داخل وطني، فلقد بعت كل العقارات التي أملكها في قرية القنجرة [التابعة لمحافظة اللاذقية] من اجل تسديد نفقات أسرتي ومنهم من أصبح جامعيا، وعملت بعدها عامل حفريات مياوم، ومن ثم عامل حفر في تمديد مجاري الصرف داخل قريتي، ولا أزال أعمل يوميا عامل حفريات، رغم كبر سني، حتى كتابة هذه السطور". سلمى من مواليد [5]1958.

هذه شكوى رجل خرج من السجن منذ عام 1994. وهو ليس استثناءا. إن من لم يسمح لهم بإكمال دراساتهم العليا أو بالحصول على وظيفة أو بالسفر خارج البلاد هم أكثرية المعتقلين.

ثمة عدد محدود جدا من الحالات نالوا دعما من منظمة العفو الدولية للقيام بعمليات جراحية مكلفة أو لعلاج باهظ الثمن (أورام خبيثة بصورة خاصة). على أن النسبة لا تكاد تذكر. بالمقابل تلقى عدد محدود أيضا دعما ماليا من رفاق لهم خارج البلاد. لكن النسبة أيضا لا تكاد تذكر، ولعلها كذلك لا تستند إلى معايير الحاجة الحقيقية.

بورتريهات

الفقرة التالية مخصصة لرسم ملامح مفصلة بعض الشيء لمعتقلين سياسيين سابقين من خلفيات إيديولوجية وتنظيمية مختلفة. الغرض منها تسليط ضوء على ما لا يقبل الاختزال أو التمثيل المجرد: الألم والصراع الإنساني مع شروط عسيرة غالبا، ومختلفة دوما، وبلا دليل دوما. سنرى أنه لا سجين سابقا يشبه سجينا آخر. إن التوثيق الشخصي، وبالصوت والصورة، لأكبر عدد من المعتقلين السابقين هو ما يمكن أن يحيي تجاربهم ومحنهم.

م. ب

كان طالبا في البكالوريا، عمره 17 عاما، حين اعتقل عام 1980 بتهمة العضوية في "جماعة الإخوان المسلمين". كان واحدا مع ستة آخرين يكبرونه بسنة واحدة، قرؤوا نشرة "النذير" التي كان يصدرها الإخوان في ذلك الوقت. قضى م. 12 عاما وسبعة أشهر في السجن. حكم عليه بالإعدام، وأعيدت محاكمته لأنه حدث، فنال حكما بست سنوات سجنا، بينما أعدم زملاؤه الستة. بعد 3 شهور نصف في حلب (جناح "امن الدولة" في سجن المسلمية) نقل إلى تدمر، حيث قضى سبع سنوات ونصف. نقل بعدها إلى سجن صيدنايا قرب دمشق، حيث قضى خمس سنوات إضافية، وأفرج عنه في نهاية عام 1992.

كان ملزما بمراجعة فرع أمن الدولة بحلب كل شهر طوال 3 سنوات (المراجعة الأولى بعد الإفراج عنه بثلاثة أيام). بعد ذلك صارت المراجعة كل 3 أشهر. يقول إن من اعتقلهم الأمن العسكري كانوا ملزمين بمراجعة كل شهرين ثم صارت كل شهر. وكان في كل مرة يوقع على صفحة خاصة به في فرع امن الدولة بحلب.

عاش مع أسرته، 9 إخوة وأختان والأب والأم، حتى تزوج بعد ثلاث سنوات من الإفراج عنه.

منع من السفر لمدة 7 سنوات، كان يجدد طلب جواز سفر أثناءها كل عام، ثم نال جوازا بفضل "واسطة ثقيلة".

بعد 20 يوما من الإفراج عنه أخذ يتعلم المحاسبة والعمل على الحاسوب، وبفضل معارف والده عمل في شركة خاصة محاسبا. كان يساعد عائلته في الدخل. وحين تزوج بعد ثلاث سنوات من الإفراج عنه، كان لديه مبلغ 125 ألف ليرة من ثمار عمله.

م. ب مؤمن معتدل. لم يمارس الجنس أبدا قبل الزواج. كان أحب فتاة بُعيد الإفراج عنه، لكن أمها رفضت مجرد رؤية وجهه حين رغب في خطبتها. بعد ذلك تزوج من زوجته الحالية منذ عشر سنوات ولديه بنتان. وهو اليوم يعمل في شركة خاصة كبرى في دمشق، ولا يراجع أي جهاز امني. لكنه يقول إنه استثناء.

م.ب استثناء بالفعل. فإذا كان نجا من الإعدام بفضل صغر سنه، فإنه ينجو اليوم من مراجعة أجهزة الأمن بفضل دهائه واتساع علاقاته وحسن تصرفه. وهو اليوم يسافر إلى دول كثيرة من أجل العمل. ويحب مشاهدة الأفلام السينمائية الجيدة. وله أصدقاء علمانيين وشيوعيين، تعرف على بعضهم في السجن وعلى بعضهم خارجه.

يشكو م. أحيانا من نوبات من آلام الظهر في الشتاء، "مردها للتعذيب والضرب الذي تلقيته على ظهري خلال فترة التحقيق وسجن تدمر"، كما يعاني أحيانا من اعتلالات مِعَديّة، لكن صحته جيدة على العموم. ويقول إنه يدين للفترة التي أمضاها في سجن صيدنايا لاستعادة قسط كبير من عافيته النفسية، وللتدرب على العودة إلى الحياة، عن طريق "القراءة و الحوار والاحتكاك اليومي والعميق بشرائح متنوعة من الانتماءات". جدير بالذكر أن معتقلي سجن تدمر يعتبرون تحويلهم إلى سجون أخرى، مثل عدرا وصيدنايا والمسلمية، "أكثر من نصف إفراج". يبقى أن اكثر ما يزعج م. أن أجهزة الأمن لا تزال تتعاطى مع المعتقلين السابقين بوصفهم "مواطنون من الدرجة الثانية" أو "رعايا" لها، لا ينبغي لهم الخروج عن سطوتها.

آ.ك

اعتقل آ. ك، الأرمني الأصل، والمنتسب إلى الحزب الشيوعي - المكتب السياسي، عام 1987، وأفرج عنه عام 2000. حكمته محكمة أمن الدولة عام 1994 ب13 عاما، ومثلها حرمانا من الحقوق المدنية بعد الإفراج عنه، أي تنتهي عام 2013. كان في التاسعة والعشرين عند اعتقاله، وخرج في الثانية والأربعين. كان آ. عازبا، يعمل مساعد مهندس في محافظة الحسكة، شمال شرق سوريا. صديقته تزوجت بعد 8 سنوات من اعتقاله.

بعد خروجه من السجن، تلقى آ. معونة تبلغ 150 ألف ليرة من أهله في سوريا وشقيقته المغتربة في اليمن. هو اليوم لاجئ سياسي في السويد. كان يتعرض لاستدعاءات متكررة من قبل الأجهزة الأمنية في مدينته ولمراقبة مزعجة ومنع من العمل. وقد فاض به الكيل حين استدعي إثر الإفراج عنه إلى فرع الأمن السياسي في الحسكة. هناك تجرأ على القول للعميد علي محسن، رئيس الفرع، "وجودكم [يقصد الأجهزة الأمنية] في هذا البلد خطأ، وعليكم الرحيل، أنت ومن معك، وأن يكون المرجع للمواطن الدستور والمؤسسات لا شلة من اللصوص وقطاع الطرق!" وقف العميد مذهولا حيال هذا التطاول الذي لا يطاق، ثم انفجر: "والله، سأسلخ جلدك يا كلب!" لكن السجين السابق كان قد تحرر من الخوف: "لا أخاف منك ولا ممن وراءك، لأنني تعودت على التعذيب في سجن تدمر، ولم يبقى لكم إلا أن تصفوني جسديا، وهذا أيضا لا يخيفني"! ويبدو أنه أسقط في يد الضابط، فقد وقف يحملق في آ.، قبل أن يلتفت إلى ضابط صغير الرتبة، ويسأله: "ألا ترى معي أن هذا الواقف أمامي مجنون؟!" رد الآخر: "نعم يا سيدي إنه مجنون!" ولا ريب أنهما كانا على حق. فليس غير المجنون يتحدى سلطة قادرة على سحقه كأنه صرصار، دون أن تخشى مساءلة من أحد! كان العميد صريحا كفاية ليعترف للسجين الأعزل: "أتعرف؟ لقد مكثت في هذه المحافظة مدة عشرين عاما، ولم يتجرأ ابن امرأة أن يتكلم معي بالطريقة الذي تتكلم بها أنت!" ووسط حيرته، رفع يده ليضرب آ.، لكنه أعادها ثانية. ولم يعرف ما يفعل غير أن يطرد آ.، ثم يتوعده: "سنعرف كيف نربيك يا ..". لكن آ. قال متحديا لن تراني إلا إذا اعتقلتني. ولم يلبث أن ترك مدينته في أقصى الشمال الشرقي، وأتى إلى دمشق.

هناك عمل لمدة 8 شهور عند شخص، يقول آ. إنه خدعه ولم يمنحه أجره رغم أنه هو الذي عرض عليه العمل، ودفعه إلى المجيء إلى دمشق، واستئجار بيت فيها بـ 5000 آلاف ليرة شهريا. حين ضاقت به السبل، واستجابة لنصيحة من أخيه، سافر إلى الأردن المجاور لسوريا ولجأ إلى مفوضية الأمم المتحدة فيها. وهناك أنفق معظم المبلغ الذي تلقاه كمعونة من أهله، فيما اكتفت المفوضية بحمايته من التسفير المحتمل على يد السلطات الأردنية (بسبب إقامته غير الشرعية) وبتمويل تعلمه للغة الانكليزية. كان آ. قد أصيب بارتفاع ضغط الدم في سجن تدمر "نتيجة التعذيب والخوف اليومي المتواصل"، لكن الإصابة تفاقمت في الأردن، حيث تخلى أخوه عنه أيضا، رغم أنه هو الذي اقترح عليه الذهاب إلى عمان، وكان في وحدته هناك يلقى المؤازرة المعنوية و، إلى حد ما، المادية من شقيقته فقط.

بعد 21 شهرا مرهقة جدا في الأردن، كتب خلالها بضع مقالات في صحف أردنية دون أن ينال عليها أجراً، تمكن من السفر إلى السويد التي كان هاجر إليها أغلب أفراد أسرته، حيث حصل على اللجوء السياسي.

مثل أكثر اللاجئين في البلدان الغربية، يقول آ: "أعيش على الضمان الاجتماعي. يدفعون أجرة البيت والطبابة والكهرباء، ويعطوني مبلغ 3360 كرون سويدي. أدفع منها تلفون عادي 300 كرون وهاتف خليوي 350 كرون، وإنترنت 220 كرون، واشتري أكل بمبلغ 1000 كرون، والباقي أصرفه على اللبس والسفر. المبلغ يجعلني أعيش بشكل مقبول. أما السويدي فلا يكفيه هذا المبلغ". ويعلق: "المشكلة أني أشعر بالخجل من ذلك، فهي في نظر السويدي أشبه بالشحاذة المنظمة، لهذا سأبحث عن عمل حتى آكل من عرق جبيني".

في السويد بدأ آ. يؤلف كتابا يجمع بين الرواية والمذكرات عن السجن. وقد أخذ إجازة من السلطات السويدية المعنية بأمره لمدة عام لينهي الكتاب، وعليه بعد ذلك أن يعود إلى المدرسة أو يبحث عن عمل يعتاش منه. ولا يزال يشكو من ارتفاع ضغط الدم في السويد، رغم الأدوية التي يتناولها يوميا.

يتكتم آ. على علاقته بالمرأة. يفضل القول إنه لا يعاني من أي مشكلة مع النساء منذ خروجه من السجن إلى الآن.

ف. خ

كانت ف. في الرابعة والعشرين عام 1987 حين اعتقلت وزوجها لانتمائهما إلى حزب يساري سوري، حزب العمل الشيوعي. أمضت أربع سنوات، وخرجت "غير مكتملة السعادة"، كما تقول، بسبب بقاء زوجها في السجن لوقت لم يكن ممكنا تقديره. فحين أفرج عنها في نهاية 1991، لم يكون قد أحيل المعتقلون الباقون إلى محكمة أمن الدولة. لن يجري ذلك إلا في نيسان 1992.

عادت ف. لعملها كمعلمة، وأخذت تعويضات عن رواتبها لسنوات اعتقالها الأربعة، وبمساعدة من أهل زوجها اشترت منزلاً صغيراً ليسهم معها في انتظار الزوج الغائب، حسب تعبيرها، وليحقق لها نوعاً من الأمان والاستقرار.

وقد رفضت مرارا الاستجابة لاستدعاءات أجهزة الأمن، ومنعتهم من دخول بيتها. طلبت منهم أن يروها في بيت والدها، وهو ما حصل عدة مرات، ثم توقفوا.

كانت ف. تزور زوجها ب.ج كل شهر في سجنه. "كنت مرة أعود سعيدة وأمضي شهرا كاملا منتعشة"، ومرة "أعود حزينة بسبب سوء تواصل بيننا، أو نحولا بدا عليه، أو لأن زيارتي إليه تزامنت مع تحويله إلى المشفى". كان ب. يعالج من حصيات كلوية ومن ارتفاع ضغط الدم. خلال السنوات الأربعة ونصف التي انقضت قبل أن يفرج عن زوجها، تلقت ف. دعما وتفهما وعونا من أهلها. وكان الزوج "رائعاً وإيجابياً ومتعاوناً وهو داخل السجن، سهّل عليّ التعامل مع أية مشكلات كان يمكن أن تحدث مع عائلته"، التي تقول ف. إن تعاملهم معها كان جيداً.

حين خرج زوجها عام 1996 كانت ف. تعتقد أنه طالما سجنت هي ذاتها فإنهما سيتفاهمان دون صعوبة وينجحان في تجاوز أي عائق بينهما. لكن الأمر لم يكن كذلك. "ما حدث"، تقول، "أني كنت بحاجة للتعويض عن سنوات الانتظار والغربة، وهو بحاجة للملمة نفسه والبحث عن عمل بعد أن جرد من حقوقه المدنية وفصل من عمله" (قبل اعتقاله، كان ب. يعمل مهندساً في إحدى شركات القطاع الحكومي). وسرعان ما غدا البحث عن عمل شغله الشاغل دون جدوى. وسرعان ما بدأت المتاعب العمل تستهلك قواهما معا. كان ب. بحاجة إلى الاسترخاء، لكنه لم يكن قادرا على الاسترخاء دون عمل. أخذت علاقتهما تتوتر. وتشخص ف. "الأزمة" بينهما بأنها "أزمة تواصل"، فقد كان "كل منا ينتظر أن يرمي تعبه عنه". "بعد هذا الزمن الطويل، كل منا ينتظر الحب، يبحث عن حبه القديم، ويريد أن نعيشه بقوة". كانت ف. في الحادية والعشرين و ب. في السابعة والعشرين حين تزوجا دون رضا والدها بعد حب عنيف. "كنا متعبين، فأخذت الهوة تكبر بيننا، إلى أن وصلنا إلى حافة الطلاق". فاقم من ذلك أن ف. خسرت جنينا في الشهر الثالث من عمره. هنا، تقول، "أعلنت استسلامي ورغبت بالخروج من حياته. فهذا ليس زوجي الذي انتظرته". ويشرح الزوج الأمر بالقول إن ف. كانت بحاجة إلى كتف تستند إليه، "وللأسف لم أكن ذاك الكتف. كنت أيضا متعبا، وبحاجة لوقت لأستعيد شيئا من شخصيتي وكياني بالعمل والاندماج بالمجتمع، فأدى ذلك إلى شيء من الإحباط لديها، وإلى إحساس مني بضغطها الشديد عليّ، فحصل ما حصل من تباعد كاد أن يؤدي إلى الطلاق".

يبدو أن هذا الذروة من "الأزمة"، وابتعادهما عن بعضهما طوال أسبوعين، أسهما في "تفريغ الضغوط" التي عاشاها، حسب ف.، ولم يلبث الحب القديم أن أخذ يستيقظ، وقرر الطرفان، وبتدخل محمود من أسرتيهما، إتاحة فرصة أخرى لأنفسهما. كان عام كامل قد انقضى على خروج ب. من السجن.

في تلك الأثناء حصل ب. على عمل جيد. لكن فرحة العمل والانفراج لم تلبث أن تعكرت بفصل ف. من عملها في التعليم دون سبب إلا سابقة اعتقالها. تبين فيما بعد أنها مفصولة منذ قرابة عام ونصف، وأنها لم تبلَّغ قرار فصلها نتيجة خطأ إداري. لكنها هي التي ستدفع ثمن الخطأ. فقد أجبرت على دفع أجورها خلال العام ونصف العام ذاك. وهكذا أعادت المواطنة ف. خ لحكومة بلدها البعثية 66 ألف ليرة سورية! تقول ف. "لم يكن يحق لي مراجعة أي كان أو الاعتراض أو حتى فهم سبب الفصل". حيال هذا الظلم "الأقسى والأصعب" فكرت ف. في الهجرة من البلاد. لكن علاقتها التي تحسنت بثبات مع زوجها ساعدتها على الاحتمال. ظلت عاطلة خمس سنوات قبل أن تحصل على عمل كمعلمة أطفال في مدرسة غير حكومية. تقول: "عوضني هذا العمل عن الظلم الذي أصابني، والطفل الذي فقدته، إضافة لتحسين مستوانا المعيشي". وحينها فقط "توقفت عن الصراع مع الأطباء في محاولة لإنجاب طفل". تتواصل ف. مع زميلاتها في السجن. لقد ابتعدت عن النشاط السياسي وتملكها إحساس بلا جدواه، لكنها تشعر أنها يمكن أن تعمل في مجالات تخص حقوق الطفل والمرأة وأسر المعتقلين.

بعد عشر سنوات من خروج زوجها من السجن، تقول ف. لقد "خسرت ما خسرت، ولكني ربحت أحلى زوج ونفسي". مع ذلك، "أحياناً أسائل نفسي لماذا يزورني حزن عميق يوجع قلبي".

رغم علاقتهما الممتازة، شكرتني ف وزوجها لأنني أسهمت في كشف غطاء عن أشياء لم يقولاها لبعضهما. وتتوفر لدي مؤشرات كثيرة على أن أزواجا كثيرين، وكذلك آباء وأبناء، لم يعرفوا، بكل بساطة، كيف يتكلمون مع بعضهم، ولم يشرح احدهم للآخر ما يريد أو ما يشكو منه.

ح. ن

قضى ح. ن 15 عاما في السجن بين عام 1986 و2001، بتهمة الانتساب لحزب البعث الموالي للعراق. كان في الثالثة والعشرين وقت اعتقاله، وخرج وهو في الثامنة والثلاثين. أحيل إلى محكمة أمن الدولة عام 1992 ونال حكما ب15 عاما. السنوات الستة الأخيرة منها تقريبا في سجن تدمر. وقد كانت "الأسوأ و الأقسى و الأكثر مرارة" في السنوات الخمس عشرة. وقد أفرج عنه في تشرين الثاني 2001. وبالطبع لم يتلق أية زيارة من أهله خلال تلك السنوات الستة.

"في طريقي إلى حلب"، يقول ح. "كان السؤال الذي يؤرقني: هل سأجد والدتي على قيد الحياة أم لا؟" بعد لحظات من صوله في السادسة صباحاً من يوم الأربعاء 14 تشرين الثاني 2001 أدرك أن والدته كانت توفيت قبل ثلاث سنوات.

أمضى الأسبوع الأول يستقبل المهنئين والزوار، محاولا الابتسام ومتظاهرا بالدماثة. كانت سنوات السجن الطوال والقاسية قد عودته على التحمل وابتلاع غصات قلبه.

في عام 2002 أعاد تسجيله في الجامعة التي كان طالبا في سنته الثالثة من دراسة الأدب العربي فيها. وفي 2003 نال ح.، الشاعر المتفوق في آداب العربية، شهادته الجامعية. وفي صيف العام ذاته تزوج. جاء زواجه وسط مصاعب ومشكلات عائلية مع بعض أشقائه، ما ترك آثاراً سلبية عميقة على وضعه المعيشي والنفسي. ترفع ح. عن التحدث عن تفاصيل تلك المشكلات، لكنه يقر أنها ما تزال ترافقه حتى الآن (شباط 2006). كان قد بقي عامان بلا عمل، لكنه امتنع عن طلب العون ممن استولوا على حقوقه.

يرفض ح. لوم أحد غير السلطات، ويعتقد أن "ما يواجهه المعتقل السياسي من صعوبات خارج السجن، والتي تتمثل بحالات التضييق والمساءلة وحجب فرص العمل، إنما هي استمرار للاعتقال، بطريقة أخرى، أي خروج من سجن صغير إلى آخر كبير".

في ربيع 2004 تحسن حاله قليلا، فأقدم على ما كان يحلم به دوما: "طباعة مجموعة شعرية ضمت معظم القصائد التي كتبتها في المعتقل" على حسابه. كان قد نشر ديوانه الأول قبل اعتقاله بشهور. وهو لا يستطيع إخفاء حسرته العميقة على ما ضاع من قصائد وكتابات داخل المعتقل بسبب المصادرات الأمنية والتفتيش المتكرر.

في صيف 2005 تقدم ح. لامتحان مسابقة انتقاء مدرسين، كانت أعلنت عنها وزارة التربية، ونجح في الامتحانين الشفهي و التحريري، وكان اسمه ضمن من قبلوا، وتم إصدار قرار بتعيينهم. لكنه حين حاول استكمال أوراقه، طلبت منه خلاصة سجل عدلي ("لا حكم عليه")، لكنه بالطبع كان محكوما ومحروما من حقوقه المدنية حتى عام 2016. وهو يجزم بأن الجهات الأمنية لم تحجب عنه موافقتها الأمنية المحتومة على أي وظيفة "عند الدولة"، كما يقول السوريون عادة، إلا لأنها تعلم أنه محكوم ومجرد من حقوق المدنية، وأن ذلك يكفي كي لا ينال الوظيفة.

بعد أربع سنوات من خروجه من السجن أصبح ح. أبا لطفلين، يحاول تربيتهما وإعالتهما بإعطاء دروس خصوصية، تؤمن له دخلاً غير منتظم. واليوم تراوده رغبة عارمة للعمل في الشأن الثقافي ومتابعة نشاطه الأدبي، "لكن المؤسسات الثقافية في سورية موبوءة يقوم باغتصابها عدد من المنتفعين".

لا يتعرض ح. لمضايقات أمنية في بلدته الصغيرة شمال سوريا. وربما يكون لتحلل التنظيم الذي كان ينتمي له ضلع في كف الإزعاجات الأمنية عنه.

المعتقلون السابقون الجدد

ينطبق ما سبق على من اعتقلوا أثناء عقد الثمانينات الوحشي، والذين أفرج عنهم في عام 1991 وما بعد. معتقلو عهد ما بعد 2000 صنفان: نشطاء علمانيون مثل سجناء "ربيع دمشق" العشرة الذين اعتقلوا في أيلول 2001، ولم يبق منهم سجينا غير الدكتور عارف دليلة الذي نال حكما بعشر سنوات ينتهي عام 2011. عدا هؤلاء، ربما اعتقل أكثر من عشرة علمانيين آخرين وأفرج عن معظمهم بعد شهور في السجن. الصنف الثاني هم مجموعات إسلامية صغيرة، غير منظمة في كثير من الأحيان. يتعلق الأمر بمئات أو حتى ألوف، حسب تقديرات نشطاء حقوقيين. يحول دون تقدير قريب موثوق لعددهم تكتم أهاليهم الذين يخشون أن ينعكس اهتمام الإعلام والمنظمات الحقوقية بمصيرهم سلبا عليهم، و"سرية" السلطة على مألوف عادة النظم الشمولية. ينال هؤلاء أحكاما تتراوح بين عامين وخمسة أعوام عادة، لكن بعضهم حوكموا أمام محاكم ميدانية ونالوا 10-15 عاما. معظم المفرج عنهم في عمر حول الخامسة والعشرين، معنوياتهم على العموم مرتفعة بعد الإفراج عنهم، ولا ريب أن لذلك علاقة بكون قضيتهم "صاعدة" عالميا في اعتقادهم. يميزهم ما كان يميز الشيوعيين قبل بضعة عقود: انفصال عوالمهم عن عوالم آبائهم الذي قد يصل في بعض الحالات إلى تكفير الابن لأبيه. آباؤهم أكثر بساطة وأبعد كثيرا عن التشدد الديني والسياسي. الجامعيون منهم يعودون إلى الجامعة، ونسبة لافتة منهم تشتغل في أعمال يدوية تتطلب جهدا عضليا. يراجع المفرج عنهم الأجهزة مرة كل شهر.

خاتمة

في مطلع خريف 2005 بادرنا، مجموعة من معتقلين سابقين وناشطين حقوقيين، إلى وضع استمارة بعنوان "ذاكرة"، تطلب من المعتقلين السابقين تسجيل معلومات أساسية عن سجنهم وما بعده. تساءلت استمارة "ذاكرة" عن المدة التي قضاها المعتقلون السابقون في السجن، وعن أعمارهم وقت الاعتقال، وعند الإفراج، وعن عملهم، وحياتهم الأسرية، وأوضاعهم الصحية، وتعامل أجهزة الأمن معهم، وحقوقهم المدنية، وحيازتهم أو عدمها لجواز سفر، وما إلى ذلك. وفي ترويسة الاستمارة قيل أن الهدف منها هو تحرير الذاكرة الوطنية من وزر ثقيل، ورواية التجربة من أجل أن لا نكررها مجددا.

كان تجاوب المعنيين بطيئا ومحدودا بصورة مؤلمة. يمتزج في هذا الموقف شعور بعدم الجدوى، وخشية من عواقب أمنية لنشاط مستقل يقترب من موضوع خطير، عمل النظام كل ما يستطيع لطمسه: الذاكرة. وربما هناك عنصر من عدم الثقة بالأنشطة المرتبطة بحقوق الإنسان التي "أحرقت" سمعتها بسرعة، نتيجة للتنافس غير المشرف بين المجوعات القائمة ولملاحظات وفيرة على السلوك، الشخصي والعام، لرؤسائها وبعض أعضائها. وإلى ذلك، يضاف التسييس أو "التحزيب" المألوف للأنشطة العامة المعارضة في سوريا. إن استخدام تجربة عامة لأغراض حزبية ضيقة ينعكس لدى البعض عدم تعاون، ولدى البعض نفورا من العمل العام.

والحال، لا غني عن جهود توثيقية كبيرة ومكثفة، ومادة وثائقية ضخمة، من أجل أن يمكن الكلام على عوالم السجن وعوالم ما بعد السجن في سورية بدرجة من الجدية. لدينا مادة خام هائلة، لكنها بكماء. إذا تكلمت فإنها ستعطي السوريين وعيا اكبر بشرطهم، وتعرفا أغنى إلى أنفسهم، لكنها أهم من ذلك ستكون أشبه بشهرزاد التي تروي حكاية لا تنتهي مؤجلة الموت يوما بعد يوم. إن رواية حكاية السجن في سوريا، مهما أمكن لها أن تكون مؤلمة، أقل إيلاما من بقائها حبيسة الصدور، تسمم قلوب أصحابها بالحقد والضغينة. وقد تنفجر بصورة بركانية مدمرة إذا ترققت، لسبب ما، طبقات الكبت السياسي فوقها.



[1] قدرت اللجنة السورية لحقوق الإنسان عدد المفقودين السوريي ب17 الفا، وقدمت قوائم اسمية ب4 آلاف منهم، تمكنت من جمع المعلومات عنهم. انظر http://www.shrc.org.uk/data/aspx/d0/2570.aspx. ورسالة موقع أخبار الشرق thisissyria.net اليومية في 6آذار 2006.

[2] خمس دقائق وحسب! تسع سنوات في السجون السورية لهبة الدباغ. والكاتبة اتهمت بالانتماء لتنظيم الإخوان المسلمين، وقد فقدت افراد أسرتها جميعا في مذبحة حماة. وتروي أنها أبلغت الحكم في السجن دون أن تحضر اية جلسة. http://www.shrc.org.uk/data/aspx/010BOOKS.aspx

[3] منهل السراج: كما ينبغي لنهر، الطبعة الأولى، الشارقة، 2004. والرواية ممنوعة الطبع والتداول في سوريا، وقد استعنت بنسخة إلكترونية منها.

[4] http://www.rezgar.com//debat/show.art.asp?t=0&aid=31306

[5] نشرة "كلنا شركاء" الإلكترونية all4syria.org، 17/1/2006. موقع النشرة محجوب في سوريا، لكنها تصل إلى مشتركين في البريد الإلكتروني.