نص مداخلة الأستاذ رياض الترك في قناة الديمقراطية

٢٠٠٥-١٠-٣١

نص مداخلة الأستاذ رياض الترك في قناة الديمقراطية


مساء يوم الجمعة 28/10/2005

تحياتي أستاذ محي الدين، تحياتي لضيفيك وللمشاركين الآخرين

مقتل الشهيد الحريري ورفاقه كما وصفها ميليس في تقريره جريمة إرهابية، هذه تذكرنا بل تحيلنا إلى جرائم النظام المرتكبة في سورية ولبنان على مدى أكثر من ثلاثين عاماً، فالشعبان السوري واللبناني ليسا بحاجة إلى أن يقدم ميليتس أدلة جنائية دقيقة ودامغة كي يقنعنا بأن النظام السوري سلك طرق الإرهاب لإخضاعهما، وضحاياه بعشرات الألوف، لذلك أستغرب ردود الأفعال التي افتعلتها السلطة لتهييج الرأي العام، والإدعاء بأن مؤامرة وشيكة الوقوع تحاك على سوريا. إن هذا السلوك ليس عملاً طائشاً فحسب، وإنما يدفع بالأمور إلى التوتر والفوضى، وبالتالي إلى الصدام مع الشرعية الدولية التي لا بد من تلبية مطالبها.

هل كان بإمكان ميليس أن يقدم تقريراً يحتوي على أدلة جنائية في الوقت الذي لم تتعامل معه السلطة السورية كما يريد وحسب الأصول؟ لهذا السبب عاد إلى مجلس الأمن ليقول أن سوريا لم تتعاون التعاون المطلوب منها.

- لماذا تتردد السلطة في التعاون معه؟ هذا سؤال كبير يحيلنا إلى الشبهات التي تدور حول مسؤولين أمنيين وسياسيين كبار في السلطة السياسية متورطين في هذه الجريمة الإرهابية.

- إن إيصال البلاد إلى هذا المأزق الخطير ليس نتاج جريمة مقتل الحريري فحسب، بل هو نتاج سياسات خاطئة ومدمرة انتهجها النظام منذ مجيئه وحتى الآن، ومن تجربتنا في السنوات الخمس لحكم الرئيس بشار الأسد تبين لأوساط واسعة من السوريين أنه لم يثبت جدارته كسياسي مجرب ولا كرجل دولة محنك، وهذا ما جعل الرئاسة في عهده تختلف كلياً عن عهد والده، ونتيجة لذلك وقعت البلاد في عهده في مطبات ما كان ينبغي أن تقع فيها، وآخرها التمديد للحود ثم مقتل الحريري وتداعياته الخطيرة التي لا نزال نشهدها حتى هذه اللحظة، لذلك فالخروج من المأزق الحالي يفترض أساساً إعادة النظر بهذا النظام ومجمل سياساته وبناه، ولا بد من البحث عن مخرج سلمي يخلّص الشعب منه، ويحل جذرياً مشاكل الشعب، ويوفر على شعبنا ويلات كثيرة، ويفسح في المجال للتغيير الديمقراطي السلمي.

- أعتقد أن هناك مخرجاً يمكن له أن يتحقق إذا كنا جميعاً نعمل على تجنب شعبنا ويلات شبيهة بالتي لحقت بالشعب العراقي الشقيق، حين أصر صدام على المواجهة وطبقت العقوبات المعروفة.

- استناداً لكل ذلك لدي أفكار يمكن أن تشكل مخرجاً آمناً نستطيع بواسطته أن نحل العقدة الشائكة مع مجلس الأمن، أقترح ما يلي:

1- أن يتقدم الرئيس بشار الأسد ومجلس وزرائه باستقالاتهم إلى مجلس الشعب.

2- أن يتولى رئيس مجلس الشعب منصب الرئاسة مؤقتاً وفق الدستور.

3- يتولى الجيش مسؤولية الأمن في البلاد، وتجمّد الأجهزة القمعية عن العمل، ويحال كبار الضباط في هذه الأجهزة إلى رئاسة الأركان ليوضعوا تحت تصرفها.

4- التعاون مع مجلس الأمن وتلبية مطالبه وتسليم المشبوهين والمتهمين إلى لجنة التحقيق الدولية.

5- يقوم الرئيس المؤقت بإجراء المشاورات مع قادة الجيش وحزب البعث ومعارضة إعلان دمشق، ومع من يراه من الشخصيات الوطنية والديمقراطية الحريصة على سلامة البلد وتقدمه، مستثنياً من ذلك الملوثين بالدم والمال الحرام، من أجل تشكيل وزارة مؤقتة.

6- تقوم هذه الوزارة بتسيير الأعمال وإجراء انتخابات لجمعية تأسيسية تضع دستوراً جديداً للبلاد، من شأنه أن ينقلها من حال الاستبداد والتسلط إلى حال الحرية والديمقراطية، ويقوم هذا الدستور على مبادئ النظام الديمقراطي.

- إن هذه الاقتراحات تنسجم مع روحية الوثيقة التي سميت بإعلان دمشق، هي أيضاً لا تستثني أحداً من مكونات الشعب السوري، بمن فيهم أهل النظام وقسم هام من السلطة ومؤسساتها من أجل الخروج من المأزق، وهجر السياسات السابقة المدمرة، والتوجه نحو المصالحة الوطنية القائمة على خيار الحرية والديمقراطية وعلى فتح آفاق رحبة لحل أزمات مجتمعنا كافة، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية.

هذا هو المخرج العملي الذي يمكن أن يجنب سوريا مخاطر ما جرى في العراق، ويجعلنا نتعامل مع المجتمع الدولي بانفتاح ومع أشقاءنا العرب وفق المصالح المشتركة، وعدم التدخل في شؤونها وتؤكد على ضرورة الاعتذار من الشعب اللبناني الشقيق مما فعله نظامنا السوري.

النص الكامل لمقابلة رياض الترك مع إذاعة مونت كارلو:

رياض الترك يدعو إلى استقالة الرئيس الأسد والحكومة

وإلى تولّي رئيس مجلس الشعب الرئاسة مؤقتاً

الترك يطالب بمشاورات بين الجيش والبعث والمعارضة لتشكيل حكومة مؤقتة وبتسليم قتلة الحريري

بقلم مارسيل عقل

أصدر عضو اللجنة المركزية لحزب الشعب الديمقراطي السوري المعارض رياض الترك بيانا دعا فيه الى إسقاط النظام السوري وإستقالة الرئيس بشار الأسد والحكومة وتشكيل حكومة إنتقالية مؤقتة. كما دعا رياض الترك الى ضرورة التعاون التام مع لجنة التحقيق الدولية وتسليم المشبوهين من المسؤولين السورية مشددا على ضرورة الإعتذار الى الشعب اللبناني الشقيق على ما فعله النظام السوري.

وأكد الترك أن الشعبين السوري واللبناني ليسا بحاجة لأدلة جنائية يقدّمها ميليس لاقناعهما بأن النظام السوري سلك طريق الارهاب لاخضاعهما. وضحاياه يعدّون بعشرات الألاف. واستغرب الترك ردود الأفعال التي إستغلتها السلطة لتهييج الرأي العام بالإدعاء بأن مؤامرة وشيكة تحاك على سوريا معتبرا إن هذا السلوك يدفع بالأمور بإتجاه التصادم مع الشرعية الدولية. وتساءل الترك: لماذا تترد السلطات السورية في التعاون مع ميليس؟ مجيبا: "إن هذا يحيلينا الى الشبهات الكبيرة التي تحوم حول مسؤولين أمنيين وسياسيين كبار في السلطة السورية متورّطسن في هذه الجريمة". وأعتبر الترك أن النظام السوري اوصل البلاد الى مأزق خطير ليس نتاج جريمة مقتل الحريري فحسب وانما ايضا نتاج نهج سياسي خاطىء ومدمّر مارسه في سوريا ولبنان منذ عقود".

ورأي رياض الترك ان المخرج من المأزق الحالي يتلخّص على الشكل التالي:

_ أن يتقدم بشأر الأسد ومجلس الوزراء بإستقالاتهم الى مجلس الشعب وان يتولى مجلس الشعب الرئاسة مؤقتا وفق الدستور.ويتولى الجيش مسؤولية الأمن في البلاد ويجمّد الأجهزة الأمنية القمعية عن العمل ويُحال كبار الضباط الى رئاسة الأركان ليوضعوا تحت تصرّفها.

- يتم التعاون مع مجلس الأمن وتلبية مطالبه وتسليم المشبوهين والمتهمين الى لجنة التحقيق الدولية.

- يقوم الرئيس المؤقت بإجراء مشاورات مع قادة الجيش وحزب البعث والجهات والقوى الموقّعة لـ "إعلان دمشق" (وُقّع في 16 أكتوبر/تشرين الأول الجاري)، ومع من يراه من الشخصيات الوطنية والديمقراطية الحريصة على سلامة البلاد وتقدّمها، مستثنيا بذلك الملوّثين بالدم والمال الحرام من اجل تشكيل وزارة مؤقتة تقوم بتسيير الأعمال وإجراء إنتخابات لجمعية تأسيسية تضع دستورا جديدا للبلاد من شأنه أن ينقلها من حال الإستبداد والتسلّط الى حال الحرية والديمقراطية. ويقوم هذا الدستور على مبادئ النظام الديمقراطي.

وقال الترك "إن هذه الإقتراحات تنسجم مع روحية الوثيقة التي سمعيت بـ "إعلان دمشق"، كما انها لا تستثني احدا من مكوّنات الشعب السوري بمن فيهم هذا النظام وقسم هام من السلطة ومؤسساتها من أجل الخروج من المأزق وهجر السياسيات السابقة المدمّرة والتوجه نحو المصالحة الوطنية القائمة على خيار الحرية والديمقراطية، وعلى فتح آفاق رحبة لحل آزمات مجتمعنا، الإقتصادية والإجتماعية والسياسية والثقافية. هذا هو المخرج العملي الذي يمكن ان يجنِّب سوريا مخاطر ما جرى في العراق ويجعلنا نتعامل مع المجتمع الدولي بانفتاح ومع أشقائنا العرب وفق المصالح المشتركة وعدم التدخل في شؤونها".

وحرص الترك على "التأكيد على ضرورة الإعتذار الى الشعب اللبناني الشقيق مما فعله به نظامنا السوري".

ونفى رياض الترك أن يكون قد تشاور أو نسّق مع قوى واحزاب المعارضة الموقِّعة على إعلان دمشق قبل صدور هذا البيان الناري، الذي يبدو وكأنه دعوة الى إنقلاب على النظام. وقال إنه مجرد رأي شخصي، وإنه بحكم موقعه في الحزب والمعارضة ومراقبته لعهد الرئيس بشار الأسد وما يجري في الوسط الاقليمي والدولي، رأى "أن النظام السوري أمام حائط مسدود، ولا يريد أن يتراجع. كما أنه ما زال يدير ظهره للشعب ويعمل وفق سياسات فات اوانها تتلخص بسياسة المقايضة التي سبق وإتبعها الرئيس الراحل حافظ الأسد في الفترة السابقة. ولكن السلطة الآن لا ترى المتغيرات الدولية والعربية التي لا تسمح بمثل هذه المقايضات. وبإعتقادي فأن النظام انتهى وشاخ، وعليه أن يرحل. وبهذا المعنى، فأنا لا أدعو الى إنقلاب لأن مبادرتي تنص على ان تتسلم السلطة مؤسساتها الشرعية، أي المؤسسة التشريعية والجيش وحزب البعث، وهي مؤسسات من أركان النظام". وتساءل الترك: "من الذي يذهب؟ مجيبا: يذهب الذين غامروا ببلادنا ويريدون الدفاع عن جرائمهم وان يجعلوا من شعبنا درعا يختبئون وراءه ليوصلوه الى الاحتلال والعقوبات".

وعما إذا كانت القوى والاحزاب الموقّعة على "إعلان دمشق" موافقة على ما جاء في بيانه، قال الترك: "إن ما جاء في البيان هو مجرّد رأي فردي، ولم استشر احدا. لكين حين صغت البيان، تصوّرت أنني استوعبت الوضع الداخلي السوري والعلاقات السورية اللبنانية المأزومة وضرورة الإنفتاح على الشرعية الدولية وعدم المعاندة". وأوضح الترك: "أمامنا الآن مصير صدام حسين، وبإختصار ينبغي على الأنظمة الدكتاتورية أن ترحل. لقد شاخت ولم يعد لها مكان. والوصاية على الشعوب الآخرى وعلى إشقائنا وخصوصا اللبنانيين، مرفوضة". وإعتبر الترك أنه لا مخرج لسوريا الا بنظام ديمقراطي لحل الأزمات الداخلية دون اقصاء احد بمن فيهم أهل النظام، كما انه لا بد من الإنفتاح على الخارج والتعامل معه بروحية المصالح المشتركة.

وعن موقف الولايات المتحدة وضغوطها على سوريا قال رياض الترك: "إذا أرادت الولايات المتحدة أن تستغل ضعف النظام وتتجاوز حدود جريمة الحريري، فنحن ضدها تماما وسنقاومها، ولكننا لن نعمل تحت راية هذا النظام السوري".

ولدى سؤاله عما اذا كان يخشى أن يتم زجُّهُ مرّة أخرى في السجن بعد بيانه، سيما وأن عددا من وجوه المعارضة السورية مسجون، قال الترك: "ما فارقة معي... أن أسجَن، أو أغتال، ليفعلوا بي ما يشاؤن... فأنا عايش زيادة". وذكّر الترك أنه كان من المُفتَرَض ان يُقتل في عهد الوحدة لو لم ينقذه الشهيد سعيد الدروبي الذي رفض الإعتراف بإسمه ومن ثم الشهيد فرج الله الحلو حين أصر على البقاء في دمشق لإعادة تنظيم الحزب الشيوعي بعد الحملة القمعية التي قام بها عهد الوحدة، كما فدى مئات الرفاق. فلماذا لا أفدي أنا وطني من أجل كلمة حق أقولها؟".

وأكد الترك أنه لم يتلق إتصالات من قوى المعارضة بعد إعلان بيانه، الا ان بعض الشخصيات من الداخل والخارج اتصلت به وبعضها يمثّل شيئا من أطراف المعارضة. واعتبر الترك أن "إعلان دمشق" وحّد المعارضة في موقف سياسي، ولكنه يحتاج الى آليات عمل وتحرّك على الأرض، كما يحتاج الى الاتصال بمفاتيح المجتمع السوري كي يعطي مفعوله.

وتساءل الترك: "هل كان بإمكاننا، قبل إغتيال الحريري أن نفترض أن الشعب اللبناني سيهبّ ويتظاهر بمليون ونصف المليون في ساحة الحرية؟" ولدى سؤاله عما إذا كان يراهن على حدوث هكذا تحرّك في سوريا أجاب الترك بالإيجاب مضيفا: "أن النار تحت الرماد ومجتمعنا السوري عاني الكثير من الظلم والنهب والتشريد والسجن والقتل. وهذا الوضع لا يمكن له أن يستمر". وتساءل الأمين العام السابق للحزب الشيوعي – المكتب السياسي- " ألم تقرأي قول المثل المأثور:الظلم إذا دام دمّر، والعدل إذا دام عمّر؟" مضيفا: "أنا متفائل بشعبنا ومتفائل بالشعب اللبناني وبأننا سنتوصل الى حل الإشكالات الخطيرة والعداوات التي نشأت بسبب سياسات النظام. وستبقى علاقة الشعبين بين بلدينا حميمية لأننا ضد الاستبداد الذي مثّله نظامُنا السوري وضد أعوانه من اللبنانيين الذين انخرطوا فيه.."

وعن تصوّره لردة فعل النظام السوري على بيانه، قال الترك: "لا أدري، وأنا عندما أقتنع بفكرة لا أبالي بعواقبها. ألا أنني سمعت من بعض الأوساط من حواشي السلطة التساؤل التالي: هل يعقل أن يتحقق مثل هذا المشروع؟" بمعني أنه كان هناك شيء من الدهشة. على أي حال، فإننا لم نسمع شيئا من السلطة لا قبل ولا بعد "اعلان دمشق". السلطة تصمت الآن، وربما لا تسمح لها ظروفها بأعمال من شأنها تهييج الرأي العام الداخلي والعربي والدولي إذا ما قامت بإنتهاكات للحريات كما درجت عليه سابقا". وخلص رياض الترك بالقول: إن الحالة الآن في سوريا ولبنان أصبحت مصيرية ولا بد من الخروج من مأزق النظام الإستبدادي والدولة الأمنية التي فات أوانها لكي نعود الى دولتنا الديمقراطية التي تأسست في أواسط الأربعينات".

فليُسعدِ النَطْقُ إنْ لم تُسعدِ الحالُ

فليُسعدِ النَطْقُ إنْ لم تُسعدِ الحالُ

نضال نعيسة

الحوار المتمدن

رسالة اعتذار للأخ المناضل رياض الترك
لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق إن لم تسعد الحال

هذا البيت من الشعر الذي قاله شاعر بدوي في مرحلة بداوة غارقة في القِدم يصّح أن نقوله أيضا لمن لمّا يزل بعد في مراحل البداوة السياسية,و الاقتصادية,والإعلامية.ولم يستطع أن يتقدم بوصة واحدة خلال دهر كامل من العنتريات ,والنوح على أطلال القومية ,ومحاربة طواحين الهواء.فبعد أن أفلس الشباب تماما,و"نفضوا" ,ولم يعد لديهم ما يقولونه على الأقل ليسعد نطقهم وقولهم ,وطريقة كلامهم وتوجههم للناس,حيث إن حالهم لم تسعد أي مواطن على الإطلاق.

وفي الحقيقة هناك الكثير من الناس ممن أخذوا على السيد "الدكتور"مدير المركز الإعلامي السوري بلندن أسلوبه ,وطريقة كلامه ,وحواره,وسطحيته,وفجاجته,ولامه على هذا الحوار العقيم والجاف.ولكن في الواقع إن الرجل معذور ,ولا يمكنه أن يكون إلا هكذا ,ولا يعرف أن يتصرف إلا بهذه الطريقة,وهو ابن بار لهذه المدرسة السلطوية التي خرّجت من أمثاله الكثيرين القابعين في مفاصل حساسة,والذين خلقوا هذه الصورة النمطية القاتلة عن سوريا.فهم وحدهم من يعرف كل شيء.وهم وحدهم الوطنيون الشرفاء ,وما عداهم "مخرفون", وجهلة,وخونة,رعاع.وهم وحدهم من يجب أن يتكلم ويمتلك ناصية الحوار,ويصادر مصير بلد وشعب بأكمله,ولو كان أحدهم بغير تلك المواصفات ,وتصرف بشكل مغاير ,لما كان هناك ,ولكان مكانه ربما على رصيف مقفر في إحدى القارات.هذه هي بضاعتنا ,وهذا الغيث من ذاك المطر,وهذا هو أحسن الموجود, فهل سنستورد لكم مدراء من سويسرا,والدول الاسكندنافية ليقوموا لنا بتلك المهام؟

ومن أراد أن يعلم السبب في الوضع الكارثي المتأزم الذي وصلت إليه الأمور على ما هي عليه هذه الأيام ,فما عليه سوى أن يتابع وجوه الإعلام السوري وبعضا من مسؤوليه الأشاوس ممن ساهموا بشكل أو بآخر,فيما آلت إليه الأمور من تدهور عبر خطاب متحجر,عقيم ,وبال.ولعل الحلقة الأخيرة في برنامج المستقلة حول سوريا الذي يديره الإعلامي السوري المتميز الدكتور محي الدين اللاذقاني ,ولا أدري لماذا يقيم جميع المتميزين السوريين خارج سوريا وإعلامها الكئيب؟وكان اللاذقاني يتهكم مرارا بدهاء وذكاء على الإعلامي الهمام الذي خرج عن طوره عدة مرات. فقد استضاف هذا البرنامج واحدا ممن يفترض فيهم أن يحسنوا صورة سوريا في الغرب ,فجاء ليشوهها ويحطمها ومرة واحدة وإلى الأبد. وحمدت الله أن أحدا من الأجانب الذين ذهب "لتنويرهم" وتثقيفهم لا يتابعه في تلك اللحظة ,وإن تابعه فمن المستحيل أن يفهم كلمة واحدة مما يقول,أو يعرف ما يريد بالضبط.لقد ظهر هذا الضيف عبوسا ,متغطرسا,قاطعا,حاسما ,واستبداديا,عصبيا ,محتكرا للوطنية,والشرف القومي ,ناعتا محاوره المعارض السوري على الطرف الآخر من الخط في دمشق بكل بساطة بأنه"واحد خرفان",هكذا بالحرف الواحد يشطب ,ويلغي ,وبجرة قلم, تاريخا كاملا لمناضل سوري قضى قرابة العقدين من عمره تحت الأرض وفي الظلام,في المناجم الثورية للرفاق .حيث أن عذاب الناس,وتضحياتهم,وآلامهم لا تعني لهم شيئا على الإطلاق.ولا يهم إن كنا نتفق كثيرا,أو لا نتفق في بعض من فكر هذا المناضل أم لا ,و مع ما يطرحه هذا المعارض أو ذاك ,ولكنه بكل الأحوال ليس مبررا لوصف الناس,ورميهم بأقذع الألفاظ.فإن أقسى ما يؤججهم ويثير عقيرتهم هو حوار العقل والمنطق الخالي من الكلام الفضفاض,وعندها فقط يصبح من المستحيل التحكم بالأعصاب.ويرفض أي وطني غيور أن يساء لابن وطنه بهذه الطريقة المتحاملة, وعلى الهواء, من قبل من أؤتمن على تحسين صورة بلادنا التي تعاني أسوأ الأوضاع.ولسنا في معرض مناقشة تلك الأفكار الميتة التي كان يجترها ,ببساطة شديدة, لأنها لا تستحق , ولا ترتقي لمستوى النقاش.ولا يمكن لعقل سوي أن ينحدر لسطحيتها,والتي تعتبر في الوقت ذاته إدانة كاملة لصاحبها الذي وصل به الحال إلى هنا لسبب بسيط جدا أنه لم يقرأ المتغيرات جيدا.

إن تحسين صورة سورية ,تلك المهمة الأصعب في هذا الظرف القاسي الذي تجتازه في هذه الأيام تتطلب نوعا خاصا من الرجال يؤمنون بالديمقراطية والحوار ,ويحترمون المواطنة ,وتاريخ الرجال,ويقدمون أفكارهم بسلاسة ويسر ,أمام ملايين الناس,وتكون لديهم رباطة الجأش وقوة الإقناع ,وترابط الأفكار,لا تلك النوبة الشديدة من العصبية والغضب والهوبرة والانفعال التي عشناها في تلك الساعات,ورمي التهم ذات اليمين وذات الشمال ,وتكفير الناس وطنيا وقوميا ,وإخراجهم من ملة المواطنة التي هي خاصية بعثية بامتياز. وبدت هذه المهمة,في الحقيقة, مستحيلة كما رأيناها على ذلك المنوال.وإن افتتاح مراكز إعلامية لهذه الغاية ينفق عليها من دم ,وعرق,وجهد فقراء سوريا ,أمرا في غاية العبثية ,وانعدام الجدوى,مع طراز من هؤلاء الرجال,إلا إذا كانت مهمته هي تشويه وجه سوريا ,فعندها سنقول له ,أجدت,وأحسنت وسنصفق له على هذا الإنجاز ,الذي ربما تعجز عنه دول ومنظمات ذات تنظيم عال.ولكن ,وفي نهاية اللقاء,تبين لجميع المتابعين في نهاية البرنامج من كان يقوم فعلا بالتخريف ,على أية حال.


وإذا كان طباخنا جعيص ,شبعنا "مرقة" يا.........شباب.

وربنا لاتؤاخذنا بما فعل بنا مدراء الإعلام بنا,إنك أنت الغفار التوا

لا لن تفعلها يا رياض الترك !!!!

لا لن تفعلها يا رياض الترك !!!!

إلى أبي هشام مع المحبة

باسل ديوب

لم أكن أعرف عنك الكثير لكني كنت متعاطفاً معك بقوة وأنت في المعتقل، وعندما خرجت فرحت كثيراً فقد كنت رمزاً لنا في الحقيقة،

ولم يكن ما أسمعه عنك من كثيرين ليؤثر فيّ ، لم أشطبه تماماً لكني وضعت احتمالا كبيراً أن يكون من تدبيج خصومك وكانوا كثر ، أو من السلطة لشرعنة سجنك وتشويه سمعتك، وكنا أيام الرعب الأمني مصابين بداء "نقص الوثائق في الدم" !! مضطرين إما للخندقة او الحياد ما بعرف شيء عنه أو عنهم !!

ثم قرأت لك تصريحات صحفية ولقاءات هنا وهناك وكنت لا أضعها في ذلك السياق المذكور الــــ كش بره وبعيد !!!!

وكنت أظنها من ردود الفعل على المرحلة الشمولية ونزوع طهراني ينشد ديمقراطية خالصة لوجه الوطن . ليس أدل عليه من أنكم تنحيتم عن قيادة الحزب ولم يخلفكم نجلكم هشام في قيادته مقتدين بسيرة القائد ( أبو عمار) رحمه الله فلقب "أبو" للزعيم عودونا عليه للتوريث بعد أن خطفوه من مطلقيه الفدائيين المقاومين واهبي أرواحهم ،

أعرف أن ليس لديك "هشام " كما ليس لعرفات "عمار" لكن تنحيك تسجل لك بكل احترام .كبادرة لا تمثيلية كما في مؤتمرات الحزب الشيوعي ، لم يسبقك إليها من التاريخيين سوى رمزنا الكبير الدكتور جورج حبش,

أذكر في ذلك الماضي القريب أني أبديت اعتراضاً على بعض من تصريحات لك حول لبنان والعلاقة معه، فبقدر ما قبلت موضوع سيادته واستقلاله وتصحيح العلاقة معه على أساس استراتيجي المؤكد عليهما من قبلك بشدة بقدر ما استغربت غياب موقفك من وحدة المسارين وأنت بعد خروجك من الاعتقال الطويل لم تعارض التسوية السلمية بل أيدتها ، ومن المقاومة كذلك ومرورك السريع على ذلك ، تحدثت عن ذلك مع الرفيق عمر قشاش النقابي العتيق الذي أحبه أكثر مما تتخيل بكثير أكثر بمقدار ألف عريضة عمالية مطلبية و مليون أول من أيار !!! ووعدني بمناقشة ذلك معك .

لكنك وبعد احتلال العراق أطلقتَ مقولة لا تزال تصفر كالريح في أذني وهي "الصفر الاستعماري" تلقفها من كان يهاجمكم بشدة في الماضي متهماً إياكم بالغباء السياسي بالتحالف مع الإخوان، ودبج عليها مقالة كبيرة عن سقوط البعث في العراق وربحيته للشعب العراقي، بدأت أتوجس من مقولاتك وأشعر بالمرارة من مواقفك ،

وقفز إلى ذاكرتي ما ينسب وما زاد في نسبته إليك ، من تحليلات طائفية غريبة أن تصدر عن علماني وطني وديمقراطي مثلك ( أهلية بمحلية يعني ) كش بره وبعيد !!! فأقول ليست مشكلة في الصميم مجرد انزياح في الرؤية لا بأس يمكن الحوار حول ذلك ، الرجل في النهاية علمي مادي ديمقراطي.

ثم قرأت لك مقابلة مع النيويورك تايمز تزامنت مع هدية أمريكية لشعب سورية بقانون تحريرها منه، كانت خيبة أمل كبيرة لا بك فحسب كرمز ديمقراطي بل بمستقبل الديمقراطية في سورية كان كلامك حِرفياً وسياسياً بدرجة عالية ،واضحاً في جرأته شديد الحذاقة كان يوارب ولا يوضح ، يلثم ثغر الشمطاء أمريكا ولا يقبّل! ، كان لسانك يرتدي قفازي ماري أنطوانيت لا يترك أي أثر دامغ أو بصمة على ورق الجريدة ، لكنه يرتب الكلمات ويرصفها بمتوالية "صفرية استعمارية" !!

يشي بالبيْن ولا يدعي الترحيب بقدومه ، يلوح لهم بورود يحبونها ملقاة على جنودهم الفاتحين المحررين ليرى القارىء – القاضي السراب ويشم رائحة الحبر الكريهة ، قلت هي وعكة ديمقراطية سببتها تلك المنفردة اللعينة ، وبت أتساءل أهو التكتيك بالتخويف الذي تقوم به السلطة الأمنية بحقنا معكوساً هنا ؟؟؟

راودتني أفكار قاسية بحقك وأعترف لك أطلقت سيلاً من الكلمات البذيئة التي بالتأكيد سمع معتقلون مثلك كثيراً منها في السجن ثم قلت لنفسي قد أكون على خطأ فالرجل صاحب تجربة سياسية كبيرة تمتد لأكثر من نصف قرن بكثير ضعفي عمري تقريباً، ومرارة التجربة جعلته يتلمس الجرح جيداً ويعد الخلطة العشبية بيديه، ثم فقد رآى ما لم أره أنا الشاب المتحمس النزق لدرجة التهور ، نعم إنهم العجائز لديهم منطق وحكمة صقلتها السنون ،

لكنه هنا يخون تاريخه أيعقل ذلك ؟؟ قلت لنفسي :لا لا يمكن أن يكون جدياً في هذا الكلام وما سبق إنها صرخة ألم ،لعل من يستسهل سجن الناس وكم أفواههم ينتبه إلى هذا فيتئد .

بعثت لك برسالة غاضبة مع أحد "مريديك " قلت له أخبر معلمك أن هذا الحوار مع النيويورك تايمز هو ستربتيز رجل سبعيني أمام شمطاء العصر روما الجديدة واشنطن لا يليق به ذلك !! ثم تراجعت لا لا ليس لائقاً هذا الكلام كمدخل للحوار بل قل له أن شاباً لا تعرفه يشعر بأنك خذلته بشدة بأنك خنت شبابه و نضاله لأجلك ولأجل الديمقراطية فأنت لم تعد لنفسك أنت مذ خرجت يجب أن تبقى رمزاً لحرية الرأي أن تكرس نفسك لهذا فقط دون لوثة السياسة فكيف تقامر بنا وبالديمقرطية ؟؟؟ لم تصلك الرسالة على ما يبدو فيقيناً عندي أنهم مريدون فحسب لا يجروؤن على انتقاد من ينظرون إليه بطركاً مكرساً بمعارضته فحسب لا بمنجزه الفكري الخاص .

راودتني أفكار مضحكة منها الصبياني فقلت لنفسي هذا فخ صنعه أبو هشام للأمريكان فهو يكرههم جداً و لقد أشار في المقابلة إلى تواطؤئهم و الروس مع الأسد ضد صلاح جديد لعدم قبوله الـ 242 و الذي تحدث عنه بإيجابية (جديد أعني ) قلت ربما لا زال يحمل شيئاً من ذلك الزمن الثورجي و من تحالفه مع بعثيي مقولة بقعة "الزيت الشهيرة" وحرب التحرير الشعبية ، أهو فخ للأمريكان باستدراجهم إلى قطعة الجبن السورية ليطبق الفخ عليهم وتتسع جبهة الحرب الشعبية ويستنزف العدو ويم! رغ وجه الغزاة بالوحل، فيجرجروا ذيول الهزيمة ويطلبوا الصلح والغفران وتتوحد الأمة وتتحرر فلسطين يتيمة عصر الحرية القادم فلا يبدو أن لها حصة من خطط المحررين ،

تتحرر فلسطين ويعود اللاجئون أهذا استشرافه للمستقبل ؟؟ أليس تياره من تحدث عن الاندماج بالبعث وتشكيل حزب شيوعي عربي، لا لا الأمريكان ليسوا فئراناً وسورية ليست مشهورة بجبنها لتفعل ذلك،

كنت بحاجة إلى شجاعة لأعلن موقفا علنياً جذرياً من دعواتك يصب لعنات الديمقراطيين الجدد علي ّ ، لكن في ذلك خطر الشماتة لا بأس إنه نقد المرحلة وتعود على قول الحقيقة لأول مرة أمام "الجماهير" الذين سيتم تحويلهم إلى مجتمع مدني ، منذ استقالة عبد الناصر الشهيرة !! بل ربما فيه اهتبال الفرصة ممن طالبناهم بإطلاق سراحك وبالديمقراطية لِضربِنا بقوة أو صفعِنا أو ركلِنا على أقفيتنا بدكن ديمقراطية يا خروات مو هيك !!!!

بيلبقلكن والله تضربوا أوبة كذابين !!! انقلعوا على أمريكا ،هم يقولونها لمن ينتقدهم ولو كان مثلي أو واحداً منهم حتى ، شموليون يعني... أنت أدرى مني في هذا ، فكيف بهكذا حالة فاقعة يا رفيقي

سيقولون خوناكم سلفاً كان عندنا بعد نظر ويقهقهون بلؤم الجبار المتمكن !!!!!!

فكرت بالكتابة عن مواقفكم فقليلون هم الذين استنكروها أو ناقشوها أو طالبوا بتفسير لها ما زاد في مخاوفي وقلقي أكثر،

إذن غالبيتهم مجروحون مثلك ومصابون بوعكة ديمقراطية ألمت بهم في الزنازين الرهيبة، أو وصل فيروسها إليهم بصرياً عبر بث القنوات الحرة ووهم الصعود إلى القمة ووراثة البعثيين ، هل من المعقول أنهم كلهم أيضاً وضعوا قطعة جبن للفأر الأمريكي هذا احتمال ضعيف؟!!

ثم واجهت نفسي بشجاعة نعم سأستعيد حماسي المعهود وسأطزطز على أمريكا واللي خلّف أمريكا ومن ينتظر أمريكا ومن يسوق لأمريكا ومن يدعو للحوار مع أمريكا بتثاقف منهجي أو بتسايس سلطوي أو بتفاخخ* نضالي .

ثم سمعت انك صرحت بأنك لن تقاتل إذا هاجم الأمريكان سورية ، قلت لمحدثي المتهكم بشدة : لا إنه مصاب بوعكة ديمقراطية فحسب لا أصدق أن الطفل الحمصي اليتيم الذي لعب في شوارع الخالدية ووادي السايح و نطنط على الأراجيح المنصوبة في العيد الكبير قرب "سِيدي خالد" بكسر السين ، ومن رشق السنغاليين ** بالحجارة وهتف لسورية في المدرسة وندم أشد الندم على موقف حزبه الشيوعي من الوحدة المغدورة ومن بكى في التاسع من حزيران 1967 وتمرد اكثر على أممية خالد بكداش الصنمية ونبذها للعروبة وأعلن مساره العروبي وفي القلب منه فلسطين وأرسل حزبه المقاتلين إلى جبهة العرقوب التي فتحتها الأحزاب الشيوعية العربية ، لا أصدق أنه يعنيها من قلبه هي صرخة ألم فقط تخويف مثل تخويف الأمهات لأطفالهن ....

لا لا لا

لا أصدق أن رياض الترك سيتغنى بصوت انفجارات القصف الأمريكي في حمص نشيداً للحرية القادمة

مثل كنعان مكية في قصف بغداد و لكأني به يهرع حينا إلى بنك الدم في جورة الشياح فيرده الممرضون لسنه وهو السبعيني العليل من زنازين القهر بكل احترام وفخر إلى بيته بعد كأس من الشاي ونظرات إكبار وإعجاب ، ستدمع عيونهم اذا ما عرفوا أنه قضى ثلاث عشرة سنة في زنزانة منفردة ، سيجنبهم هو هذا الموقف اذ لعلع الرصاص ، لن يتحدث عن الماضي.....

لكأني برياض الترك يبكي كالطفل ويموت قهراً عند سقوط أول صاروخ على الكلية الحربية في الوعر ، أو ستنتابه نوبة قلبية عندما يخرج مع الآلاف من جامع خالد لتشييع أول كوكبة

من الشهداء هاتفين من قلوبهم لأول مرة ذاك الهتاف بالروح بالدم نفديك يا.................. نفديك يا شهيد !!!!!

* من فخ

** جنود فرنسا المكلفين بقمع الشعب السوري وكان من عادتهم تجنيد أفراد شعب للخدمة في صفوف جيشهم المحتل بلاد شعب آخر.

* كتبت هذه الرسالة قبل ظهور الرفيق رياض الترك على شاشة فضائية الديمقراطية !!

خاص - صفحات سورية -

ما بعد تقرير ميليس النظام السوري في عنق الزجاجة

ما بعد تقرير ميليس النظام السوري في عنق الزجاجة

سحر حويجة

انعقدت إرادة النظام السوري، ومؤسساته المختلفة العسكرية ، والسياسية ، والتشريعية، والقانونية ، ترافقت مع صخب شعبي ، على رفض ما جاء في تقرير ميليس ، وشن حملة مهنية عليه، لدرجة أن رجل بسيط في سوريا يستطيع أن ينتقد ويرفض تقرير ميليس على المستوى القانوني، فيما يتعلق بالشبهات التي تحوم حول الجهاز الأمني السوري، وعلاقته بجريمة اغتيال الحريري، ورفض الاستنتاجات التي انتهى إليها التقرير، بما يتعلق بتورط، أشخاص من النظام الأمني في سوريا في الجريمة، على اعتبار إن هكذا جريمة لا يمكن أن تحصل بدون معرفة الأجهزة الأمنية السورية اللبنانية، جاء الرد السوري على هذا الاستنتاج، إذاً المخابرات الأمريكية تتحمل مسؤولية أحداث 11 أيلول الخ…، ولكن في هذه القراءة السطحية المجتزأة ، للتقرير، لم يشر أحداً منهم ، أن الجهاز الأمني اللبناني ، متمثلاً بأربعة ضباط هم رهن الاعتقال، بناء على تهمة، تورطهم بالجريمة، بسبب التخطيط والاشتراك، لم يتقدم أحد للدفاع عنهم، حتى المحامين المكلفين بالدفاع عنهم، وكان على النظام السوري ، وفقاً للرد السوري السابق ذكره ، أن يدافع عن براءتهم لأن هذا الاستنتاج يطال الجهازين معاً، أي لا يعقل أن تقوم الأجهزة اللبنانية بهذه الجريمة ، دون علم الجهاز الأمني السوري، هذه القضية ، كانت من أسباب التحقيق، الذي تم مع المرحوم غازي كنعان، حول كيفية العلاقة التي كانت قائمة بين الجهاز الأمني السوري ، واللبناني، الذي أكد كما غيره من رؤوس النظام ، على استقلال تام للجهاز الأمني اللبناني ، عن شقيقه السوري، خلافاً لمئات الوقائع ، حتى الموجودة في الأرشيف الإعلامي ، التي تؤكد عن التنسيق والتعاون، الكامل على الصعيد الأمني، تمتد من تفكيك شبكات إرهابية، إلى حوادث تفريق مظاهرات و اعتقالات ، إضافة إلى إن الوجود ا لسوري في اللبنان، ارتبط بتحقيق الاستقرار والأمن ، ناهيك عما يقال من تعيين الضباط ، وغيرهم من المسؤولين، في مختلف الإدارات اللبنانية، من قبل المخابرات السورية.
يظهر في قراءة التقرير ، إن التحقيق توصل ، إلى كشف وقائع في غاية الأهمية ، عن الوقائع السابقة، والمرافقة واللاحقة المتعلقة بالجريمة، وأيضاً التحضير للجريمة ، و كيفية تنفيذ الجريمة ، أي تم كشف ألغاز الجريمة بما يتعلق بمسرح الجريمة، وأشخاصها المتعلق بالشق اللبناني ، مدعوم بالأدلة، ومئات الشهود، و كشف الاتصالات التي تدعم ذلك، ولكن على ما يبدو ، إن لغز من هم أصحاب القرار الحقيقي في اتخاذ قرار الجريمة، و العقل الرئيسي المخطط للجريمة ، لم تكتمل الصورة ويلفها الغموض، إن القاضي ميليس استند في بناء قناعته وفق الوقائع المتوفرة لديه، والتي اعتبرها كافية، واختلف بذلك مع تفسير النظام السوري الذي يريد أدلة دامغة ، وبين الأدلة الكافية ، والدامغة، يظهر تعارض آخر في المواقف، مع إن التفسير القانوني الجزائي، يكفي وجود الأدلة الكافية ، التي يمكن أن يبني عليها القاضي قراره الظني، أو الشبهة .
استند التقرير على وقائع يستبعد ارتباطها المباشر بالجريمة، وهي الأدلة والشهود ، حول تهديد الرئيس ا لسوري للحريري ، من أجل دفعه للموافقة على قرار التمديد للرئيس لحود، وكان إنكار أكثر من طرف من النظام لهذه الواقعة، المدعومة بالأدلة والشهود، ليست في صالح النظام، لأن واقعة التمديد أصبحت وراء الحدث، بعد موافقة كتلة الحريري على التمديد، وقد اتخذ القرار في الجريمة بعد ذلك ، وإن الدوافع السياسية للجريمة مرتبطة بالقرار ، 1559 الذي أعقب التمديد، هدفها مواجهة القرار، الذي دعي إلى الانسحاب السوري من اللبنان، وعدم التدخل في شؤونه، وكان واضحاً أن النظام السوري ، أو أطراف أساسية منه، كانت رافضة للقرار القاضي بالانسحاب من لبنان، ترافق مع مماطلة ومحاولة لكسب الوقت، والمساومة في مقابل الخروج من اللبنان، راهن النظام السوري في حينه، على العامل الداخلي اللبناني للبقاء في اللبنان، عبر سلطة لبنانية تمنح شرعية للوجود السوري ، أو على الأقل تكون امتداداً لنفوذه في لبنان في حال اضطر للإنسحاب، بالمقابل أيضاً أن السلطة اللبنانية القائمة، من الصعب عليها الاستمرار بدون دعم ومساندة النظام السوري ، وهكذا التقت إرادة الطرفان على تهيئة الشروط المناسبة، يهدف إلى تحقيق استقرار السلطة اللبنانية، واستمرار الهيمنة السورية، كان تحقيق ذلك يتطلب ، إضعاف المعارضين للوجود السوري، والمؤيدين للقرار 1559، فتم استخدام وسائل التشهير والحصار ، وصلت إلى استخدام العنف فالعنف وسيلة ، تخدم كلاً من السلطتين الأمنيتين السورية واللبنانية، أو أطراف منهما، فهي عملية إقصاء واستبعاد خصم من ناحية، ومن ناحية ثانية ، ضرب عامل الإستقرار الأمني ، وخلق حالة من الذعر والخوف في الأوساط اللبنانية، تساهم في تكريس السلطة القائمة ودعم الوجود السوري ،حيث أن الوجود السوري في اللبنان، اكتسب أهميته وشرعيته بقدرته على تحقيق الاستقرار والأمن في لبنان، وبناء الأجهزة المخصصة لهذا الغرض، هنا نصل إلى قضية أن سوريا هي المتضرر الأول ، من اغتيال الحريري، هذا صحيح، لكن السؤال كم من الممارسات والمواقف قامت بها الأنظمة العربية ومنها النظام السوري ، كانت ضد مصالحها؟ ألم يكن قرار التمديد للرئيس لحود ضد المصالح السورية، إن ما يحكم العقلية الأمنية من أي جنسية كانت، هو طابعها التآمري التي تقوم أولاً على السرية ، التي تقضي بإخفاء الحقيقة، إضافة إلى نظرتها الضيقة ، والآنية ، المرتبطة بالمصالح الخاصة، بعيداً عن الرؤية الشاملة ، والإحاطة بكل جوانب الموقف ، لذلك لا يمكنها أن تقدر الخسائر بدقة ، فلا يمكن لهذه الرؤية أن تتوقع حجم الرفض الشعبي الذي كسر حاجز الخوف فجأة ، ووجه أصابع الاتهام للسلطة الأمنية السورية واللبنانية، حيث عبر الشارع بوضوح عن مشاعر عدائية اتجاه الوجود السوري في اللبنان، ولم يتوقع الفعل التآمري القاصر، رد الفعل الدولي ، ولم يتوقع أبداً ، أن هناك محكمة دولية سوف تنعقد لكشف الجناة، فلو اقتصر الفعل على النتائج الأولية المتوقعة، وهي ذعر وخوف شعبي ، والحاجة لاستتباب الأمن والدعوة لاستمرار التواجد السوري في لبنان، وضرب أحد أركان المعارضة ضد سوريا والسلطة اللبنانية، كان يمكن القول أن هناك مصلحة حقيقية .
كان من اللافت أن هناك أسماء لمسؤولين سوريين ، تم سحبها من تقرير ميليس ، أثار هذا الموقف سجالاً وجدلاً، واحتجاجاً ، هل هذا خطأ تقني كما أدلى ميليس؟ لا أعتقد ذلك ، بل هي رسائل للمسؤولين السوريين ، تخدم التحقيق، كما سرب ميليس سابقاً وبدون مبرر بعض الأسماء المشبوهة، اللبنانية . الهدف من ذلك هو ضعضعة البيت السوري للنظام، الذي تماسك بمواجهة التحقيق، حيث تم وضع جملة من الأسماء تتعارض عادة في اتخاذ القرار في سوريا، مثل شقيق الرئيس وصهره، وظهر أن هناك تهم تشمل رؤوس في الجهاز الأمني وجزء من المسؤولين السياسيين تصل حتى الرأس ، هذه الرسالة تعبر، على أن هناك حقائق في حوزة لجنة التحقيق، ولكن بحاجة لمزيد من التحقيق، إضافة لذلك أقدمت اللجنة على قطع الطريق أمام النظام، عبر حرق ورقة غازي كنعان الذي دفن ودفن سره معه، حيث خرج من قائمة المشبوهين، على الرغم من إن الشبهات دارت حوله في مرحلة من مراحل التحقيق، واتخذ قرار تجميد أمواله، وهناك أدلة تثبت تورطه بجرائم فساد في لبنان.
المحصلة النهائية ، عبرت اللجنة عن عجزها في إجراء التحقيق مع أعمدة النظام، باستخدامهم أساليب الخداع، والتهرب وصل الأمر بهم لإنكار حقائق هي بديهية، مما ساهم بتعزيز شكوكها، هذا العجز دفع ميليس إلى الاستقواء بمجلس الأمن، في معرض ممارسته واجب ، تسليم التقرير لمجلس الأمن، فهو وخدمة لعمله في كشف الحقيقة ، يريد الضغط على النظام السوري، بهدف تسهيل مهمة لجنة التحقيق، حتى بدا موقف ميليس من وجهة نظر النظام السوري ، إنه متواطئ ، مع أطراف دولية، معادية لسوريا.
إن تسهيل مهمة لجنة التحقيق الدولية، والتعاون معها ، سيكون هدفاً لكل الأطراف التي يتألف منها مجلس الأمن، ولن يتم ذلك دون قرار اً ضاغطاً ، على النظام السوري، على الرغم من الاختلاف والتباين في طبيعة الضغوط وشمولها، بين دولة وأخرى، تبعاً لمصالحها ، التي تربطها بالنظام السوري، ومصالحها المتعلقة بالنظام الدولي الراهن، ولكن من الصعب على النظام السوري، أن يجد سنداً يتفق ورؤيته بأن سوريا تعاونت مع اللجنة إلى الحد الكافي، يمكن القول أن تسيس التحقيق سيتم في أروقة مجلس الأمن، الموقف الأمريكي، وكما هو متوقعاً ، جاء مبادراً وتصعيدياً، مع التلويح بأقصى العقوبات قرأت أمريكا في التقرير بداية النهاية للنظام السوري، حيث سيتم وضعه في عنق الزجاجة ، ليس من أجل تسهيل التحقيق فحسب، بل من أجل فرض إملاءات وشروط بدون مساومة، من خلاله عزله دولياً ، وإغراقه في مشاكله الخاصة ، حيث إن عمله سيتركز على كيفية الخروج من هذه الورطة بأقل الخسائر، وكان أول الغيث القرار بإقفال مكاتب الجهاد الإسلامي في دمشق، تلاقت المصلحة الفرنسية ، مع أمريكا وبريطانيا التي تعودنا على موقفها الداعم لأمريكا، أما الموقف الروسي والصيني الذي يتعارض مع الموقف الأمريكي والأوروبي ، ليست مستندة هي الأخرى إلى قراءة دقيقة خدمة للتحقيق ، بل تستند إلى المصالح الخاصة التي تربطهم بالنظام، وإلى معارضتهم للمشروع الأمريكي للهيمنة، لكن يبقى أن ليس هناك خلاف على ضرورة تعاون سوريا، مع التحقيق ، وتطبيق قرار مجلس الأمن الذي يقضي بذلك . وهذا شأن الدول العربية، التي سيقتصر دورها على أن تكون وسيطاً، بين النظام السوري والدول الكبرى، بل سيكون دورها الضغط على النظام السوري، من أجل تطبيق قرارات الشرعية الدولية.
في مواجهة التصعيد القائم في أروقة مجلس الأمن ضد ا لنظام السوري، وبهدف منع أو تخفيف إصدار قرار عقابي، لا تحمد عقباه بحق النظام السوري، أو سوريا، أعلن النظام السوري موافقته على التعاون الكامل، مع لجنة التحقيق الدولية ، محاولة منه لسد الذرائع قدر الإمكان. من خلال لقائه الرئيس مبارك. طالما أن النظام السوري ، وافق على التعاون، مع لجنة التحقيق الدولية، هذا يعني قبوله بالشروط التي تضعها اللجنة، المتعلقة بإجراءات التحقيق، في نفس الوقت يعني ذلك مسايرة المجتمع الدولي ، أما على الصعيد الداخلي، قد يترافق مبدأ التعاون، مع تصدع في البيت الداخلي للنظام السوري، على المستوى الأمني والعسكري، تبعاً لسير التحقيق، ومدى وجدية التعاون السوري ، أما بالنسبة لموقف النظام من المعارضة، سيكون غض الطرف، وعدم التصعيد ضد المعارضة.
وقد يكون الهدف من اتخاذ قرار التعاون، هو منع مجلس الأمن من اتخاذ قرار عقابي شديد اللهجة ضد سوريا، خاصة القرار الذي يقضي بتجميد أرصدة ، ومنع سفر، لمسؤولين موضع الشبهة، وهذا لا يعني إلا كسب الوقت، وهذا ما يدل عليه تشكيل لجنة قضائية خاصة، للتعاون مع التحقيق الدولي، والتحقيق اللبناني، لم تحدد مهامها بدقة ، هل هي لجنة تابعة للتحقيق الدولي، أي إحالة المشتبه بهم ،إليها بعد أن تنتهي لجنة التحقيق من هذه المهمة ، وهذا وضع مقبول ، أم إن صلاحياتها تتجاوز ذلك، أي أن تكون بديلاً للجنة التحقيق الدولي، في التحقيق مع الشهود أو المشبوهين، وإعطاء لجنة التحقيق الدولي ما توصلت إليه من معلومات. هذا لن يكون مقبول بالنسبة للمجتمع الدولي، ولا للجنة التحقيق الدولية، بل هذا تلبية لرغبة، وأوامر كبار المسؤولين موضع الشبهة، اللذين قد يرفضون المثول أمام لجنة التحقيق، بحجج مختلفة، قد يكون منها عدم الثقة بهذه اللجنة، وهو يعكس صراعاً بين أعمدة النظام، عن التعاون ، ومدى هذا التعاون.

خاص – صفحات سورية -

سورية الوطن والشعب .. هي الأبقى

سورية الوطن والشعب .. هي الأبقى

د. عبد الله تركماني

أخبار الشرق

في الوقت الذي يتعمق فيه المأزق السوري، نتيجة إعلان تقرير ميليس عن احتمال تورط ‏شخصيات أمنية وسياسية سورية في جريمة اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري ‏ومطالبة المجتمع الدولي الحكومة السورية بتسهيل التحقيق معهم، تتسارع التطورات وتتعاظم ‏المخاطر بسبب ما وصلت إليه القضية السورية التي تستفحل كل يوم منذرة بأسوأ النتائج ‏وأفدح الأخطار.

ولأننا نطمح لأن نكون جزءاً من وعي عربي يؤصّل لثقافة سياسية تعتبر التحرر من ‏الأنظمة الشمولية أحد أهم المداخل للاستقلال الوطني والقومي، فقد آلينا على أنفسنا أن نحافظ ‏‏- دائماً - على موقف يميّز بين معاناة شعبنا ووطننا من وطأة النظام الشمولي ومعاناته من ‏الآثار المحتملة لفرض عقوبات اقتصادية على سورية، من دون أن نتمسك بهذا النظام، الذي ‏هو معضلة سورية سابقة على قرار مجلس الأمن 1559 أو تقرير ميليس. فالمحنة السورية ‏ليست فقط في احتمالات فرض العقوبات والحصار على سورية وإنما في استمرار "الشرعية ‏الثورية" وغياب الشرعية الدستورية، وما رافق ذلك من قمع داخلي ومصادرة للحريات ‏الديمقراطية وتهوّر في رسم السياسات الإقليمية والدولية.

وكي لا نبكي على الأطلال بعد أن تقع الواقعة، فقد تابعنا كل المبادرات والخيارات التي ‏طرحتها المعارضة الوطنية السورية والعديد من المثقفين السوريين، وكذلك بعض الأطراف ‏الإقليمية والدولية، التي تدعو إلى "الحيلولة دون وضع البلاد في مواجهة الشرعية الدولية .. ‏كي لا تقع بلادنا أسيرة العزلة، وتتعرض للأخطار، وتصبح فريسة سهلة للعدوان"، بما يعنيه ‏ذلك من "تقديم المشتبه بهم للمحاكمة، ومحاسبة من تثبت إدانته فيها من المتورطين، مهما ‏كانت مناصبهم وأدوارهم، وعدم التستر عليهم لأي سبب" كما وعد الرئيس بشار الأسد في ‏مقابلته مع ‏CNN، وإعادة بناء الدولة السورية الحديثة على أسس ديمقراطية مختلفة جذرياً ‏عن الأسس الراهنة.

لقد جرى الحديث، منذ بضعة سنوات، عن عدة اقتراحات محددة موجهة إلى الزعامة ‏السورية تدعوها إلى‏‎ ‎تفهّم وإدراك خطورة التحولات التي تشهدها الساحة الدولية‎ ‎بعد أحداث ‏‏11 سبتمبر/ أيلول 2001 و"الحرب على الإرهاب" التي توافق عليها المجتمع الدولي، ‏وتنصحها بضرورة إحداث تغييرات جوهرية وجذرية في سياساتها‎ ‎وتوجهاتها الداخلية ‏والخارجية، بما يؤدي إلى انفتاح سياسي أكبر في الداخل وإلى‎ ‎إصلاح في النظام وإلى تعاون ‏كامل وجدي مع المجتمع الدولي، تمهيداً لفتح صفحة جديدة في‎ ‎علاقات سورية مع القضايا ‏العربية، بما فيها رفع الوصاية عن لبنان والقضية الفلسطينية.

فمع وصول إدارة الرئيس بوش في أوائل العام‏ 2001‏ ورحيل الرئيس حافظ الأسد في ‏يونيو/ حزيران‏‏ في العام 2000 واندلاع الحرب الأمريكية ضد الإرهاب بعد جريمة ‏11‏ ‏سبتمبر/ أيلول ‏2001‏، وأخيراً الاحتلال الأمريكي للعراق في أبريل/ نيسان ‏2003‏ دخلت ‏سورية، دوراً ومكانة، في دائرة الاستهداف الأمريكية‏.‏ وقد بدأت أولى خطوات استهداف ‏سورية - عملياً - بإصدار الكونغرس الأمريكي قانون محاسبة سورية وسيادة لبنان في ‏نوفمبر/ تشرين الثاني ‏2003.‏ ورغم أنّ العراق كان الدافع وراء إصدار هذا القانون علي ‏خلفية الاتهامات الأمريكية لسورية بدعم المقاومة العراقية وإيواء بعض عناصر النظام السابق‏‏ ‏وتهريب النفط العراقي، إلا أنّ لبنان كان هو السبب الرئيسي وراء المصادقة على هذا القرار.‏ ‏وهو ما أكدته السياسة الأمريكية لاحقاً من خلال إصدار قرار مجلس الأمن رقم‏ 1559‏ في ‏سبتمبر/ أيلول‏2004‏ الذي يدعو إلى انسحاب جميع القوات الأجنبية وعدم التدخل في الشؤون ‏الداخلية وحماية سيادة لبنان وتفكيك الميليشيات فيه‏.

وهكذا، يبدو أنّ القيادة السورية لم تدرك بعد أنّ قصة الشرق الأوسط السياسية في المدى ‏المتوسط ستتلخص، طبقا لتوصيف الفيلسوف الألماني كانت لحالة السلام الدائم، في مفهومين ‏أساسيين: أولهما، هو مفهوم السلام كحزام أمن للوضع الإقليمي بين الدول. وثانيهما، هو ‏التحول المؤسسي القائم على مجموعة قيم عالمية مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والشفافية ‏والحكم الصالح. وإذا كان المفهوم الأول سيحكم علاقات الدول بعضها ببعض، وخصوصاً ‏حالة العرب وإسرائيل، فإنّ المفهوم الثاني يركز على علاقات الدول بمجتمعاتها حيث تدفع ‏التيارات العالمية الحكومات إلى الانتقال من شخصنة السياسة، أي ربط مصير الأمة بشخص ‏ما، إلى مأسستها، وربط مصير الدول والمجتمعات وعلاقتها بمدى حيوية المؤسسات وتكيّفها ‏للتعاطي مع المؤسسات العالمية المماثلة.

ولما كان الخطاب السياسي خطاباً في الممكنات، أي في جدلية الواقع والممكنات، فإنّ ‏مفهوم الأولوية في مرحلة تاريخية معينة يغدو ذا أهمية بالغة. فإذا أضفنا عمق التحوّلات في ‏العلاقات الدولية، والتغيّرات الجيو - سياسية في العراق ولبنان وفلسطين، فإنّ الوضعية لم ‏تعد تحتمل تأجيل إعادة بناء الدولة الوطنية السورية الحديثة، تحت أي شعار، إذا ما أريد لتيار ‏التغيير الديمقراطي أن يأخذ مداه.

إن التوصيف السابق يقتضي الشروع في مصالحة وطنية طال انتظارها وكثرت المطالبات ‏بها، وآخرها "إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي"، وإصلاح النظام بجدية وعمق، ‏وإعادة تحديد المشكلات التي يجب أن تعالجها سورية بجهود أبنائها، في الموالاة والمعارضة، ‏والذين لن يتمكنوا من مواجهة الخطر بغير تحول نظامهم من نظام أمني إلى نظام سياسي، ‏يعترف بحقهم في الحرية، وبحق أحزابهم ومنظمات مجتمعهم المدني في الشرعية والعلنية، ‏ويقوم على نمط من الإدارة والتنظيم يستند على مشاركة المواطن في الشأن العام، دون قيود ‏تبطل حريته أو تتعارض معها، ويسمح بمراجعة سياساته الداخلية والخارجية، وبتحويل الدولة ‏من دولة حزب إلى دولة حق وقانون تخص كل واحد من مواطنيها.

إنّ سورية تواجه فرصة تاريخية تمكّن من إجراء التغيير الديمقراطي المنشود، بالاعتماد ‏على تضافر جهود جميع النخب الفكرية والسياسية دون استثناء، فلا يجوز تفويت هذه ‏الفرصة، بل الحرص على الانتقال الديمقراطي الهادئ والممأسس، الذي يفتح الآفاق أمام ‏إعادة صياغة مستقبلها على أسس جديدة.

نحن أمام تحديات حقيقية تستوجب تفعيل الخيارات الممكنة، من خلال إرادة سياسية ‏ناضجة، وإدارة عقلانية لكل إمكانياتنا المتوفرة، بهدف التعامل مع الوقائع القائمة كما هي لا ‏كما تتخيلها رؤى أيديولوجية مبسطة. فليس من الواقعية والعقلانية أن نغمض أعيننا عن ‏مختلف الخيارات والقدرات التي يمتلكها شعبنا، وذلك من خلال إعادة صياغة كل أسس قوتنا، ‏بترتيب أوضاعنا الوطنية، وإعادة ترتيب العلاقات مع دول الإقليم والعالم والموازين الدولية.

وفي وقت تحتاج فيه الأمة إلى الحكمة والتعقل في التعاطي مع ظروف الخطر الذي ‏تتعرض له حالياً، فإنّ المبادرة العاقلة لا ترمي فقط إلى إنقاذ سورية ووحدتها - دولة وشعبا ‏‏- بل ترمي إلى إنقاذ المنطقة العربية بأسرها ومنع وقوع سورية تحت الوصاية الدولية، ‏علاوة على إنقاذ الكرامة العربية بتجنب رؤية حاكم عسكري أمريكي لسورية، ثم أنها تضمن ‏إجراء تغيّرات داخلية هادئة ومتدرجة تحول دون حدوث انفلات أمني وتقاتل عشوائي بين ‏مكوّنات المجتمع السوري.

وفي هذا السياق، من حقنا أن نتساءل عما هو الأفضل والأقل خسارة: بقاء الوضع على ‏حاله في سورية، أم انتظار المخاطر المحتملة، أم تبنّي الحكمة والتعقل في التعاطي مع ‏الوضع؟

من المؤكد أنّ أية مبادرة حكيمة سوف تنطوي على أنّ الشعوب أهم من الحكام، وأنّ ‏الحاكم يزول بينما الشعب يبقى، وأنّ مهمة الزعيم الحقيقي هي حماية شعبه وتوفير الأمن ‏والاطمئنان له، وليس لشخصه وأولاده وعشيرته.‏

وهكذا نبعد شبح الحصار والعدوان ونقطع الطريق على إسرائيل التي تقف حكومتها، ‏الأكثر يمينية، بالمرصاد لتستفيد من أية هزة إقليمية لتمرر مشروعها الهادف إلى تفتيت ‏المنطقة إلى دويلات أقلوية وتهجير أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين وإحباط إمكانية قيام دولة ‏فلسطينية مستقلة وإلغاء أية إمكانية لمشروع حل عادل وشامل لقضية الصراع العربي - ‏الإسرائيلي، بما فيه الاحتلال الإسرائيلي للجولان السوري.

وبالرغم من تصورنا لصعوبة قرار دراماتيكي يصدر عن الرئيس السوري يناقض فيه ‏سياسات مورست منذ خمس وثلاثين عاماً، يتمكن من خلاله مواجهة الحقيقة تعبيراً عن ‏صحوة وفاء للشعب السوري ودماء شبابه، فإنه يحدونا الأمل بأنه سيتخذ القرار الذي يحفظ ‏سلامة أراضي سورية ويجنّب المنطقة ويلات المخاطر المحدقة بها، إذ يُفترض معرفته بأنّ ‏السلطة ليست هدفا في حد ذاتها، بل وسيلة لغاية تتمثل في خدمة الشعب وإسعاده والعمل ‏لمصلحته وأمنه واستقراره.

ولا شك في أنّ سورية القوية داخلياً، بديمقراطيتها واقتصادها واستقرارها السياسي ‏والاجتماعي، وبنخبها الفكرية والسياسية والاقتصادية، والمتصالحة مع حقائق العصر، يمكن ‏أن تقدم نموذجا وأن تكون أكثر نفوذاً في مجالها الإقليمي، وأكثر قدرة على مواجهة التحديات ‏والإملاءات الخارجية.

__________

*‏ كاتب وباحث سوري مقيم في تونس

لماذا يخلط المثقفون العرب بين الليبرالية والديموقراطية؟

لماذا يخلط المثقفون العرب بين الليبرالية والديموقراطية؟

يعكس الخلط بين مفهومي الديموقراطية والليبرالية رغبة بعض قطاعات المثقفين العرب في تفسير الديموقراطية، بما يساعد على مواجهة القيود والضغوط التي تمارسها المجتمعات التقليدية على الفرد في ما يتجاوز مسألة الرد على تحديات السلطة الاستبدادية، ويثير في المقابل مخاوف كبيرة لدى قطاعات الرأي العام الواسعة التي تخشى ان يكون مضمون الديموقراطية الاباحة الكاملة لكل ما يمكن ان يشكل خرقا للقيم والتقاليد والعقائد الدينية.

الديموقراطية لا تتناقض بالاساس مع الليبرالية التي شكلت حاضنتها الفلسفية والسياسية الرئيسة، الا انها لا تتطابق معها، بل هي تنزع الى الاستقلال اكثر فأكثر في مفهومها ومنظومة ممارستها عنها. وفي هذه الحقبة التي تشهد عودة قوية للفلسفة الليبرالية عموما، وفي عالم الجنوب والشرق بشكل خاص (كما يتبين من صدى افكار فوكوياما، على اثر الانحسار، ان لم نقل التلاشي، الذي شهدته الفلسفات المناوئه، في سياقات انهيار الفكرة الشيوعية وتراجع الايديولوجيات القومية وانبعاث افكار وحركات المجتمع المدني وحقوق الانسان) يصبح من المفيد اعادة فحص هذين المفهومين المترادفين الديموقراطية والليبرالية، والسعي الى ابراز المستويات المختلفة لتطابقهما وانفصالهما.

ينبغي بالتأكيد الحذر من معاملة المفاهيم الفكرية كما لو كانت مفاهيم جامدة وجاهزة، فمضامينها تتطور وتتبدل باستمرار. لكن برغم ان المفاهيم لا تحتفظ بدلالاتها من دون تغيير لفترات طويلة وان مضمونها التاريخي يرتبط في النهاية بالسياق الاجتماعي الذي تعاود الظهور فيه الا ان استخدامها في فترات متباعدة وفي سياق مجتمعية متعددة يؤكد ان للمفاهيم الاجتماعية بعض الدلالات الثابتة التي من دونها لا يستقيم معناها.

تنطوي الليبرالية على اعتقادات ثابتة اساسية لا تستقيم من دونها:

اولها، مبدأ الانسجام الطبيعي الذي يقضي بأن لا يتناقض بحث الفرد الحر عن مصالحه الخاصة، مع تحقيق المصلحة العامة للجميع، بل هو على العكس يشكل ضمانته الحقيقية. ويعني ذلك انه اذا تركنا كل فرد يبحث بحرية عن مصلحته الخاصة، سنصل الى انسجام حقيقي في المصالح اكثر بكثير مما لو سمحنا للدولة بأن تتدخل لضمان مثل هذا الانسجام او لاختراعه.

ثانيها، ان حقل الحرية السياسية يتطابق مع حقل الحرية الاقتصادية، ولا يعني هذا مجرد الافتراض بأن الاقتصاد الحر هو شرط للحرية السياسية او الديموقراطية فحسب ولكن اكثر من ذلك ان الحريات الاقتصادية المجسدة في اقتصاد السوق الحر تقود مباشرة وتلقائياً الى نشوء الحريات السياسية وتأكيدها.

وثالثها، ان الديموقراطية والليبرالية متطابقتان تماما فلا ديموقرطية من دون ليبرالية ولا ليبرالية من دون ديموقراطية وبالتالي فالليبرالية تضمن بشكل تلقائي تكافؤ الفرص وآفاق الارتقاء الاجتماعي والمشاركة السياسية لجميع الافراد بقدر ما تضمن النمو والتقدم الاقتصادي.

النيوليبرالية التي تشكل الايديولوجية الجديدة لحقبة ما بعد الحرب الباردة في مركز العالم الصناعي والتي تنتشر بسرعة في بقية بقاع العالم، هي مذهب العودة الى اصول الليبرالية، وتعني اذاًً تحريرها من القيود التي ادخلت عليها منذ العقود الاولى من القرن العشرين، كرد على الازمات الكبرى التي واجهتها ومنها ازمة الكساد الكبرى في نهاية الثلاثينات. وكما مع كل عودة للاصول مبالغة في التركيز على المبادىء والقيم الاساسية التي يتضمنها المذهب او النظام المستعاد. لا تكتفي النيوليبرالية بالتأكيد على ضرورة التراجع عن تدخل الدولة المباشر والواسع في النشاطات الاقتصادية والانتاجية بما في ذلك قطاع الخدمات العامة واخضاعها جميعا لقاعدة المنافسة وقانون العرض والطلب، بل هي تسعى اكثر من ذلك الى تجاوز نظام السوق الرأسمالية القومية او الوطنية الذي ساد في المراحل السابقة وما يعنيه من ممارسة الدولة حقها في السيادة الاقتصادية ووضع التعريفات الجمركية الحمائية وتنشد بناء سوق رأسمالية على امتداد الكرة الارضية، وهو ما يندرج اليوم تحت اسم العولمة.

وفي السياسة تعني النيوليبرالية التخلص من دولة الرعاية والدعم التي نشأت في الحقبة الماضية. انها تنظر الى الخدمات التعليمية والصحية والضمانات الاجتماعية المختلفة التي وفرتها هذه الدولة في السابق على انها معوقة للمجتمع الحر لأنها تقيد اختيارات افراده مثلما هي معوقة للتقدم الاقتصادي بقدر ما تفرض اكراها وكوابح على سوق التداول الحر للسلع والخدمات والمهارات.

لا يقبل الفكر الديموقراطي المعاصر بالمسلمة القائلة بأن احترام الحريات الفردية يقود حتماً الى تحقيق القيم الانسانية المطلوبة، وينتج تلقائياً العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص لأبناء المجتمع الواحد ولا يؤمن تاليا بالانسجام الطبيعي بين حقلي الحرية الاقتصادية والسياسية.

الحرية لا بد ان تترافق مع سياسات اجتماعية واقتصادية تضمن حدا ادنى من استقلال الافراد بما يمكنهم من ممارسة حرياتهم "الشكلية". الحرية وحدها ليست مبدأ كافيا لقيام نظام ديموقراطي واجتماعي صالح وناجع بالرغم من انها تبقى قيمة اساسية فيها. فأي معنى للحرية من دون عدالة ومساواة قانونية فعلية. ومن هنا لا يعتبر الفكر الديموقراطي المعاصر عدم تدخل الدولة في العملية الاقتصادية مذهبا مقدسا وشرطا لقيام اقتصاد سوق ناجح ومنتج.

من هنا سيتبلور عبر التجربة التاريخية الطويلة مفهوم للديموقراطية يتقاطع مع الليبرالية في مناح عديدة. المنحى الاول هو التمييز بين المظاهر السطحية والشكلية للممارسة الديموقراطية وتحقيق القيم العميقة للفلسفة الليبرالية. وكان ماركس اول من كشف عن هذا التناقض العميق بين الحريات الشكلية التي وعدت بها الليبرالية والعبودية التي ينتجها ويفرضها تحكم رأس المال على الطبقات الشعبية. وبالرغم من الانجراف الذي قادت اليه هذه النظرية الصحيحة والذي اتخذ شكل معارضة نظام الحرية السياسية اي الديموقراطية "الشكلية" (كما كان يقول الماركسيون) بنظام المساواة الاجتماعية او الديموقراطية "الشعبية" التي تقوم على عدالة توزيع الثروة، الا ان تطور التجربة الليبرالية نفسها قد اسفر عن رؤية تكاد تكون موضع اجماع على امرين: الاول ان الديموقراطية، بما تعنيه من ضمان حرية الافراد ومشاركتهم السياسية واستقلالهم، لا يمكن ان تتحقق من دون حد ادنى من العدالة والانصاف في توزيع الثروة. والثاني ان نظام السوق، بالرغم من قانون المنافسة الذي يضبطه، يقود حتما وبصورة تلقائية الى تركيز الثروة وبالتالي ايضا السلطة والمعرفة بيد فئات قليلة.

ومن هنا طورت جميع البلدان الليبرالية الاوروبية التقليدية مع الزمن سياسات اجتماعية اساسية لتجاوز هذا التناقض الى ضوابط سياسية واقتصادية واجتماعية تمنع اصحاب الرساميل من السيطرة المتزايدة على مصادر الثروة والسلطة في المجتمع وتقضي على الديموقراطية باسم الحرية.

وهكذا صار من الممكن الحديث، من دون فقدان الاتساق المنطقي، عن ديموقراطية مسيحية او اشتراكية تستمد شرعية القيم الانسانية التي تعمل من اجلها عقائد او فلسفات اخرى. وفي تركيا الراهنة يمكن الحديث عن ديموقراطية اسلامية تؤكد على الالتزام بقواعد الديموقراطية وقيم العدالة والمساواة والحرية، انطلاقا من ومع التمسك ببعض القيم الروحية والاجتماعية والثقافية الخاصة، بما في ذلك ربما التأكيد على اهمية التضامن داخل الأسرة او تشجيع المؤسسات الاهلية والخيرية... الخ.

وهذا يعني ان من الممكن تماما ان تكون هناك ديموقراطية لا تقاس سعادة المجتمع ورفاهه فيها بحجم او بعدد الحريات الفردية الممارسة. وان تكون الاسبقية فيها لقيم العدالة والمساواة والحرية، انطلاقا من ومع التمسك ببعض القيم الروحية والاجتماعية والثقافية الخاصة، بما في ذلك ربما التأكيد على اهمية التضامن داخل الاسرة او تشجيع المؤسسات الاهلية والخيرية... الخ.

وهذا يعني ان من الممكن تماما ان تكون هناك ديموقراطية لا تقاس سعادة المجتمع ورفاهه فيها بحجم او بعدد الحريات الفردية الممارسة، وان تكون الاسبقية فيها لقيم العدالة او المساواة بين المواطنين او بين الجنسين او بين الطبقات او الاقاليم والجماعات المختلفة، خاصة عندما تكون الفوارق بينها ذات طبيعة خطيرة واستثنائية.

تحرير الفكرة الديموقراطية

من الفلسفة الليبرالية شرط تعميمها

في العالم العربي المعاصر لا تبرز فلسفة الليبرالية، كتعبير عن ولادة روح فردية قوية ومستقلة بالفعل ومبادرة، بقدر ما تعبر عن خيبة امل قسم من الرأي العام بأنظمة حكم انبثقت خلال نصف القرن الماضي وفرضت نفسها باسم القومية والاشتراكية واتسمت بما يشبه عبادة الدولة وتقديس دورها الاجتماعي على حساب الفرد وحريته واستقلاله وكرامته. ولذلك فهي لا تبدو كفلسفة اوسع من الديموقراطية، ولكن كتيار فكري مكمل لها او كالجناح الراديكالي في الحركة الديموقراطية.

ومن يقرأ الادبيات السياسية العربية الاحدث، يدرك بسهولة الاختلاط العميق الذي يسيطر على الثقافة السياسية العربية في ما يتعلق بمفهومي الديموقراطية والليبرالية واحيانا عن استخدامهما بمعنى واحد. بيد ان الامر لا يتوقف على مجرد الخلط بين المفهومين وعدم إدراك الفرق بينهما وإنما يذهب ابعد من ذلك فيطابق بين الديموقراطية والليبرالية او ينزع الى تفسير الديموقراطية تفسيراً ليبراليا. ولا يحصل ذلك بسبب معرفة قيم الليبرالية، بل نتيجة الاعتقاد بأن هذه القيم هي جزء لا يتجزأ من الديموقراطية اي من تأكيد قيم الحرية والعدالة والمساواة بين جميع الافراد بصفتهم افرادا احرارا واسياد انفسهم خارج اي اكراهات مجتمعية او حكومية.

من نتائج هذه المطابقة السلبية والمضرة بالديموقراطية نزوع من يطلقون على انفسهم اسم الليبراليين العرب، وانطلاقا من جعل الحرية، الى التضحية بقيم اساسية لا تستقيم الى الديموقراطية العربية من دون احترامها. ومن هذه القيم: العدالة الاجتماعية والمساواة القانونية الوطنية المرتبطة بها والتضامن الاجتماعي. ومنها، بالنسبة للمجتمعات العربية التي لم تنجح بعد في الخروج من سياق الهيمنة الاستعمارية، القيم الوطنية المرتبطة بمهمات تحقيق او حماية الاستقلال والسيادة الوطنية التي ركزت عليها النظم السابقة وبشكل خاص تجاه الدول الكبرى وفي طليعتها الولايات المتحدة الاميركية واوروبا. ومنها ما يتعلق بمسائل التأكيد على الهوية العربية وما ارتبط ويرتبط بها من نزوعات الى بناء مشاريع الوحدة او الاتحاد او التعاون الاقليمي الخاص بين البلدان العربية. ومنها ايضا واحيانا التضامن مع قضايا الامة العربية وفي مقدمها القضية الفلسطينية.

نلاحظ ان الليبراليين العرب الجدد انما يتخلون عن هذه القيم الانسانية العميقة وفي مقدمتها التطلعات الاقليمية والوطنية بتأكيد قيم احترام التنوع العرقي والديني والتركيز على قضايا المعيشة وتحسين مستويات الدخل والتنمية والتعاون مع الدول الاجنبية من دون ايلاء اهتمام كبير لمسائل السيادة والحساسيات الشعبية التاريخية. ويخشى ان تتماهى الليبرالية اكثر فاكثر في البلاد العربية مع التأمرك او حب التماثل مع اميركا والاقتداء بنموذجها الاجتماعي.

لا شك في ان قيم الليبرالية الجديدة، كما يعيد اكتشافها فريق من المثقفين العرب في سياق صراعهم المشروع ضد النظم الاستبدادية القاسية، وفي مواجهة القيود التي تفرضها التقاليد الاجتماعية والدينية المحافظة، تميل الى وضع نفسها في مواجهة مباشرة مع القيم السائدة. ويخشى ان يكون مصير التيار الليبرالي العربي الجديد، ومن ورائه مصير النخب المثقفة العربية، في هذا الربع الاول من القرن الحادي والعشرين شبيهاً بمصير التيار الماركسي، الذي نشأ وتصاعد نفوذه في اوساط المثقفين في الخمسينات والستينات من القرن الماضي.

فكلا التيارين ينزع الى ان يعكس تمرد فئات من المثقفين على القيود المجحفة التي يضعها المجتمع والدولة على حرية الفكر والاعتقاد والمشاركة السياسية ويهدد، لهذا السبب ذاته، بدفع المثقفين او جزء منهم الى تبني موقف يشبه موقف المنشقين على الدولة والمجتمع. ومن شأن هذا الموقف ان يقود ايضا الى تفاقم شعور المثقفين بالعزلة والتهميش، فهو يشجع لدى بعضهم المراهنة بشكل متزايد على التعاون مع القوى الخارجية، لا بل على التدخلات الاجنبية في سبيل تحقيق تحولات ديموقراطية فعلية داخل مجتمعات تبدو غير قادرة في نظرهم على تحقيقها بعناصرها الذاتية.

ان التطلع الى بناء الذاتية الفردية الحرة والمتحررة من القيود، ومواجهة الاطراف الاجتماعية المختلفة التي تشكل مصدر سلطة او صلاحية خاصة، سواء أكانت مجتمعا شاملا ام طبقة ام قبيلة ام طائفة ام عائلة، قد يفتح الباب امام التقليل من قيمة الذاتية الجمعية ومن مسؤولية الدولة والمجتمع معا تجاه الفرد. وقد يقود التطرف الليبرالي، الى عكس ما يهدف اليه، اي الى تهديد الذاتية الفردية، وفرض الوصاية وخلق الظروف التي تحول دون تعميم الحريات، دون تنظيم الحياة الاجتماعية على أسس من العدالة والمساواة والاعتراف بمركزية الانسان وقيمة وجوده الاصيلة.

ان الديموقراطية لم تعد رديفا لليبرالية، ولكن نموذجا للحكم الصالح الذي يشمل تحقيق مجموعة من القيم الانسانية الرئيسة. الى جانب قيم اخرى تعكس خصوصية المجتمعات وظروف تطورها. هناك ثلاث رؤى مختلفة ومتباينة تنمو اليوم في العالم العربي لطبيعة الاهداف والمهمات التي يتعين على الديموقراطية الآتية ان تعمل عليها: ديموقراطية اجتماعية وديموقراطية اسلامية وديموقراطية ليبرالية.

فالديموقراطية الاجتماعية تعتبر التحويل الديموقراطي، وإعادة إشراك الشعب في السياسة، وإقامة سلطة تعددية على أسس الشرعية الانتخابية، وسيلة من أجل تحقيق مساواة أكبر بين الأفراد أمام القانون وفي مجالات الحياة الاجتماعية وتكافؤ الفرص وشروط المعيشة. فنظام التسلط والديكتاتورية لا يعمل اليوم بشكل واضح لمصلحة تركيز الثروة المتزايد فحسب، بل يضاً لمصلحة تهميش الشعب وإخراجه من دائرة القرار كما يعمل لمصلحة تعميق الإفقار الثقافي والفكري وجعل المعرفة والعلم والتربية والتعليم حكرا على الخاصة من المجتمع.

فالخيار الديموقراطي الاجتماعي يجعل من التنمية الاقتصادية والاجتماعية الغاية الأولى للسلطة السياسية وبالتالي ينظر بعين أكثر استعجالا الى تحقيق الوحدة والتعاون الإقليمي والدفاع عن القيم الوطنية. وهناك ديموقراطية إسلامية تريد أن تكون التعددية المنتظرة وما تتضمنه من اعتراف بالحريات والحقوق الاساسية للفرد المواطن وسيلة لإضفاء طابع القيم الإسلامية واحترام الطقوس والتقاليد الشعبية على الحياة العمومية وبث درجة أكبر من الأخلاق في حياة الأفراد والجماعات، في الدولة والحياة الخاصة معا. أي بناء العلاقات والحياة العمومية على أسس أخلاقية.

وهناك مشروع الديموقراطية الليبرالية الذي يريد التعددية لجعل الحرية قيمة أساسية وذات أسبقية في الثقافة الوطنية وتقديس الفرد وضمان استقلاله امام مختلف السلطات التابعة للدولة او للمجتمع او للأجهزة الأمنية والبيروقراطية.

لقد اظهرت التجربة التاريخية أن فصل مسألة الحرية، التي هي مسألة جوهرية في الديموقراطية، عن القيم الإنسانية الأخرى التابعة من التضامن الاجتماعي وفي مقدمها قيم العدالة والمساواة، يقود لا محالة الى تفريغ الفلسفة الليبرالية نفسها من روحها الإنسانوية التي كانت هي الأصل في نشوئها. وفي هذه الحالة يمكن الليبرالية ان تتحول، وهي تتحول بالفعل، الى عائق امام الديموقراطية ليس فقط بسبب ما تفترضه من تطابق تلقائي بين الحرية الاقتصادية والحرية السياسية فحسب، وإنما أكثر لأنها تنزع الى تجاهل قيم العدالة والمساواة التي لا يمكن ان تستقيم من دون تدخل الدولة الممثلة لعموم الشعب وإرادته العامة. إنها باسم السعي الى أقصى درجة من الحرية الفردية، توشك ان تقضي على شروط انبثاق الحرية الحقيقية وتعميمها وتهدد بان تصبح فلسفة لا إنسانية ولا أخلاقية.

() ينشر هذا النص في العدد الجديد من "بدائل"، المجلة العربية التي تصدر بالتعاون مع مجلة "ذو ايكولوجيست" البريطانية وترأس تحريرها ليلى غانم.

برهان غليون

النهار

رقصة الموت بين بوش والأسد

رقصة الموت بين بوش والأسد

مأمون فندي

الشرق الأوسط



يبدأ التحقيق بالصغار حتى تصل النار إلى أقدام الكبار، فهل يطال التحقيق مع سكوتر ليبي قدمي بوش؟! وهل تصل نار التحقيق مع آصف شوكت إلى قدمي الأسد؟!
ديتليف ميليس فتح طاقة جهنم على نظام الأسد، وباتريك فيتزجرالد يفتح طاقة في ادارة بوش المشهود لها بالكتمان، قد توصلنا إلى حقائق لم نعرفها عن حرب العراق، وقد تؤدي إلى انهيار إدارة بوش، كما قد يؤدي تقرير ميليس إلى تصدع في نظام الأسد. القصة معقدة وتحتاج إلى شرح وتوضيح في جانبيها القانوني والسياسي، وكذلك كشف الغموض في شخصية سكوتر ليبي وتعدد أدواره داخل إدارة بوش.
يبدو أن تحقيق فيتزجرالد يلف حبل المشنقة على رقبة إدارة بوش كما يدخل تحقيق ميليس نظام بشار الأسد في نفق مظلم. الغريب أنه وفي الحالتين سيكون العقاب نتيجة لتضليل العدالة، لا نتيجة للجريمة ذاتها.
ولنبدأ بجريمة سكوتر ليبي وتبعاتها على إدارة بوش، اتبعها بتبعات ذلك على النظام السوري وما تنوي الإدارة فعله تجاه الحلقة الضيقة في حكم بشار الأسد... فمن هو سكوتر ليبي؟!
مهم أن نعرف أن سكوتر ليبي ليس موظفاً عادياً، فهو مدير مكتب نائب الرئيس، ليس هذا وحسب وانما هو ايضاً مستشار نائب الرئيس لشؤون الأمن القومي، كما ان له صفة اضافية وهي صفة مستشار الرئيس بوش. أي ان ليبي لديه مجموعة وظائف تجعله مفتوحاً على كل الجبهات في الحكومة الأميركية بأكملها، مهم جداً ايضاً ان نعرف عن ليبي أنه تلميذ بول وولفويتز أيام كان وولفويتز استاذاً في جامعة ييل والذي احضره معه إلى البنتاجون تحت إمرة ديك تشيني الذي كان يومها وزيراً للدفاع في ادارة بوش الأب. عام 1992 طلب تشيني من كل من وولفويتز وليبي اعداد تصور لشكل دفاعات الولايات المتحدة بعد حرب الكويت وبعد نهاية الحرب الباردة. هذا التصور هو الذي أدى إلى ما يعرف الآن بعقيدة بوش ورامسفيلد في استخدام الضربات الاستباقية لتحييد أعداء أميركا قبل أن يصلوا إليها. أهمية سكوتر ليبي ايضاً تأتي من كونه عضوا اساسيا في لجنة الحرب على العراق
IRaq War Group، وكانت تلك جماعة عملها الرئيسي تسويق فكرة الحرب للرأي العام الأميركي. اذن نحن لا نتحدث عن شخص عادي، فاذا كان تشيني يدير الأمور خلف الستار للرئيس بوش، فإن ليبي كان يدير الأمور خلف الستار لنائب الرئيس، وهذا يضعه مقام الرجل الثاني في الحكومة الخفية التي أدارت الحرب على العراق.
سكوتر ليبي متهم بخمس جرائم، أخطرها بالنسبة لادارة بوش هي تهمة تضليل العدالة، فبدلاً من ان يعترف سكوتر ليبي بأنه مصدر المعلومات التي كشفت عن عميلة المخابرات السرية فاليري بليم، قال للمحلفين بعد أن أقسم اليمين، انه سمع بالقصة من ثلاثة صحافيين، من بينهم مراسلة «نيويورك تايمز» جودث ميبلر، وعندما تأتي محاكمة ليبي فمن الوارد ان تطلب المحاكمة شهادة نائب الرئيس، وقد يؤدي ذلك الى طلب شهادة الرئيس نفسه، لأنه كان مستشاراً للرئيس.
اتهام ليبي بتضليل العدالة في أميركا اشبه باتهام فاروق الشرع بتضليل العدالة في تقرير ميليس، اتهام سكوتر ليبي هو بداية النار التي قد تحرق قدمي نائب الرئيس الأميركي، بنفس الطريقة التي يكون فيها اتهام فاروق الشرع وآصف شوكت أو ماهر الأسد سيجر الرئيس السوري الى الادلاء بشهادته ايضاً.
اذاً كما فتح التحقيق حول اغتيال الحريري النار حتى وصلت الى مصير النظام السوري، يبدو ان شهادة ديك تشيني في فضيحة كشف هوية عميلة المخابرات الأميركية قد تصل الى الرئيس بوش نفسه، وان لم تصله عن طريق التحقيق مع تشيني فقد تصله في الاسابيع القادمة إذا ما اتهم باتريك فيتزجرالد رجل بوش الأول كارل روف، فإن الرئيس قد يطلب للشهادة، وهنا يبدأ الانهيار التدريجي للإدارة. قوة القانون الأميركي تفرض على الرئيس وعلى نائب الرئيس الإدلاء بشهادتيهما، فهل تستطيع قوة القانون الدولي إجبار الأسد على الإدلاء بشهادته في مقتل الحريري؟!.
إجبار الاسد على الادلاء بشهادته مرهون بقرارات مجلس الأمن وكذلك بالتدابير الاوروبية والأميركية تجاه نظام الاسد.
وقد عرفت من مصادر عليمة، ان الادارة الأميركية وكذلك الاوروبيين يبيتون النية لحصار نظام الاسد، ولكن بطريقة مختلفة عن تلك التي حوصر بها نظام صدام. التصور المطروح على الطاولة الآن يقول بتجميد اموال النظام واعمدته الرئيسية في البنوك الاوروبية وكذلك في بعض البنوك العربية، بتجميد أموال بعض أقارب الرئيس من رجال الاعمال. وكذلك تجميد اموال آصف شوكت، وماهر الاسد، ورستم غزالة، وفاروق الشرع، وعبد الحليم خدام وغيرهم. ليس ذلك فقط وانما هناك تصور يمنعهم من السفر خارج سوريا. هذا التجميد والمنع من السفر قد يصل الى الرئيس السوري نفسه. فهل تنقذ التحقيقات الأميركية مع بعض المسؤولين في ادارة بوش النظام السوري وتمنحه فرصة للمماطلة؟! ام ان ادارة بوش ستستخدم حربها على نظام الاسد كوسيلة للخروج من مأزقها الداخلي؟!
في التحليل السياسي لا يجب الاستهانة بما هو معروف باسم «الحيوانات» السياسية
Political Animals التي تدير النظامين، فأساس الحكم هو غريزة البقاء، فلا ادارة بوش ستسلم بسرعة لتحقيقات فيتزجرالد، ولا نظام بشار سيرضخ لتحقيقات ميليس او حتى الامم المتحدة.
ربما اول مخرج للنظامين معا هو «نموذج عروسة النيل»، ففي مصر القديمة كان المصريون يلقون بفتاة جميلة للنيل حتى يتجنبوا فيضانه وغضبه، ويبدو ان ادارة بوش قد ألقت بسكوتر ليبي للمحقق الفيدرالي فيتزجرالد حتى لا يطال التحقيق نائب الرئيس، وقد يلقي جورج بوش بكارل رووف للنهر حتى يلتهمه وتبتعد التهمة عن الرئيس؟! فبمن سيلقي بشار الاسد ونظامه للنهر؟ ومن هي عروسة النيل، او عرائس النيل، التي قد يلقي بها نظام الاسد للمحققين الدوليين حتى يحمي ظهره هو؟
قد يلقي نظام الاسد اول من يلقي للنهر رستم غزالة، فهو ليس من الطائفة الحاكمة، والاستغناء عنه قد يكون سهلا، كما انه قد يلقي بالسنة في النظام مثل فاروق الشرع او بأبو جمال، لكنه ربما لا يلقي بأخيه ماهر او حتى بزوج أخته آصف شوكت، وبالطبع او ربما بالتأكيد لن يلقي بأي من آل مخلوف.
وبنفس الطريقة التي تراجع بها جورج بوش امام ضغط القوى الحقيقية التي تدعم ادارته من متشددي المحافظين وتراجع عن تأييده لمرشحته للقضاء الأعلى السيدة هاريت مايرز، فان الرئيس الاسد ايضا لا يستطيع اغضاب اركان نظامه. المؤسسة العلوية هي دعامة الاسد الاساسية بنفس الطريقة التي يكون فيها المحافظون المتشددون هم ملاذ جورج بوش الاخير، من هذا السياق تكون التضحية بآل مخلوف بمثابة خلخلة لاعمدة النظام
Power base والمؤكد ان المخرج الوحيد لنظام الاسد هو مخرج «عروسة النيل» اي ان يلقي النظام بمجموعة من رجاله للنهر الغاضب؟ فهل سيؤدي ذلك الى الانهيار؟! ام ان النظام سيماطل ويلقي برجاله للنهر واحدا تلو الآخر على فترات متباعدة مراهنا على ان عامل الوقت في صالحه، وربما تنهار ادارة اليمين المحافظ قبل انهيار نظام الاسد؟!
في رقصة الموت هذه بين بوش والاسد، وارد جدا ان تدخل الادارة في حرب خارجية ضد سوريا ودفع الرأي العام الأميركي بعيدا عن مشاكل البيت الابيض، فسوريا الآن تصور على انها خطر على أمن المواطن الأميركي.
المهم في الموضوع ليس حجم او مسمى التهمة، وانما موضوع تضليل العدالة، وفي هذه الرقصة غير المتكافئة أشتم رائحة الانهيار، ولكن يبقى السؤال: أي النظامين سينهار اولا؟!

عودة الشكسبيرية الى منصة السياسة

عودة الشكسبيرية الى منصة السياسة

نزار سلوم

الحياة

أنهى الانتحار المدوّي لوزير الداخلية السوري غازي كنعان، التراتب الخيطي للحدث السياسي السوري – اللبناني، المعولم، بقرارات دولية ولجان دولية، والذي على رغم دينامياته الواضحة وفجائعيته الدموية، اتجه الى نمطية مقروءة مسبقاً بدءاً من 14 شباط (فبراير) 2005 في اللحظة التي اغتيل فيها الرئيس رفيق الحريري. على ان هذا الانتحار الذي اجهز على تلك النمطية المتوالية يوماً بيوم وضع الحدث السياسي، بمختلف اتجاهاته، على «منصة شكسبيرية» تزدحم، راهناً، بذلك النوع من الأشخاص – الممثلين القابعين على حواف المعاني: ما بين العقل والجنون، البطولة والخيانة، الشجاعة والجبن، الشرف والعار... حيث الالتحام المرعب للثنائيات المتضادة يشير بوضوح الى الترادف المدهش للمعاني، والذي يفضي الى انتاج بيئة ملتبسة لا مكان فيها لأي نظام اخلاقي نهائي، ولا أفضلية فيها لأي نظام قيمي واضح. ويبقى ما يشكل بؤرة امل، في بعض نواحيها، تلك الملامح التراجيدية التي تطل من وقت الى آخر، لتعيد تأسيس امكنة التعاطف الذي يستعيد الدم المسفوك، اغتيالاً في لبنان او انتحاراً في دمشق، من انابيب المختبرات والفحوصات المجهرية لـ«محللي» أجهزة الشرطة المحلية، او الفرنسية او الأميركية ليلقي بها مجدداً على تراب قان، يشكل وطناً، يبدو انه في حاجة الى مزيد من الدماء.

لم يكن كنعان رجل امن، بالمعنى التقليدي، أي رجل استخبارات، بل كان رجل سياسة في موقع رجل امن، والملفات التي تعاطى معها شكلت في التاريخ القريب جزءاً من الملفات الاستراتيجية للسياسة السورية، خصوصاً في لبنان. على ان المسرح المكشوف الذي اشتغل فيه كنعان بعيداً من اقبية الاستخبارات وزنازينها، وتميز بأحداث كبرى شكّل الاجتياح الإسرائيلي في 6 حزيران (يونيو) 1982 حدها الأول، كما شكل تحرير الجنوب اللبناني من هذا الاجتياح نفسه في 25 ايار (مايو) 2000 حدها الأخير. هذا المسرح الذي كُلف كنعان بإدارته التنفيذية، فنجح كثيراً وأخفق احياناً، لم يستطع المحافظة على معناه في الذاكرة المجتمعية العامة، التي تبدو راهناً خالية خاوية، اسيرة لذلك النوع من «المعلومات» التي تضخ على مدار الساعة وفق رؤية «تلفزيون الواقع» الذي يدفع المتفرج نحو عالم يوهم بالواقع، فيما هو لا يعدو كونه مشهداً تلفزيونياً وحسب.

السبب المعلن لانتحار كنعان، المتعلق بالحملة الإعلامية التي طاولت سيرته في لبنان، يطرح اشكاليتين: الأولى خاصة بالإعلام ووظيفته وأخلاقياته، والثانية تخص الذاكرة الاجتماعية، بل السياسية ومشكّلاتها وقابليتها للانقلاب على ذاتها. ان اياً من الاشكاليتين لا تطرح، هنا، بمعزل عن الأخرى، لأن الإعلام المعاصر يلعب دوراً حاسماً في صوغ الذاكرة الاجتماعية، في اضافاته لعناصر جديدة في مكوناتها، كما في قدرته على حذف عناصر فيها كان توهم بثبات واستقرار دائمين.

اعاد الإعلام، خصوصاً منه الموجه، ليس بالضرورة الموجّه من الدولة، بل الذي يلتزم نظام التوجيه الصارم الذي تلتزمه اجهزة الإعلام الرسمية، أعاد إنتاج المرحلة المنصرمة من تاريخ لبنان الحديث، بالتوازي مع الخطاب السياسي «الجديد» لبعض القوى الذي اعاد صوغ ذلك التاريخ على نحو ذرائعي، بل وفق منظومة اهداف بدت في راهنيتها محكومة بالأبعاد الانتخابية النيابية. هكذا انقلب بعض الخطاب السياسي على ذاته، فالمسار المشترك او التحالف الاستراتيجي الأخوي بين سورية ولبنان اصبح «النظام الأمني اللبنانيالسوري» في مصطلح اثير لحلفاء سابقين لسورية، راهناً، خصوصاً منهم المعادين سابقاً.

وعلى التوازي مع هذا الانقلاب في الخطاب السياسي، عمد الإعلام الى اعادة انتاج سيرة الرجال والسياسيين وماضيهم، اولئك الذين كانوا يشغلون حقبة «عهد الوصاية» - الذي يستطيل عند البعض ليمتد من العام 1976 – على نحو نمطي اختزالي تبسيطي. فوفق هذه العملية تم تناول غازي كنعان في سيرته وماضيه، لإعادة تظهير صورته الراهنة على نحو يتوافق مع مقتضيات الخطاب السياسي وهيجانه المحموم، وربما ايضاً ذعريته وهلوساته، وفي النهاية ابتعاده عن نظامه الرئيس الذي شكله، وانقلابه على ذاته. فلم تعد سيرة كنعان «اللبنانية» محكومة بحدّي الاجتياح (1982) والتحرير (2000)، ولا بملاحظة دوره في عمليات المقاومة، والمعارك الأخرى في بيروت وطرابلس والجبل، ولا في أي ترتيبات سياسية، ولا حتى في اية عمليات مصالحة بين جهات سياسية متخاصمة، او عشائر متصارعة... بل ووفق تبسيطية منهجية. فليس غازي كنعان سوى قابض للمال والشيكات، وممن؟ من الرئيس الحريري نفسه!. وفي وقت تتم فيه تبرئة الراشي افتراضاً من عملية الرشوة هذه، فإن ادانة المرتشي (افتراضاً ايضاً) ستحصل على نحو متكرر وعلى مدار نشرات الأخبار المتلاحقة. ووفق هذه العملية ينمط غازي كنعان ومن في حكمه في الموقع المهني او السياسي في اطار من الصفات لا تتجاوز في كونها صفات «الشبّيح»، ويتم في المقابل نزع صفات: القائد والسياسي ورجل الأمن والعسكري عنه. وبهذه العملية فككت وتفكك علاقته بالمسرح السياسي اللبناني على مدى عشرين عاماً، بحذف العناوين الكبرى المؤسسة لهذه العلاقة، وإعادة رسم علاقة له، ليس مع المسرح السياسي على نحو محدد، وإنما مع لبنان عموماً، عبر عناوين غاية في الصغر.

وفي وقت تستهدف هذه العملية محاصرة الرجل بصفات صغيرة، وتجريده من العناوين الكبرى والملفات الاستراتيجية، بما يمكّن من الانتقام منه، ومن موقعه، فإن هذه العملية السياسية – الإعلامية لم يكن مدرجاً في برنامجها أي تصور يشير الى ان هذا الرجل الفولاذي لديه من درجة الشعور بالألم ما يدفعه الى استخدام فولاذيته نفسها، إنما ضد حياته هذه المرة (!)

ومع هجومه على نفسه، في مكتبه، في وزارة الداخلية السورية، اعاد النكهة الشكسبيرية الى منصة تراجيدية يرجّح ان العروض ستستمر متوالية عليها، ولكن بتكاليف باهظة!!

كاتب سوري.