سورية أمامها فرصة لبناء علاقة جديدة مع لبنان
وإجراء تغيير داخلي... إذا استفادت
نيويورك - راغدة درغام الحياة
ما يحدث داخل سورية ليس من شأن اللبنانيين، بعد خروج القوات والاستخبارات السورية من لبنان. هذا شأن السوريين الذين يعود اليهم قرار نوعية العلاقة مع قيادتهم. ولا حاجة الى تطفل أفراد أو مجموعات لبنانية على القرارات الداخلية لسورية، الشعبية منها خاصة. فإذا أراد الشعب السوري التمسك بحكومته، ليس من حق أي لبناني استباقه الى القول انه يريد الآن تغيير النظام في دمشق بعد اخراج السوريين من لبنان.
إذا اراد الشعب السوري المساعدة الخارجية، انه يعرف كيف يطلبها، ولن يريدها بمبادرة لبنانية.
شغل اللبنانيين يجب ان ينحصر الأن في حماية التجربة اللبنانية من التصدع وهذا يتطلب حمايتها من الاستغلال والاستخدام. فالتحديات ضخمة أمام المسيرة اللبنانية الداخلية، حيث تتلاقى أو تفترق الدول الكبرى في اعقاب التحقق من الخروج السوري من لبنان.
القيادة السورية باقية تحت المجهر الدولي بقدر ما تختار ان تبقى تحت المراقبة والمحاكمة. انها تملك خيار القاء الثقل الدولي عن اكتافها إذا قررت حقاً التخلي عن كل مفاتيح نفوذها التقليدي في لبنان. فالأمر عائد اليها.
المحطة الأولى هي في اثبات الخروج الكامل لأي نوع من الاستخبارات السورية من لبنان، وعدم السماح لأي اجهزة استخباراتية التلاعب بهذا الأمر. فاأي هفوة أو غلطة ستكلف غالياً. وعلى القيادة السورية ان تتنبه الى أهمية ما ذكره الأمين العام للأمم المتحدة كوفي انان، في تقريره الى مجلس الأمن الثلثاء الماضي عن تنفيذ القرار 1559.
لفت انان الى ان «بعض الدول وكذلك أعضاء في المعارضة اللبنانية، أكدوا لي ان الاستخبارات السورية اتخذت مواقع جديدة لها جنوب بيروت وفي مواقع أخرى، وهي تستخدم مراكز أطراف لها علاقة مع حكومة سورية وكذلك شققاً مستأجرة خاصة لهذه الأهداف». وذكر ان «حكومتي سورية ولبنان أكدتا لي ان هذا ليس صحيحاً». لكنه تعمد اضافة ان مسؤولين في الحكومة اللبنانية وغيرهم اشاروا الى «صعوبات» قد تبرز في اطار التحقق من «الانسحاب الكامل لجميع المسؤولين ذوي العلاقة مع الاجهزة الاستخباراتية السورية بسبب العلاقات العائلية التي أقامها مسؤولون سوريون في لبنان خلال السنوات الـ30 الماضية، وبسبب وجود شبكة مخبرين بين المواطنين اللبنانيين».
من مصلحة القيادة السورية التأكد من اغلاق أبواب الشقق، وتجميد العلاقات العائلية للقيادات الأمنية. كما للاجهزة الاستخباراتية، والاستغناء عن شبكة المخبرين المزعومة. من مصلحتها اتخاذ قرار قطع العلاقة الاستخباراتية كلياً مع لبنان، وهذا يتطلب بالضرورة، عقلية جديدة تتقبل ان جديداً نوعياً طرأ هذا الاسبوع على العلاقة السورية ـ اللبنانية يتطلب استبدال العلاقة الاستخباراتية بعلاقة ديبلوماسية رسمية.
وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة الى ان تقرير انان عن تنفيذ الـ1559 نصح الحكومتين السورية واللبنانية بإضفاء «الرسمية الملائمة» بعد «إعادة تعريف العلاقة الخاصة بينهما"، قبل تقريره المقبل الى مجلس الأمن عن تنفيذ القرار. وهذا جعل تلك العلاقة جزءاً من متطلبات تنفيذ القرار 1559 انطلاقاً من ان القرار نص على ضرورة الكف عن التدخل في الشؤون الداخلية للبنان.
فلا داعي للرد بالقول ان هذا ليس من شغل مجلس الأمن ولا انان، وانما يدخل في العلاقة بين البلدين. ذلك ان العلاقة اللبنانية ـ السورية خرجت من الخانة الثنائية عند تبني القرار 1559 الذي وضع العلاقة تحت الرقابة الدولية، والتي اتخذت منعطفاً جذرياً عندما خرج آخر جندي سوري من لبنان يوم الثلثاء. فقد انتهت حقبة الهيمنة والخصوصية التي جعلت من لبنان مرفقاً أو ملحقاً للقيادة السورية وورقة من أوراقها الاقليمية.
في الماضي، ارتكبت القيادة السورية خطأ نكران الواقع عندما رفضت الإقرار حتى مع نفسها ان لبنانيين يعارضون هيمنة سورية عليهم، واستخدمتها الاجهزة الأمنية اللبنانية ضدهم لتحكمهم بالنيابة عنها.
اليوم، انها ترتكب خطأً ضخماً إذا استمرت في التظاهر ان لبنان ما زال عمقها الاستراتيجي، وانها تمتلك مفاتيح اخضاعه لأنه لن يتمكن ان يعيش من دونها، ترتكب خطاً كبيراً حقاً اذا مضت في الاعتقاد بأن «حزب الله» أداة من أدوات النفوذ السوري في لبنان وفي المنطقة، وانه يمكن لها الاحتفاظ بالإدارة وبالنفوذ معاً.
الأفضل للقيادة السورية ان تعترف الآن ان لبنان ليس الجبهة البديلة للمقاومة ضد اسرائيل. فإذا أرادت دمشق المقاومة ضد اسرائيل، وهذا حقها كاملاً لأن اسرائيل تحتل أراضيها، أمامها جبهة واسعة في الأراضي السورية. فإذا كانت تريد إعادة مزارع شبعا الى ملكيتها اللبنانية، لتودع الوثائق لدى الأمم المتحدة، ولتفتح ملف قوة فك الاشتباك بينها وبين اسرائيل لاخراج المزارع من ولاية قوة فك الاشتباك لإعادتها الى لبنان.
بكلام آخر، حان للقيادة السورية ان تدرك ان مشكلة اللبنانيين ليست مع مبدأ المقاومة المشروعة للاحتلال الاسرائيلي، مشكلتهم هي مع اغلاق دمشق الجبهة السورية للمقاومة واصرارها في الوقت ذاته على فتح الجبهة اللبنانية وحدها وكبديل.
هذا لا يعني عدم الاعتراف لسورية ولـ"حزب الله» بالفضل في تحرير جنوب لبنان من الاحتلال. انما لا يستطيع اللبنانيون رد الجميل لسورية بمساعدتها في تحرير الجولان من الاحتلال لأن تلك الجبهة أغلقت بقرار سوري. ولربما هو قرار حكيم، هذا عائد الى التاريخ.
أما اليوم، فإن لبنان ليس مهرولاً الى اتفاق سلام مع اسرائيل، وليس فيه اجماع على انه سيبقى الجبهة الساخنة الوحيدة للدول العربية المجاورة لاسرائيل. هذا نقاش أصبح اليوم حديثاً لبنانياً - لبنانياً لا شأن لسورية فيه.
كذلك «حزب الله» فإنه مسألة لبنانية ـ لبنانية، الأفضل لسورية التأكد من عدم التدخل فيها على الاطلاق. فالعيون تحدق تماماً في هذه الناحية من العلاقة السورية ـ اللبنانية بعد سحب الجنود السوريين من لبنان.
قد تستمع القيادة السورية الى محللين يعتقدون بأن «حزب الله» سيكون نقطة الافتراق بين الولايات المتحدة من جهة وفرنسا وأوروبا من جهة أخرى. رأي هؤلاء انه بعد الانسحاب السوري من لبنان ستنهارالقاعدة المشتركة عبر الاطلسي بسبب الاختلاف على تسمية «حزب الله» منظمة «ارهابية». قد ترى دمشق ان هذه فرصة لها لاستعادة النفوذ وإعادة خلط الأوراق. فإذا فعلت، تكون اساءت القراءة والاستماع والحسابات.
ما تريده أوروبا هو ان توافق الولايات المتحدة على تطبيق النموذج الذي تبنته أوروبا مع ايران على العلاقة مع «حزب الله"، بمعنى ابلاغه ان أمامه خيار الانخراط السياسي وإلا فإنها تترك الساحة للقرار الاميركي وتدعمه ايضاً. حتى الآن، جورج بوش يوافق. وهذا مهم لأوروبا، كما لايران، وربما أيضاً لـ"حزب الله».
أفضل ما يمكن لدمشق تحقيقه الآن، بعد سلسلة الأخطاء التي ارتكبتها في لبنان لسنوات عدة، ان تجعل من انسحابها فرصة لإطلاق فكر جديد يمكن أوروبا من اقناع الولايات المتحدة بتطبيق النموذج الايراني على سورية ايضاً. انه نموذج اعطاء الفسحة الديبلوماسية حقها في العلاقات، انما بوضوح معادلة «الجزرة والعصا».
هذه المعادلة تمارس مع سورية الآن من منطلق ان الجزرة هي عبارة عن حجب العصي موقتاً. في الوقت ذاته، تتمسك القيادة السورية بمنطق المقايضة، مطالبة بالتعرف مسبقاً على المقابل قبل اتخاذ الخطوات.
دمشق لا تملك هذا الخيار الآن، وقد أصبح الإقرار بهذا الواقع أمراً ملحاً وضرورياً، فكل «الأوراق» السورية زال مفعولها من ايران الى لبنان. وليس صحيحاً ان العلاقة السورية ـ الايرانية تشكل تحالفاً استراتيجياً لن يهتز اطلاقاً. ليس صحيحاً ان لبنان وسورية توأمان برأس واحد.
سورية الآن في مرحلة حاسمة لم يسبق لها مواجهتها، ولذلك فإن تحديات القيادة السورية والشعب السوري كبيرة جداً: فلسطين لم تعد قضية عربية وانما هي الآن قضية فلسطينية، دور العرب فيها هو دعم القرار الفلسطيني وليس المزايدة عليه أو تعطيله. وهذا جديد على الفكر السوري التقليدي في شأن القضية الفلسطينية التي اعتبرها قضية عربية ولسورية دور حاسم فيها. لذلك استضافت دمشق المنظمات الفلسطينية المعارضة للسلطة أو تلك التي تبنت المقاومة بدلاً من المفاوضات منطلقاً لها.
الآن أمام دمشق فرصة البناء على علاقة جديدة مع لبنان لفتح صفحة جديدة في علاقتها بفلسطين وبالبيئة الاقليمية والدولية. أمام الرئيس بشار الأسد ان يفكر بصورة خلاقة وتجديدية فيها من الحداثة ما يمكنه من طرح مفاجأة الجديد والنوعي داخل العلاقة السورية - السورية، كما على الصعيدين الاقليمي والدولي. أمامه مؤتمر الحزب الشهر المقبل حيث يمكنه ليس فقط توديع الطاقم الذي رهن سورية بفكر خاطئ. في وسعه ان يبادر الى استدعاء القاعدة الشعبية السورية حليفاً له، إذا جعل من نفسه حليفاً لها، بطرحه رؤية الغد وأخطاء الأمس بصدق وصراحة.
هذا يتطلب ان يقرر الرئيس السوري من هو وماذا يريد، فليس مسلماً به كون الانسحاب من لبنان اضعافاً لسورية، بل العكس تماماً. انه اضعاف للفكر القديم المخطئ بحق لبنان وسورية ايضاً. وهو درس ضروري لمن لا يقدر ضرورة المبادرة. فلو بادرت دمشق الى الانسحاب من لبنان لاستفادت من زخم المبادرة. أما وانها «قاومت» فإنها دفعت الثمن، اذ جاء انسحابها «اخراجاً» من لبنان وليس «خروجاً» منه. وهذا في حد ذاته درس ينبغي التأمل به.
كل هذا يبقى شأناً سورياً، وليس شأناً لبنانياً سوى بقدر اصرار دمشق على الاحتفاظ بمفاتيح لها في لبنان. وإذا انقلبت القيادة جذرياً على التوقعات، وراهنت على علاقة التحالف مع الشعب السوري، فإنها ستدهش المنطقة وتدخل جديداً لا سابق له في علاقة اقليمية ودولية ليس لها مثيل.
انها مغامرة، لكن نتائجها أضمن وأفضل من الخيار البديل المبني على حسابات خاطئة.