تمويه المعني

٢٠٠٧-٠٤-٣٠

تمويه المعني

صبحي حديدي

ليس غريباً عن مألوف مواقف الروائي المكسيكي كارلوس فوينتيس أن يوجّه إلي الرئيس الأمريكي جورج بوش نقداً شديداً علي كلّ جبهة متاحة، لكنّ هذه المرّة ذهب إلي جانب خاصّ في شخصية بوش، غير منتظَر في العادة ولكنه بالغ السوء في نظر فوينتيس: استخدام اللغة الإسبانية، علي سبيل النفاق السياسي ودغدغة مشاعر 45 مليون أمريكي ناطق بالإسبانية. خذوا هذه الفقرة اللاذعة من تصريح حديث العهد أدلي به فوينتيس خلال مؤتمر دولي يحتفي باللغة الإسبانية، نظّمه الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز في كارتاخينا: حين يلقي بوش خطاباً بالإسبانية، فإنني لا أفهم كلمة واحدة ممّا يقول، تماماً كما تكون حالي حين يتحدّث بالإنكليزية !

وليس الأمر أنّ بوش يتكلّم بإسبانية رديئة إلي حدّ أنّ فوينتيس، ابن اللغة، يعجز عن فهمها. القصد الضمني هو التذكير بتلك الفكرة العتيقة عن لغة تضمر من المعني غير ما تحمله المفردات، أو تفيد نقيض ذلك المعني في أمثلة عديدة. وفي برهة مفصلية من رواية فوينتيس القصيرة الشاطئان ، التي تعيد إنتاج تاريخ المكسيك في قالب حكائي، يتولّي جيرونيمو أغويلار مهمّة الترجمة بين القائد الإسباني هرنان كورتيس (الغازي والمنتصر)، والإمبراطور المكسيكي كواتيموك (ابن الأمّة المنكسرة). وثمّة هنا لعبة بديعة، وبارعة، يديرها فوينتيس علي تلك الحوافّ الخافية بين الواقع والخيال، وبين السجلّ التاريخي والنصّ السردي.

ففي حوليات الغزو الفعلية كما شهدها ودوّنها المؤرّخ الإسباني برنال دياز ديل كاستيلو، ينتحب الإمبراطور المكسيكي جرّاء شعوره بالعار لأنه فشل في الحيلولة دون هزيمة شعبه أمام كورتيس، فيقدّم خنجره الشخصيّ طالباً أن يذبحه القائد الإسباني. ويسجّل دياز أنّ كورتيس بادر إلي مواساة كواتيموك، وخاطبه برقّة، وقال إنه معجب به كثيراً، وإنّ قيادته لشعبه مسألة مشرّفة حتي إذا كانت قد انتهت إلي الهزيمة، وإنه سيعفو عنه، بل وسيبقيه إمبراطوراً علي المكسيك. وأمّا في رواية فوينتيس للمشهد ذاته، فإنّ المترجم أغويلار يتعمّد تحريف أقوال كورتيس لكي تدلّ علي المعني المعاكس تماماً: أنت أسيري، وسأذيقك العذاب الأمرّ. سوف أحرق قدميك وأقدام أنصارك الأسري حتي تعترف بمخابيء كنوز عمّك مونتيزوما. ولسوف أُقْعِدك إلي الأبد، ولكني سأصطحبك كسيحاً باكياً في جميع غزواتي، لكي تكون رمزاً لسطوتي وعبرة لمن يتحدّي سلطاني .

ورغم أنّ أغويلار مارس الكذب المتعمّد في ترجمة أقوال كورتيس، فإنه في الآن ذاته كان قد صدَقَ حول ما سيجري بعدئذ علي الأرض. وبالفعل: لقد عُذّب كواتيموك، وأُحرقت قدماه بالزيت المغلي لكي يعترف بمكان كنوز مونتيزوما، وأُجبر علي مرافقة كورتيس في غزو الهوندوراس، ثمّ شُنق بتهمة التحريض علي العصيان. وهكذا، يقول فوينتيس علي لسان المترجم: لقد ترجمتُ علي هواي. أضفتُ واخترعتُ من عندي وسخرتُ من كورتيس. ترجمتُ، وخُنتُ، واخترعتُ. ولكن ما دام ذلك كلّه حدث، وأصبحت كلماتي حقيقة فعلية، أَلم أكن علي حقّ في ترجمة القائد (كورتيس) بمفعول معاكس لكي أقول الحقيقة لشعوب الأزتيك، مستخدماً أكاذيبي ؟

المترجمون خَوَنة حسب المَثل الإيطالي الشائع، ولكن استناداً إلي طبيعة الترجمة ذاتها أيضاً. ويحدث مراراً أن يعفّ كبار المترجمين عن هذه الخيانة ، ليس لأنهم يكرهون فكرة الخيانة بحدّ ذاتها، بل لأنهم في واقع الأمر لا يفلحون في بلوغ المستوي الرفيع المطلوب الذي يجازف المرء بعده، فيخون وهو مطمئنّ! غير أنّ مثال أغويلار يعرض نمطاً فريداً للغاية من هذه الخيانة، لأنّه إذا كان قد خان اللغة والمفردات والمعني عن سابق عمد وتصميم، وأضاف بذلك خيانات قصدية إلي تلك الخيانات غير القصدية التي تعتري كلّ ترجمة، فإنّه في الواقع انحاز إلي الحقيقة الوحيدة اللائقة بمنطق انتصار القائد العسكري الغازي، ومآل انهزام الإمبراطور ابن البلد. بمعني آخر، كان أغويلار سوف يرتكب الخيانة الحقّة العظمي لو أنه ترجم أقوال كورتيس كما نطق بها حرفياً، لا لشيء إلاّ لكي تثبت الوقائع اللاحقة أنّ تلك الأقوال كانت كاذبة تماماً، وأنّ اللغة كانت مصيدة، وأنّ المعني ليس ذاك الذي يقع في باطن المفردات وحدها، بل هو أيضاً ذلك المعني المُسبق الصُنع ، الناجم عن منطق انتظام علاقات القوّة بين المنتصر والمنهزم، القويّ والضعيف، الغازي وابن البلد.

وفي حوليات اجتياح الإسبان لـ العالم الجديد يظلّ مثال كورتيس فريداً لأنه كان أوّل قائد إسباني يعي دوره الثقافي والتاريخي والسياسي قبل دوره العسكري. لقد درس طبائع وثقافات وأساطير الشعوب التي ينوي غزوها، واختار توقيتاً ثقافياً لاجتياح المكسيك: العام 1519 كان العام المتوقّع لظهور كويتزالكوتل الإله الأفعي المجنّح الذي سيجيء من الشرق، فكان أن جاء كورتيس من الشرق، وقدّم نفسه في صورة ذلك الإله. بوش ليس كورتيس، لا ريب، ولكن في سياق قراءة فوينتيس لتلك اللغة الإسبانية التي يستخدمها بوش، كيف يمكن ترجمة تصريحات الرئيس الأمريكي حول غزو العراق، ابتداء من فكرة الحملة الصليبية، مروراً بحروب الخير المطلق ضدّ الشرّ المطلق، وانتهاء بالوحي الرباني الذي حثّه علي الغزو؟ وكيف يمكن تصحيح المعاني التي تمّ تمويهها طيّ تلك التصريحات، دون ارتكاب خيانة عظمي علي غرار ما يفعل أغويلار؟

هستريا وخوف النظام الدكتاتوري في سوريا يتحول إلى حب و إجماع حول فرعون

هستريا وخوف النظام الدكتاتوري في سوريا يتحول إلى حب و إجماع حول فرعون

محمد مأمون الحمصي

خاص – صفحات سورية -

لقد تحدى الشعب السوري النظام بمقاطعة انتخابات مجلس الشعب وكشف تزويرها وبطلانها فقد أجمع عدد من الصحفيين ورجال الإعلام حول سؤال وزيرا لداخلية في المؤتمر الصحفي الذي عقده لعرض نتائج الانتخابات عن رأيه بالتزوير مما أغضبه وقال لهم: ما عندكم غير هذا السؤال وأنهى المؤتمر الصحفي فورا.

وفي ظل هذا الوضع المؤلم ورغم كل أدوات البطش والرعب المتبعة بحق الشعب من قبل النظام لم يتردد الشعب السوري في إبداء رأيه بهذا المجلس والنظام الذي أراد التحضير للمشهد الثاني من المسرحية وهو حب الشعب لفرعون (أي بشار) وإجماعه عليه لاغتصاب موقع رئاسة الجمهورية فقد كلف رامي مخلوف بهندسة الديكور لهذه المسرحية وإخراجها فهو الممثل الاقتصادي والدولي للعائلة والمختص بسرقة الوطن وأهمها (ثروة النفط ومشتقاتها –شركات الهاتف الخلوي –المناطق الحرة- المصارف- مدينة معرض دمشق الدولي –مناقصات الدولة بطرق وأشكال مختلفة –حتى أصبح الاقتصاد السوري مختزل بعائلة يمثلها حوت اسمه (رامي مخلوف )

حيث جمع يوم أمس في فندق شيراتون دمشق كبار لصوص البلد وبعض الفعاليات الاقتصادية التي لا تستطيع التأخر عن الدعوة لأن الثمن سيكون باهظا وكان عنوان الاجتماع جمع الأموال لتمويل الاحتفالات التي ستقام من أجل الاغتصاب القادم لرئاسة الجمهورية وقد جمع ما يقارب (160) مليون ليرة سورية وسوف يستمر الجمع في الأيام القادمة تحت هذا الشعار والكل يعلم إلى أين ستذهب هذه الأموال أما الذين سيحضرون هذه المسرحية فهم المحرومون المتألمون على البلد من العلماء ورجال الدين والطلاب والمعلمين والعمال والفلاحين وصغار الكسبة ورجال الأعمال الشرفاء ورجال القوات المسلحة ورجال الشرطة والحرفيين والأطباء والمهندسين والمحامين ومختلف فئات الشعب الذين يعانون الفقر والحرمان

يا أبناء سوريا في الخارج يامن تعيشون حرقة القلوب على وطنكم المسلوب يامن فقدتم أشرف الناس وأعزهم على قلوبكم في سجون النظام الحاقد دون معرفة أحوالهم ومصائرهم.

إن وطنكم يستصرخكم لنجدته والعمل على تعرية هذا النظام أمام الرأي العام العالمي والوقوف مواقف علنية وجريئة ضمن برنامج مشترك في وجه المشهد الثاني من المسرحية القادمة مسجلين الدعم والشكر لأهلنا بالداخل الذين لم يبخلوا على وطنهم دافعين أعظم الأثمان في وقت يقف فيه العالم متفرج على ما حل بهم وكلنا يقين أن الإخوة في المعارضة في الداخل والخارج هم الأقوى لأنهم يقفون في وجه الظلم والشر الذي سيزول قريبا إنشاء الله

عاشت سوريا..... عاش شعبها العظيم............كل الحب والاحترام لسجنائنا وأسرهم الأبطال

النائب السوري السابق

تهافت التهافت

تهافت التهافت

عباس بيضون

لا اظن أن كثيرين وخاصة داخل سوريا يهولهم ان يرجع انور البني الى السجن لخمسة اعوام جديدة، بعد الاعوام الطويلة التي سبق له ان امضاها فيه. التهمة التي اقتضت اعادته الى الزنزانة من تلك التهم التي يستعصي نقاشها، وبقدر ما يستحيل تعيينها يستحيل دحضها، المسّ بسمعة البلاد.. مسألة تخص الشرف وتخص الولاء وتخص البيت والعشيرة فلا سبيل الى التهوين منها، وخاصة في ثقافة تستعيض عن الحرية والخبز والكرامة والحقوق الإنسانية بهذا الصنم العائلي الذي اسمه البلاد. البلاد شأن البيت في تقاليدنا لا يصحّ أن يُحرج سمعته او ان ينكشف ستره او ان تفتضح أسراره وان يباح لغريب ولآخر من غير المحارم. سمعة البلاد كسمعة البيت تجرح لأقل نقد واقل تشهير وخاصة امام الاجنبي، فلا يصح ان يقال للاجنبي ان الحكم مستبد، او ان الحكومة فاسدة او ان الشعب جائع، لا يصح فهذا يكشف سترنا امام الاجانب وكلهم بالطبع طامع وعدو، لكن المصيبة هي ان الفقر والاستبداد والفساد أمور معلومة مشهورة يراها الغادي والبادي، ويراها المواطن والاجنبي ويعرفها الناس جميعاً فلا سبيل إلى إخفائها. يعرفها الناس جميعاً إلا أن الامانة تقتضي التستر عليها وإنكارها. كل مواطن خفير وإذا كان كل مواطن خفيراً، فإن عليه ان يكذب في سبيل الوطن. قال انور البني أموراً معلومة، لكنه قالها للاجنبي، ولم تدفعه «وطنيته» لان ينكر او ان يموه فأساء بذلك الى سمعة البلاد، وهي في الاساس هشة عطوب، جروح بالطبع ولا تحتمل مساً.

قال انور البني امام الاجنبي ما يعرفه المواطن والاجنبي، وقال ميشال كيلو امام المواطن والاجنبي ما يعرفانه، وقال عارف دليلة ما لا يجهله سوى الجاهل، قالوا في بلادهم ما ليس سراً على أحد. وقالوا في بلادهم أقل مما يقول، بعض الاميركيين والفرنسيين والالمان واللبنانيين في بلادهم فلا يؤاخذهم احد، ولا يتهمهم بالخروج على الشرف والولاء، فعند هؤلاء ليس للحرية طعم ولا معنى اذا لم يتهم المرء حكومته وسياسيه وأثرياء بلاده، ان لم يتهم شعبه وتاريخه وثقافته برمتها، وعند هؤلاء ليس على المرء ان يعبد بلاده وحاكمه وفريقه الرياضي ومخابراته ليكون ولاؤه أكيداً.

المهم ان حكاية الولاء هذه تجري على الشعب، وأنها وإن خلت من كل معنى الا انها لدى الاغلبية صنم معبود، وليس يهم هذه الاغلبية ان يزج المثقفون بتهم من هذا النوع اذا قيل فيهم انهم كشفوا امام الاجنبي معايب شائعة، فالاجنبي هو الاجنبي وعلينا ان نموه امامه ونتستر ونراعي وننكر، اما اذا كان هذا الفصل مضحكاً واذا كان الكذب القومي صعباً ومستحيلاً، واذا كان الستر في عالم غدا قرية عالمية أكثر افتضاحاً من الكشف وأسوأ عاقبة. اذا كان الامر كذلك فهو لا يغيّر حرفاً في إجماع العشيرة وفي تواطئها.

ليسوا كثيرين الذين يهولهم ان يعود انور البني الى السجن، ولا إن سجن ميشال كيلو واقترب عارف دليلة من سنواته العشر، فالسر الذي يراعيه الجميع، ومعهم السجناء، هو تهافت الأغلبية وبؤس إجماعها.

الرحيل إلى المجهول ــ سجن عدرا ــ

الرحيل إلى المجهول ــ سجن عدرا ــ

آرام كربيت

خاص – صفحات سورية –

عندما خرجنا من المفرزة.. تلقفنا باب حديدي ضخم يمتد من الجدار إلى الجدار.. بعدها على بضعة أمتارأخرى.. باب أخر.. فتح لنا.. قال الشرطي:

أدخلوا.

كانت الشمس قد أرخت جسدها الشتائي الرخو على الارض.. أسبلت جفنيها على المساحات الواسعة لعينيها الناعستين.. فرشت قسماتها.. روحها المبعثرة على الدنيا في ذلك اليوم الكانوني الباهت.. تغوص في ظلال الوقت الكثيف.. وتغيب في التنكر..

كان الوقت.. أشبه بلون الليل العتيق..

هكذا أخذ النهار الثقيل.. يمد خطواته في بعث الارتياب والشك.. في شعور من التردد والحيرة.

الزمن الجائر.. يمتزج بالقلق والتوجس.. وشيء من الذهول الدائم..

عيناي وذهني.. يرحلان إلى الزمن الطلق.. الزمن الأخرالذي لم يلد بعد..

السأم من هذا الوضع.. ينطوي على المجهول.. ترتسم أمامي وروحي جبال من المفاجأت الغير متوقعة..

أنظرإلى الجدران المزنرة.. العالية.. المهاجع والممر الطويل.. أراقب المكان الذي سيحتوي قلبي وروحي.. حريتي.. في رحلة محفوفة بمصير غامض.. وقدر عصي على المعرفة.

تأملت الباحة.. كل شيء يصدني.. أضحت الحياة صندوق مغلق.. مفتاحه بيد سجان.. جلاد متوحش.

صار الخابوربعيداً.. رائحته.. سحره.. قربه من السماء.. أشعة شمسه الحنونة.. بوهيميته وجنونه.. فرحه الدائم.. احتفالياته المسكونة بولادة الجسد والماء.. غاب عني.. رطوبة أرضه المعطرة برائحة الشمس البيضاء.. وزفرات الندى.. التي تتوهج كالؤلؤ المنثور.

الخابور.. الطفل المدلل.. الشيخ الوقور، الرصين، الهادى، الواثق من نفسه، المبتهج دائماً.. بعلاقاته المتنوعة والمتعددة.. مع أشجاره ونباتاته.. ناسه وأحلامه.. حيوناته وكائناته الأخرى.

يخط سيره بمتعة وفرح أغلب الاحيان.

عاصرالقدر.. ونام بجواره.. متكئاً على أشجاره وماءه وترابه.. على البشرالذين مروا على كتفيه وصدره.. ناس وبشر من مختلف الأنواع.. من بداية التأريخ.. منذ أن كتب الانسان.. أول أبجدية.. دوّن نفسه على الأحجاروالفخار..

الخابور.. ديمومة مستمرة.. ألق الحياة.. قبل تشكل الوعي وبعده.. ولد معي.. انحدر من ملامحي.. من المنعطفات البعيدة والقريبة.. مر من قربي.. ألتف وراء ضفافي وحولي.. عندما ينحرف.. يميل ويغيب عن ناظري.. ينبسط ويقترب من مستوى جسدي.. الارض وأمتداداتها.. يفرش نفسه كشاطئ رملي.. يمكن ان تتبضع منه ما تشاء . ثم يعود لينحدر ثانية الى العمق ويتجوف كالكهوف الوثنية فيبتلع نفسه.. وكل من يقف في طريقه.. مزمجراً ونافثاً روائحه وجلود أسماكه وطميه وبقايا أشجاره على السطح.. عندها يعود ليلتحم بي من جديد.. برفقة الكون والحياة..

كنت هناك..

الخابور كان أنا.. لم يحس بالخطر القادم.. مطمئن البال ومرتاح.

كان..

وما يزال.. مئات الآلآف من السنين.. سنة وراء سنة.. مضطجع ونائم على خاصرته اليمنى أو اليسرى.. على ظهره أوبطنه.. رغم المخاطر.. لم يحس بالخوف أو الرعب.. أعتبركل شبكة غريبة.. خلية دخيلة أو مجس مرفوض.. لهذا ظل مطمئناً.. مستسلماً لمعانقة الحياة..

بقى وما يزال.. يعانق القدر دون ان يجهز الوسائل لتبقيه على قيد الحياة.. يقول لنفسه:

كما جاؤوا سيرحلوا.. سيذهبوا ويزولوا..

الوداعة جزء من طبيعته.. لا يعرف الغدر والخديعة.. يقفزوينط.. يمشي ويغني.. يضحك ويصيح.. بسبب أودون سبب.. يتحرك في الأرض الملتصقة به.. لم ير أويشاهد النصل الحاد فوق رأسه ورقبته.. تحت جدعه وفمه.. بين فخذيه وشرجه.. مسترخياً لمصير غامض .

الخابور.. يريد أن يبقى وديعاً.

القدريحوم حوله.. اسرار غريبة ترمي شباكها حول روحه.. لكنه.. مستمرفي رسم سيفونيته الخالدة.. وأنا.. الذي منه.. صار.. وصرت بعيداً عنه.. وبعيد عني.

عندما جاؤوا إليه.. جاؤوا.. خلسة في أواخرالليل المدلهم.. البارد.. كان الخابور.. نائماً في حضن الزمن.. جاءته قطعان متوحشة.. قطعان غريبة الأوصاف والأشكال.. رابطوا وراء الأكمة.. زحفوا ببطء شديد.. كأسراب الجراد أوالحيونات الخرافية الجائعة.. تلتهم كل شيء.. بدأوا ببياض عينيه.. أخذوا يحفرون بقسوة حتى وصلوا إلى الحدقة والاعصاب.. راحوا يسرقوه ببطء.. يسرقون كل شيء.. أحجارمدافنه.. شواهد القبور.. ويقتلعوا الأماكن الخصبة فيه والقابلة للحياة..

كانوا في أبرة واحدة وخيط واحد رفيع.. لكنه طويل.. متماسكين وأيديهم مشدودة ببعضها البعض بوشائج سميكة مترابطة.. يدفعهم الظمأ لرائحة الدم العطرة.. واقتلاع كل من يقف في طريقهم.. دخلوا في الجذور.. مضوا في نبشها وتخريبها.. كانوا يتلذذون بشي كل شيء حي.. يضعونه على النارالهادئة.. يتنقلون بغرابة عجيبة.. من مكان لمكان.. بسرعة هائلة.. كالطيوف أوالقطعان القاتلة.. يمرون.. يحملون الادران المقيحة في قلوبهم وأيديهم.. يفرغوها فوق وسائد السهول والمساحات المفتوحة..

أضحت مملكة العتمة سميكة.. متماسكة.. وتتغير الأشياء بغرابة وتندثر.. بينما الخابور مستمرفي سلق الزمن برتابة غريبة وأطمئنان أحمق.

هكذا دخلنا السجن.. مملكة الجلاد وعرينه العالي والمتسيد..

مشينا في الممرالطويل..

كل شيء رمادي وباهت.. ألوان الحيطان والسقف.. لون الحياة ومرارة الأنتظارالطويل.

مشينا في الممربحدود عشرة أمتار.. صعدنا بضعة درجات.. بعدها فسحة بحدود خمسة أمتار.. بضعة درجات أخرى.. صرنا في الممرالطويل.. طوله بحدود مئة وعشرون متراً.. يمتد من المهجع الثاني إلى الشبك الحديدي للمطعم.. يطل على ستة مهاجع.. بين المهجع والأخرباحة.. وعلى إطلالة كل باحة نافذة كبيرة عليها شبك معدني سميك يمنع الرؤية ويكون بمثابة عازل.. حتى لا يرى سجناء الحق العام.. السجناء السياسيون وبالعكس.

وصلنا إلى الباحة الرئيسية وهي بحدود خمسة وعشرون متراً في ثمانية عشرة متراً.. كان الباب مفتوحاً.. وقفنا على مصطبة الدرج ورحنا نتأمل الغيوم المتناثرة في قبة السماء.

بينما كنا وقوفاً.. نتأمل محيط الباحة.. اقترب منا أحد السجناء.. يلبس بيجما زرقاء.. سألنا بصورة مباشرة.. قال:

ــ هل أنتم سجناء الحق العام أم سياسيون.. قال محمد خير:

ــ نحن سجناء سياسيون.. أردف:

ــ من أي تنظيم..

الحقيقة أستغربنا من أسئلته المباشرة.. والواضحة.. أهتمامه وصراحته.. التي لم نعتادها خارج السجن.. رد عليه محمد مرة أخرى:

ــ نحن.. من الحزب الشيوعي / المكتب السياسي/.

رحب بنا وقال لنا: تعالوا معي إلى المهجع الثاني.. فهو مهجع رفاقكم.. أستغربنا من وضوحه مرة ثانية.. سألناه:

ــ هل يوجد هنا.. سجناء سياسيون.. قال: نعم.. وأردف:

ــ المهجع الثاني.. هوللحزب الشيوعي/ المكتب السياسي/.. بينما المهجع الرابع.. هو لحزب العمل الشيوعي.. والمهجع السادس.. للأخوان المسلمين.. والثامن للنقابيين.. نقابة المهندسين ونقابة المحامين.. والمهجع العاشر.. لتنظيم الشعبي الناصري.. والثاني عشر.. لأطفال أحداث الشغب في اللأذقية مع سجناء الحق العام.. وخاصة الجرائم الأقتصادية. توقف قليلاً وراح يشير بيديه على كل مهجع بينما نحن نمشي معه.. قال:

ــ لكن في كل مهجع قوى أخر.. وأحياناً الأختلاط بين القوى.. متعدد ومتنوع.. ففي المهجع الثاني.. يتواجد مع المكتب السياسي.. أربعة أشخاص من حزب العمل الشيوعي.. وخمسة من حزب البعث العربي الأشتراكي/ العراق/.. بينما في المهجع الرابع.. الأغلبية من حزب العمل الشيوعي.. لكن فيه ستة من حزب البعث العربي الأشتراكي/ صلاح جديد/.. وواحد من حزب العمال الثوري العربي.. وواحد من الحزب الشيوعي/المكتب السياسي/.. بينما في المهجع السادس بالإضافة إلى تهمة الأنتماء إلى الأخوان المسلمين.. يوجد أثنان من حزب التحريرالأسلامي.. وواحد من التنظيم الشعبي الناصري.. وستة من حزب البعث العربي الأشتراكي/ العراق/.. بينما المهجع الثامن فيه ثلاث أفراد من نقابة المحامين.. وثمانية من نقابة المهندسن.. وثلاثة من المتهمين بالأنتماء إلى الأخوان المسلمين مع مجموعة من الرهائن.. الشيخ أبو سليم وولديه.. وصهريه.. كلهم من محافظ درعا.. أما المهجع العاشر.. ففيه التنظيم الشعبي الناصري مع بعض الرهائن أيضاً.. أزواج بنات الشيخ الجليل مع أثنان من حزب العمل الشيوعي وواحد من حزب البعث العربي الأشتراكي/ صلاح جديد/.. وبعض المتهمين بالانتماء إلى حزب البعث العربي الأشتراكي/ العراق/ مع بعض الأفراد من أحداث الشغب.. أما الثاني عشر فهو خليط عجيب من كل الأنواع سأمرعليه لأحقاً. ثم أردف بصوته الجهوري العالي:

ــ جميع السجناء لهم مدد طويلة في السجن.. تنقلوا بين عدة سجون.. التحقيق العسكري.. القوى الجوية.. سجن القلعة.. الشيخ حسن.. ثم عدرا.. وراح يسأل:

هل جئتم من سجن الشيخ حسن أم من فرع التحقيق.. رد عليه محمد خيربأقتضاب:

ــ جئنا مباشرة من سجن الحسكة.. لم نمر على سجن الشيخ حسن.. قال: هذا فال خير.. إنه سجن صعب للغاية.. وقديم جداً.. زنازينه تبعث على الكآبة من اللحظة الأولى.

منذ دخولنا المهجع الثاني.. قال السجين الذي قادنا بصوته الجهوري والعالي.. موجهاً كلامه للجميع:

ــ لديكم رفاق جدد.. معتقلون جدد.

نهض الجميع من أسرتهم واقتربوا منا.. راحوا يسلموا علينا.. ويرحبوا بنا.. وعلى وجوههم علامات حزن دفين.. وكانت أكثر الأسئلة التي تتوارد منهم: الحمد لله على السلامة.. لا تخافوا.. مرحلة التحقيق أنتهت.. ما دمتم.. جئتم إلى هنا.. إلا إذا أستجد شيء جديد لديهم.. أي لدى الأجهزة الأمنية.

وتعود الأسئلة تطرح بالحاح أكثر..

ــ هل هناك معتقلون جدد؟.. غيركم في الخارج!.. هل هناك ملاحقون؟.. عددهم؟.. من أية أحزاب؟.. هل هناك حملة جديدة على الحزب؟.. الأحزاب الأخرى؟.. ما هو حال الشارع.؟.. وضع الناس والأحزاب؟.. نشاطها؟.. وضع السلطة وعلاقتها بالمجتمع؟.. أسلوب التعذيب.. هل هو قاس؟.. أم أن الأجهزة مسترخية؟.. من خلال الأجابات البسيط.. تتولد لدى السجين القديم.. الذي أمضى سنوات طويلة في السجن.. أنطباع عام عن الحياة.. لظنهم أن السجين الجديد.. القادم من الحياة العامة.. يعرف كل شيء.. لهذا يتفحصون كل كلمة.. وكل حرف يقولها.. تراهم.. يحللون هذه الكلمات ويركبونها.. وكأنها نبراس أو دستورمطلق.. لأحساسهم بأن السجين الجديد.. مطلع على أخبارالوطن كله.. وكل اوضاعه العامة والخاصة.. ولأن محيط السجن صغير.. يتحول العالم الخارجي لديه إلى جزيرة صغيرة.. وجميع الناس تعرف بعضها البعض.

دائماً.. السجين القديم يحس بالكآبة.. عندما يستقبل سجين جديد.. يتولد لديه إحساس بالنفوروالعجز.. يشعرأن السلطة مستمرة في البطش والأعتقال.. وأن لحظة الأنفراج بعيدة.. وسجنه عائم ومستمر.. وأن سيف السلطة مشرع.. سيف خارج من غمده.. يضرب كل من يقف في طريقه.. تتوالد لديه أسئلة حارقة ومؤلمة.. متى سنخرج من السجن.. وبأي ظرف.. الشروط التي ستدفع مقابل الخروج من السجن.. كما إنه يعرف تماماً.. أن خروجه من السجن مرتبط بجملة شروط.. محلية وأقليمية ودولية.. وغير ذلك وهم وضحك على الدقن..

بل لدى السجناء القدامى.. تجربة معروفة مع هذ النوع من الأنظمة.. حيث يوضع السجين في السجن.. هنا.. في هذا المكان.. دون سؤال أو جواب.. إلى أن يتعفن أو ويموت من القهر والغم.. ولا يخرج إلا في ثلاث شروط.. إما جثة هامدة.. أو مرض مستعص كالسرطان أو غيره تؤدي به إلى القبر.. أو بعفو مشروط من رأس النظام.. يتحول فيها صاحب الحق/ السجين/ إلى دمية بيد السلطة.

كنت بين جدران الأمل.. أنظرحولي.. بشر وأشياء.. كصور متنقلة أو حلم غريب الأطوار.. مثبتاً بصري على الوجوه.. ابتسامات مرهونة للزمن.. فيها قدر كبير من المرارة والقهر.. صور لحنين وأمل بعيد.. أرواح مدفونة في عزلة بعيدة.. غائب عنها ألوان الحياة والفرح.. في ظل حصاركبير.. وبمجاهدة رحت أطوف على سطح المياه العذبة.. كالهمسات الخافتة أو الضوء المنبعث من مصابيح البحار البعيدة.. صوتي يرتد علي في ظل الانكسارات المريرة.. في أرض معزولة.. وحدود مغلقة.. أسير في ظل هذيان لا مرئي.. احمل بوحي وأرحل لبعيد.

كنت أنظر إلى السجناء.. إلى وجوههم الحزينة المتعبة.. أعوام طويلة مركونة في زوايا الاهمال.. كل واحد داخل سرد مغلق.. صامتاً.. مبتلعاً كلماته المخنوقة في حنجرته..

تكوموا جميعهم حولنا.. رفاقنا في المكتب السياسي.. أحمد فايز الفواز.. عمر قشاش.. نقولا الزهر.. مصطفى حسين.. أمين مارديني.. عدنان أبو جنب.. عدنان مقداد.. حمزة حبوس.. يوشع الخطيب.. المرحوم رضا حداد ومنير الحصني..

حدق أحمد فايز الفواز فينا وقال:

ــ الحمد الله على سلامتكم.. هنا.. في هذا المكان الشيء الوحيد الذي عليكم القيام به.. هو الأهتمام بصحتكم.. النفسية والجسدية.. السجن.. طويل ومفتوح.. أفاق الخروج منه بعيدة.. لذلك عليكم مزاولة الرياضة اليومية.. أن تنسوا الحياة في الخارج وتركزوا أهتمامكم على القراءة.. يوجد في السجن مكتبة كبيرة.. فيها كتب متعددة ومتنوعة.. تأريخ.. سياسة.. أدب وفن.. كل ما تحبون قراءته. الزيارت هنا كل أسبوعين للسجناء القدامى بينما زياراتكم ستفتح.. ربما بعد سنة أو أكثر.. هذا مرهون بتقديراتهم.. وأمزجة الأجهزة الأمنية.

كان عدد السجناء في تلك المرحلة.. في سجن عدرا بدمشق.. بحدود المئة والخمسون سجيناً سياسياً.. موزعين على مختلف القوى السياسية السورية المعارضة للنظام السياسي في سورية.

بعد فترة راحة واسترخاء.. وحديث عام.. جلب يوشع الخطيب المقص وتقدم نحوي.. قال في أشارة موجهة لي:

ــ تعال أجلس هنا.. أشار إلى كرسي مصنوع من أربعة علب حليب كبيرة.. مربوطة بخيطان مجدولة.. مسك رأسي وراح يحلق شعري أولاً.. ثم شعرمحمد خيرثانياًً..

بعد لحظات قليلة من أنتهاء الحلاقة.. أعطانا رفيقنا حمزة حبوس شفرة حلاقة مع صابونة.. حلقنا دقوننا الطويلة.. ثم تحممنا في مكان ضيق.. متر في متر..

بعد الحمام جلسنا على سرير نقولا الزهرالمحاذي لسرير عمرقشاش..

كل دقيقة.. أو دقيقتين.. كان يدخل أحد السجناء من المهاجع الأخرى.. يسلم علينا ويرحب بنا.. كأننا في عزبة أو مضافة عرب.. في صحراء داشرة لا ناس فيها.. سوانا! حيث الحياة فيها خاضعة لشروط مرتبة ومنظمة.. لكون الكثير من السجناء لهم مدد طويلة.. تصل إلى سبعة أعوام.. ومرشحة لتبقى عشرات السنين القادمة في هذا السجن أو السجون الأخرى.. بالتالي.. الكثير منهم يتعامل مع المكان كأنه مكان دائم.. بيته ووطنه.. حياة مؤبدة في السجن.. ولهذا كانوا يقسمون المكان بالسنتمتروأعشار السنتمتر.. حدود عالية في العلاقات الشخصية.. هذا لي.. وهذا لك.. بدقة كبيرة.. سواء في الأكل أو الحمام أو التنظيف.. سواء في تنظيف المراحيض أو المهجع.. في غسيل الثياب أو سماع الراديو.. في لحظات الأسترخاء والتأمل.. حيث خصص كل مهجع لنفسه.. ساعتين من كل يوم.. يكون فيها الصمت كاملاً.. يسترخي كل واحد على سريره.. كأنه يمارس اليوغا.. أو كناسك يناجي ربه في صومعة بعيدة.. أو يقرأ في كتابه.

كانت أسرتنا.. الفرّش والوسائد.. مرمية على الجدار المحاذي للمهج السادس..

بقينا ذلك اليوم.. بين رفاقنا إلى حلول الظلام.. إلى حين أغلاق الأبواب.. أو ما يسمى وقت التأمين.. حيث يدور الشرطي كل يوم على المهاجع ويقرأ الأسماء ويتفقد السجناء.

دخلنا المهجع السادس مع أسرتنا.. عند الساعة الخامسة مساءاً.. قرأ الشرطي أسمائنا.. أغلق الباب من الخارج ومضى.. كنا وقوفاً بجانب أسرتنا في ممر المهجع بأنتظار أن يجدوا لنا مكاناً في المهجع..

كان رئيس المهجع.. محمد خوجة.. من المتهمين بالانتماء إلى حزب التحريرالاسلامي.. يسعى إلى أيجاد مكان لنا.. حيث يحتل أحد عشرة سريراً من كل جانب على الارض.. وهي للسجناء القدامى.. بينما.. مثلنا.. الجدد!.. يجب أن يوضع فوق سرير أرضي أخر.. سرير فوق سرير.. أجرى خوجة القرعة على المكان.. فوقع الأختيار.. أنا.. سريري فوق سرير.. بسام الأشقر.. وسريرمحمد خير.. فوق سريرحسين قلة.. كلاهما من المتهمين بالانتماء إلى الاخوان المسلمين..

جل سجناء الأخوان.. كانوا.. قد أمضوا سنوات سجنهم السبعة في سجن تدمرالعسكري قبل جلبهم إلى سجن عدرا.. هؤلاء.. لم تثبت عليهم أية علاقة مع التنظيم.. لذلك.. كانت السلطات السورية قد قررت الأفراج عنهم.. كل شهرأثنان.. لكنهم بقوا في السجن.. خمسة سنوات أضافية قبل الأفراج عنهم.. أي إلى نهاية عام /1991/.

كانت الأسرة معدنية.. عرضها بحدود سبعين سم.. وطولها بحدود المترين.. مثل أسرة الجيش والشرطة.

يتبع..

حوار حول الإرهاب مع الكاتب جورج كتن

حوار حول الإرهاب مع الكاتب جورج كتن

أجرت سمية درويش من غزة

* كيف تقرا التفجيرات الأخيرة التي طالت بعض العواصم العربية؟

- التفجيرات غير مبررة كأعمال إجرامية لمدعين بتطبيق نصوص دينية بوسائل همجية. وهي ليست التفجيرات الأولى ولن تكون الأخيرة, طالما أن أوضاع المنطقة على حالها من التخلف المجتمعي وهيمنة سلطات مستبدة وفاسدة. وإذا كانت محاولة القيام بتفجيرات في المغرب قد فشلت واضطر الانتحاريون لتفجير أنفسهم قبل الوصول لأهدافهم, فإن نجاح العملية الوحشية في الجزائر في قتل وجرح العشرات من المواطنين, لا يضيف الكثير إلى سجل المنظمات الجزائرية الإرهابية التي أهرقت دماء مئات آلاف الضحايا على يد "الجماعة الإسلامية المسلحة" و"الجماعة السلفية للدعوة والجهاد" المنشقة عنها والمنضمة للقاعدة.

* برأيك هل نجحت القاعدة بالتسلل لعقول الشباب العربي واستقطابهم لصفوفها؟

- نجاح القاعدة بتجنيد أعداد من الشباب ودفعهم للانتحار بتفجير أنفسهم بين المواطنين, هو نتيجة لأسباب متعددة أهمها التخلف الاقتصادي والتعليمي والثقافي في العالم الإسلامي, لدول تخفي تحت قشرة مؤسساتها وقوانينها الحديثة مجتمعاً محكوماً بمفاهيم دينية متوارثة, يرفض التغيير ويتمسك بأساليب الحياة السائدة منذ قرون, يوجه بفتاوى صادرة عن رجال دين لم يقتنعوا بعد بضرورة إصلاح ديني يفتح الباب للاجتهاد في تفسير النصوص لتلائم العصر, يتبنون مفهوما للجهاد تجاوزه الزمن يمكن من تجنيد انتحاريين لتدمير الحضارة الحديثة المتناقضة مع تصوراتهم الذهنية.

التخلف والأمية والفقر والجهل والتطرف الديني والاستبداد.. عوامل متداخلة توفر لإسلام سياسي المناخ الملائم لاستثمار البنية الاجتماعية المتخلفة للتحكم بمصائر الناس وطرح برنامج يتلخص في: المرجعية في كل أمور الحياة للنصوص القديمة الصالحة لكل زمان ومكان, والوقائع الجديدة انحراف وخروج عن الحياة الموصوفة في النصوص منذ قرون, وإن ما صلح لعهد الخلفاء الراشدين يصلح لعصر الذرة والفضاء والعولمة والديمقراطية والانترنت والمرأة المتعلمة.. أما العقل فمهمته حفظ النصوص وتطبيق حلولها المتخلفة قسراً.

إذا كانت هناك فروق بين إسلام سياسي معتدل ومتطرف فإن بدايات الطرفين مشتركة, عملية غسل دماغ داخل مؤسسات وتنظيمات دينية, إلى أن تأتي مراحل تخرج الإرهابيين من صفوف المعتدلين كانشقاقات لجماعات نافذة الصبر, مستعجلة على أسلمة المجتمعات المحلية والعالمية في ظل "خلافة إسلامية" متوهمة.

سيبقى الخطاب الديني المتشدد والفتاوى المتطرفة ناجحة في تجنيد الانتحاريين, إلى أن يبدأ الناس نتيجة تقدم تفكيرهم بالشك فيها وتدويرها في عقولهم ومقارنتها بمنطق العصر, عندها ستتقلص مجالات التجنيد وتتغلب الحياة على الدعوة لتعميم الموت الهمجي, وإلا فإن دعوة أفراد للانتحار ستتحول مع الزمن إلى دعوة لانتحار جماعي لشعوب بكاملها رفضت الحداثة وتمسكت بأسلوب الحياة القديمة وفشلت في فرضه على البشرية.

* هناك نشاط مكثف لأجهزة المخابرات العربية للحيلولة دون وقوع تفجيرات للقاعدة، ورغم ذلك يخترق هذا التنظيم أجهزة الأمن ويضرب في قلب المناطق الحساسة، إلى من تردون الفشل؟

- لا يمكن لأي جهاز أمن عربي مهما كان متقدماً وقف العمليات الإرهابية نهائياً, فالإرهاب لا يمكن القضاء عليه بالوسائل الأمنية وحدها إذ لا بد من تجفيف منابعه الفكرية, وهي مسألة لا تقدم عليها الأنظمة الشمولية التي لن تسعى لمواجهة أسباب الإرهاب التي يقف الاستبداد على رأسها, وهي تتشابه مع الإسلام السياسي في استخدام النصوص الدينية لتسويغ سياساتها, وتقمع المتطرفين الإسلاميين الذين يهددون هيمنتها, وتعتمد على تيارات إسلامية أخرى لصالح استمرار سلطتها, فتستخدم المفاهيم الدينية كوسيلة مثل "الوطنية" و"القومية" أو "الاشتراكية" و"الثورية", للدفاع عن احتكارها للسلطة والثروة.

النجاح في مواجهة الإرهاب عملية طويلة تحتاج لتغييرات تأتي بأنظمة ديمقراطية تمنع صدور أية فتوى أو برامج تعليم ديني قبل تحديد مدى توافقها مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهود والمواثيق الدولية, التي يجب أن تدرس كبديل لثقافة الجهاد والاستشهاد, بعكس ما يسعى إليه الإسلام السياسي بملائمة القوانين للشرع حسب تفسيره له. المعركة الأساسية ضد الإرهاب في التعليم والإعلام في المدارس والجامعات والبيوت والفضائيات والصحف وكل وسائل إيصال مفاهيم العصر الإنسانية كبديل عما هو سائد من أفكار بالية.

إن الانفتاح على العالم وعلاقاته الاجتماعية المتطورة وثقافته وعلومه واستثماراته ليس تفريطاً بالهوية, بل الطريق نحو التمدن والتنمية البشرية والمادية وتحسين الأحوال المعيشية للناس, والانتقال من ثقافة الموت والتكفير والتفجير والكراهية, إلى ثقافة التمتع بالحياة والإبداع والتطوير والتسامح والفكر النقدي وحوار الثقافات والديانات وإعلاء العقل بدل النقل وجهاد النفس بدل الجهاد ضد الآخر المختلف.. إلى رفع قيمة الإنسان فوق أية أيديولوجيا حتى الدينية منها التي هي في خدمة الإنسان وليس العكس.. إلى نبذ أحقاد الماضي التي تغنيها نصوص غيبية.. إلى رفض العداء لغير المسلم والمرأة والعقل والحداثة.. إلى فصل الدين عن الدولة, حسب علمانية توفر حريات لكافة الأديان والمذاهب وتمنع التمييز الطائفي واضطهاد الأقليات واستغلال الدين لصالح السلطة القائمة.

وإذا كان جوهر المساهمة المطلوبة لمجتمعات وأنظمة المنطقة التي تصدر الإرهاب, مواجهة شاملة لا تقتصر على الجوانب الأمنية بل تشمل تجفيف مصادر الإرهاب الفكرية والثقافية, فإن "الحرب على الإرهاب" تشارك فيها دول ومجتمعات العالم ضد من يمارسه أو يموله أو يقدم له ملاذات آمنة أو يبرره.., بعكس الادعاء بأن الحرب هي غطاء "لمخططات للقضاء على الإسلام والمسلمين!".

* المنطقة الفلسطينية رغم خصوصيتها بسبب الاحتلال، إلا أنها تشهد حاليا بزوغ مجموعات تتبع فكريا للقاعدة، برأيك هل هذا يشكل خطرا على المجتمع الفلسطيني، وتبرير ضربات إسرائيل؟

- إن تشكيل مجموعات إرهابية تتبع "القاعدة" في فلسطين المحتلة نتيجة مؤكدة لانتشار الأعمال الانتحارية التي مارستها منظمات حماس والجهاد التي أطلقت الانفلات الأمني ورعته, وروجت لحلول تعتمد لإنهاء الاحتلال على العنف الذي ينزلق بسهولة إلى إرهاب مسلح, والذي ثبتت عدم نجاعته بعد حروب متعددة عربية وفلسطينية, بدل التوجه لحلول سلمية تفاوضية تصل لنتائج بتأييد دولي وعربي وقوى إسرائيلية راغبة في السلام.

من مصلحة القاعدة التواجد في فلسطين لتبرير أعمالها وشرعنتها على أساس أنها عمليات مقاومة ضد المحتل, فيما هي في حقيقتها حرب ضد الجميع لإقامة دولة دينية من نموذج إمارة طالبان المنقرضة, وحرب ضد العالم لنشر الدين في "دار الكفر" كما أعلن قادتها, لا تنتهي بتحرير فلسطين أو العراق..

جميع أشكال الأعمال الانتحارية الإرهابية ضد المدنيين شكلت خطراً على المجتمع الفلسطيني الذي تدهورت أوضاعه دون أية نتائج في إنهاء الاحتلال, ولن تزيد القاعدة على ذلك إذا تواجدت, ولن تحتاج إسرائيل لمبررات جديدة لاعتداءاتها, إذ أن منظمات فلسطينية لا زالت تمارس هذه الأعمال, مثل "الجهاد" التي لم تقبل وقف إطلاق النار الساري المفعول. وربما يكون للقاعدة تأثيراً فيما لو أصبح قبول حماس الأخير للحلول التفاوضية الواقعية أمراً لا لبس فيه ولا عودة عنه.

* عمليات الانتقام التي يشنها الاحتلال الأميركي بالعراق وكذلك الإسرائيلي بفلسطين، في ظل الصمت العربي المريب، برأيك ما مدى تأثيرها على الشباب العربي، وانضمامهم للحركات المتطرفة؟

- لا أرى أن هناك "صمت عربي مريب", فالأنظمة العربية تفضل إرجاع انتشار العمليات الإرهابية لعدم حل المشكلات السياسية في المنطقة مثل الاحتلال الإسرائيلي والوجود الأجنبي في العراق, لكي تبعد عنها المحاسبة كأنظمة استبدادية فاسدة أوصلت دولها ومجتمعاتها إلى حافة الانهيار الذي مكن من انتشار الإرهاب, ويفضل بعضها تشجيع العمل الإرهابي في العراق تحت ذريعة "المقاومة", لأن استقرار الأمن فيه سيؤدي لعراق ديمقراطي يفضح أنظمة حكمها المطلقة, فهي تعمل لإبقاء الصراع المسلح فيه كضمانة لعدم استبدالها, إلا أنها في دعمها للمنظمات الإرهابية العراقية أو غضها النظر عن نشاطاتها, تعرض المنطقة بمجملها لمخاطر شاملة.

إن انضمام شباب إلى الحركات الإرهابية المتطرفة لا يغير من النتيجة النهائية, فالدولة الطالبانية الأفغانية الظلامية انهارت رغم مئات آلاف مسلحيها, والجماعة الإسلامية في الجزائر ومصر اندحرت, ونظام المحاكم الإسلامية القريب من "القاعدة" في الصومال سقط خلال أيام, وقيادات وكوادر الإرهاب تقتل كل يوم في الاشتباكات المسلحة في المغرب وتونس والسعودية... وتنتشر الصراعات المسلحة بين منظمات القاعدة وأنصار السنة والجيش الإسلامي في العراق, بعد أن كفرت بعضها بعضاً..

* هل من مخرج من هذه الأزمة الشاملة؟

- لا نظن أن حالة مجتمعات المنطقة نهائية فهي قابلة للتغيير مثل غيرها من مجتمعات العالم, إذ ستتعلم من تجاربها وضع ثقتها فيمن يخرجها من عباءة القرون الوسطى, ويعمل لصالح حياتها الراهنة ويوفر عليها أكلافاً جسيمة في حالة استمرار الإرهاب وتحقير الحياة ونشر الخراب والعزلة عن الحضارة البشرية..

سيظل الأمل حياً في النفوس طالما أن هناك مقتنعون بالانفتاح على العالم المتحضر واللحاق بالعصر وتفضيل العولمة الإنسانية على النرجسية القومية والدينية, والتخلي عن المفاهيم القديمة والأحقاد التاريخية, والتمسك بالدولة الحديثة الديمقراطية العلمانية, واحترام الإنسان كأسمى قيمة, وتحرير العقل من النص, ومساواة المرأة بالرجل, وانتصار حب الحياة والتمتع بها على تمجيد الموت, ونبذ العنف وحل الخلافات بالحوار...

هذه الأفكار والمفاهيم تكتسب يومياً دعاة وأنصاراً جدد "ليسوا وحدهم في العالم". المواجهة طويلة مع الإرهاب المرافق للتخلف والاستبداد والأثمان التي ستدفع كبيرة, لكن التغيير ممكن طالما أنه ضمن مسيرة التاريخ الإنساني وليس في مواجهتها.

مخيم "التنف".. شكل آخر للموت


مخيم "التنف".. شكل آخر للموت

رزان زيتونة

منذ سنوات بعيدة، وقبل أن أزور مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في دمشق، كنت أتخيل بأن المخيم هو عبارة عن مجموعة خيام منصوبة في الصحراء، يعاني أهلها حر الصيف وبرد الشتاء وقسوة التهجير كل يوم. تبددت الخيالات فيما بعد برؤية الأسواق والأبنية وأعمدة الكهرباء في تلك المخيمات. ها قد مرت الأعوام، وتعقلنت خيالاتي وظنوني، لكن العالم فيما يبدو، هو الذي ازداد جنونا مع الوقت.

قد لا تبدو مفردة الجنون في مكانها هنا. إذ أقل ما يقال، أن وحشية لا تعرف حدودا، هي التي تسم العالم لكي يترك بضع مئات من البشر عرضة للمرض ودهس السيارات والحرائق، وكأنما المطلوب تماما، أن يموتوا موتا بطيئا.. أو سريعا، لا فرق.

وها هي الخيام تعود لتفترش جزءا من الصحراء، ويعاني أهلها حر الصيف وبرد الشتاء وقسوة التهجير كل يوم، تماما كما تخيلتها فيما مضى.

عقب احتلال العراق، نزح مئات اللاجئين الفلسطينيين منه إثر عمليات القتل والتنكيل التي مورست بحقهم. دخل بعضهم إلى سوريا "حوالي 400 لاجئ"، ثم أغلق باب الهجرة الجديدة في وجههم، حيث لم تبد حتى الآن أية دولة استعدادا لاستقبالهم.

بعض هؤلاء، ويبلغ عددهم حوالي 330 لاجئا أغلبيتهم من الأطفال والنساء والشيوخ، يقبع منذ أيار الماضي على الحدود السورية العراقية عند معبر "التنف". فيما يقدر عدد اللاجئين الفلسطينيين المنتشرين على الحدود السورية العراقية بشكل عام، ب1200لاجئ.

وفيما فتحت الدول العربية أبوابها للاجئين العراقيين بمئات الآلاف، فإن بضع مئات من اللاجئين الفلسطينيين اعتبروا عبئا لا يمكن تحمله، خاصة وأن هؤلاء من المقدر لهم أن يبقوا في دول الهجرة الجديدة ولن يعودوا مع العائدين إذا استقرت الأمور في بغداد. أو على الأقل، هذه إحدى حجج تلك الدول لعدم استقبالهم.

بتاريخ 25-4-2007 شب حريق في مخيم التنف أدى إلى إصابة 70 لاجئا وتدمير 14 خيمة. لورانس يولس ممثل المفوضية العليا لشؤون اللاجئين في سوريا اعتبر أن "هذا مثال يوضح كيف أن هذا المكان غير لائق وخطير بالنسبة للاجئين ويبرز الحاجة لنقل هؤلاء إلى مكان آخر أكثر أمنا وأكثر ملائمة".

مع العلم بأن هذا هو الحريق الثاني الذي يندلع في مخيم التنف منذ أن أصبح الوطن البديل لقاطنيه المهجرين.

في وقت سابق من فبراير الماضي، توفي لاجئ في المخيم نفسه بسبب تأخير دخوله إلى الأراضي السورية، بعد أن تدهورت صحته بشكل كبير. ووفقاً لمصادر صحفية، فقد كان هذا اللاجئ يعاني من مرض الكلى الذي أصيب به بعد اختطافه في بغداد على يد الميليشيات المسلحة وتعذيبه لمدة تزيد عن 16 يوما دون طعام وماء.

وقبل ذلك بفترة أيضا، توفي طفل من المخيم بعد أن دهسته إحدى الشاحنات، حيث أن المخيم ملاصق للطريق السريع بكل ما يحمل من مخاطر.

العالم يزداد بشاعة، وهو يشجع أو يتغاضى عن عمليات القتل والتهجير في بقاع عديدة منه. لكنها تصبح عصية على الفهم، أي أخلاقياته، عندما تترك مئات للموت كي يتلقفهم، فيما هي قادرة على إنقاذهم بكلمة ونصف.

فإذا استبعدنا الدول الغربية، وبعض الدول العربية الغارقة في مآسي القتل والدمار، وبعملية حسابية بسيطة، فإن 13 ألف لاجئ فلسطيني هم عدد الفلسطينيين في العراق، يمكن أن يتوزعوا على الدول العربية المختلفة بمعدل 700 لاجئ في كل دولة، لا يتوقع أن يخربوا اقتصادا أو يتسببوا في مجاعة شعب.

القضية أولا وأخيرا تتعلق بقيمة الحياة لدى أصحاب القرار. أو بالأصح، بلا قيمة حياة الآخرين لديهم. ومهما كانت الأسباب الداعية للتحفظ على قبول أولئك اللاجئين في أي من الدول العربية، وجميعها لا تبرر تركهم للموت، فأضعف الإيمان أن يتم إنقاذ النساء والشيوخ والأطفال. الأطفال...! ليت أحدا لا يعاتبهم، إذا كبروا يوما وفجروا أنفسهم في حافلة أو سوق شعبي. فهم لن ينسوا أننا نحن من صنعناهم، من القسوة واللامبالاة والاستهتار بحيواتهم المعذبة ، في منفى من الصحراء اسمه مخيم "التنف".

وأد علني للديمقراطية..تجربة المعارضة السورية

وأد علني للديمقراطية..تجربة المعارضة السورية

غسان المفلح

خاص – صفحات سورية -

منذ أن انهار السوفيات ونحن المتربعين على عرش المعارضة السورية وواجهتها الهشة ونجر أذيال خيبتنا القومجية واليسروية والإسلاموية وقد تحولنا إلى واجهة ديمقراطية, أو ليبرالية, كانت أنساقنا الشمولية تغطي أمراضنا الاجتماعية والتي تفاقمت بفعل ماحدث في نهاية سبعينات القرن الماضي عندما نشب في سورية مايشبه الحرب الأهلية وبات القتل على الهوية في بعض المدن من الطرفين المتحاربين السلطة, وماسمي آنذاك »التحالف لتحرير سورية« بقيادة بعث العراق والأخوان المسلمين. والذي تم على قاعدة الصراع الدموي المستتر والعلني بين الصنوين حافظ الأسد وصدام حسين, ولم تكن مادة الصراع سوى جماهير الشعب السوري بكل ألوانه وأطيافه, بحيث بدأنا بمجزرة المدفعية التي قامت بها الطليعة المقاتلة وانتهينا بمجزرة حماة. ومازلنا نعيش ذيول ذاك التاريخ. وانقسمت بعض الطلائع اليسروية والقومجية طائفيا وهذه حقيقة لابد لنا من الاعتراف بها لكي نتجاوزها لأننا مازلنا مقسومين طائفيا ونلف وندور ونناور على هذا الانقسام, ونبتسم لبعضنا ونتبادل الرسائل في الشأن السوري, وفي الخفاء وأحيانا قليلة في العلن نتهم بعضنا بالطائفية أو بالعمالة لهذا الطرف أو ذاك, هذا وإن كان مرضا فإنه ليس عيبا الاعتراف به. والاعتراف بالمشكلة هو لتسليط الضوء عليها, وعلى هذا الانقسام وغيره من الانقسامات والتي هي من بقايانا الأيديولوجية السابقة نقوم كمعارضة بوأد ممنهج لأي أفق ديمقراطي, هذا إذا أضفنا إلى هذه العوامل ما تقوم به السلطة من أجل قتل أي عمل ديمقراطي أيضا سواء بالإفساد أم بالاعتقال, ما يشدني في الحقيقة دوما لهذا الموضوع هو هذا السيل الجارف من البقايا الأيديولوجية في تعاملها مع الديمقراطية. وبالتالي في تعاملها مع قضية التغيير الديمقراطي. وإذا كان خيار العنف يدمر الأخضر واليابس, فإنه خيار مستبعد من قبل الجميع, لأسباب موضوعية ومنها القناعة ببشاعة هذا الخيار سياسيا وأخلاقيا. ولهذا تصب المناقشة في الخيار السلمي في التغيير, وأول ما يتطلبه التغيير السلمي هو معرفة حقيقية بالبنية المراد تغييرها من دون أن نوزع تقييمات أخلاقية وقيمية تعيق عملية المعرفة وتنتج نصوصا تحركها غرائزنا القبلية. وأيضا بمناسبة الحراك اليساري الآن في سورية لابد لنا أن نتوقف عند الآلية التي يقترحها الكثيرون وهي إلغاء احتكار السلطة. وإن كنت في الحقيقة أجد أن هذا الشعار يمكن له أن يرى النور ويبصر, ولو أنه لم يكن هنالك مشكلة عميقة في المجتمع السوري وهي :أنه مجتمع متذرر طائفيا وإثنيا ودينيا, ومرة تلو المرة سنقارن ببساطة بين تجربة اليمن وتجربة سورية :

سؤالي بسيط, هل: لوكان السيد الرئيس بشار الأسد سنيا, هل كانت ستشكل له إلغاء المادة الثامنة من الدستور السوري التي تقول بأن البعث قائد للدولة والمجتمع, هل ستشكل له حرجا ?

ولن أجيب لأن هذا الموضوع هو مثار نقاش, ونقاشه يأتي من الكذبة الكبرى التي نعيشها في سورية من أن النظام السوري نظام علماني, وهذه نقطة تواطؤ أخرى يغزوها وجداننا الطائفي, ونحاول حتى تصديرها للعالم بأن النظام علماني لكنه ديكتاتوري ويساعد في ذلك بعض منظري الغرب, وهذه تساهم أيضا بمرونة الخيارات التي يحاول النظام اللعب عليها وهي أنه علماني وبديله سيكون لاعلمانيا. أليس في هذا التصدير مساهمة في وأد الديمقراطية?

ثم نأتي لجماعة الأخوان المسلمين والتيارات السلفية الأخرى, فهم أيضا وتبعا لما ذكرناه أمام مأزق حقيقي والذي يفترض سؤالا بديهيا:

هل نحن في سورية الحالية ووفق وقائع تكونها وتكويناتها المذررة بحاجة لحزب ديني سياسي أو سياسي ديني ? ولم يكلفوا أنفسهم عناء التساؤل : لماذا النظام يعطي الحرية لكل الحركات السلفية في سورية شريطة ألا تقترب من المجال السياسي المعارض ? لماذا يشجع هذا النظام هذه القوى السلفية ? على جماعة الأخوان المسلمين وجماعة حزب التحرر الإسلامي ومتفرعات الحركة الإسلامية المعارضة أن تجيب عليه, لأن الوضع السوري في مأزق حقيقي. وبقاء هذه الأشكال التي أصبحت مقدسة وأهم من الغايه, مع العلم أن كل الأشكال السياسية والحزبية من المفترض أن تكون وسيلة ليس أكثر لغايات اجتماعية. أحيانا يقبلها تطور المجتمع وأحيانا يتطلب هذا التطور وسائل جديدة. أما ما نحن فيه إسلامويا ويسرويا وقومجيا:

فإن الاشكال أكثر قداسة من الغايات والغاية هنا هي قيام سورية حرة ديمقراطية ودولة قانون ومؤسسات وحقوق إنسان. أليس في كل هذا وأد للديمقراطية التي نتغنى بها ليل نهار?

بقيت نقطة أخيرة في هذه المقالة القصيرة, الديمقراطية نمط حياة لكل البشر بمعزل عن أيديولوجياتهم وطوائفهم وقومياتهم وأحزابهم. والديمقراطية لقيام ناخب حر وليس لقيام ديمقراطية إسلامية أو ماركسية أو قومية...الخ بل لقيام نمط من الحياة جديد يعني البشر غير المسيسين أكثر مما يعني بقايانا.

كاتب سوري

ماذا عساك فاعلا ً .. يا مجلس.. بدون شعب ؟!

ماذا عساك فاعلا ً .. يا مجلس.. بدون شعب ؟!

د.نصر حسن

خاص – صفحات سورية -

انتهت بدون خير مسرحية الشر التي تمثل انتخابات صورية مزيفة من بدايتها إلى نهايتها ومن مقدماتها إلى نتائجها , مهزلة تجري فصولها بدون مسؤولية وباستهتار كامل لإرادة الشعب وغياب مطلق عن المشاركة من قبل المعارضة السورية ,انعكس ذلك على نسبة المنتنخبين التي لايعرف قيمتها سوى أجهزة النظام نفسه المختصة بالتزوير والتحوير وإبراز النتيجة على نغمة النظام وخطابه الحجري ...خطاب المقاومة والتحرير ..مسرحية تجري بنفس الطريقة الأسدية الفولكلورية لعقود , ودائما ً وابدا ً نهايتها واحدة وهي تثبيت الفردية والوصاية على الشعب وتغييبه ,واستمرار النظر إلى مصالح الشعب السوري عبر "ماسكة " يصر النظام على تعصيب عينيه بها لكي لايرى بشاعة الواقع المنهار الذي أوصل سورية إليه من جهة , وعدم تحسس النظام لخطورة الظروف الداخلية والخارجية التي تعصف بسورية من جهة ثانية .

والغريب أن المسرحية تجري بنفس نمط اللاعبين الذين يدربهم وينتجهم النظام باستمرار وثبات مع تغيير هائل شهده العالم وتشهده المنطقة العربية بشكل دراماتيكي سريع , وأيضا ً يستمر بتكرار مهين على فرض رموز لاتمثل حتى أدنى رغبات الشعب وغير قادرة على قيادة نفسها فكيف بها أن تقود مجتمع ودولة في هذه الظروف الإقليمية والدولية التي تتطلب قادة ورجال حكم من نوع آخر , والأغرب من ذلك كله هو هذا الإستهتار لإرادة الشعب والكذب عليه وإظهار نجاح العملية بدون ولو تعثر أو فشل مرة واحدة لعشرات السنين , ولاندري كيف يفهم النظام الفردي هذا النجاح المستمر في إنتاج لاعبين جدد مع إخفاق جديد وفساد جديد وفشل جديد واستمرار تدني حياة الشعب بكافة أشكالها , أهي الفردية ورغبة الحفاظ على مصالح فئة صغيرة فاسدة ومفسدة على حساب حرية وكرامة شعب بأكمله , أم هي الأجندة الشريرة أيا ً كانت مصادرها التي أنتجت النظام ولازالت تعطيه الضوء الأخضر باستمرار لتغييب الشعب وحصار الحرية والديموقراطية ووقف الحراك السياسي بمافيه وقف عجلة تطوره وحصره في حالة من الشلل التام ضمن ظروف طاغية باغية تستدعي مصالح سورية أن يكون للشعب دور مباشر يؤديه؟!.

النظام السوري قد يكون بقايا متبقيات مرحلة خطيرة في حياة سورية والمنطقة , مارس فيها أخطر الأدوار في سورية ولبنان وفلسطين واليوم في العراق وعلى مستوى الساحة العربية , يرافقه فاعلا ً حينا ً ومبررا ً حينا ً وصامتا ً مصفقا ً في أكثر الأحيان مجالس شعب أفرزتها دوائر وأجهزة أمن النظام لتكون الواجهة السياسية لكل أفعاله ولإعطاؤه ليس الشرعية فهي آخر اهتماماته وإنما الإستمرارية في تكبير وقيادة حالة التزييف وتنفيذ دوره الخطير بإيصال الشعب السوري إلى ماهو عليه الآن , أي حالة الإنهاك الكامل الذي كانت النتيجة الوحيدة التي حققتها سياسة القمع والترهيب والسجون والتجويع وفقدان الكرامة باختصار إلى حالة كسر الإرادة الوطنية وهي أخطر منجزات النظام السوري ومعه مجالس فساده التي لم تضف جديدا ً مفيدا ً إلى حياة الشعب السوري لأربعين عاما ً خلت , بل ساهمت بشكل كامل بظلمه وظلامه واستعصاءاته .

والعجيب أن رزم مجالس العيب التي عينها النظام لم تقل كلمة واحدة في زلازل النظام السياسية والوطنية والإنسانية التي شهدتها سورية وكل الجرائم التي ارتكبها في الداخل والخارج وكلها دموية غاية في التطرف في التنفيذ والهدف , من انحدار أهداف النظام القومية إلى الطائفية السياسية إلى حكم العائلة , ومن التحرير وبناء الإشتراكية إلى التخلي عن ألأرض الوطنية وإشاعة الفقر وتعميم الجوع وبتصفيق حاد ومستمر لمجالس الشعب وتأييدها النظام على العبث بإرادة الشعب ومصالحه ولقمة عيشه , لم نسمع أن مجلسا ً اعترض على فردية حاكم وظلم أجهزة أمن وفقدان الألوف من أبناء الوطن وتدمير المدن فوق ساكينيها وزج عشرات ألألوف في السجون في واحدة من أسوأ عمليات قمع شعب بأكمله حدثت في التاريخ , وحتى لايأخذ الموضوع طابع التكرار رغم أنه مفيدا ً لإستمرار حضور مافعله النظام في سورية, نسأل على الجانب الآخر هل شرع قانونا ً مفيدا ً لتحرير الأرض والحفاظ على مصالح الشعب , أو قدم مشروعا ً إصلاحيا ً لمحاربة الفساد وتطوير الحالة السياسية والإجتماعية والإقتصادية , أو أسس لبناء الديموقراطية والتعددية واحترام إرادة الشعب , بل هل قدم مشروعا ً بسيطا ً تؤدية بعض الجمعيات في بعص الدول حول التنمية البشرية وتأمين الحد الأدنى للمواطن من احترام كرامته عبر تكافؤ الفرص في العمل الشريف ؟!.

لاهذا ولاذاك ..! الشيء الوحيد الذي برعت مجالس النظام في فعله هو أمرين لاثالث لهما : الأول هو استمرار تغييب قرار الشعب وتمرير قرارت فردية أمنية وتغطية تهالك النظام وفساده وفشله , والثاني هوتكبير حاضنة الفساد ليصبح مؤسسة سرطانية كاملة تحاصر الشعب السوري ليل نهار وفي كل مفرادات حياته وتزيد فقره وتخلفه واحتقانه , وبشكل أكثر مباشرة لم يستطع أعضاء مجلس الشعب السابقين ولن يستطع الحاليين بحكم أنهم لايمثلون سوى أجهزة النظام ... سوى التصفيق والتلفيق والصياح بشعار " بالروح بالدم نفديك يارئيس " وفي هذا الشعار يكمن كل إنجازات مجالس الشعب التي اختزلت سورية كلها لتصبح فرد .., وأي فرد ....؟! .

وأخيرا ً يصر النظام الفردي الذي أصبح فاقدا ًالبصر والعقل والتحسس لخطورة الحالة المتورمة سياسيا ً ووطنيا ً والمتدهورة معاشيا ً وأكثر منه أهليا ً وفي ظروف المنطقة التي تطبع الجميع بحالة الإنهاك والإعياء المهين ...يصر على تغييب الشعب وحصار الديموقراطية ومنع كل مشاركة شعبية في تحقيق بعض التوازن في القوى التي لايملك النظام منها شيئا ً , ويصر على اتهام الشعب بالتطرف والمعارضة السورية الوطنية بالعمالة لهذه الجهة أوتلك , الشعب السوري كله يسأل هل سيستطيع هذا المجلس الذي سرق حق الشعب في المشاركة , أن يسأل لمصلحة من استمرار إلغاء رأي الشعب وسجن رموزه ووقف حراكه السياسي والثقافي والحقوقي الديموقراطي السلمي ؟ وهل يستطيع أن يسأل ماذا فعل أنور البني وعارف دليلة وميشيل كيلو وعبد الستار قطان وآلاف من المعتقلين السياسيين في سجون دعاة المقاومة والتحرير ؟!.

ليس هناك أسس للمراهنة على صحوة , ولامجال للتكهنات بإنجاز لصالح الشعب , أسلافكم من أعضاء المجالس السابقة معروفين ومعروفة أعمالهم , ومقروؤة من قبل الشعب السوري منجزاتهم , وواضحة حالة سورية أمامكم ...فماذا عساكم ياجدد المجلس بدون شعب فاعلون ...؟!.

البيانوني: الانتخابات السورية مسرحية والاستفتاء الرئاسي لا يستحق الاهتمام

البيانوني: الانتخابات السورية مسرحية والاستفتاء الرئاسي لا يستحق الاهتمام

وكالة (آكي) الإيطالية للأنباء

وصف المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين، المحامي علي صدر الدين البيانوني، الانتخابات البرلمانية السورية الأخيرة بأنها "مسرحية مكررة"، وأكّد مرافقتها لـ"عمليات تزوير مكشوفة"، وشدد على أن الفائزين فيها "لا يمثلون إلاّ أنفسهم والسلطة التي عملت على إنجاحهم".

وقال البيانوني، في تصريح خاص لوكالة (آكي) الإيطالية للأنباء، إن الانتخابات البرلمانية الأخيرة "لا تحمل أيّ معنىً من معاني الانتخابات المعروفة في الأنظمة الديمقراطية"، موضحاً أنها "جرت في ظل المادة الثامنة من الدستور، التي تفرض حزب البعث قائداً للدولة والمجتمع، وفي ظل قانون الطوارئ والأحكام العرفية التي لا تسمح باجتماع خمسة أشخاص، وفي ظل قانون للانتخاب يعطي حزب البعث وأحزاب ما يسمى (الجبهة الوطنية التقدمية) المتحالفة معه، أكثر من ثلثي مقاعد البرلمان، وحتى ما يسمى بالمستقلّين، فإنه من الصعب جداً أن يفوز أحد منهم إلاّ إذا كان مؤيّداً من قبل السلطة وأجهزتها الأمنية، هذا بالإضافة إلى عمليات التزوير المكشوفة التي ترافق هذه الانتخابات".

وحول فوز "بعض" الأشخاص من ذوي التوجهات الإسلامية في هذه الانتخابات (وهم بالطبع لا ينتمون للجماعة التي يعاقب بالإعدام كل منتسب لها وفق القانون 49) أوضح المراقب العام للجماعة "من المعروف أن التيار الإسلامي في سورية هو من أكبر التيارات المعارضة لسياسات النظام، وأن معظم المواطنين من مختلف التيارات السياسية كانوا منسجمين مع موقف القوى الوطنية المعارضة بمقاطعة هذه الانتخابات، وتفيد التقارير الموثقة أن نسبة المشاركين في الانتخاب لم تتجاوز 6% في أعلى التقديرات".

واستطرد البيانوني، الذي يقود (جبهة الخلاص الوطني السورية المعارضة) مع عبد الحليم خدام النائب السابق للرئيس السوري، "لذلك فإن نتائج هذه الانتخابات لا يمكن أن تكون معبّرةً - بأيّ حال - عن توجّهات المواطنين وتطلّّعاتهم، ولا يمثّل الفائزون فيها إلاّ أنفسهم والسلطة التي عملت على إنجاحهم".

وقال البيانوني حتى "على فرض حصول اختراق من قبل مرشّحين، رغم كلّ هذه الحواجز، كما حصل في الماضي مع النائبين رياض سيف ومأمون الحمصي، فإنّ الحكم عليهم يتوقّف على أدائهم في المستقبل".

ونفى بشكل قاطع ما سوّقته السلطات والحكومة السورية بأن الانتخابات هي الأكثر نزاهة في تاريخ سورية، وجدد "هذه الانتخابات لا تعدو كونها مسرحية مكررة، لا تحمل من الانتخابات الديمقراطية غير الاسم، وما هي إلاّ عملية تزوير مكشوفة لإرادة الشعب السوري".

ومن جهة أخرى، وحول الاستعدادات الإعلامية أو الميدانية للجماعة استعداداً للاستفتاء الرئاسي المرتقب، والذي قد يتوج الأسد حاكماً لسورية لسبع سنوات قادمة، قال البيانوني "إن الاستفتاء الرئاسي المرتقب لا يقلّ في سخافته وتزويره لإرادة الشعب عن مسرحية الانتخابات النيابية، ولا أعتقد أنه يستحق الاهتمام والتحرّك، فهناك مرشح واحد يرشحه حزب البعث، ويجب على (مجلس الشعب) الموافقة عليه، وسواءً أعلن فوزه في الاستفتاء بنسبة 99.99% المعتادة، أو بأيّ نسبة أخرى، فإن هذا لن يعني للشعب السوريّ شيئاً ولن يساعد على مواجهة الأزمات الداخلية أو الخارجية التي تعاني منها سورية، بل سيزيد هذه الأزمات تعقيداً".

ويشار إلى أن البيانوني (68 سنة) انتخب عام 1996 مراقباً عاماً لجماعة الإخوان المسلمين المحظورة في سورية، والتي صدر عام 1980 حكماً بالإعدام على أي شخص منتسب لها، وأعيد انتخابه العام الماضي مراقباً عاماً للمرة الثالثة، وأعلن أكثر من مرة عن تبنّي جماعته تغييرات تنظيمية وسياسية على طريق التحول من حزب تضامني إلى حزب تمثيلي ومن الشمولية إلى النسبية عبر القبول بالتعددية والتداول على السلطة والاحتكام إلى صناديق الاقتراع.

افضل انتخابات في تاريخ سوريا

افضل انتخابات في تاريخ سوريا


درويش محمى

خاص – صحات سورية –

اختلف مع معظم منتقدي الانتخابات السورية الاخيرة ونظرتهم السطحية الروتينية لمجريات الوضع السوري، ولا اتفق البتة مع المعارضة السورية التي اعتبرت الانتخابات حدث عادي لايقدم ولا يؤخر، فالانتخابات التشريعية السورية الاخيرة التي جرت يومي 22 و 23 من شهر ابريل الحالي، تعتبر بحق الحدث الاهم على الاطلاق في الحياة السياسية السورية منذ سبع سنوات من حكم بشار الاسد، بل هي افضل انتخابات شهدتها سوريا طوال تاريخها القديم والحديث، وبدون ادنى شك وبعيداً عن التهويل والتضخيم اعتقد انها تشكل الحدث الاكبر على الساحة السورية خلال الحقبة البعثية الطويلة والقاسية .

بدون مبالغة، الانتخابات السورية الاخيرة التي جرت قبل ايام معدودة، هي اهم بكثير من حرب تشرين"التحريرية"عام 1973، واهم من احداث حماة التي راح ضحيتها اكثر من 30000 مواطن ومواطنة سورية، مع كامل احترامي لذوي الضحايا، واهم بكثير من تطبيقات المشروعين الحزام والاحصاء العنصريين مع تعاطفي الشديد مع كل كردي فقد ارضه وهويته، واهم بكثير من وفاة الرئيس حافظ ووصول نجله الشاب بشار الاسد عام 2000 كوريث غير شرعي الى دفة الحكم وكزعيم وقائد اوحد للدولة والمجتمع، كما ان الانتخابات الاخيرة اهم بكثير من دخول الجيش السوري الى لبنان ومن ثم خروجه المذل والمهين من بلاد الارز، واهم من عملية مقتل الرئيس رفيق الحريري وسلسلة الجرائم التي طالت خيرة ابناء لبنان ويتهم بارتكابها النظام السوري، واهم من خطاب القسم الذي القاه على مسامعنا ومسامعكم بشار الاسد امام مجلس الشعب المعين، ووعد فيه السوريين بالحريات والقضاء على الفساد، واثبتت الايام انها كانت مجرد "كلام في كلام"، واهم من خطابه الاخير المعروف بانصاف الرجال والذي خربط فيه و"خبص"، واهم من الحلف السوري الايراني وظاهرة التشيع الجديدة في سوريا، والانتخابات الاخيرة عرس وعيد كبير اكبر من اعياد الجلاء والعمال والفلاحين والفطر والشجرة وميلاد حزب البعث والحركة التصحيحة، واهم من المقاطعة الامريكية لسوريا ومن زيارة نانسي بلوسي لدمشق، واهم من المقاطعة العربية والخلاف المصري ـ السعودي السوري، واهم من حضور بشار الاسد لمؤتمر القمة العربي الاخير وهو يتوسل الملوك والرؤساء وحتى السفراء للتوسط له في طلب الرحمة والمغفرة، واهم من الطلعات الجوية الاسرائيلية فوق القصور الرئاسية السورية، واهم من التورط الاستخباراتي السوري في العمليات الارهابية بحق المدنيين العراقيين والدور السوري في تعقيد وتأزيم الوضع اللبناني، كما انها اهم من قرارات المعارضة السورية بشقيها الخلاص واعلان دمشق بمقاطعة الانتخابات ورفضهما المشاركة والرقص في العرس الانتخابي، واهم بكثير من الحكم الظالم بحق الناشط انور البني ذلك الحكم الجائر الذي تزامن مع ايام الانتخابات المباركة .

الانتخابات السورية الاخيرة ظاهرة قائمة بحد ذاتها واهم من الانتخابات الفرنسية والموريتانية معاً، وتعتبر مفترق طريق في مصير الشعب السوري وخطوة جبارة لتعزيز اصول الحياة الديمقراطية، كما تعتبر نقلة نوعية حقيقية في المستقبل السوري، ونحن نبارك لانفسنا ونبارك الشعب السوري بهذا العرس الكبير، بالرغم من كونها انتخابات بالاسم فقط وتفتقد لادنى شروط النزاهة والحرية والشفافية، وبالرغم من كونها انتخابات لمجلس لا شعبي، همه الاول والاخير النهب والتصفيق وسيارات المرسيدس"المنحة"، وبالرغم من كون تلك الانتخابات فزلكة مكشوفة الاسباب والنتائج، وصورية ديكورية لاضفاء الشرعية على حكم غير شرعي، ورغم كونها انتخابات للضحك على الذقون، وكذبة نيسان كبرى واخر نكتة في الشارع السوري .

ربما يتعجب البعض ويندهش لموقفي الثابت هذا من الانتخابات الاخيرة عكس كل الانتخابات التي سبقتها، بما فيهم الرفاق في وزارة الاعلام السورية، كوني ازايد عليهم في التضليل والتهليل للانتخابات الاخيرة، لكن وكما يقال لو عرف السبب بطل العجب، واليكم السبب الذي جعلني اتفائل خيراً بالانتخابات الاخيرة، واعتبرها على رأس قائمة الاحداث الايجابية في سوريا، لانها يا سادة ياكرام انتخابات صوت فيها المواطن السوري دون ان يحمل عناء الذهاب لمراكز الاقتراع، وصوت صراحة ب"لا" ضد النظام الحاكم وانتخاباته، وقرر السوريون بالاجماع عدم المشاركة في تلك المهزلة والتي تسمى بالانتخابات لمجلس مايسمى بمجلس الشعب، وللمرة الاولى اخترق المواطن السوري بفضل الانتخابات الاخيرة حاجز الخوف الرهيب لجبروت السلطة واجهزنه القمعية، خاصة في المدن الكبرى والمؤثرة كالعاصمة دمشق وحمص وحلب، واثبت الشعب السوري بجميع مكوناته وتلاوينه انه شعب واع يدرك حقيقة اوضاعه التعيسة ولم يعد يقبل بان يمثل دور الضحية التي لاحول لها ولا قوة، وانه شعب يحق له ان يقرر مصيره بنفسه، ويرفض ان يقف موقف المتفرج من اليوم وصاعداً، واعتقد ان المقاطعة الشعبية العارمة للانتخابات هي بداية النهاية لحكم الاستبداد والتسلط ومؤشر واضح لنهضة شعبية سورية قريبة .

احد الكتاب السوريين اعتبر الاحجام الشعبي عن المشاركة في الانتخابات الاخيرة جاء تجاوباً مع قرارات ودعوات المعارضة السورية بمقاطعة الانتخابات، وسواء اصاب الكاتب او اخطأ، فمن المؤكد ان حجم الحدث كان اكبر في الحقيقة من دعوات المعارضة السورية وحجمها، والتساؤل حول مدى امكانية ارتقاء النخبة المعارضة وتجاوبها مع طموحات وامال الشعب السوري من اجل مستقبل افضل يبقى تساؤلا مشروعاً وقائماً لفترة مقبلة اخرى، لكن في كل الاحوال الافضل ات لامحالة