تدويل الوضع السوري و تداعيات لجنة التحقيق الدولية و المخرج من المأزق

٢٠٠٥-٠٩-٣٠

تدويل الوضع السوري ( المسألة السورية) تداعيات لجنة التحقيق الدولية و المخرج من المأزق

حزب العمل الشيوعي في سورية


اجتماع هيئة المكتب السياسي لحزب العمل الشيوعي في سورية أيلول - 2005

تدويل الوضع السوري ( المسألة السورية) تداعيات لجنة التحقيق الدولية و المخرج من المأزق

التدويل: قد نوافق أو نرفض في الوطن بكل أطرافنا على تدويل الوضع السوري أو قيام مسألة سورية على الصعيد العالمي - كما غدت هناك مسألة عراقية ولبنانية بالتتابع- لكن الآخرين (الأقوياء) قرروا عنا ذلك، وينفذونه فعلياً، فالتطورات تتسارع في هذا الاتجاه ويراد للتدويل أن يكون طريقاً لإجراء تغيرات حاسمة في الوضع السياسي السوري، وإن أول وأكثر من يحس بالأمر ، ويحاول التعايش معه أو التملص منه، امتصاص وتخفيف آثاره عليه بشكل خاص هو النظام السوري بعينه.
إن إصرار النظام على متابعة سياساته التدخلية ، القمعية الشاملة، والخاطئة في لبنان، أكثرها سوءاً خطوة التمديد لرئيس الجمهورية اللبناني، والتي افتقرت لأي ذكاء، أو استخدام صحيح للخبرة من منظور مصالح النظام، أطلقت ردود فعل أولية سريعة وواضحة في إطار التدويل للوضع السوري. فجاء القرار 1559 ليؤكد وضع حد، أو إنهاء سياسية الدور والنفوذ الإقليمي وليجبر النظام على انسحاب مذل بكل معنى الكلمة، ويضع هيبته في مهب الريح إقليمياً وداخلياً، لقد وجد النظام نفسه مجبراً على قبول القرار بسرعة وبدون شروط، فالقصة مختلفة عن الماضي تماماً.
أما مقتل الحريري وسلسلة المفاعيل اللاحقة، بشكل خاص لجنة التحقيق الدولية وتداعيات عمل القاضي (ميليس) في سورية فقد جعل التدويل حقيقةً تتقدم على الأرض بكامل مظاهرها، وكل هذا يزيد في وتائر التطورات الداخلية الخطرة، ويفاقم الأزمة، كما يجعل مسألة بلورة برنامج للإنقاذ الوطني والبدء بتنفيذه قضية بقدر ما هي شائكة وربما بدأت تخرج من يد العمل الوطني الداخلي بسبب شروطه، وكذلك بسبب تسارع الأحداث والضيق الشديد في الزمن المتبقي – بقدر ما هي ضرورية وملحاحة.

حقيقة المشهد السياسي السوري في آخر صوره:
قبل القرار 1559 كان الأمر فيما يتعلق بالوضع السوري من حيث الشكل والأهداف والمحتوى أمريكياً صافياً بدرجة حاسمة: مستوى التدخل، الاستراتيجية العاملة، محاولات الاختراق، الاستقطاب، السيناريوهات المطروحة والتكتيكات بين عسكرية وأخرى سياسية بحسب الشرط.
أما التدويل فقد أعطى الأمر بعض الاختلافات، وخلق ردود فعل وآثاراً مختلفة. وأول من يدرك ذلك ويتعاطى معه مضطراً هو النظام السوري أيضاً. بالنسبة لنا نقول:
1- على الرغم من وعينا ومعرفتنا بالدور الشمولي، الطغياني والهيمني للإدارة الأمريكية، كذلك دورها كمايسترو لأهم مراكز القوى العالمية، واعتراف الأخيرة بذلك واستجابتها لهذه الحقيقة، في إطار تناقضات المصالح ثم التوافق عليها، ضبطها وضبط الصراعات من الانفلات مجدداً بصورة عنفية ( فهذا خط أحمر ممنوع اختراقه). كل هذا لا يعمي عيوننا عن رؤية بعض الحقائق والفرو قات بين قرار وتدخل أمريكي صرف، وآخر دولي، كما لا يعمي عيوننا عن رؤية الأسباب والتطورات والحقائق الداخلية التي ساهمت في خلق الأزمة ومفاقمتها. إن وجهة نظرنا معروفة وقد تكون متميزة فيما يتعلق بالخطر الرئيسي القائم في الوطن والمتمثل بالصراع والاستقطاب بين استراتيجية إدارة أمريكية متشددة، واستراتيجية نظام ونهجه وطبيعته ومنطقه في مواجهة الأزمة، ذلك الاستقطاب الذي يقسم النخبة والقوى السياسية، والمجتمع جزئياً ، ويمنع تشكيل قطب أو قوة معارضة واحدة، ويضعف دورها كثيراً في إنجاز مهمات برنامج ديمقراطي وطني، مهمته المركزية إلغاء احتكار السلطة وقيام نظام ديمقراطي معاصر لكامل المجتمع، ذلك الاستقطاب يؤدي إلى ذلك بحكم إصرار العامل الخارجي الأمريكي على التدخل الكثيف والتمفصل أساساً على دوره، كذلك بحكم إصرار النظام على نهجه القمعي والشمولي والاحتكاري في إدارة الأزمة، والاستمرار في عزل المجتمع والمعارضة مما يسمح بوجود رأي ومنطق في أن عملية الانتقال الديمقراطي مغلقة في سورية بسبب النظام، ولا مخرج إلا عبر العامل الخارجي ( الأمريكي تحديداً). كل ذلك يعني أن الأمر ليس أمر مؤامرة خارجية من حيث الجوهر بل هي أولاً وأساساً مسؤولية نظام في توصيل الوطن إلى شروط محددة جعله عرضةً لكل ما هو قائم من التدخل والاستقطاب ثم التدويل والمخاطر اللاحقة.
2- إن تدويل الوضع السوري وخلق مسألة سورية دولية، لا يخلق أبداً من حيث الجوهر شروطاً مختلفة لوقف مخاطر الاستقطاب الداخلي واندفاعه المحتمل إلى حرب الجميع ضد الجميع. إذ لا تزال الاستراتيجية الحاسمة العاملة في القرار الدولي هي استراتيجية الإدارة الأمريكية بأهدافها ووسائلها وتكتيكاتها ومستوى تدخلها ، فالإدارة الأمريكية الآن هي المحتاجة للقرار الدولي، والشرعية الدولية خاصةً وأن شروط عملها في العراق تبدو أكثر تعقيداً من المتوقع بكثير، وشروط الساحة السورية بحد ذاتها غير ناضجة مما يفترض قيام تكتيكات حركية في التعاطي مع هذه الساحة. فالعامل الأوروبي حتى في العراق لم يستطع لجم الوسائل الميكافيلية الأمريكية (العنف والحرب) عندما قررت الإدارة التدخل على الرغم من غياب قرار دولي ورفض العالم إعطاء شرعية للتدخل، وفي سورية أيضاً لن تستطيع أوروبا ذلك إن قررت الإدارة التدخل، وفي أحسن الحالات قد تسحب غطاء الشرعية، وعلى الرغم من اشتراك أوروبا وموافقتها الآن على تدويل الحالة السورية فإن ذلك لم يحد من مستوى التدخل الأمريكي، وقطبية التناقض والصراع والاستقطاب وآثاره السلبية في سورية، إن التدويل لم (وباعتقادنا) ولن يخلق قوة أخلاقية وسياسية وإعلامية مختلفة حقيقةً عن الحالة الأمريكية لإنقاذ الوضع السوري من المخاطر المحتملة ووقف الاستقطاب والانقسامات في الصف الوطني ووقف احتمال الحرب الأهلية. إن التدويل لم يخلق قوة دولية واستراتيجية مختلفة (حتى الآن) لتعمل على الانتقال التدريجي الآمن في سورية، وتهيئة الأداة أو القوة الوطنية القادرة على ذلك.
3- لكن من الواضح أن للقرار الدولي قوة فعل مختلفة، ومدلولات مختلفة، فعندما ينضم العالم الآخر الفاعل إلى الإدارة الأمريكية بقرارات موحدة ، وعلى الرغم من التأثير الأمريكي الحاسم، فإن الأمر يأخذ بعداً أخلاقياً، وأبعاداً سياسية مختلفة، كما مدلولات مختلفة (على الرغم من القيمة الجزئية لكل وجه)، هذا يعني الآن أن هناك قراراً دولياً ( وبدون عقبات في إطار التناقضات الدولية) لحسم الحالة السورية سريعاً. وعندما نعتقد أن هناك فروقات هامة بين المركز الأمريكي والأوروبي بعلاقة كل منهما بالنخب الثقافية والسياسية والإنسانية والديموقراطية والأخلاقية القائمة، ودورها في سياسات النظم، تصبح مقاومة الأمر أكثر صعوبة، يصبح الفصل بين الأطراف وأهدافها وقيمها ودوافعها صعباً، تصبح إمكانات العامل الوطني، والديموقراطي على اللعب بالتناقضات صعبة، إذ تكاد تكون الأطراف موحدة في إطار الشرعية الدولية، وهذا بحد ذاته يعقد شروط عمل القوى الديموقراطية والإنسانية العالمية التي قد تكون متنبهة مثلنا على مخاطر الاستقطاب داخل الوطن السوري.
4- لكن ما هي وجهات النظر القائمة تجاه لجنة التحقيق، وأعمال القاضي (ميليس) والنتائج المتوقعة؟ نعتقد أن هناك رأيين أساسيين خاطئين، هما وجهان لعملة واحدة، ويساهمان في اشتداد أزمة الوطن بسبب اشتقاقهما واصطفافهما على الاستراتيجيتين المتصارعتين. الرأي الأول القصوي يرى الأمر برمته أمر قرار أمريكي مسبق تجاه النظام السوري وسوريا، يقوم على التناقض مع مواقف النظام في المسألة الوطنية وتكتيكاته من أجلها في لبنان، فلسطين، إيران، بشكل خاص مع الإسلاميين المتشددين والمقاومين للمشروع الإسرائيلي والأمريكي فهذا التناقض يتقدم كل شيء، وتسبب في كامل الدوافع والسلوك والممارسات الأمريكية والإسرائيلية، خلق أزمة الوطن، وهنا الوجه الرئيسي فيها، مما يحدد المهمة المركزية أيضا بصفتها مقاومة العدوان الأمريكي، وضرورة الالتفاف حول النظام ونهجه، الذي تقع عليه المؤامرة بشكل أساسي، أو التحالف معه على هذه الأسس، فالخطر داهم ولا يسمح بوجود أي معنى لأي مهمة أخرى، فالوطن بكامله ( جغرافيا ، سكان ، سيادة ، ثقافة ، مستقبل ) مجتمع، نظام، معارضة مستهدف، بحسب التعبير الشائع: سوريا برمتها يجري اغتيالها الآن، فلماذا نضيع وقتنا في مسألة المعارضة والديموقراطية، نضيع وقتنا في حوارات سفسطائية، بينما العدو على الأبواب، يريد أخذ الجميع بفعله. هذا الرأي مشتق كلياً من استراتيجية ونهج وممارسات النظام ورؤيته ( بالتغاضي عن وعي أو عدم وعي أصحابه لذلك ).
أما الرأي الثاني القصوي، فيرى أن عمل (ميليس) هو عمل قضائي صرف، هو عمل أخلاقي يقوم به المجتمع الدولي لكشف جريمة اغتيال شنيعة، إن كل ما يتعلق بالجريمة أمر سياسي، وعقوبته سياسية وجنائية عامة وشخصية بحسب المسؤوليات، ولا علاقة للأمر بالتالي باستراتيجية أمريكية، أو قرار أمريكي بالتدخل مسبق أو غير مسبق، وفي كل ذلك لا مخاطر على الوطن،
هي على المسؤولين عنها أياً كانوا، والأمر الآن بيد العالم الأخلاقي الذي يرى أنها مسؤولية النظام ، وسيطيح به كنظام شمولي ديكتاتوري قمعي بسب مسؤوليته المحتملة أو المؤكدة. وسيشرف هذا العالم على إدارة التطورات السياسية في سوريا بصورة آمنة وسلمية. فلماذا هذه المبالغات في الخطر؟ لماذا هذا السحب للخطر من النظام إلى الوطن؟ لماذا هذه التحليلات الخاطئة والتي تشوش على لجنة ميليس ونتائجها الأخلاقية، إن كان في لبنان أو سوريا بشكل خاص؟ كذلك نعتقد أن هذا الرأي مشتق من استراتيجية الإدارة الأمريكية وممارساتها ( بالتغاضي أيضا عن وعي أو عدم وعي أصحابه ). كلا الرأيين لن يفعلا إلا خلق المزيد من التحفيز على الاستقطاب، وقسم المجتمع والنخبة والمعارضة، وتسريع التطورات باتجاه المخاطر المتوقعة.
5- بالنسبة لنا نعتقد أولاً وقبل كل شيء بأن هناك ضرورة حتمية لإجراء تحقيق
سريع، نظيف وشفاف في هذه الجريمة، كما نتمنى أن يحصل في أي جريمة أخرى، ونعتقد بضرورة عزل هذا التحقيق عن أي ممارسات تساومية، أو ابتزازية سياسية، في لبنان أو سوريا، كما نعتقد بضرورة إيقاع عقوبات جنائية في أي مسؤول له علاقة مباشرة، أو غير مباشرة، أوفي شاهد كان يستطيع منعها أو الحد من مخاطرها، أو تستر عليها لاحقاً ( أي تطبيق كل ما يتعلق بالأصول القانونية الجنائية لجريمة ) لكننا نميز ويجب أن نميز بين أن يكون الأمر تحقيقاً جنائياً في جريمة سياسية بامتياز، وضرورة معاقبة المسؤولين عنه. وأن يتحول أو يكون واسطة أو طريقاً أمريكياً بشرعية دولية للمزيد من التدخل وتشجيع الاستقطاب، وإضعاف العمل الوطني وتبديد الطاقة الوطنية، لفرض سياسات أمريكية، أو مشروع أمريكي، أو استراتيجية عمل أمريكي قائمة فعلياً، ونراها ضارة وخطرة من حيث المحتوى الحقيقي لأهدافها، ووسائلها، علاقاتها ومعاييرها السياسية تجاه قضايانا السياسية المختلفة.
الدوائر السياسية العالمية والإقليمية مهتمة جداً بمحتوى تقرير ميليس، مهتمة بالآثار التي ستنجم عنه، تكن الدوائر السياسية في الوطن أكثر اهتماماً وتحفزاً، أكثر ترقباً، ونحن بدورنا على درجة عالية من الاهتمام والتقدير لمخاطره، ونعتقد أن سوريا ستشهد تطورات متسارعة خطرة بدأت من الآن، المجتمع السوري بدوره مستنفراً داخل بيوته بسبب العزلة والقمع، مع أنه شهد العديد من تفاصيل التجرؤ على السلطة، كما العديد من الانفجارات على أرضية الاحتقان والشحن العصبي المتخلف، الطائفي وغيره. المعارضة السورية بدورها مستنفرة، لكنها وللأسف لم تفعل شيئا هاما أبداً. فلا تزال غير موحدة الصفوف، ولم تتحول إلى قطب، أو قوة ظل حاضرة في الأزمة بالحد الأدنى المطلوب، لا تزال تعيش على الانفعالات، وردود الفعل على سياسات الأطراف الفاعلة، لا تزال تعيش حالة الانقسامات، والحساسيات والمنطق القديم الجامد والمتخلف في العمل الوطني الديموقراطي المعارض، وهي بذلك عاجزة عن التقاط أنفاسها لطرح مشروع إنقاذ موحد، لطرح مشروع حوار وطني شامل. عاجزة عن الرد على سياسات النظام وقراره الأخير بمنع أي اجتماع أو حراك، عاجزة عن تشكيل هيئة تنسيق مشتركة بسيطة على الصعيد السياسي. لا تجري أي حوارات جادة أو متواترة بين صفوفها ، وهي منقسمة على توافقات العمل الوطني، ولا تجري أي جهد لوقف ذلك الانقسام وتوحيد الصفوف، هذه مسائل مطلوبة من المعارضة فوراً لتلعب دوراً في هذه اللحظات الخطرة والمستوى الخطر من الأزمة والمأزق الذي وصله الوطن، بل عليها أن تبدأ عملية هجوم برنامجي وحواري إنقاذي.
الأطراف الفاعلة لديها خياراتها بالتأكيد. للإدارة خياراتها، قرارها، تكتيكاتها ووسائلها. النظام بدوره عنده خياراته، وهو أكثر الأطراف تنبهاً لاتجاهات تطور الأزمة وتأثيراتها عليه، ويعمل بالمقابل على أكثر من صعيد، صعيد تقديم التنازلات للإدارة الأمريكية، والسعي الهائل ليكون خيارها من داخله، يسعى النظام مستبقاً قرارات الإدارة وتكتيكاتها فيما يتعلق بنتائج عمل اللجنة، ليطرح مساومات مختلفة بين الحد الأدنى والأقصى، وليس السعي السعودي والمصري إلا جزءاً من ذلك. وزيارات أكثر من شخصية سلطوية إلى الخارج محملين بأوراق عمل هو جزء من هذا الجهد، بل إن قبوله بمجيء ميليس في إطار الشهادة وليس الاتهام، جزء أساسي من سياسات التعاطي والاهتمام. بل أخذ الأمر من جهة النظام أبعاداً أخرى. فهناك محاولات لجس نبض المعارضة، وفتح حوارات مع أطرافها، فنحن رصدنا هذا الأمر وحقيقته، كما أن هناك بداية لقاءات مع فعاليات مختلفة في المجتمع. صحيح أن الأمر لا يزال حتى الآن بدائياً، كواليسياً، ويطلب أن يكون سرياً بحجة عدم إفساح الفرصة لتدخل جهات سلطوية وتخريب الأمر. وكل هذا منسجم مع منطق احتكار السلطة، لكن وفي كل الأحوال له دلالاته الهامة على مستوى استشعار النظام للأزمة ومخاطرها عليه، حتى ما قيل ويقال عن خطوط حمراء تجاه الحركة الدينية ( تحديداً الأخوان المسلمين ) أو الحلقة الكردية، أو حتى الخط الأمريكي. نلحظ مرونة في التعامل معها بأشكال مختلفة، ( السيد زهير سالم ، والسيد العريضي في برنامج واحد على طاولة واحدة ، ومرونة عالية في الحوار )، كما سمعنا عن لقاءات أمنية مع أكثر من طرف كردي متشدد في خطابه، كل ذلك في إطار البحث عن خيارات في هذه الشروط الخاصة والصعبة.
كيف نخرج من المأزق؟ كيف نساهم في إنقاذ الوطن؟
في الإجابة على السؤال سننطلق من عدة اعتبارات، افتراضات، حقائق، حتى ولو كانت أولية وبسيطة. كما سنعتمد عدداً من المبادىْ والأسس، لنحاول الوصول إلى أهداف محددة جوهرها فتح عملية أو سياق إنقاذ وطني جاد وشامل .
أولا : افتراضات وحقائق
- نفترض هنا أن عمليات تمهيدية للحوار بين السلطة والمجتمع والمعارضة قد بدأت، أو عمليات جس نبض من أجل ذلك، وهكذا نجد ضرورة في تقديم التصورات التي يجب أن تحملها المعارضة، أو تصوراتنا التي نطرحها بأنفسنا وندافع عنها الآن، مفضلين دائماً آن تكون المعارضة طرفاً واحداً أو قوة موحدة ببرنامج واحد وتصورات إنقاذية واحدة.
- نفترض أن المعارضة يجب أن تبدأ ( وهي تأخرت كثيراً ) هجوماً أخلاقياً وسياسياً لبرنامجها الإنقاذي، ومشاريعها المتعددة بسلوك عقلاني مرن، تحاول إشراك أوسع القطاعات في الحوار، ولا يوجد تناقض بين ضرورة استمرار نشاطها المستقل وممارسة الضغط على النظام، وبين فتح حوار معه والتقدم بمشروع إنقاذي للوطن والمجتمع.
- نفترض أن خيار النهاية الصغرى الممكن أو المحتمل، أو المتاح قد بدأت شروطه بالتحقق، فنعتقد أن السلطة قد أدركت حدود الخطر الواقع عليها بالذات، أدركت ضيق الخيارات المطروحة أمامها، وكل المؤشرات تؤكد أنها تحاول البحث عن المخارج الممكنة، على الرغم من قناعتنا أن نهجها الديكتاتوري والشمولي، ونهج احتكار السلطة، والبحث عن المصالح الضيقة لا يزال الحاسم في ترتيب أو تحديد أولويات الخيارات: على رأسها المساومة وتقديم التنازلات للإدارة الأمريكية كي يكون خيار الأخيرة من داخل النظام، وكي توقف قرارها بتصفيته،على الأقل الوصول مع الإدارة إلى مساومة الحد الأدنى الممكنة التي تسمح بحماية النظام عبر أهم رموزه، وفي نفس الوقت تجد السلطة نفسها مضطرة للتفكير بمقاومة أو الاستعداد لمقاومة مشروع الإدارة في حال إصرار الأخيرة، ومتابعتها لاستراتيجيتها وقرارها وتكتيكاتها في تصفية النظام وعدم لحظ أي مصلحة له، وفي هذا الإطار ربما وصلت السلطة إلى قناعة بضرورة البدء بفتح حوار مع المجتمع والمعارضة للاستقواء بهما. ونحن نعتقد أن جميع الخيارات التي تبحث عنها السلطة، إن كان المساومة والخضوع لابتزاز الإدارة وإجراء تسوية معها، أو خيار السلطة في إدارة الأزمة متفردة لمقاومة مشروع الإدارة نعتقد أنها كلها لا مستقبل لها، وفي أحسن الحالات ستتابع الإدارة ابتزاز النظام في إطار أي خطوات تكتيكية تساومية، بانتظار الشروط المناسبة لإزاحته تماماً. بذلك المعنى ربما أدركت السلطة أو بعض اتجاهاتها أن هناك ضرورة على الأقل لجس نبض المجتمع والمعارضة وإجراء حوارات تمهيدية. لأن خيار الاستقواء بهما قد غدا مفيداً حقيقة، أو أن خيار اشتراك الجميع بحلول إنقاذية قد غدا بدوره مفيداً أيضاً.
ثانياً: بعض المبادئ والأسس
1- ضرورة إجراء حوارات شاملة مع كامل الطيف السياسي الموجود في الوطن بدون شروط بشكل خاص الآن بين المعارضة والنظام .
2- عملية الحوار والإنقاذ تتطلب من البداية اتفاقاً على عدد من الأسس والمبادئ والتوافقات السياسية العامة مثل:
- رفض العنف والحلول العسكرية من الداخل والخارج.
- الانتقال الديمقراطي المطلوب : سلمي، تدريجي( وآمن).
- آمن، بمعنى أنه يأخذ بعين الاعتبار أساساً ضرورة قطع أي احتمال للحرب الأهلية ومخاطرها، منع تقسيم المجتمع وقواه وإضعاف الطاقة الوطنية مما قد يضعف الوطن ويؤدي إلى تسليم مستقبله إلى قوى خارجية.
3- عملية إلغاء احتكار السلطة، وإلغاء آثارها بصورة آمنة وتدريجية مسألة لها الأولوية، تعبر عن المهمة المركزية للمجتمع والمعارضة، وتسمح للنظام عبر القوى صاحبة المصلحة فيه ، بالاشتراك الفعلي في ذلك، تسمح بأخذ مصالحه بعين الاعتبار وأن يلعب دوراً ندياً وقانونياً في مستقبل الوطن.
هذه العملية مفتاحية لأي موضوع آخر وهي ضرورية ولها الأولوية ليس فقط لحاجتنا إليها مجدداً من أجل تعزيز الوحدة الوطنية المتهالكة، أو تعبئة القوى لمواجهة مخاطر العامل الخارجي، أو إطلاق طاقة داخلية لإنجاز برنامج شامل. إنما لأن الديمقراطية ومهمة إنجازها قيمة بحد ذاتها ولم يعد يجوز تقديم أي حجة لتأخيرها.
4- أهم التوافقات التي يجب الحوار والاتفاق عليها هي : مسألة الانتقال الديمقراطي الآمن بإلغاء احتكار السلطة وقيام نظام ديمقراطي معاصر لكامل الوطن - دور العامل الخارجي والتمييز الواضح بين عامل خارجي وآخر، بين عامل تدخلي يزيد في أزمة الوطن، وآخر يساعد على حلها بشكل آمن، يجب بشكل خاص الحوار وتحديد موقف من العالم الأمريكي - حوار حول مرجعية العمل الديمقراطي وقضايا حقوق الإنسان، ونعتقد أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والوثائق الدولية المتعلقة بذلك، تشكل أساساً ومرجعية قادرة على وقف تقدم العصيبات المتخلفة، قادرة بالمقابل على رفع سوية الوحدة الوطنية- حل مسألة الأقليات في إطار ديمقراطي وطني، في إطار وحدة الوطن وسيادته.
ثالثاً: آليات الإنقاذ وبعض المسائل البرنامجية.
1- تشكيل (هيئة عمل وطني للإنقاذ) من النظام والمجتمع والمعارضة، تتمثل فيها جميع التيارات الفكرية السياسية دون استثناء ودون خطوط حمراء على أحد إذ علينا التمييز بين تيارات، آراء وخيارات سياسية لها كامل المبررات في الوجود وبين خطئها وصوابها، والضرر الذي يمكن أن تأتي به، موافقتنا أو عدمها عليها. بشكل خاص يجب عدم استثناء ( التيار الديني وحركة الإخوان المسلمين، الحلقة الكردية، تيار الخيار الخارجي بمختلف تلويناته حتى الأمريكي منه) الاستثناء يشمل فقط التيارات والفعاليات والأشخاص الذين يرفضون الخيارات السلمية الآمنة، ويطرحون بالمقابل خيارات عنيفة أو عسكرية داخلية أو خارجية، أو يوافقون عليها، فالاستثناء أو الاستئصال أو الإقصاء يعيدنا إلى نهج احتكار السلطة، ويبقي المبررات والاعتبارات قائمة في وجود خيارات ترى الدور الرئيسي في التغيير للعامل الخارجي، إن إطلاق عملية أو سياق إلغاء احتكار السلطة سيلغي بدوره مثل هذه الخيارات، خاصةً وأن التمثيل الشامل في الهيئة يجعل الجميع أندادا ًفي البحث عن مخرج.
2- ليس مهماً من الذي أطلق أو سيطلق العملية، لكن نعتقد أن السلطة - الطرف الأكثر قوة وتحكماً وشعوراً بالأزمة- يجب أن تطلقه وتبدأ تنفيذه بالحوار والاتفاق مع الآخرين.
3- ليس مهماً الآن كيفية تمثيل المجتمع والمعارضة والنظام، أو من هو الأقوى أو كيف يجري الاختيار هذا موضوع يحله الحوار التمهيدي الذي يجب أن يجري بسرعة، فليست مشكلة أبداً عندما تكون للنظام الحصة الأكبر في هذه الهيئة المهم هو الاتفاق على برنامج عمل الهيئة، أولوياته، والمبادئ التي يقوم عليها، وآفاقه الزمنية.
4- عندما يبدأ تشكيل الهيئة المعنية، يجب اعتبارها مفتوحة، لاستكمال النواقص وتلافي الأخطاء واستكمال التمثيل.
5- من المهمات الأساسية للهيئة، إعادة الاعتبار للمجتمع والمعارضة، وتكوين أداة أو مؤسسة موثوقة داخلياً وخارجياً، قادرة على إطلاق طاقة فعل وطني تنفذ برنامج الإنقاذ، وتحمي الوطن من المخاطر الخارجية والداخلية المحتملة.
6- الهيئة أداة فعلية لإدارة الأزمة، تجري حوارات في اجتماعاتها وتقسيم عمل في صفوفها، تتفق على المهمات والخطوات المطلوبة وآليات تنفيذها والمؤسسات المعنية بذلك.
7- تعمل الهيئة أساساً على إلغاء احتكار السلطة بصورة تدريجية سلمية وآمنة أي خلق سياق مختلف عن الماضي وذلك في العمل على عدد من الملفات الفورية والسريعة من جهة والذي يحتاج إلى دقة وعمل تدريجي وهادئ من جهة أخرى.
- الملف الذي يحتاج إلى إنجاز تدريجي هو إلغاء المادة الثامنة ومجمل جوانب الدستور والقوانين الأخرى الملحقة، ورسم آفاق زمنية لكل خطوة.
- أما الملفات الساخنة والفورية والتي يجب أساساً أن يبدأ النظام بإنجازها فوراً فأهمها :
* ملف الاعتقال السياسي لطيه كلياً عبر إطلاق سراح معتقلي الرأي والمعتقلين السياسيين، التأمين الفوري لمطالب المعتقلين والملاحقين السابقين، حل إشكالات المتوفين والمفقودين.
* ملف المنفيين بالسماح لهم بالعودة غير المشروطة فوراً.
* ملف الإعلام بتطويره وجعله ديمقراطياً بدايةً من حصص فعلية للمعارضة وفعاليات المجتمع.
* ملف الفساد عبر لجان تخصصية من الهيئة بالتعاون مع الإعلام والقضاء.
* إعطاء كل قوة سياسية أو تنظيم أو فعالية حق إصدار نشرة خاصة بها تراقب موضوعاتها بعد توزيعها.
* تحسين المستوى المعيشي للكتلة الشعبية.
* العمل على (قوننة) قانون الطوارئ، بإلغاء أي دور له في العمل السياسي الداخلي وقصره على قضايا الأمن والتجسس الخارجي.
من الملفات الهامة أيضاً إصلاح القضاء والقيام ببعض الخطوات السريعة فيه: ملف قانون عصري للأحزاب بشروط سهلة- قانون ديمقراطي للمطبوعات.
كما تعمل الهيئة خلال المرحلة الانتقالية بالتعاون مع مجموع القوى الاجتماعية على قيام مشروع تنمية اقتصادي شامل يجد للوطن موقع قدم في العولمة وبين مراكز القوى وتقسيم العمل الاقتصادي العالمي.
كما تعمل على مناقشة كل ما يتعلق بقضايا قطاع الدولة: تخليصه من أزماته الاقتصادية والاجتماعية، دمجه في التطورات الجديدة، قطع الطريق على أي أزمات قد تنشأ بسبب التعاطي الخاطئ مع هذا القطاع.
وبالتدريج تتوصل الهيئة إلى برنامج ديمقراطي وطني شامل وإلى الأسس القانونية والسياسية لنظام ديمقراطي معاصر.



اجتماع هيئة المكتب السياسي لحزب العمل الشيوعي في سورية
أيلول –2005

خاص – صفحات سورية -

وطني دائماً على حق؟؟

وطني دائماً على حق؟؟

د.أديب طالب

الرئيس سليمان فرنجية (1) استخدم هذه الجملة عنواناً لافتتاحية كتبها في جريدة النهار قبل أن ينَّصَب رئيساً للجمهورية اللبنانية.

يبدو أن مدلول "وطني دائماً على حق" شيء بديهي ولا يحتاج مناقشةً أو إثباتاً. ولقد استخدم هتلر بداهةَ هذا المدلول ليؤسس للعنصرية والنازية... ألمانيا فوق الجميع.

واستخدمه ستالين في الحرب العالمية الثانية، عندما أسقط شعار السوفييت وشعار ديكتاتورية البروليتاريا، وقال روسيا فوق الجميع واخترع ميدالية وطنية رمزها بطرس الأكبر. وقاد هتلر وستالين وموسوليني البشرية إلى الجحيم، وقضوا نحبهم قبل شاوشيسكو وبول بوت، أما غيرهم من أعداء الأمم والحرية، ينتظرون وعد ربهم القريب... صدام القومي العربي تلميذ عفلق العربي المسلم واحد منهم على وجه التحديد.

لقد نقل مفكرو القومية العربية ذلك المدلول القومي المغلق وغلَّفوه برومانسية ساذجة عندما وصفوا الأمة العربية بالخلود، نقلوه وهم متكئين على سرير ثقافي حضاري تاريخي لا علاقة له بالقومية، متكئين زوراً وبهتاناً على أنهم خير أمة أُخرِجت للناس، متكئين على الحديث الشريف عندما دار جبريل في الكون فلم يجد أرضاً وأمةً خيراً من العرب ثم خيراً من قريش ثم خيراً من بني هاشم "وأنّا خيارُ من خيارٍ من خيار". أمتنا خالدة والأمم الباقية بائدة، أمتنا واحدة أما أوروبا فأمم فاشلة مجزأة، وعلامة فشلهم اتحادهم الأوروبي الذي استغرق حدوثه خمسون عاماً؟!، أمتنا واحدة ورسالتنا خالدة، ونحن خير الأمم. وِفْقَ أية نظرية؟ وبأية عوامل؟ وبشرعية أيّة قراءة تاريخية؟ وأيّة قراءة جغرافية؟ وبأيّ تحقق فعلي عبر قرن كامل هو القرن العشرين؟

نقلنا الفكر القومي العربي عن الفكر القومي الغربي عشوائياً، وليت كان استنساخاً، لَرَأى أولادنا أو أحفادنا بعض الحق والحقيقة على أرض الواقع، بديلاً عن الفشل البانورامي من المحيط إلى الخليج، بدءاً من هزيمة 1948 إلى فك الارتباط في غزة 2005، مروراً بالسقوط الكلي في حزيران 1967.

كانت قوميتنا تِرداداً لقوميات الغرب. وعلى استحياء ذكر رومانسيوا قوميتنا الديمقراطيةَ في إبداعاتهم الخارقة، ذكروها ذكراً متواضعاً جزئياً متردداً، وفي أول محطة تنكروا لها وطردوها خارج الأرض وخلف التاريخ بعد أن أسلموا العسكر الجهلة زمام الأمور فحكموا عليها وعلى شعوبهم بالإعدام، أو ما هو قريب منه.

ولنسأل مرةً ثانية: وطني دائماً على حق؟. كان أقرب إلى الحقيقة أن يقول الرئيس سليمان فرنجية، وطني دائماً مع الحق! وطني دائماً مع الحقيقة.

في الغرب تطابقت الدولة مع الأمة، فكانت الدولة القومية، وكان أساس التطابق الديمقراطية، حكم الشعب بالشعب وللشعب، بديلاً عن الإقطاع والكنيسة وبديلاً عن حكم الملوك وبلا دستور. عندما نزعنا اللب جوهر الشيء، نزعنا جوهر التطابق بين الدولة والأمة، فأضعنا الدولة والأمة. تعمَّق وتجذَّر تجزؤ الأمة، وساد المستبدون والقتلة في كل ذرة رمل عربية وفي كل نقطة عربية، وفي أضعف نسمة هواء عربية. ساد حكم القبائل والطوائف والأعراق والمذاهب من تطوان المغربية حتى طُنب الصغرى شرقاً ومن القامشلي شمالاً حتى عدن جنوباً... ما أغبى فكر وفعل النائمينَ في عسل القومية العنصرية، المتحدرين من صلبها الحضاري.

وسنبقى كذلك ما دام العربي يقرأ نصف صفحة في السنة، والغربي يقرأ أربعاً وعشرين كتاباً في السنة. وما دمنا نردد مع سليمان فرنجية وطننا دائماً على حق وليس مع الحق ومع الحقيقة.

وإن أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد

كلام قاله أعرابي قبل أكثر من ألف عام وردده سليمان فرنجية سكراناً بالعنصرية والعصبية.

ورغم ما نحن عليه وما نحن فيه، يتشدق خير الدين حسيب ومعن بشور وعبد الباري عطوان ومصطفى البكري أصدقاء صدام، والمربوطون بالحبل السري "الحضاري" بابن لادن والزرقاوي، يتشدقون بتحرير الرئيس "القومي العربي" الأسير من "براثن" الأمريكان..

عندما لا يكون الوطن كله مع الحقيقة، يكون المواطنون كلهم مع الوهم، وللواهمين والجهلة والعنصريين طريق وحيد، ونهاية واحدة، هي الفشل المحيط، وليَقْتَتْ رومانسيو القومية القاموسَ المحيط صفحة بالية تلو صفحة بالية، لأنهم لا يستحقون كسرة الخبز أو قطرة الماء. وليس لأعداء الحرية والحق والحقيقة إلا ما تحت التراب. وسيفعل بهم التاريخ ذلك بالتأكيد، وفي اللحظة الباهرة لحظة هيغل المجنونة، يكتشف العالم كله جريمة العصر، على يد قاضي التحقيق ميليس، ابن الوطن الألماني الذي حولته الحضارة الإنسانية من: "وطني دائماً على حق" إلى: "وطني دائماً مع الحق".

فهنيئاً لميليس لقبه الجديد... قاضي القرن الواحد والعشرين وهنيئاً للرومانسيين "القوميين" السذج مأواهم الجديد تحت التراب.

كاتب سوري

خاص – صفحات سورية -

سوريا وأمتها العربية

سوريا وأمتها العربية

د. رياض نعسان أغا

الاتحاد الاماراتية

رغم معرفتي الوثيقة بأن بعض وسائل الإعلام العربية تعرضت لاختراقات صهيونية خطيرة فإنني أشعر بالذهول أمام طوفان مشاعر الحقد والكراهية التي أطلقها بعض الإعلاميين العرب ضد سوريا وشعبها، دون أية مراعاة أو حتى مجاملة للدم الذي يسري في العروق والذي نفترض أنه دم عربي، فمن كان يتصور أن يعبر إعلاميون عرب عن تلهفهم لرؤية الشام غارقة في بحر دماء؟
ولكي لا أُتهم بأنني أرى الصورة القاتمة من الإعلام العربي، فلابد لي من الإشادة بمواقف الشرفاء وهم ما يزالون الأكثرية الغالبة بحمد الله، وأنا واثق من أنهم لا ينتظرون من الشعب السوري شكراً أو امتناناً، فهم لم يتخذوا موقفهم الشريف الشجاع مجاملة لسوريا، وإنما اتخذوه تعبيراً عن وعيهم لإبعاد المخطط الذي لا يستهدف سوريا وحدها، وإنما هو حلقة من مسلسل تدمير وإرهاب وإضعاف وإنهاك للأمة كلها. وهذا ما يخطط له المحافظون الجدد وفيهم المخططون الكبار من أمثال ريتشارد بيرل وجيمس كولبرت ودوغلاس فيث وبول وولفوفيتز وروبرت بورك وويليام بينيت وسواهم ممن وضعوا استراتيجية جديدة لإسرائيل منذ عهد نتنياهو أواسط التسعينيات، بدأ تنفيذها بجريمة اغتيال رابين، ثم قتل فيها شعار مدريد "الأرض مقابل السلام". وأعلن الاستراتيجيون الصهاينة يومها ما سموه الفسحة النظيفة أو "الاختراق النظيف" وقد جاء التنفيذ قذراً للغاية لأنه تم عبر تحويل المنطقة العربية كلها إلى ساحة إرهاب وقتل وسفك أطلقوا عليه كذلك اسم التدمير المبدع أو "الفوضى الخلاقة" كما بات معروفاً في بياناتهم ودراساتهم المعلنة.

والمؤسف أن الإعلاميين العرب الذين ينتظرون لحظة سقوط دمشق كي يبتهجوا ويفرحوا ويصبغوا أكفهم بالدم السوري لا بالحناء، هم رغم قلة عددهم يتمركزون (بفضل الدعم المنظم) في عدد من أهم منابر الإعلام العربية، وهم يدّعون أنهم لا يعادون شعب سوريا، وإنما هم يعادون النظام السوري وحده، وهذه خدعة يبررون فيها أحقادهم وهم يعلمون أن حقيقة ما يخطط له المحافظون الجدد هو إجبار سوريا على السير في المشروع الصهيوني. فإن كان الإعلاميون العرب الوالغون في الحملة ضد سوريا يحقدون على نظامها السياسي لأنه لا يلبي مطالب المشروع الصهيوني فإن ذلك شرف للنظام، فلو كان نظاماً متواطئاً مع الصهيونية لفتحت له القلوب والأبواب، ودبجت فيه المدائح، وتوالى له الدعم، وقديماً قيل (إن أردت أن تعرف صحة موقفك فانظر إلى موقف عدوك منه)، وسيكون سخيفاً أن يصدق أحد أن الولايات المتحدة أو دول الغرب عامة منزعجة من النظام السوري لأسباب غير رفضه الإذعان للمخطط الصهيوني.

وشعوب العالم جميعاً تدرك أن القرار الدولي أصبح في قبضة الصهيونية بعد أن تمكنت من هدم التوازن الدولي، وسيطرت على مؤسسات القرار في دول عظمى، وبدأت تتخلص من كل الذين يقاومون مشاريعها، فمن قبِل الرضوح نال الرضا، ومن رفض جاءه العقاب، وليس سراً أن الرئيس بشار يتعرض لامتحان النار، كما سماه "فلينت ليفيريت".

ولا يغيب عن أي مواطن عربي أن كل التهم التي توجه إلى دمشق اليوم هي تبريرات ضعيفة للهجوم عليها، لأن هذه التهم لا تصارح بحقيقة الهدف، فهم يطلبون شيئاً ولكنهم يضمرون شيئاً آخر، يقولون إنهم يريدون من سوريا أن توقف تسلل الإرهابيين إلى العراق، وحقيقة الطلب أنهم يريدون من سوريا أن تقدم لهم المساعدة للخلاص من مأزقهم مع الشعب العراقي الرافض للاحتلال. فأما الإرهابيون المتسللون فقد عرف العالم هويتهم، وتم لصق هذه الجرائم بالإرهابيين العرب القادمين من دول الجوار كما يتهمون، وقد كنا نحذر دائماً من خطر أن يصدق أحد أن عربياً مسلماً أو مسيحياً يمكن أن يفجر نفسه في عراقيين مسلمين أو مسيحيين، حتى لو دفع له مرسلوه ملايين الدولارات، فماذا سيفعل بها وقد تناثرت جثته؟ إن من يقومون بهذه التفجيرات ضد الشعب العراقي هم عملاء الموساد الذين أعلن عن كشف اثنين منهم ولكنهم متخفون مستورون بالمئات، وهم يسعون في أرض العراق تدميراً وقتلاً وتحريضاً على إيقاع الفتنة بين طوائف العراق وأعراقه. ومن يتهم سوريا فإنه يتعامى عن حقيقة حرص سوريا على أمن العراق لأن أمنها من أمنه، ولأنها تخشى أن يتسلل الإرهابيون من العراق إليها، وقد دعمت سوريا العملية السياسية في العراق واستقبلت عدداً من المسؤولين العراقيين.

والمدهش أن المخترقين من السياسيين والإعلاميين العرب يتجاهلون (باستغباء للمتلقي) ذكر أية إشارة لإسرائيل ودورها الإرهابي في المنطقة. إنهم يظنون أن الناس سذج ولا يفهمون سر تجاهل إسرائيل، وسر الاندفاع إلى اتهام سوريا فوراً عند وقوع أية جريمة، فمن الواضح أنهم يريدون أن يصرفوا الأنظار عن أية شبهة بإسرائيل. ومثال ذلك الإسراع باتهام سوريا مؤخراً بمحاولة اغتيال المذيعة اللبنانية مي شدياق التي فجعنا بما أصابها، والمؤسف أن وزيراً لبنانياً (كان صديقاً حميماً لسوريا) سارع باتهام سوريا وغاب عنه وهو الحصيف حتى مجرد احتمال أن يكون الموساد وراء هذه العمليات الإرهابية المتكررة في لبنان، فهو يعلم جيداً ما الذي تخطط له إسرائيل وما الذي تريده من لبنان. وكان مثيراً أن يأتي خبر جريمة محاولة اغتيال مي موصوفة بموقف مي (المعادي لسوريا) مثلما جاء يوم اغتيال سمير قصير في صياغة تذكر بأنه (المعروف بموقفه المعادي لسوريا)، في إغفال لموقف مي أو لموقف سمير من إسرائيل (على الأقل لكونه كاتباً ومثقفاً فلسطينياً). والطريف أن بعض الإعلاميين أنكروا على الوزير السبع أن يشير إلى ضلوع إعلاميين لبنانيين بعمليات الإرهاب في لبنان، ويبدو أن صدره ضاق كما بدا من التواطؤ في الكذب والتزييف، عكس ما فعل الوزير المر الذي ضاق صدره بحمل مبادئ مكلفة الثمن قد تبعده عن السلطة مستقبلاً، فبق بحصة ارتدت على وجهه الذي ينبغي أن يحمر خجلاً من نفسه وهو يفقد مصداقيته أمام ذاته أولاً، وقد بدا مضحكاً أن يعلن أنه كان مهدداً بالقتل من سوريا وهو الحليف لها وقد قدم نفسه لها على أنه صاحب مبادئ، ولكنه يبحث عن مبرر لما سيقبل عليه من انقلاب في موقفه قبل أن تمشي العربة ويظل واقفاً حاملاً مبادئ ثقيلة على كتفيه..

وبالعودة إلى تبرير بعض الإعلاميين العرب كراهيتهم لسوريا بأنها ضد النظام وليست ضد الشعب، فإنني لا أعترض على حرية الناس في أن يكرهوا نظاماً سياسياً في بلد ما أو أن يحبوه فهذا شأنهم، ولدينا في سوريا معارضة توجه للنظام نقداً قاسياً صباح مساء، ومع ذلك نعتبرها معارضة وطنية لأنها تنطلق في نقدها لأداء الحكومة والسلطة من حرص على الوطن، ولا تخرج عن سقف ثوابته. فأما الخارجون عن الثوابت من المرتمين في أحضان المشروع الأميركي الصهيوني الذين يستقوون على بلدهم بإسرائيل وبجيوش الولايات المتحدة، فهم فئة قليلة جداً ولا نسميهم معارضة كي لا نسيء للمعارضة الوطنية. إنهم ثلة من المخترقين الذين باعوا أنفسهم للشيطان، وعقابهم عند شعبهم وعند ربهم، ولشتان ما بين معارض أو منتقد لسلوك أو أداء حكومي أو سياسي أو أمني، وبين محرض على شعبه ووطنه بدعوى أنه يعارض النظام. فالوطن اليوم يتعرض لتهديد جاد، وفي مثل هذا الظرف الوطني الاستثنائي، يتوقف الخلاف على القضايا الإجرائية، وتتسع دائرة التلاحم الوطني، ويصير الكل في واحد، هو التوحد والصمود.

ولابد لتحقيق المزيد من التلاحم الوطني من أن تضيق المسافة بين المعارضة والسلطة كي تتسع الرؤية، وحين تتسع الرؤية تضيق العبارة كما يقول النفري، وضيق العبارة يعني على الصعيد السياسي أن تضيق دوائر المختلف عليه لنكتشف سعة ورحابة ما نتفق عليه جميعاً وهو الوطن والعروبة والإسلام. فنحن مهددون لأننا في سوريا ما نزال نقبض على جمر هذا الانتماء الذي نعتز به وندافع عنه، ونحن في الوقت ذاته نمد أيدينا لكل المجتمع الدولي، لنتعاون في مقاومة الإرهاب الذي يوجه ضد أمتنا أولاً، وندعو إسرائيل إلى تطبيق قرارات الشرعية الدولية التي نلتزم بها، ولو أنها فعلت لانتهت كل مشكلات المنطقة، ولتفرغ العالم لقضايا التنمية ومكافحة الفقر والمرض والجهل. ألا ترون أن العالم كله مشغول بتنفيذ طلبات إسرائيل؟

الكيل بمكيالين

الكيل بمكيالين

د. إلهام مانع

نعيب على الولايات المتحدة أنها تكيل بمكيالين عندما يتعلق الأمر بإسرائيل.

وقولنا صحيح.

نعيب عليها .. وننفر،

ونزعق،

ونجعر بأصواتنا عالية، نشير بأصابعنا العشرة إليها، "أنظروا، هاهي تفعلها من جديد"، "الظالمة"، "الناكرة"، "المخادعة".

نعيب عليها وننسى أن نعيب على أنفسنا.

ألا نفعل الشيء نفسه؟

نكيل بمكيالين، وأحيانا بثلاثة وأربعة.

وعلى حين تُقدم الولايات المتحدة على هذا الفعل عندما يتعلق الأمر بأمن إسرائيل أو بمصالحها كقوة عظمى، فإننا في المقابل أتقنا فن خداع النفس بمناسبة وبلا مناسبة.

أصبح دمنا الذي يجري في عروقنا، والهواء الذي يملأ صدورنا،

أصبح المرآة التي نحدق إليها،

لأننا لا نطيق أن نرى أنفسنا كما هي.

لا نريد أن نراها.

نعيب على فرنسا أنها فرضت على طالبات المدارس من المسلمات خلع غطاء رؤوسهن، وننسى أن الأقليات الدينية لدينا تعاني الأمّرين من سلطان الدولة.

ما رأيكم لو تصفحتم التقارير السنوية لمنظمات حقوق الإنسان عن أوضاع الحرية الدينية في البلدان العربية؟

ستشيحون بأوجهكم، ثم تلعنون: "هاهي مؤامرة جديدة من منظمات الحقوق "الغربية". لكنكم تشدون في الوقت ذاته على أيدي هذه المنظمات "الملعونة"، يوم استماتت في الدفاع عن حقوق هذه الطالبات.

هل يستطيع أي مسلم أن يعلن تغيير ديانته دون أن يواجه عقوبة الإعدام؟ الإعدام لإنسان أراد أن يختار الدين الذي أراده!

أليس هذا حقه؟

ونقول "هذا شأننا". "ما لكم وشأننا".

ثم نلعن سنسفيل فرنسا "الفاجرة"، تلك التي أوهمتنا أنها مهد الحريات.

وهللنا.

هل نسيتم كي أذكركم؟

هللنا يوم فاحت فضيحة سجن أبو غريب.

وهي فضيحة بلا جدال.

لكنا شمتنا وفرحنا، كدنا نخرج من جلودنا ابتهاجاً، وصرخنا بأصوات نافرة "أنظروا ماذا فعلت تلك المدافعة عن حقوق الحريات في العالم"، "أنظروا كيف انتهكت حقوق العراقيين الغلابة.. العراقيين المساكين.. يا حسرة على العراقيين، يعانون الويل تحت ضيم المحتل".

وتناسينا ما فعله معصوم الذكر صدام حسين مع هؤلاء العراقيين. ختمنا على عقولنا ومسحنا شريط ذاكرتنا بأستيكة من العيار الثقيل.

كل فينة وأخرى تخرج علينا أنباء عن اكتشاف مقابر جماعية لهؤلاء العراقيين، نسمع، ونهز رؤوسنا مستنكرين، ثم نصمت.

نصفر، أو نغني، وربما نشخر، ثم نتمتم " دعونا من هذه التفاصيل. ما مضى قد مضى".

وقبل ذلك،ِ يوم كان لا زال جاثماً على قلوب العراقيين، كنا نسمع عن المذابح التي أرتكبها ضد الأكراد، كنا نسمع عن المساجين السياسيين الذين يسومون ألوان العذاب والتنكيل في سجونه، وكنا نسمع عن النساء التي تنتهك أعراضهن من قبل نخبة الرئيس صدام، نسمع عن كل ذلك، ونبرر له: "لا يمكن حكم بلد كالعراق إلا بالسيف والنار"، نقول ذلك ونحن نصفق له كالبلهاء، فرحين بالرجل الذي "صمد ووقف أمام الغرب".

نسينا ذلك، تماماً كما نسينا ملفات حقوق الإنسان لدينا في العالم العربي، تلك التي يندي لها الجبين. لكنها تلاشت فجأة من أذهاننا، كأنها كانت ضرباً من خيال، لم يعد لها وجود.

ولو جاء من يذكرنا همساً: "لكن أليس واقع سجوننا أسوأ مما كان حادثاً في سجن أبو غريب؟"

تخرج ألسنتا من أفواهنا محشرجة الصوت: "أمرك غريب، وهل تقارننا بها يا أخي؟"

لا يهم أن واقعنا أسوأ، لا يهم أن قيمة الإنسان لدينا لا تزيد عن ثمن بعوضة، لا يهم كل ذلك.

المهم هو إن نشفي غلنا في الولايات المتحدة، "تلك القوية الملعونة"، تلك التي "انتهكت حقوق الإنسان".

خداع الذات لدينا متعة، وفن.

نقول إن الإسلام واحد،

ثم نتأفف من الشيعة،

نمتعض منهم،

ونشيح بوجوهنا عنهم وعن "ممارساتهم"،

نمصمص شفاهنا كلما احتفلوا ب"شعائرهم"، ونقول بهّسٍ فحيح: "ليسوا مسلمين فعلاً، يكادوا أن يكونوا مشركين"!.

ثم ندني شفاهنا أكثر إلى أذاننا ونحن نوشوش أنفسنا "كانوا دائماً طابوراً خامساً يعين الفرس علينا".

نقول ذلك، وندير أعيننا مؤكدين إن الإسلام واحد.

لكننا لا نتألم كثيراً أو نتوجع لأوجاعهم.

لا نبكي مع الشعب العراقي كلما فجر إرهابي نفسه بين جموع من شيعة العراق.

هم "ليسوا بشراً فعلاً"، "ليسوا مثلنا"، "كما أنهم ليسوا منزعجين كثيراً من وجود ذلك المحتل البغيض"، "الخونة".

أليس هذا لسان حالنا؟

تخيلوا معي إذن كيف كانت ستكون ردة فعلنا لو أن ضحايا حادثة الجسر كانوا من السنة العرب؟ هل كنا سنصمت عن العزاء كما فعلت معظم الدول العربية، صمتت وهي تهرع في الوقت ذاته مهرولة إلى مواساة أميركا "المحتلة البغيضة" في ضحايا إعصار كاترينا؟

خداع الذات هي ورقة التوت، تلك التي نغطي بها عورتنا.

عورة الخجل من أنفسنا ومن واقعنا المزري، عورة الإحساس بالضآلة والضعف أمام "الآخر"، وعورة الخوف من أن نسمي الأشياء بأسمائها.

عورة لا نريد أن نراها.

ولذلك نلوذ بأصابعنا العشرة،

نرفعها في وجه "الآخر"،

نلعن سنسفيل أجداده،

ثم نتنهد.

شفاف الشرق الأوسط

استفتاء الجزائر: المصالحة الوطنية أم تبييض الجنرالات؟

استفتاء الجزائر: المصالحة الوطنية أم تبييض الجنرالات؟

صبحي حديدي

القدس العربي


حتي ساعة كتابة هذه السطور لم يكن واضحاً ما سيقرّره قرابة 19 مليون جزائري قصدوا، أمس، صناديق الإقتراع للتصويت علي مشروع الميثاق من أجل السلم والمصالحة الوطنية ، الذي اقترحه الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة لطيّ العقد الدامي الذي عاشته الجزائر بين 1992 و2003، وأسفر عن أكثر من 150 ألف قتيل وآلاف المفقودين (18 ألفاً، في إحصاء الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان ). غير أنّ جملة المعطيات المتوفرة لا توحي بأنّ النتيجة سوف تنطوي علي مفاجأة نوعية، كأن يقول الشعب إنه ضدّ السلم والمصالحة الوطنية، أو أنه ليس بعد من الحيوي بالنسبة للجزائريين والجزائريات والأسر الجزائرية، ان يتساموا نهائياً فوق هذه المأساة ، أو أنّ الشعب الجزائري يأبي أن يتجاوز الفتنة وعواقبها الوخيمة ويعود نهائياً إلي سابق عهده بالسلم والحرية ... كما جاء في ديباجة مشروع الميثاق.
غير أنّ التصويت يمكن أن يحمل نوعاً من المفاجأة إذا جاءت نسبة الإقتراع متدنية علي نحو ملحوظ، كأن لا تتجاوز الـ 20% مثلاً، لأنّ الأمر في هذه الحال سوف يدلّ علي عزوف الشعب عن الإدلاء برأيه، وضعف ثقته في المشروع وفاعليته، أو حتي انعدام الثقة في أنّ المصالحة الوطنية ينبغي أن تكون علي هذه الشاكلة. التعليل الجوهري وراء حال كهذه سوف يكون النقص الفادح الذي اتسم به المشروع في ملفّين حاسمين وأساسيين: ملفّ المفقودين (إذ لا ينصّ الميثاق علي أية أوالية ملموسة تضمن الكشف عن مصائرهم)، وملفّ محاسبة الجنرالات والمافيات الأمنية أو أية جهات حكومية سلطوية مارست الخطف والإعتقال التعسفي والتنكيل بالمواطنين، فضلاً عن ممارسة الفساد ونهب البلاد (العكس هو الصحيح، لأنّ الميثاق يقول لهم، عملياً: عفا الله عمّا مضي!).
والنسبة المتدنية، إذا وقعت، سوف تكون الوسيلة الوحيدة ـ لكي لا نقول المثلي ـ للتعبير عن عدم اقتناع بعض الشرائح الشعبية بهذا الميثاق، بالنظر إلي أنّ أدوات التعبير الأخري (الصحف، وسائل الإعلام المستقلة، الأحزاب السياسية...) ليست في حال تتيح للرافض أن يُبلغ عموم الناس بأسباب رفضه. والمرء يلحظ، دون عناء في الواقع، أنّ الشارع السياسي المنظّم منقسم علي نفسه بصدد الميثاق، وتستوي في هذا الأحزاب السياسية الموالية للسلطة إجمالاً، أو تلك المعارضة لها. كما تبدو قضية قبول أو رفض الميثاق وكأنها ايضاً عابرة للعقائد والخطوط الفكرية بين يسار ويمين، علمانية وإسلامية، وطنية وإثنية.
نعرف أنّ بين الرافضين قوي يسارية (مثل حسين آيت أحمد و جبهة القوي الاشتراكية ) وقوي إسلامية (مثل عباسي مدني و الجبهة الإسلامية للإنقاذ )، ولكننا نعرف أيضاً أنّ بعض قادة الإنقاذ (أمثال رابح كبير ومدني بزراف) وبعض الإسلاميين (عبد الله جاب الله و حركة الإصلاح الوطني ) يؤيدون الميثاق، كما يؤيده بعض اليسار (لويزة حنون و حزب العمال ) والشخصيات الوطنية من أمثال الرئيس الأسبق أحمد بن بلة. وإذ يؤيده حزب جبهة التحرير الوطني بلسان عبد العزيز بلخادم، تعترض عليه شخصيات بارزة في الحزب مثل عبد الحميد مهري، وشخصيات قيادية في المجتمع المدني مثل علي يحيي عبد النور رئيس الرابطة الوطنية لحقوق الإنسان ....
في جانب آخر، وفي استحقاق لا يقلّ أهمية عن العفو والتسامح والمصالحة، ينطوي الميثاق علي ما يشبه الشرعنة التامة لرواية وحيدة عن ذلك العقد الجزائري الدامي، هي رواية السلطة كما روتها أو سترويها بعد التصويت علي الميثاق، وبعده لن تكون هناك رواية أخري البتة... وتحت طائلة القانون! والأمر ينقلب إلي ما يشبه التحريم التامّ في المسألة الأكثر حساسية ومأساوية، أي ملفّ المفقودين، كما في النصّ العجيب الذي يمهّد للبند 4 : إنّ الشعب الجزائري صاحب السيادة يرفض كلّ زعم يقصد به رمي الدولة بالمسؤولية عن التسبب في ظاهرة الافتقاد. وهو يعتبر أن الأفعال الجديرة بالعقاب المقترفة من قبل أعوان الدولة الذين تمت معاقبتهم من قبل العدالة كلما ثبتت تلك الأفعال، لا يمكن أن تكون مدعاة لإلقاء الشبهة علي سائر قوات النظام العام التي اضطلعت بواجبها بمؤازرة من المواطنين وخدمة الوطن .
ليس النصّ السابق نزيهاً بما يكفي لكي يصوّت عليه 19 مليون جزائري يتطلعون إلي كشف مصائر قرابة 18 ألف مفقود، لكي لا نقول إنه نصّ ديماغوجي بما يكفي لتبرئة ذمّة القتلة بذريعة السيادة الوطنية وحصانة الدولة بأسرها، كاملة تامة منيعة معفاة من كلّ وازرة!
غير أنّ ما حدث يوم 11 كانون الثاني (يناير) 1992 كان انقلاباً عسكرياً صريحاً نفّذه جنرالات الجيش ومؤسسات الحكم المدنية المتحالفة مع مختلف أجهزة السلطة. وباسم الدولة وحفاظاً عليها، بذرائع صيانة السلم الأهلي ودرء الأخطار المحدقة بالوطن، انقضّ الجيش علي المؤسسات بدءاً من رئيس الجمهورية آنذاك الشاذلي بن جديد، وانتهاء بأصغر مجلس بلدي. كما فرض قانون الطواريء، وألغي نتائج الإنتخابات التي حققت فيها جبهة الإنقاذ انتصاراً صريحاً، فانفتح الباب عريضاً علي السيرورة (الطبيعية والمنطقية) للتحوّلات الكبري في الحياة السياسية عموماً، وتصاعدت خيارات العنف ضمن تيارات الإسلاميين وأجهزة السلطة العسكرية والأمنية علي حدّ سواء.
ما زاد الطين بلة، وأكمل مأساة المجازر عن طريق استكمال ملهاة السياسة، تمثّل في قرار السلطات الجزائرية الإفراج عن الرجل الأول في الجبهة الإسلامية للإنقاذ ، الشيخ عباسي مدني (الذي كان في الإقامة الجبرية منذ عام 1997)، ونائبه علي بلحاج (الذي كان حبيس سجن عسكري)، بعد 12 عاماً من التوقيف بتهمة تهديد أمن الدولة. الشطر الثاني من قرار الإفراج قضي بمنع الرجلين من مزاولة العمل السياسي، أو عقد اجتماعات شعبية، أو تأسيس جمعيات لأغراض سياسية أو ثقافية أو خيرية أو دينية، أو الإنضمام إلي أية جمعيات من هذا النوع، بصفة عضو أو مسؤول أو مناصر. وإذا كان صدور مثل تلك الإجراءات القمعية عن سلطة عسكرية ليس مستغرباً، فإنّ الأمر الغريب ــ والمغزي الأهمّ ربما ــ كان في حقيقة أنّ الإجراءات ذاتها بدت وكأنها تُفقد السلطة السياسية فرصة المناورة داخل صفوف القوي الإسلامية!
ويخطئ من ينسي أنّ عمليات الإرهاب في الجزائر كانت خير ساتر للسلطة في تمرير المشاقّ الاجتماعية الناجمة عن الشروط التي فرضها صندوق النقد الدولي علي البلد، بحيث بات الجزائري العادي رهينة هاجس البقاء علي قيد الحياة قبل هاجس الإلتفات إلي شجون وشؤون المعاش اليومية. ذلك، بمعني آخر، كان شكلاً معقداً و غير مرئي من أشكال دعم برامج السلطة الحاكمة، بما في ذلك التواطؤ الصامت مع أساليبها القمعية التي لم يكن لها أي نصيب ملموس من النجاح في الحدّ من استفحال العنف الدامي. ولعلّ العكس هو الذي صار صحيحاً فيما بعد، حين أخذ الإرهابيون يعملون في وضح النهار وبسهولة أكثر، وتبدلت نوعية الضحية من رموز السلطة السياسية والأمنية والعسكرية إلي الجزائري العادي: الشيخ والطفل والمرأة.
كذلك يخطئ من ينسي أن حمامات الدم المفتوحة تلك، ودورة العنف الإرهابي الأهلي الأبشع في التاريخ الجزائري الحديث بأسره، كانت أو تظلّ مسألة جزائرية داخلية تبرّر القول: وماذا في وسع العالم أن يفعل حين يقتل الجزائري شقيقه الجزائري، في حرب أهلية طاحنة تدور رحاها منذ عقد ونيف؟ فليس بجديد القول إن فرنسا غارقة حتي أذنيها في المعضلة الجزائرية، لأسباب تاريخية كولونيالية معروفة، ولكن أيضاً بسبب التراث الأحدث لمجموعة المواقف الفرنسية بعد انقلاب 1992. والفرنسيون يسددون اليوم ديون الأمس القريب، خصوصاً حين أدركوا أنّ ضغط تلك الديون أخذ يترجم عواقبه في عمليات تصدير العنف إلي داخل أنفاق المترو في قلب باريس، حيث يودي الإرهاب بأرواح فرنسية بريئة، تماماً كما أودي ويودي بأرواح جزائرية بريئة.
وللدعم الفرنسي الرسمي للسلطة الجزائرية تجليات صريحة علي صعيد صندوق النقد الدولي، وبرامج الإقراض، ومساعدات الإتحاد الأوروبي. ومنذ عام 1994 مثّلت فرنسا اللوبي الأبرز وراء إبرام اتفاقيات برنامج التعديل الهيكلي بين الجزائر وصندوق النقد الدولي، ودخلت الأجهزة الفرنسية الحكومية في اتصالات واسعة مع الصندوق الدولي والبنك الدولي والمصارف العالمية الكبري لتأمين معاملة استثنائية للجزائر، نجمت عن إقراضها خمسة مليارات دولار، الأمر الذي أتاح للسلطة حيازة مقادير من السيولة الصعبة لم يسبق لها أن حازت عليها منذ استقلال الجزائر في عام 1962. كذلك استخدمت فرنسا نفوذها في الإتحاد الأوروبي لكي تضمن للجزائر معاملة استثنائية إضافية، وقرضاً بقيمة 250 مليون إيكو (أكثر من 240 مليون أورو في حسابات أيامنا)، الأمر الذي لم تظفر به تونس أو المغرب علي سبيل المثال.
الأمريكيون من جانبهم، وفي الموقف من الإسلام السياسي كما في الموقف من أية قضية أخري شرق أوسطية، ظلوا علي عهدهم في خدمة المصالح القومية الأمريكية، فضلاً عن ضمان أمن إسرائيل العسكري والسياسي والإقتصادي، وتوسيع دائرة المغانم الاستراتيجية الناجمة عن احتلال العراق. وهكذا، كان في وسع البيت الأبيض غضّ النظر عن حمامات الدم وتلال الجثث الأهلية في الجزائر، بل و التطنيش التامّ المذهل عن حقيقة أنّ الجزائر كانت تشهد إرهاباً من نوع أعمي، أشدّ قسوة وبربرية من أيّ إرهاب تزعم الولايات المتحدة أنها تخوض حرباً شاملة لاستئصاله. وتناسي أشخاص مثل ريشارد بيرل وبول ولفوفيتز ودونالد رمسفيلد أنّ الشعار اللوجستي للجماعات الإسلامية المسلحة في الجزائر كان يسير هكذا: لا حياد في الحرب، وباستثناء الذين معنا فإن الآخرين كافرون . ولكن كيف كان لهؤلاء أن يتذكروا مثل هذا الشعار، إذا كانوا هم أنفسهم قد صاغوا، وأطلقوا علي لسان رئيسهم، الشعار المانوي الشهير: مَن ليس معنا فهو ضدّنا؟
وبهذا المعني نفهم إصرار رجل مثل حسين آيت أحمد علي الربط بين مشروع بوتفليقة في المصالحة الوطنية (وهنا يعتبر آيت أحمد أنّ أهداف المشروع الكبري هي تبييض الجنرالات، بما يسمح لاستمرار تحالفهم مع بوتفليقة، تمهيداً لتعديل الدستور بما يتيح للرئيس الحالي عدداً لانهائياً من الولايات الرئاسية، إسوة بأشقائه الرؤساء العرب!)، وبين ما يحظي به الحكم الحالي من تأييد فرنسي وأمريكي صريح، لعلّه أحياناً يبدو فاضحاً! وإذا كان آيت أحمد يبالغ في كثير أو قليل حول طبيعة هذا الدعم، فإنّ الثابت مع ذلك أنّ الديمقراطيات الغربية تنفست الصعداء بعد انقلاب 1992 حين صادر الجيش الجزائري صندوق الإقتراع (طوطم الديمقراطية الغربية!) ودفع الجزائر إلي بركة الدم. وحدث، استطراداً ومراراً، أنّ الديمقراطيات اياها انتقلت سريعاً إلي ما هو أدهي من تنفّس الصعداء: إلي مدّ المافيا العسكرية بأسباب البقاء اللازمة... لا لشيء إلا لكي تسيل أنهار جديدة من دماء الجزائريـــــات والجزائريين!
... هؤلاء الضحايا، أنفسهم، هم اليوم الذين يصادر ميثاق المصالحة حقهم في كتابة الرواية/الروايات الأخري غير الرسمية: إنّ الشعب الجزائري يجزم أنه لا يخوّل لأيّ كان، في الجزائر أو خارجها، أن يتذرع بما خلفته المأساة الوطنية من جراح وكلوم، أو يعتد به بقصد المساس بمؤسسات الجمهورية، أو زعزعة أركان الدولة، أو وصم شرف أعوانها الذين أخلصوا خدمتها، أو تشويه صورة الجزائر علي الصعيد الدولي ...!

لبنان في احدى أخطر المراحل

لبنان في احدى أخطر المراحل

نيويورك - راغدة درغام

الحياة

سنشهد الشهر المقبل بداية نهاية عهد تحكم الاجهزة الأمنية والاستخباراتية العسكرية بالحياة السياسية في لبنان وفي سورية. قد تتكاثر محاولات الاغتيال وتتنوع كي تدب الذعر في القلوب وتملي الفوضى على البلاد. لكن الأشهر الآتية ستدشن محاكمات لا سابقة لها، وستحرر كامل المنطقة العربية من انماط اللاعقاب واللامحاسبة، وستدق المسمار الأخير في كفن الاغتيالات السياسية والتأديبية والانتقامية وأنواع الاغتيالات كافة. انها فترة الاستحقاقات، بكل ايجابياتها وسلبياتها، وهي تتطلب الوعي والحكمة والمنطق في موازين المخاوف والتوقعات. ففي نهاية المطاف، ومهما آلت اليه المرحلة الانتقالية، فإن محطة الوصول ليست بالضرورة سيئة أبداً سوى للذين تحكموا وحكموا بالإذلال والاغتيال.

الذين تورطوا في اغتيال رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري يعرفون تماماً مصيرهم وقد يرتأون ضرب استقرار لبنان قبل صدور تقرير «اللجنة المستقلة الدولية للتحقيق في العمل الارهابي» التي يترأسها القاضي الالماني ديتليف ميليس. أولئك الذين ضلعوا في الجريمة يعرفون تماماً ماذا سيحتويه تقرير ميليس المتوقع صدوره في 25 الشهر الجاري. يعرفون اكثر من اي طرف آخر ماذا سيتضمنه التقرير لأنهم مطلعون على الحقائق ولأن التقرير سيكشف الحقيقة عبر الأدلة والاثباتات.

الأرجح انه لا يوجد أحد، الى جانب ميليس وفريقه وخبرائه، يعرف تفاصيل ما سيتضمنه التقرير من استنتاجات سوى أولئك الذين لعبوا دوراً في اقتراف الجريمة أو تنظيمها أو الإيحاء بها أو التغطية عليها أو محاولة محو الأدلة. كثيرون يخشون هذه الفترة من الآن وحتى صدور التقرير. بعضهم يتوقع تصعيداً خطيراً وبعضهم يتخوف من الإحباط إذا استمرت التوقعات بدور دولي يحل مكان الدور المحلي للحكومة اللبنانية في مواجهة أو احتواء التصعيد المنتظر.

ما على اللبنانيين ان يدركوه هو ان العالم مع لبنان، لكنه لن يكون البديل عن اللبنانيين في صون استقراره. هناك استعداد لدى الأسرة الدولية، عبر مجلس الأمن، لمد العون المستمر سواء في استصدار القرارات للمحاكمة على العمل الارهابي المتمثل في اغتيال الحريري أو عبر دعم ميليس ولجنته واستنتاجاته حتى وان كانت قنبلة تهز أنظمة أو تطيحها.

فلا مجال للصفقات إذا جاء تقرير ميليس بإدانات مع أدلة واثباتات. لقد فات الأوان على الصفقات منذ العرض الأخير الذي وصل الى دمشق قبل ثلاثة اشهر والذي شابه حل «لوكربي»، وذلك من خلال ترك المبادرة للقيادة السورية للتقدم بالافراد أو بالاجهزة التي يجوز ان تكون تورطت في اغتيال الحريري، الى المحاكمة العادلة. فات الأوان على الصفقات لأن ديتليف ميليس في صدد الإعداد لكتابة تقريره، ولا تجرؤ أي دولة على إبرام الصفقات في هذه المرحلة المتأخرة من التحقيق. وميليس، كما يُعرف عنه، لا يبرم الصفقات السياسية، ولأنه واع تماماً لإمكان اعتباره عثرة أمام الصفقات السياسية، يمكن الجزم بأنه حفظ وصان الأدلة والاثباتات كي تكون الشاهد على الحقيقة حتى في حال تعرضه هو لمحاولة اغتيال.

البعض في الأوساط الديبلوماسية قلق من احتمال توسيع رقعة سلاح الاغتيال ليشمل الاجانب بهدف حشد الرأي العام في بلادهم أو دفع المؤسسات والعاملين فيها الى مغادرة لبنان هلعاً. لكن هذا لن يحدث، فلقد أُتخذ القرار بعدم السماح لمثل هذا الارهاب ان يكافأ عبر الهرب. بل العكس، فأي تعد من هذا النوع سيصعد ويوسع العقاب.

لذلك، هناك استعداد لدى مجلس الأمن للنظر جدياً في تكليف «اللجنة المستقلة الدولية للتحقيق» بأن تساعد الحكومة اللبنانية في التحقيق في الاغتيالات الاخرى وفي محاولات الاغتيال التي حدثت في لبنان، وذلك بعد محاولة اغتيال الزميلة مي شدياق.

من واجب المؤسسات والنقابات الاعلامية، اللبنانية والعربية والدولية، ان تطالب الأمين العام كوفي انان ورئيس مجلس الأمن الدولي وحكومة رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة، بأن يستفاد من خبرة وخبراء «اللجنة المستقلة الدولية» للتحقيق في اغتيال الزميل سمير قصير ومحاولة اغتيال مي شدياق.

ومن الضروري للنقابات والمؤسسات القضائية ان تحشد الأفكار وراء أفضل أنواع المحاكمة وأسرع عقاب للارهابيين الضالعين في كل جرائم الاغتيال. ومن المفيد للبنان ان يستعين بالاسرة الدولية في مثل هذه الأمور وان تتقدم حكومة السنيورة، كخطوة مستقلة عن توقيت تقرير ميليس، بالطلب الرسمي الى مجلس الأمن بوضع كل الاغتيالات تحت مسؤولية «اللجنة المستقلة الدولية» التي تعمل بالتنسيق مع الحكومة اللبنانية. فمثل هذا الاجراء يوجه رسالة حازمة الى الذين يعتزمون القيام بالمزيد من الاغتيالات، فحواها ان محاكمتهم بصفتهم ارهابيين تأتي بقرار دولي وبمراقبة وتحقيق ومتابعة دولية لكل تحركاتهم.

وكي تكون التوقعات من المساهمة الدولية في حياة لبنان اليوم عملية ومعقولة وواقعية، يجب الإدراك أولاً ان أحداً لا يعد قوات تدخل دولية تتوجه الى لبنان لمساعدته في مرحلة قد تكون احدى أخطر مراحله، اي من الآن وحتى صدور تقرير ميليس.

فالأمن اللبناني في هذه المرحلة مسؤولية لبنانية صرفة. والقرار الأمني يجب على الحكومة اللبنانية اتخاذه بلا خوف وبلا أي تردد على الاطلاق. الجميع يعرف ان حجماً هائلاً من السلاح وصل الى فصائل فلسطينية تستعد لعمليات كبرى بهدف ضرب الاستقرار الأمني الداخلي للبنان. على الحكومة اللبنانية ان تتخذ كل اجراء أمني، وقائي أو هجومي، لمنع نجاح هذه الغايات. لا مجال للتخوف والتردد في حال لم توافق أطراف لبنانية مهمة، «حزب الله» مثلاً، على تولي الحكومة اللبنانية مهمات الحسم الأمني ضد اي فصائل فلسطينية تضمر للبنان الفوضى وتعمل لحساب من يريد له الضرر.

الأمل بأن حكمة «حزب الله» ستجعله يستنتج ان هذا ليس أبداً وقت رفع راية مقاومة الاحتلال الاسرائيلي عبر الفصائل الفلسطينية الموجودة في لبنان. فهو يدرك ان هذه الفصائل التي تسلمت السلاح الثقيل لا تضع القضية الفلسطينية في رأس أولوياتها، ولا هي في صدد تحرير فلسطين من خلال ضرب استقرار لبنان. وهو يعرف ان أي «حماية» أو «تبرير» لمثل هذا التطور سيُفسر، لبنانياً ودولياً، على انه حماية للذين ارتكبوا جريمة اغتيال رفيق الحريري من المحاسبة والمحاكمة. «حزب الله» أكثر وعياً من ان يرتكب حماقة كهذه، خصوصاً ان جميع قادة المنطقة، بمن فيهم الرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد، رفع غطاء الحماية عن اي طرف ارتكب الجريمة، بغض النظر عمن هو، أكان في سورية أو في لبنان. وهو قال علناً في مؤتمر صحافي في الأمم المتحدة ان «اي لجنة تبحث حقاً عن التحقيق بعدالة وتعرّف العناصر المتورطة سنتعاون معها في إطار قدراتنا وضمن الإطار الدولي. وإننا سندين هذه العناصر بغض النظر عمن هي».

«حزب الله» يقع اليوم في الامتحان الأصعب، إذ أنه متهم من جانب البعض بالرغبة في حرب أهلية ومذهبية بأي طريقة كانت كي يتسنى له الاحتفاظ بسلاحه بدلاً من الاضطرار الى تفكيك ميليشياته وتجريدها من السلاح كما يطالب القرار 1559. نوعية تصرفه نحو الفصائل الفلسطينية على نسق الجبهة الشعبية الموالية لدمشق، وكيفية تجاوبه مع ضرورة بسط الحكومة اللبنانية سلطتها الأمنية في كل انحاء لبنان هما ما ستكشفان توجهات «حزب الله» الحقيقية وما سيشهد له التاريخ به. انه على المحك لاختيار ما يريد بوضوح تام الآن. فهو إما مع لبنان أو عليه. هكذا هي المعادلة هذه الايام في فترة الاستحقاقات المقبلة.

فليس أمام الحكومة اللبنانية خيار آخر سوى القيام بخطوات استثنائية للسيطرة على الأمن في البلاد، وإلا لانتصرت الفوضى واللااستقرار. ليس أمامها خيار استدعاء قوات دولية، فحتى لو كان في ذهن الأسرة الدولية ارسال قوات، فإن برنامج الاغتيالات والتفجيرات لن ينتظر ما تتطلبه الموافقة على مثل هذه القوات أو تشكيلها من وقت. فهذا ليس خياراً في هذه المرحلة الصعبة حتى لو توافرت النية بإيفاد حماية دولية في شكل قوات. وهي ليست متوافرة الآن لأن الاسرة الدولية غير مستعدة للقيام بدور تستطيع الحكومة اللبنانية القيام به. لذلك، من الحكمة لجم التوقعات الباهظة والاقرار بالواقعية من الناحية الأمنية، فما سيقدمه العالم هو الدعم للجيش اللبناني ولقوات الأمن اللبنانية، لكنه لن يحل بديلاً عنها لا على الحواجز ولا في مواجهة مع الفصائل الفلسطينية.

لكن سبل كبح طموحات هذه الفصائل عدة، سياسياً ومعنوياً. فالشعب الفلسطيني تحت الاحتلال لا يريد ان تستخدم معاناته من أجل غايات تدميرية. لذلك، فمن المفيد ان يُدعى وزير خارجية فلسطين، ناصر القدوة، لزيارة عاجلة الى لبنان تلي دعم رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس للقرار 1559 بكل عناصره، بما فيها تجريد الفصائل الفلسطينية الموجودة في لبنان من السلاح، أثناء اجتماعه في القاهرة بمبعوث الأمين العام للأمم المتحدة المكلف مراقبة تنفيذ القرار 1559، تيري رود لارسن.

وكما ان من المهم حشد الضمير الفلسطيني، الشعبي والحكومي، كذلك من المهم تعبئة الضمير العربي على الصعيدين لمنع الاستنجاد بالعروبة للاحتيال على نتائج تحقيق ميليس وللوقوف في وجه محاولات ضرب استقرار لبنان أكانت عبر عناصر فلسطينية أو بقرارات سورية أو بحسابات لبنانية.

جميع قيادات الدول العربية الفاعلة، من مصر الى الأردن والسعودية، مستعدة لحجب «الغطاء» العربي عمن يكشف التحقيق تورطه في اغتيال الحريري، فرداً كان أو نظاماً أو دولة. حتى جامعة الدول العربية، كما جاء على لسان الأمين العام عمرو موسى في حديث الى «الحياة» ملتزمة المرجعية الدولية ولا ترى مجالاً لمرجعية عربية بديلة تحت أي ظرف كان. فالكل في حال تأهب، يتجنب الحكم المسبق، ينتظر تقرير ميليس، يراقب بقلق ماذا ستأتي به المرحلة الانتقالية على لبنان وماذا ستأتي به مرحلة ما بعد الانتقالية على سورية.

تكاد الخيارات أمام القيادة السياسية في دمشق وبعبدا تنحصر في خيارين: اما انتظار نتائج التحقيق وتقبل سيناريوات المحاكمة والانقلابات في حال اثبت التحقيق ضلوع الدولة بجريمة الاغتيال او استباق التقرير عبر التنحي الطوعي ومغادرة البلاد الى دول مستعدة للاستقبال تجنباً للمحاكمات والانقلابات.

السيناريو الثالث المستبعد هو تبرئة الدولة اللبنانية والدولة السورية. فمنطقياً لا يمكن التحقيق ان يطلب وضع اربعة جنرالات لبنانيين وراء القضبان ما لم تكن لدى ميليس أدلة دامغة ملموسة تقدم ضدهم في المحكمة. ولا يمكن ان يتورط أربعة جنرالات لبنانيين في عملية اغتيال رئيس وزراء بلادهم من دون معرفة رؤسائهم في لبنان ودمشق.

هذا منطقياً. أما القصة الحقيقية لما حدث يوم ارتكبت جريمة اغتيال الحريري، فإن الذي يعرف حذافيرها هم الذين قاموا بها.

ديتليف ميليس سيحكي لنا الحكاية كاملة في تقريره، مهما حاول الجناة قطع الطريق على الحقيقة.

أبو عدس» للتضليل...

وميليس قد يطلب الاستماع الى شهود سوريين خارج بلادهم...

اغتيال الحريري: التفجير لاسلكي وليس انتحارياً

بيروت، نيويورك - محمد شقير، راغدة درغام

الحياة

استبعدت مصادر لبنانية مواكبة لعمل لجنة التحقيق الدولية، ان يكون لأي «انتحاري» دور في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وأكدت لـ «الحياة» ان موكب الأخير استُهدف بواسطة سيارة مفخخة وضعت على جانب الطريق، وفُجّرت لاسلكياً بواسطة جهاز «ريموت كونترول» لحظة مرور الموكب من امام فندق «السان جورج».

وقالت المصادر إن سائق السيارة المفخخة كان أوقفها على جانب الطريق قبل نحو دقيقتين من وصول موكب الحريري الى المكان الذي انفجرت فيه، مشيرة الى ان لجنة التحقيق أسقطت عملياً من حسابها ان يكون الانفجار ناجماً عن سيارة قادها انتحاري يدعى أحمد أبو عدس ولا يزال مجهول المصير.

ورجحت ان تكون الجهات المتورطة او المشاركة في الجريمة عمدت الى تصفية «أبو عدس» بعدما استخدمته لتصوير فيلم «فيديو» كانت بثته «قناة الجزيرة» بعد حصول الجريمة، وادعى فيه ابو عدس انه ينتمي الى «جماعة النصرة والجهاد في بلاد الشام»، في محاولة لتضليل التحقيق، من خلال الزج بعنصر وهمي من أجل طمس معالم الجريمة من جهة، وتحويل الأنظار عن الطريقة التي استخدمت في تفجير موكب الحريري من جهة ثانية.

وذكرت المصادر ان التحقيق سرعان ما اكتشف ان جهة ما تولت التشويش الذي أدى الى تعطيل الأجهزة التي يستخدمها الموكب لكشف المتفجرات، اضافة الى اللجوء الى تنفيذ خطة مدروسة فنياً، كانت وراء التشويش على الاتصالات الخلوية والثابتة في المنطقة التي نفذت فيها الجريمة، خصوصاً انها بدأت قبل تفجير الموكب واستمرت نحو ساعتين بعد الجريمة.

ولفتت الى ان التحقيقات التي تولاها فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي بالتعاون مع فريق المحققين الدوليين، كشفت عن تباطؤ في تزويد الأجهزة الأمنية بشريط الاتصالات الخاص بمسرح الجريمة، خصوصاً التي حصلت ويُعتقد بأنها على علاقة مباشرة بالتخطيط للجريمة، وصولاً الى تنفيذها.

على صعيد آخر، أكدت المصادر ما تفردت به «الحياة» في عددها الصادر امس من ان مهمة لجنة التحقيق في دمشق لم تنته على رغم ان رئيسها القاضي الألماني ديتليف ميليس ونائبه كانا استمعا الى ضباط ومسؤولين سوريين كشهود في جريمة اغتيال الحريري. وعزت السبب الى ان لدى لجنة التحقيق شعوراً بأن تعاون السلطات السورية معها لم يكن بحجم التوقعات التي كانت تراهن عليها. ولم تستبعد احتمال تجدد الاتصالات بين ميليس - قبل ان يغادر بيروت الاثنين المقبل لإعداد تقريره الذي سيرفعه الى مجلس الأمن، بواسطة الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان - وبين دمشق، في محاولة للتمهيد لتوجه فريق من المحققين إليها، لعله يحقق هذه المرة تقدماً من خلال الاستماع مجدداً الى عدد من الشهود، وبعضهم كان الفريق قابلهم سابقاً.

لكن هذه المصادر توقعت في حال عدم حصول التجاوب الذي ينشده ميليس، ان يبادر الأخير الى طلب الاستماع الى الشهود السوريين خارج الاراضي السورية، معتبرة ان مثل هذا الطلب سيقود حتماً الى احالة ملف اغتيال الحريري إلى محكمة دولية خاصة، يتولى مجلس الأمن تشكيلها بالتعاون مع انان وفريق التحقيق.

وأشارت المصادر ذاتها الى ان مجرد تشكيل محكمة دولية خاصة، يعني انه سيترتب عليها تعيين محقق عدلي دولي في موازاة المحقق العدلي اللبناني القاضي الياس عيد. لكن هذه المصادر لم تقلل من الاتصالات الناشطة على المسرح الدولي والعربي، لما يمكن ان توفره من حلول تدفع في اتجاه التركيز على التحقيق القضائي اللبناني الذي ستضع اللجنة الدولية تحت تصرفه الأدلة والقرائن في ظل التحقيقات التي اجرتها ليكون في إمكانه درسها تمهيداً لإصدار قراره الظني في الجريمة.

الى ذلك، تبلغت الحكومة اللبنانية امس موافقة روسيا على تقديم الدعم التقني والفني واللوجستي لتطوير الأجهزة الأمنية اللبنانية، في اطار البرنامج الذي وضعته وزارتا الداخلية والدفاع الوطني، وأبدت دول بينها الولايات المتحدة وفرنسا استعدادها للمساهمة المباشرة في دعمه، لتعزيز القدرات الاستعلامية والاستخباراتية والتحليلية للقوى الأمنية اللبنانية التي ستكون لها مرجعية واحدة، ترعى التنسيق بين الأجهزة والمؤسسات الأمنية والعسكرية.

لقاء طويل بين مبارك ورود لارسن

وصف الناطق باسم الأمين العام للامم المتحدة لقاء طويلاً جرى امس بين الرئيس المصري حسني مبارك والمبعوث الدولي لمراقبة تنفيذ القرار 1559 تيري رود لارسن بأنه «اجتماع مفيد ومثمر راجعا فيه كل القضايا ذات العلاقة بتنفيذ القرار 1559 والإطار السياسي الأوسع».

وقال الناطق ستيفان دوجاريك ان مبارك ورود لارسن «اختليا لفترة طويلة» وان الرئيس المصري أطلع المبعوث الخاص على «آخر الاتصالات التي اجراها مع قادة المنطقة». وأضاف انهما «اتفقا على متابعة الاتصالات عن كثب». وافاد الناطق بأن رود لارسن اجرى اتصالاً هاتفياً مع رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة وانهما «تبادلا الآراء في التطورات الأخيرة».

وكان رود لارسن اجتمع أول من أمس مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس «وبحثا في تنفيذ العناصر ذات الصلة من القرار 1559» في اشارة الى العناصر الفلسطينية الموجودة في لبنان خصوصاً المسلحة والتي لها ميليشيات. ويطالب القرار 1559 بتجريد كل الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية من السلاح. وأوضح الناطق ان الرئيس الفلسطيني عبر عن «كامل دعمه للولاية المنوطة برود لارسن وكذلك للتنفيذ التام والكامل لجميع عناصر القرار».