واشنطن والبربرية المعاصرة: مباركة في فلسطين، وتواطؤ في سورية

٢٠٠٦-٠٦-٣٠

واشنطن والبربرية المعاصرة: مباركة في فلسطين، وتواطؤ في سورية

صبحي حديدي

خاص – صفحات سورية -

قدّر الله ولطف، فلم يطلق الرئيس الفلسطيني محمود عباس صفة "الحقيرة" على عملية كرم سالم التي نفّذها ببراعة بطولية ناشطون من المقاومة الفلسطينية، وأسفرت عن مقتل ثلاثة جنود إسرائيليين وأسر رابع. لكنّ عباس لم يستخدم الصفة ذاتها في وصف عملية "أمطار الصيف" التي تنفّذها قوّات الإحتلال الإسرائيلية ـ على نحو فاشيّ بربري همجي صريح ـ ضدّ غزّة ورفح، بل اكتفى سيادته بتوصيفها هكذا: "بمثابة عقاب جماعي" للفلسطينيين! والمرء لا يملك الإفلات من إغواء التوقف عند مفردة الـ "بمثابة" هذه، وكأنّ عباس يتردد حتى في التبنّي التامّ لصفة العقاب الجماعي في العملية الإسرائيلية، فيحيل المضمون إلى مستوى الإنابة والمثابة بدل الصراحة والفصاحة.

ولا يبزّ عباس في هذا التلفيق الركيك سوى أحد جهابذة الإعلام الرسمي السوري، تعليقاً على تحليق أربع مقاتلات إسرائيلية فوق القصر الرئاسي في اللاذقية: لم يتجاسر الصهاينة على اختراق أجواء دمشق الحصينة، ففرّوا إلى الساحل! والحال أنّ العبقري هذا تناسى، أو لعلّه بالفعل كان يجهل تماماً، أنّ الصهاينة هؤلاء ذهبوا إلى اللاذقية ليس خشية من المقاتلات السورية في أجواء دمشق، بل ببساطة لأنّ بشار الأسد كان ساعتئذ في قصر اللاذقية وليس في قصر دمشق. ومن جانب آخر، يصحّ القول إنّ الصهاينة لم يخترقوا أجواء البلد (اللاذقية أو دمشق... ما الفرق، بمعنى السيادة الوطنية؟) فحسب، بل اخترقوا أمن الرئاسة حين علموا أنه في الساعة كذا من اليوم كيت، سوف يكون الأسد في اللاذقية وليس في دمشق!

وبين العقاب الجماعي الذي يخضع له الفلسطينيون في ظلّ الإحتلال الإسرائيلي، والعقاب الجماعي الذي يخضع له السوريون على يد نظام الإستبداد والمافيا العائلية، ثمة ما يشبه الإباحية السياسية التي تمارسها الولايات المتحدة الأمريكية في موقفها من حكومة "حماس" ونظام بشار الأسد في آن معاً. واشنطن تقول ضمناً إنّ حلّ قضية الجندي الإسرائيلي المخطوف كامن في دمشق حيث يقيم خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس"، أو تقوله صراحة كما حين يعتبر السفير الأمريكي في إسرائيل ريشارد جونز أنّ "المشكلة في دمشق، وأعتقد أن انتباه العالم يجب أن يتحول إلى العاصمة السورية".

ولكنها واشنطن ذاتها التي رضخت، وتواصل الرضوخ، لشتى الضغوط الإسرائيلية المباشرة (عن طريق رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرييل شارون، وخليفته اليوم إيهود أولمرت) وغير المباشرة (عن طريق مختلف مجموعات اللوبي اليهودية ـ الصهيونية في أمريكا)، المطالبة بتخفيف الضغوط عن نظام بشار الأسد، او ممارسة ضغط رفع الكلفة وحده، أو أيّ ضغط خفيف يُبقيه بين المطرقة والسنديان، ولكنه لا يذهب بالنظام وآل النظام إلى حافة الهاوية. واشنطن تعلم، علم تل أبيب أو حتى أكثر منها، أنّ آخر أوراق النظام القابلة للمقايضة كانت ضبط الحدود السورية ـ العراقية، وأنّ الصفقة في هذه المتاجرة عُقدت بالفعل حين رضخ النظام، وقبض الثمن عشية تقرير ديتليف ميليس الثاني، والتعهد السعودي ـ المصري بضمان حسن سلوك النظام ستة أشهر أخرى.

ومن الجلي أنّ وجود أمثال خالد مشعل من قيادات "حماس"، دع جانباً أحمد جبريل وسواه من القيادات الفلسطينية المنضوية تحت راية النظام السوري، لا يشكّل عند واشنطن أيّ قلق ذي طبيعة جادّة أو عاجلة او استراتيجية تستدعي عقد صفقة مع دمشق، وذلك رغم أنّ هذا التفصيل يمنح البيت الأبيض مادّة صالحة للمماحكة اللفظية والابتزاز الديماغوجي. وبهذا المعنى، وفي الجوهر أوّلاً، يُقرأ تصريح الناطق باسم وزارة الخارجية الأمريكية آدم آيرلي، حول أسف واشنطن من أنّ دمشق لا "تتصرّف بمسؤولية" في اتخاذ "إجراءات فعالة ضدّ الإرهاب". لغة دبلوماسية مهذّبة بالطبع، وما يشدّد نبرة التهذيب فيها أنّ واشنطن، مثل تل أبيب، على يقين تامّ من أنّ العناصر والكوادر والقيادات على الأرض، وليس البتة في دمشق أو بيروت، هي صانعة الخطّ السياسيّ والسياسات، والأهمّ من ذلك بالطبع أنها الوحدات المقاوِمة ومنفّذة العمليات النوعية، من طراز نفق كرم سالم.

والحال أنّ رجال البيت الابيض، وربما منذ برهة الاحتكاك الأبكر مع حافظ الأسد في السنوات الأولى من توليه السلطة، أدركوا طبيعة الشطرنج السياسي الذي أداره النظام السوري مع واشنطن وتل أبيب (أو حتى مع جارة مثل تركيا عبر أكراد الـ PKK وعبد الله أوجلان) من وراء استضافة هذه المنظمة أو تلك، في هذا الطور أو ذاك. كان ذلك الشطرنج يشمل المحيط الإقليمي أيضاً، العراق والدول الخليجية والأردن، فضلاً عن منظمة التحرير الفلسطينية والرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات شخصياً. وكان ذلك الشطرنج، ويظلّ اليوم أيضاً، قائماً على قواعد لعب مكشوفة مفضوحة، ردئية إجمالاً وإنْ كانت لا تُسقط عن الشطرنج سمة اللعب ذاته، من حيث المناورة والكرّ والفرّ والخسارة والربح...

ولهذا فإنّ تحليق القاذفات الإسرائيلية فوق القصر الرئاسي في اللاذقية، حين كان الأسد مقيماً فيه تحديداً، أي في برهة منتقاة بعناية من حيث طبيعة الرسالة المشفّرة طيّ هدير الطائرات، ليس تصعيداً مع النظام السوري على أيّ وجه: لا في المستوى العسكري، ولا في السياسي، ولا حتى في مستوى المساس بالقواعد التي وضعها شارون حين قصفت الدولة العبرية موقع عين الصاحب، شمال غرب العاصمة السورية، بتاريخ 5/10/2003. لكنه تذكرة صاخبة بعض الشيء، لكي لا نقول إنها تنبيه غليظ، حول عواقب أيّ سلوك عاقّ إزاء خدمات التي أسدتها إسرائيل إلى النظام مؤخراً، بل طيلة حقبة ما بعد اغتيال رفيق الحريري، من جانب أوّل. والتحليق، من جانب ثانٍ، إنذار بأنّ الخروج الجدّي عن القواعد الديماغوجية لهذا الشطرنج بالذات، سوف يقلب الرقعة رأساً على عقب!

وفي نهاية الأمر، كان الناظم لعلاقات القوّة بين نظام حافظ الأسد وإسرائيل ينطوي على أيّ نسق آخر باستثناء "حال العداء" أو "حال الحرب"، والتاريخ المعاصر يبرهن بقوّة على أمر كهذا: منذ عام 1973، حين وافق النظام على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 338، واعترف عملياً وحقوقياً بأنّ الدولة العبرية جزء لا يتجزأ من تكوين المنطقة ومن نظام الشرق الأوسط السياسي والجغرافي؛ والعام 1974، إثر توقيع "اتفاقية سعسع" وإدخال نظام الفصل بين القوّات، الذي تكفّل أن لا تُطلق في هضبة الجولان طلقة واحدة تشي بانهيار السلام التعاقدي المبرم؛ والعام 1976، حين أيّد النظام قراراً لمجلس الأمن الدولي يدعو إسرائيل إلى الإنسحاب من الأراضي العربية المحتلة، مقابل "ضمانات حول سيادة، ووحدة أراضي، واستقلال جميع الدول في المنطقة"، و"الإعتراف بحقّ هذه الدول في العيش بسلام داخل حدود آمنة معترف بها"؛ ثمّ العام 1980، حين اعتمد النظام مبادرة الملك فهد وخطّة الجامعة العربية التي اعترفت عملياً بحقّ إسرائيل في الوجود (رغم أنّ ذلك الإعتراف لم يرضِ الدولة العبرية آنذاك!)...

السنوات، والتواريخ اللاحقة (منذ الصمت العسكري السوري على اجتياح بيروت، إلى المشاركة في تحالف "حفر الباطن"، ثمّ مؤتمر مدريد، وحوارات شبردزتاون بين رئيس الأركان السوري الأسبق حكمت الشهابي مع الجنرال أمنون ليفكين شاحاك وإيهود باراك، ومحادثات هذا الأخير مع فاروق الشرع في واشنطن، ولقاء جنيف بين حافظ الأسد ـ بيل كلينتون، وحوارات ماهر الأسد السرّية في العاصمة الاردنية عمّان، والمصافحة الفاتيكانية "التاريخية" بين بشار الأسد وموشيه كتساف...)، لم تكن اقلّ احتشاداً بكلّ ما يدلّ على أنّ الناظم الحقيقي هو التالي ببساطة: ثمة في إجماليّ سياسات هذا النظام، بل في طبيعته الإستبدادية العائلية المافيوزية، كلّ ما يخدم الدولة العبرية، أي كلّ ما يرضي واشنطن استطراداً!

وفي ما يخصّ الشطر الفلسطيني من الإباحية السياسية الأمريكية، أي التحريض المباشر ضدّ حكومة "حماس" الشرعية تماماً والقادمة بإرادة الشعب وبقوّة صندوق الإقتراع، فإنّ واشنطن لا تكيل بمكيال احترام الديمقراطية الفلسطينة (لكي لا نقول: امتداحها، كواحدة من أرقى التجارب الديمقراطية المعاصرة)، بل تذهب إلى المكيال الآخر الزائف الذي ينهض على شكوى وقحة من أنّ الشارع الفلسطيني جاء بحكومة لا ترضى عنها واشنطن، أو بالأحرى: لم ينتخب الحكومة التي تُرضي واشنطن! هذا، استطراداً، شعب مدان محكوم عليه بسخط واشنطن في كلّ حال، سواء أصلح مؤسساته أم أبقاها على حالها، وبقي على تشدده أم جنح إلى الإعتدال. وفي هذا المكيال يستوي مع الفلسطينيين كلّ ما يجعل منهم بشراً من لحم ودم: الجسور، ومحطات الكهرباء، والحقول، والبيارات، وشواطىء البحر، والرمال على الشواطىء!

وذات يوم غير بعيد برّر جيمس كنينغهام، كبير مندوبي الولايات المتحدة في مجلس الأمن الدولي آنذاك، لجوء واشنطن إلى استخدام حقّ النقض ضدّ مشروع قرار يدعو إلى إنشاء قوّة دولية لحماية الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، على النحو التالي: "إنه قرار يستجيب للمسرح السياسي أكثر ممّا يستجيب للواقع السياسي"، و"الولايات المتحدة تعارض هذا القرار لأنه غير متوازن وغير قابل للتنفيذ، وبالتالي ليس من الحكمة اتخاذه". المسرح الذي كان مشروع القرار يستجيب له لم يكن سوى مدن وبلدات وقرى فلسطين المحتلة، ومادّة المسرح كانت عشرات ومئات الفلسطينيين الذين سقطوا ويسقطون كلّ يوم جرّاء القبضة الدامية الدموية التي يعتمدها الإحتلال. وأمّا ديكور المسرح فقد كان الحواجز العسكرية الإسرائيلية، والخنادق العازلة بين البشر والبشر والبلدة والبلدة (والتي تذكّر جيّداً بمزيج من خنادق الصليبيين وخنادق أوشفيتز!)، والأراضي التي يتمّ تجريفها من الزرع والضرع، وجثث أشجار الزيتون واللوز والبرتقال. كلّ ذاك "المسرح" لم يشكّل في نظر المندوب الأمريكي مادّة صالحة لصناعة "واقع سياسي"... كلّ ذلك المسرح العنيف الدامي!

هل يمكن لأيّ واقع، أيّاً كانت عناصره المجسّمة البارزة النافرة دماً ودماراً، أن يُوضع في خدمة الولايات المتحدة لكي تطوي بطاقة النقض وتوافق أو في الأقلّ تمتنع عن التصويت على قرار من أيّ نوع، يحمي هذا النوع البشري الذي يُدعى "الفلسطيني"، الأعزل وليس المسلّح، المرأة وليس الرجل، الطفل وليس الراشد؟ الجواب هو النفي، والنفي وحده: ليس ثمة ايّ واقع آخر، البتة، يمكن أن يجعل واشنطن لا تتفهم تماماً هذه البربرية الإسرائيلية، بدليل الطرب الأمريكي اليوم تجاه عملية "أمطار الصيف" الإسرائيلية.

ذلك لأنّ هذه العربدة في إدارة العلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية على حساب الحقّ البسيط للشعوب في فلسطين كما في سورية، وعلى نقيض من القانون الأبسط الذي يحكم المجتمع الدولي، لها في البيت الأبيض فلسفتها المتكاملة. وحين أفشلت واشنطن مشروع قرار حماية الفلسطينيين، كانت في الآن ذاته تضرب عرض الحائط بتقرير وتقديرات أعضاء لجنة تقصّي الحقائق التي انتدبتها الأمم المتحدة لدراسة أوضاع البشر على الأرض، في فلسطين المحتلة. آنذاك لم يكتفِ عضو اللجنة، الأمريكي ريشارد فولك، بمشاطرة زملائه قسطهم من الإحباط إزاء الفيتو الأمريكي، بل ذهب أبعد حين اتهم عاصمة بلاده بـ "الفشل في أداء واجبها القانوني والأخلاقي".

... ولكن النجاح في الدعم الإباحيّ المطلق لكلّ ما تنطوي عليه ممارسات الدولة العبرية من بربرية معاصرة ضدّ الشعب الفلسطيني، والصمت شبه المطبق أو التأييد الضمني لما يرتكبه نظام الإستبداد في دمشق من جرائم بحقّ الشعب السوري.

تفكيك الخوف السياسي

تفكيك الخوف السياسي

عمر كوش

لا يأتي الخوف من فراغ. بل هناك مشكلة ما في مكان ما تجعلتنا نخاف. ولا شكّ في أن الخوف السياسي سببه الاستبداد والطغيان، وينشأ نتيجة مشاكل بنيوية داخل الدولة ونظام الحكم قبل كل شيء. وحل مشكلة هذا الخوف لا تتم إلا عبر حلّ أسبابه، عبر العمل للوصول إلى مجتمع ديموقراطي، لا يكون فيه الخوف أساس أي نقاش سياسي، ولا يكون كذلك أساس أي نقاش ديني أو أخلاقي، وأن تكون الديموقراطية والحرية هما أساس أي نقاش، وأن تكون المساواة والعدل أساس التعامل مع الأفراد والجماعات. وأن لا تتم معالجة أي مشكلة وكأنها مواجهة بين طرفين تحولها الى سباق بين منتصر ومنهزم.
في كتابه مقالة في العبودية المختارة (ترجمة مصطفى صفوان، منشورات الجمل، 2005) يفكك إتين لابويسيه العلاقة الجدلية ما بين الاستبداد والعبودية، ويحتفظ براهنية منقطعة النظير بالرغم من انقضاء ما يقارب خمسة قرون على زمن كتابته، لكنها راهنية عربية على وجه الخصوص. وكأن النص كُتب كي يحلل معرفياً تركيبة أنظمتنا السياسية الراهنة وظاهرة الخوف السياسي في معظم بلداننا العربية.
ويعتبر النص مثالاً على النصوص المفتوحة على الزمان والمكان، وبما يجعله طازجاً حتى في أيامنا هذه، والسبب في ذلك هو استناده إلى منهجية تحليل نقدي تطاول بنية الاستبداد وعلاقاته البينية، عبر الحفر في طبقات معرفية متعددة، والغوص عميقاً في طبقات اللاوعي الجمعي بغية الوصول إلى تحليل طبيعة الخوف والخنوع، والعلاقة ما بين الاستبداد والعبودية.
وينظر لابويسيه إلى الجدل حول ما إذا كانت الحرية حقاً طبيعياً أم لا، بوصفه تحصيلاً للحاصل ما دمنا لا نسترق كائناً دون أن نلحق الأذى به، وما دام الغبن أكره الأشياء إلى الطبيعة التي هي مستودع العقل. إذاً يبقى أن الحرية شيء طبيعي، ويبقى بهذا عينه أننا لا نولد أحراراً وحسب، بل نحن أيضاً مفطورون على محبة الذود عن الحرية. لذلك طالما بقي بالإنسان أثر من الإنسان فهو يقيناً لا ينساق إلى العبودية إلا بواسطة أحد سبيلين: إما مكروهاً أو مخدوعاً.
تحليل لابويسيه للعبودية يستند إلى مسألتي الإكراه والخديعة، والتاريخ الإنساني حافل بالأمثلة، إذ كثيرة هي الشعوب التي استمرأت عبوديتها، ماضياً وحاضراً، ووصل الخوف فيها إلى درجة الاستلاب، وفقدت ليس فقط حريتها، بل القدرة على الاستيقاظ لاستردادها، حتى ليهيأ لمن يراها أنها لم تخسر حريتها بل كسبت عبوديتها. ويمكن أن ننهل من الواقع العربي المعاصر أمثلة عديدة على ذلك، حيث تعددت صور الخنوع والعبودية للطغاة، الذين تعددت أوصافهم وثقلت ألقابهم من القائد الملهم والقائد الضرورة والقائد الخالد والأب القائد !
أصناف الطغاة
طبعاً، يتحدث لابويسيه عن أصناف الطغاة في عصره، ذلك العصر الذي لم يشهد مرحلة الانقلابات والحركات العسكرية التي شهدتها بلداننا العربية، والتي جاءت بالعسكر إلى السلطة في فترة الاستقلال الوطني، ولم يغادروها حتى يومنا هذا، بعد أن تحولوا إلى طغاة ومستبدين ليس لهم نظير في عالم اليوم. لكنه يستدرك بنبهاهة حين يقول اني أرى بعضاً من الاختلاف بين الطغاة ولكني لا أرى اختياراً بينهم، لأن الطرق التي يستولون بها على زمام الحكم تتعدد، ولكن أسلوب الحكم لا يكاد يختلف.
غير أن منطلق لابويسيه هو منطلق يستند إلى فلسفة القانون، ينحاز إلى الأخذ بالمفهوم الطبيعي للحق، ربما لأنه كان رجل قانون، لكن ما الذي يجعل فرداً واحداً يستفرد بحكم كل شيء يخص الجماعة؟ ثم كيف يمكن للجماعة أن تحتمل طاغية لا يملك من السلطان إلا ما أعطوه ولا قدرة له على الأذى إلا بقدر احتمالهم منه، ولا كان يستطيع إنزال الشر بهم لولا إيثارهم الصبر عليه بدل مواجهته؟
هذه الأسئلة تأخذ وجهتها إلى منطقة الضعف في النفس البشرية، بوصفها المنطقة التي تحبل بالطاغية فينا، ذلك أن ضعفنا وخوفنا كثيراً ما يفرضان علينا طاعة القوة ونحن محتاجون إلى وضع الرجاء في الإرجاء ما دمنا لا نملك دائماً أن نكون الأقوى، وهو أمر تشهد عليه لحظات عديدة من التاريخ العربي الإسلامي، تلك التي تندرج تحت مسميات الانحطاط والتخلف والجهل، بوصفها النموذج المعبّر عن العبودية المختارة، والتي اتسمت بالهروب الجماعي إلى وضع الرجاء في الإرجاء، حتى ساد الخوف والخنوع، وتحجرت الههم، وتحول الناس إلى حراس عبوديتهم. وفي هذا السياق يلحّ السؤال حول كيفية تحول المقهورين إلى حالة من السعادة في خدمة قاهرهم، حيث نراهم يتحملون السلب والنهب وضروب القمع والقسوة، لا من جيش غاز، ولا من عسكر أجنبي ينبغي الذود عن حياتهم ضده، بل من واحد لا هو بهرقل ولا شمشون، بل خنث، هو في معظم الأحيان أجبن مَنْ في الأمة وأكثرهم تأنثاً. وهو سؤال يشير، في الجوهر، إلى الملوك القدامى الرافلين في الحرير وقد أثملتهم السلطة المطلقة حتى أدمنوا العزلة بحيث لم يبق لهم إلا التخنث في ذاتهم، لكنه يطال في العمق سيكالوجية كل طاغية ومستبد على مرّ العصور.
وكما هو ملاحظ فإن لابويسيه يشخص الطاغية في فرديته، ولا يلتفت إلى الطاغية بوصفه صناعة أو نتاجاً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، لذلك يركز بشكل مكثف على معطيات الطغيان في صورة الطاغية بذاته، بغية معاينة بنية الطغيان في صورة الفرد. ويختار نماذجه من طغاة الشرق القديم مروراً بطغاة الإغريق والرومان لرسم صورة الطاغية التاريخي، ثم يخاطب الجماعة المقهور بأسئلته: من أين له: العيون التي يتبصص بها عليكم إن لم تقرضوه إياها؟ وكيف له بالأكف التي بها يصفعكم إن لم يستمدها منكم؟ ومن أين له بالأقدام التي يدوسكم بها إن لم تكن من أقدامكم؟ كيف يقوى عليكم إن لم يقو بكم؟ كيف يجرؤ على مهاجمتكم لولا تواطؤكم معه.
ومع استمرار حالة العبودية، يتحول الخوف من الطاغية إلى ثقافة تسود المجتمع، ويستمر المحكومون في عبوديتهم التي تلسبهم في أدق تفاصيل حياتهم، ويستسلم المقهور لقهره، ويقرّ بعجزه ودونيته، فلا يجد أمنه وسلامته إلا في الخضوع والاستكانة، ويتوسل الذل والنفاق والرشوة في تصريف حاجاته الحياتية اليومية، ويخضع لسطوة تمثلات الطاغية المستنسخة في أجهزة الاستخبارات والشرطة ورجال الحزب الحاكم ورؤساء إدارات الدولة ورجال الدين ومشايخة العشائر..الخ. وعليه فإن الطاغية يستقوي بخنوع الجموع. يتلذذ بانقيادهم له. فيوظفهم كأشياء لا ذوات لها، مقولبة لخدمة خياله الشخصي المريض ولتغذية جنون عظامه الذي لا يرتوي، بمزيد من الانسحاق في ذاته الكلية، وقد انقطع عنده كل شعور عاطفي يربطه بالإنسانية، وهو شرط شارط لممارسة الطغيان المطلق، الذي يجعل من الخوف المعنى الوحيد لممارسة السياسة، وبالتالي تصبح الحرية وحدها هي ما لا يرغب الناس فيها لا لسبب في ما يبدو إلا لأنهم لو رغبوا فيها لنالوها، حتى لكأنهم إنما يرفضون هذا الكسب الجميل لفرط سهولته.
لكن الأمور ليست هي ذاتها مع طغاتنا يا عزيزي لابويسيه، فقد حوّل طغاة أنظمة الحكم الاستخباراتي والعسكري المواطنين في بلداننا العربية إلى كتلة صماء من الرعاع الخانعين، الذين ليس لهم أن يتفوهوا إلا ما تقوله السلطات، وليس لهم إلا السمع والطاعة وترداد شعار بالروح بالدم نفديك يا... وبعد كل هذا هل يمكن اتباع وصفتك للخلاص من الطغاة، حيث لا يحتاج المقهور إلى انتزاع شيء من الطاغية بل يكفي الامتناع عن إعطائه، أي هل تكفي المعارضة السلبية سبيلاً إلى الخلاص من المستبد؟ أو هل يمكن الاكتفاء بممارسة اللامبالاة عبر الامتناع عن العطاء بالقدر الذي لا يؤدي إلى دفع الفرد لحياته ثمناً لموقفه؟.. هل من مجيب؟
سنوات الخوف العراقي
وفي كتاب سنوات مع الخوف العراقي (دار الساقي، بيروت، 2004) تختلط ذكريات هاديا سعيد، مؤلفة الكتاب، في العراق مع عوالم كافكا وأحاسيس بولغاغوف. ونقرأ فيه عن الخوف والقهر، وعن عذابات وأوجاع أناس تعساء، وعن أحاسيس موحشة وضرب من اللامعقول.
وتتذكر هذه السيدة البيروتية سنوات بقائها في العراق مع زوجها في فترة عهد الرئيس احمد حسن البكر ونائبه صدام حسين. وقد مرّت بمثل هذه التجربة القاسية، حيث تقول: لقد كنت أحد الذين عاشوا نوعاً مخففا من الخوف داخل الجمهورية وخارجها مع أني لست عراقية، فهل هو الشعار الخفي بأنها أمة عربية واحدة في الخوف والقهر؟ لكن من يقول لي إن ما حدث في العراق يحدث في كثير من البلدان العربية، سأظل أقول له: لا وأكررها لا لا لا، فقد عشت في أكثر من بلد عربي وعرفت ووعيت معنى الحدود والرقابة والتضييق، لكن عهود العراق دموية وفجة ومريعة، فليس هناك بلد عاش كل من فيه خراب النفس والذرية والارث كما عاشته بيوت بغداد، وليس هناك بلد أبيحت فيه كميات من الدماء وعدد من الرقاب والاوصال المقطوعة كما حدث في العراق، وليس هناك بلد عرف قهر الخوف وذل الصمت مثل العراق.
وفي الذكريات حييت عن معنى الخوف في العراق وكيف تستوطن كلمة الخوف بكل ما تحمله من معنى في أعماق النفس وتطاول القلوب. إنه خوف تحّول بدوره في النفس من غريزي فطري إزاء الخطر الى خوف إزاء كل لحظة وكل سؤال وكل كلمة وكل عبارة! وتطور الخوف في القلوب العراقية من حالة طبيعية الى هستيريا مرعبة حتى غدا الخوف أصنافاً عدة: الخوف من أن تفهم خطأ، والخوف من أن لا تفسّر كلمة أو عبارة بغير المعنى الذي أردت استخدامه والتوصّل اليه! والخوف من أن يودي مزاج متعّكر لأحدهم ضد ما تفّكر فيه! والخوف من عيون مراوغة مخادعة تراقب، والخوف من شوارب سوداء كثّة تتحرك ويعلوها الغبار! والخوف من سؤال تسأله أي سؤال، والخوف المزدوج عن جواب تقوله على ذاك السؤال! والخوف من جواب على سؤال يقتحمك شئت أم أبيت! والخوف من رجفة أو تردد أو اعتذار! خوف صنع عالماً من الرعب في الدواخل الهشة إزاء جبروت أزلام السلطة ورجال الامن والمخابرات.
وقد سبّب هذا العالم من الرعب المرّكب تصدّعاً كبيرا في البنية القيمية والنوازع الاخلاقية في عموم المجتمع العراقي. وجعل العشرات من المثقفين والأكاديميين والمهنيين والمختصين والمحترفين العراقيين يهاجرون صوب المجهول. ربما ليس بالضرورة لأسباب سياسية، بل بدواعي الرعب الذي كان يحمله المستقلون والمعارضون.
ووصل الخوف أبعاده القصوى عندما كانت تطلق تهم العمالة والخيانة والرجعية والبورجوازية العفنة. وكان الناس يخافون الستر على سمعتهم وعلى رزقهم، فيما كانت الحرب الإعلامية ضارية ضد الرأسمالية العالمية والامبريالية والرجعية. وكان الجميع يخاف من أن يذهب ضحية مؤامرات تافهة أو ضحية تقارير سرية ترفع ضدهم من مأجور أو مرتزق أو حاقد. ووصلت درجة الخوف إلى حدّ ما وصفته المؤلفة بالخوف الآخر: أن تطل من فوق جبل الى هاوية.
ويتحدث حكم البابا في كتاب في الخوف (دار كنعان، دمشق، 2005) عن تجربته التي عاشها في الإعلام السوري. ويعد كتابه كتاباً في الخوف بامتياز: الخوف الذي انتابه أثناء كتابة المقال، والخوف الذي شعَرَ به يوم نشَرَ المقال وانتظار ردة الفعل، والخوف يوم وصول الاستدعاء لمراجعة فرع المخابرات من أجل المقال، والخوف خلال وجوده داخل بناء المخابرات وخضوعه للتحقيق مع الهواجس المختلفة التي يستدعيها، ثم الخوف الذي تولده التجربة وتتركه في النفس بعد انتهائها.
وبقدر ما يتحدث النص عمّا هو شخصي بقدر ينحو إلى العام، إذ تتداخل فيه سيرة المهنة بمعاناة من عاشها، ويقدم صورة عن الظروف غير العادية التي عمل ويعمل بها الصحافي السوري خلال سنوات من الرقابة والطمس والإلغاء. وفيه نلمس محاولته الجادة والخطرة لرفع السقف لتجاوز الخطوط الحمراء، والتأكيد على اقتلاع أنياب النقد والتفكير والعقل لصالح حشد من الصحافيين الانكشاريين، كما يسميهم، مغسولي الأدمغة، الذين ضخوا في الجسد الصحافي والإعلامي واستخدموا كشهود زور وبواقين ومروجي فساد واستبداد.
ويتحدث الكتاب عن حشد من الموظفين العقائديين الذين عينوا بصفة صحافيين على الصحف السورية، وانتشروا بشكل سرطاني، وظهر معهم الفساد المالي والأخلاقي، حيث أصبح شراء الذمم لا يقتصر على الراتب الوظيفي للصحافي والخوف من المجهول داخل الأقبية المعتمة، بل تعداه إلى فساد حقيقي ومخيف، قوامه إرضاء النظام لا إرضاء القارئ الذي ردّ بالانكفاء عن قراءة الصحف.
تعطي النصوص الثلاثة فكرة واسعة عن الخوف السياسي، وتقطع بأن سببه هو الاستبداد والطغيان، اللذين حولا مجتمعاتنا إلى ما يشبه مجتمعات عبودية مفروض عليها الخوف وليست مختارة له، والسؤال الذي نطرحه في هذا السياق هو: ما السبيل إلى الخلاص من ظاهرة الخوف وثقافة الخوف ومركبات الخوف؟ أليس التغيير الديموقراطي ضرورة للخلاص من الخوف؟

حوار مع نائب دمشق وأحد معتقلي ربيعها مأمون الحمصي

حوار مع نائب دمشق وأحد معتقلي ربيعها مأمون الحمصي

لا يستطيع من يلتقي نائب دمشق السابق وأحد معتقلي ربيعها محمد مأمون الحمصي إلا أن يعجب بعزيمة وصلابة مواقفه، فلم تفت السنوات الخمس التي قضاها خلف القضبان من عضد الرجل أو تجعله يتزحزح قيد أنملة عن أفكاره، بل إن خروجه مؤخراً من سوريا، والذي وصفه بالاضطراري، نتيجة تصاعد حملات الاعتقال التي طالت الأحرار الشرفاء- كما يصر على تسميتهم- من موقعي إعلان دمشق-بيروت بيروت-دمشق، زاده ثباتا وعزما على المضي في حمل رسالة الحرية إلى بقاع الدنيا، غامزا من قناة المجتمع الدولي، مستنهضا قواه الحية لمساندة الشعب السوري في مأساته التي يؤكد الحمصي أنها هائلة .

و لأنه واحد من صناع ربيع دمشق المغدور، و قطب من أقطاب الحراك السياسي المعارض في سوريا، ولأن خروجه المفاجئ من وطنه طرح علامات استفهام عديدة، فقد حرص "الشفاف" على لقائه..

لنبدأ بظروف خروجك من سوريا ؟

كان خروجي نتيجة التصعيد الأمني الذي قام به النظام، واعتقاله كبار رجال الفكر والسياسة وحقوق الإنسان في سورية، بذريعة أنهم وقعوا بيان دمشق- بيروت، هذا الاعتقال الذي تم بشكل مهين و بطريقة إذلالية متعمدة، و على الملأ من الناس ومرأى من رجال الديبلوماسية، ودون مراعاة لمكانة المعتقلين وقيمتهم في حقول الفكر والسياسة، هذا الاعتقال الذي شمل الكاتب الكبير ميشيل كيلو والمحامي الأستاذ أنور البني ورفاقهما من قادة الرأي في البلاد. وقد توقعت بطبيعة الحال أن يشملني الاعتقال كوني أحد الموقعين على البيان المذكور، وكنت متواجدا طوال فترة التحقيق مع الكثير من الإخوة في المعارضة وكوكبة من أفاضل المحامين إلى جانب المعتقلين لما يقارب أسبوعاً، لم يخرجني الخوف من العودة إلى السجن، لكنني وجدت بعد تجربة طويلة في العمل السياسي منذ بدأت رفع لواء الإصلاح مع العديد من زملائي في مجلس الشعب وخارجه من أجل إنقاذ الوطن، وإعادة ما أمكن من الحقوق المسلوبة إلى الشعب السوري، وبعد أن منيت مبادراتنا ومناشداتنا بالإخفاق، ووجدنا أنفسنا في صفوف إخوتنا في المعارضة، الذين كان وقوفهم إلى جانبنا في ربيع دمشق مشرفا وباعثا للعزيمة، أدركت بعد اصطدامنا بتعنت النظام ورفضه كل نداءات الإصلاح، والصرخات المتوالية الداخلية والخارجية لإطلاق سراح سجناء الرأي والضمير، أدركت أن من واجبي أن أزور العالم و برلماناته الحرة لإيصال رسالة الشعب السوري، حاضاً على ممارسة مسؤولة من قبل المجتمع الدولي تجاه ما يتعرض له الإنسان السوري، أعني ممارسة تتجاوز الاستنكار و المناشدة والتوسل للإفراج عن السجناء، فهذه العناوين لم تعد مجدية أمام تعنت النظام الذي خرق كل المعاهدات والمواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، بل إنه خرق دستور البلاد الذي تتعارض مبادئه مع ذهنية الاعتقال السياسي، رغم أن هذا الدستور بالطبع وضع ضمن حاضنة حالة الطوارئ ولا يستطيع بكل تأكيد أن يلبي رغبات الشعب السوري، إلا أن النظام لم يتورع عن خرق الهامش الضيق للحرية والذي أتاحه الدستور، لقد عمق النظام مأساتنا وأصبحنا لا ندري هل يتحدى بسلوكه هذا الشعب السوري؟ أم يتجاوز إلى تحدي المجتمع الدولي وطرح بسلوكه هذا أسئلة أهم من قبيل، هل ستخضع حقوق السوريين في الحرية والديموقراطية والعدالة لصفقات ضيقة بين النظام والمجتمع الدولي؟ أليس في نية المجتمع الدولي أن يعمل قدما على ضمان أن يتكاتف البشر ليدرؤوا خطر التطرف والكراهية المنبعث من مكونات عديدة أهمها حالة الاستبداد التي تهدد الجميع بالشقاء؟؟

كيف وجدت الوضع الاقتصادي و السياسي و الأمني في سوريا في الفترة الفاصلة بين خروجك من السجن و خروجك من البلاد ؟

بعد خروجي من السجن الذي قضيت فيه ما يقارب خمس سنوات، لحظت ازدياداً كبيراً في ممارسات الفساد، وتجاهلا متنامياً لحالة الفقر التي أضنت كثيرا من السوريين، بل إن الاقتصاد السوري صار ملكاً حصرياًّ لأشخاص محدودين على حساب الأكثرية الساحقة، وراقبت بحزن ارتباط تزايد البطش والقمع وإرهاب الناس بازدياد ضعف النظام سياسياًّ واجتماعياًّ .

وكيف تقيم الآن فترة سجنك ؟

كان لي الشرف بأن أسجن ولطالما اعتبرت رحلتي طريقاً أوحد لأمثل من انتخبني من أبناء الشعب بصدق، إذ حرصت على إيصال نداءاتهم وهمومهم تحت قبة البرلمان على مدار عشر سنوات و لثلاث دورات تشريعية. مثَّل لي هذا رسالة ً معجونة ً بآلام الناس ومعاناتهم ولم يكن لي خيار إلا التصميم على إيصال هذه الرسالة مهما كلف الأمر، ومنذ كنت في البداية مصمِّماً على إيصالها إلى الدولة والنظام، ولكنني و بعد محاولاتٍ دؤوبةٍ استهلكت زمنا غير يسير، عرفت أن واجبي يتجاوز إيصالها إلى الدولة و النظام، وأنه يقتضي أن أوصلها إلى العالم ، ولقد بعث هذا فيَّ قوة وعزماً دفعاني إلى عدم التراجع، وقبول التضحية التي تقل كثيراً عن تضحيات كثير من السوريين الشرفاء بسنوات طويلة من أعمارهم.

صرح زميلك النائب السابق رياض سيف بعد إطلاق سراحه أن المرحلة لم تعد تحتمل شعار الإصلاح وأن المطلب هو التغيير، ما الذي جعل الإصلاح متعذراً؟ والتغيير مطلباً؟

تراكمت أخطاء النظام حتى صار الأمر معقداً و تسامح المجتمع الدولي مع أنظمة استباحت شعوبها وجنت ثروات طائلة من عرق الناس دون رادع أو حساب فازداد التعقيد تعقيداً، وبدا أنه لا بد من تعاون فعال يأخذ بيد الأوطان المستباحة إلى شاطئ الأمان، وأن إنقاذ سورية وبناءها بشكل صحيح يجنبها المخاطر المحدقة التي أوجدها نظام الاستبداد على أرض الواقع يستلزم مثل هذا التعاون. من جانبٍ آخر لقد فرّط النظام السوري بكل فرص الإصلاح، وتمادى في كسر الأيدي الممدودة من قبل المعارضة على شكل مزيد من القمع، وبما أن الأخطار جسيمة و الاستحقاقات باهظة الثمن، كان لا بد من طرح أولوية التداول السلمي للسلطة، و يعد إعلان دمشق خير معبر عن هذه الأولوية .

تراهن في ما يبدو على الدور الدولي الفعال ، ماذا لو أخفقت المتغيرات الدولية في إحداث تغيير جوهري في سورية ؟

مناخ المنطقة لا يحتمل ذلك ، ففي كل يوم يزداد الأمر تعقيداً و سوءا،ً ويتصاعد خطر التطرف وجنون تجذر الكراهية، وهناك شعور عام أن الأوضاع المؤلمة التي يعاني منها الشعب إنما يتحمل جزءاً هاماً من مسؤوليتها المجتمع الدولي والغربي منه خاصة. الواقع أليم ولا خيار أمام الجميع إلا الإنقاذ ، وكلي أمل أن ساعة الإنقاذ قادمة .

ينظر إليك بعض السوريين نظرتهم التقليدية إلى رجال المال و الأعمال الذين التحقوا بالسياسة تعزيزاً لمكاسبهم الاستثمارية ، كيف تعلق على هذه النقطة ؟

- يضع النظام أصواتاً معينةً دأبت على حمل رسالة المواطن وهمومه ومشاكله أمام مقايضةٍ قاسية، فيقع بعضهم ولا أقول كلهم في فخ هذه المقايضة، لأن هذا البعض جزءٌ من هذا الشعب الذي يعاني شظف العيش، مقايضة بين مكاسب صغيرة وحوافز مالية بسيطة، أو ضغط وتشهير واتهامات باطلة تقودهم في كثير من الأحيان إلى السجن، وهدف المقايضة واضح فكلا طرفيها يقود إلى إسكات هؤلاء، ومن ثم تقويلهم رؤى السلطة و نظرتها، بحيث يقدمها هؤلاء إلى الناس وفق أهواء النظام و مصالحه. كنت عضواً في مجلس محافظة مدينة دمشق، صوت لي الدمشقيون وكنت الفائز الأول بفضل ثقتهم ، و بعد حوالى أربع سنوات فزت بانتخابات مجلس الشعب على قوائم المستقلين أيضاً وبأعلى الأصوات، و لقد استمرت حالة ثقة الناس بصدق تمثيلي لمصالحهم ما يقارب من عشرين عاماً، لم أجمع ثروات طائلة بل عانيت مع غيري من الوضع الاقتصادي، وسوء القوانين و التشريعات، ولم أرغب مرة ً أو أحاول أدنى محاولة لجني مالي عبر اسثناءات النظام، ولم أسع إلى اكتساب ميزات يحصل عليها في العادة أشخاص مقربون نالوا رضى السلطات نتيجة مواقفهم الممالئة، وكيلهم المديح الزائف للنظام و السلطة .

اسمح لي أن أذكرك أنك كنت واحدا من أولئك الذين كالوا سابقا الكثير من المديح للنظام .

لقد قمت بكيل المديح أحيانا فعلا، إذ كنت قانعا آنذاك أن الإصلاح هو الهدف، و كنت أمتدح نقاطا أتصور أننا نستطيع بالتشارك مع السلطة أن نؤسس عليها مرتكزات، فراهنا في البداية أننا نستطيع الإصلاح الذي كنت و بكل تواضع واحدا من دعاته، و كنت صادقا و ذا نوايا طيبة تجاه أي خطوة تراءى لي أنها إصلاحية، و لكنني وجدتني كمن يخوض البحر فكلما اقترب من القاع وجد الأعماق أكثر وضوحا، لقد كان مدحي الذي تنتقودنه في سؤالكم الآن موظفا لتشجيع النظام على المزيد من خطوات الإصلاح، ولكنني لم ألبث أن تبينت أنه طريق مسدود، بل و بدأت أدفع ثمن سلوك هذا الطريق برضا و بساطة، فأنا أعرف ضريبته. كنت في كل مداخلاتي الساخنة، وهي مسجلة وموثقة، أشدد في نهاية كل مداخلة أنني سأدفع الضريبة ببساطة واقتناع وشرف ولن يستطيع أحد أن يشوه هذه الحقيقة أو يغيرها. إنني أعرف أن الموضوعات التي طرحتها كانت لصيقة بهموم المواطن السوري معاشه و غذاؤه، استباحة أبناء المسؤولين وآبائهم لحقوقه، وانتهاكات أجهزة الأمن لحريته، المطالبة بتشكيل لجنة حقوق إنسان في البرلمان، والتصدي لأكبر صفقات الفساد و لكل موضوع يلامس مصالح الناس و اهتماماتهم .

ألا تجد معي أن كلامك يعني وجود هامش حرية واسع لمناقشة أدق القضايا في مجلس الشعب ؟

عندما ازداد عدد المستقين للمجلس أتيحت فسحة ملموسة، تعاونا من خلالها مع بعض زملائنا لطرح أغلب المشاكل، ولقد كان رئيس المجلس الذي كان يدير الجلسات يقول قل كلمتك وامش. على اعتبار أن هذا المجلس مغلق على الإعلام والنقل التلفزيوني، وملائم للوفود التي تزور سوريا وتسمع نقاشاتنا فتظن أنها ممارسات ديموقراطية فعلا. لم يطل بي الأمر كي أعرف و زملائي أن هذه المداخلات -على ضعف فائدتها- لم تستطع أن أن تكون خفيفة الهضم على معدة النظام، فسرعان ما أعطى اهتمامه لإسكاتي و بعض زملائي ومنهم زميلي النائب رياض سيف. وعندما ظهر لنا جدار السلطة المسدود، ذهبت إلى مكتبي وأعلنت الإضراب عن الطعام وأعلنت بياناً من عشرة بنود، طالبت عبرها برلمانيي العالم بمساندتي وزميلي رياض في وجه القمع الذي تعرضنا له.

تتهمك السلطة بالفساد، وتتحدث عن تجاوزات في أعمالك وواجباتك الضريبية، فكيف ترد على هذه الاتهامات ؟

أنا مستعد للمثول أمام القضاء السوري حين تعود له عافيته، و أعلم جيدا أن هذه الاتهامات كانت تطرح بالتوازي مع طروحاتي المطلبية والشعبية تحت قبة البرلمان، وعلى هذا فإن التشهير و تشويه السمعة كانا على الدوام سلاحين يستخدمهما النظام بضراوة في وجه كل من يتعرض لارتكاباته و سلوكه. و يكفيني توضيحا القول إن هذه الحملات التشويهية التجريحية المتنوعة والتي لا أساس لها من الصحة قد ترافقت مرة مع حصولي على كثير من أصوات الدمشقيين في انتخابات الدور التشريعي السابق، والتي قضيت نصف مدتها في السجن، وأنا هنا أعترف بأني أعتز بثقة أبناء دمشق فقد كانت سخية مع من أخلص لها أحبها و أحبته .

اسمح لنا أن نتنقل إلى موضوع آخر تعامل السوريون مع جبهة الخلاص الوطني بتباين لافت، كيف تنظرون إلى هذه الجبهة؟

- أحترم الجميع و أتمنى ان يتعاونوا كل من زاويته ووفق رؤيته ، ولن أذم أحداً أو أنتقص من وطنية أحد أو أسيء إليه، وأثق أن إزاحة الاستبداد ستحمل معها دولة الحرية و القضاء النزيه الذي عرفته سورية في فترات سابقة، و يمكن لهذا القضاء أن يحاسب الذين أساؤوا للوطن و الشعب، ففي ظل انتخابات ديموقراطية وقضاء مستقل لن تكون حصانة لأحد، وسيحصل كل على حقه المسلوب، وينال أي ظالم أو فاسد جزاءه العادل، فالقضاء النزيه هو الذي يقرر وليس أنا أو غيري تجريم هذا أو تخوين ذاك.

وما رأيك في القانون 49 الذي يحكم بالإعدام على كل من يثبت انتسابه إلى جماعة الإخوان المسلمين، هل توافق على التوقيع على عريضة المطالبة بإلغاء هذا القانون ؟

- أوافق على التوقيع بالطبع، إذ أرى أن للجميع الحق في التعبير السلمي عن مواقفه السياسية . دعني أقول لك أن هناك فترات أليمة عاشتها سورية، ورافقتها اتهامات متبادلة حول انتهاكات عديدة كان ثمنها باهظا على الشعب السوري، يجب أن يقف السوريون عند الحقائق، وهذا لايتم إلا بتحقيق قضائي مستقل، يحدد مسؤولية الجميع فيما حدث، ولا بد أن يحاسب كل من ارتكب أي جريمة بحق سورية والسوريين.

ما الذي تحمله أستاذ مأمون؟ ما هي أولوياتك للمرحلة المقبلة؟

- أولا أحمل نداء الحرية لإطلاق سراح وإنقاذ حياة سجناء الرأي والضمير في سوريا، وأرى أن من واجب المجتمع الدولي ممارسة الضغط الفاعل لإنقاذهم من مأساتهم فكثيرون منهم متقدمون في السن و يعانون من أمراض شتى . وثانياً سأعمل مع الإخوة السوريين عربا و أكراداً، وسأطلب من جميع أحرار العالم مؤازرتنا، لإيجاد أساليب جديدة وسلمية لممارسة ضغوطات متوالية، وصولا إلى محاسبة الذين تطاولوا و يتطاولون على حقوق الإنسان السوري. و من أجل أن يعلم هذا النظام أن سوريا و شعبها ليسا ملكا لأشخاص أو عائلة .

هل من كلمة أخيرة أستاذ مأمون ؟

- في كل انتخابات كنت أخوضها و منذ ما يقارب عشرين عاما كان شعاري الانتخابي أنني سأبقى على العهد، والآن و في هذه الأوقات العصيبة أقول، رغم ملاحقات النظام لي وإلحاحه لدفع الإخوة العرب إلى عدم استضافتي، و إلى آخر لحظة في حياتي سأبقى على العهد إن شاء الله كي نصل إلى الحرية

شفاف الشرق الأوسط

غزة والطلقة الأخيرة

غزة والطلقة الأخيرة

محمد زكريا السقال

خاص – صفحات سورية -

تتقدم القوات الاسرائيلية في مناطق القطاع ببطء وهدوء، لايعكر صفوها ولايعيقها سوى مجموعة من البنادق، وسواعد لمجموعات من الشعب الفلسطيني المحاصر والأعزل، الموزعة بين صد أحدث الآليات، واقامة السواتر الترابية، وتأمين حماية الأطفال والنساء من الجحيم الذي يتساقط عليهم من كل الاتجاهات. لاداعي للعجلة ، التسديد يجب أن يكون محكما، كل شئ هو هدف، تأتي الأوامر بهدوء ولا بأس من التروي، يجب أن تكون المعركة الأخيرة، بهدوء أستراحة لشرب البيرة، وتستمر المدحلة، تتقدم بدم بارد.

يحدث هذا في غزة، الشعب الفلسطيني في القطاع مستفرد عار متستباح تحت سمع ونظر العالم أجمع. النظام العربي المهزوم لدرجة الفضيحة،. النظام العربي المستبِد يعطي صك تفويض لتطويع الشعب الفلسطيني وكسر إرادته بصمت واضح، والعدو يمتحن هذا التفويض بكل ما أوتي من غطرسة؛ يحلق طيرانه فوق قصورهم ومزارعهم ،كل شئ ضمن الاتفاق، كل شئ مريح، تقدم إنها المعركة الأخيرة .

مايحدث الآن في فلسطين، يجب أن يطوي مرحلة بتاريخ هذه الأمة، يجب أن يقدم اتجاه آخر، يجب أن يحك الباقي من عقل واحساس عربي متخيل .مايحدث الآن يقدم ويصرح ويحدد بكل وضوح الهزيمة العربية الكاملة والساحقة، أنظمة وقوى، تفكير وخطاب، سلوك وممارسة، ثقافة وتربية سقط الزعيم العربي بكل هنجعيته وتبجحه، بكل صلفه وجبروته المتطاول لدرجة السخف والمهزلة، سقطت كل مبرارته التافهة، سقطت كل مناوراته الممجوجة الفارغة، سقطت شرعيته الساقطة أصلا ولم يعد ممكنا السكوت على طغيانه واستبداده باسم التحرير والعدو ينتهك كل الحرمات والمحرمات،سقطت تبجحاته عن الاصلاح والشلل والفقر والفساد، نخر كل شئ في جسم المجتمع والمواطن، سقط كل شئ والانهيار يصيب كل شئ طالما الانسان العربي لايمتلك قراره. كل شئ مباح طالما الانسان العربي قيمة رخيصة، طالما الانسان العربي مهمش ومحتقر وملغي وغير قادر على الصراخ والوجع في هذا السجن العربي الكبير.سقط العقل العربي المبرمج على التصفيق والنباح للقائد التاريخي، سقط الحزب الثوري الاشتراكي، وسقط الحزب القومي العظيم، وسقط الحزب الاسلامي المعصوم، سقط المنظرون، والفقهاء والمشرعون .

في هذه اللحظة العصيبة لاحل سوى أن يجلس كل المتضررين الحقيقين من هذا الوضع الغير مقبول ، الغير منطقي، الغير انساني. أن يجلس الجميع مع بعضهم من أجل أن يعترفوا، بالهزيمة وكيفية النهوض من جديد، من أجل اعادة الاعتبار للانسان، من أجل القضاء على هذا النظام العربي كمقدمة من أجل اعادة التوازن والانطلاق من جديد .

برلين 29/06/2006

مطر الصيف فيلم الأسبوع الفلسطيني بجدارة...المخرج إسرائيلي والمتفرج عربي!

( مطر الصيف ) فيلم الأسبوع الفلسطيني بجدارة...المخرج إسرائيلي والمتفرج عربي!

فلورنس غزلان

خاص – صفحات سورية –

تنهمر أمطار الصيف الإصطناعية فوق رؤوس أهل غزة والضفة الغربية...بكل ما تحويه من مواد كيماوية وما تنفثه من حمم وسموم فتاكة تترك خلفها أرضا محروقة...تدمر كل البنى التحتية ."..المحطات الكهربائية، مصادر مياه الشرب...الأراضي المزروعة...تحتل المطار الوحيد...تغتال وتعتقل وتنتهك."..ما الذي يردعها؟؟ من سيقف حائلا بينها وبين اجتياحها؟...بعض الأجساد الشابة اليائسة والمحبطة...التي تراهن على الموت لا على الحياة...فيلم سينمائي من إنتاج وإخراج هتلر إسرائيل الجديد...كل هذه الصور التي ذكرت ..تمر أمام أعين المشاهدين العرب مسؤولين ومواطنين...تنتهي المشاهد والتعليقات...تتناول الأسرة طعام العشاء ...ثم يبحث رب الأسرة أو شبابها ..بالريموت كونترول عن ... المباراة الجديدة للعبة كرة القدم..ويتحمس لفريق ما .. لا يربطه به سوى.. الحلم ...فيتصور نفسه زيدان مثلا ...أو لوراندينو.. ويمكن لأحاسيسه ..إن لم تصب بالخدر والتنويم بعد... أن تتخيل فريقا عربيا ...يصل للربع النهائي ..ويحقق له بعضا من أحلامه بفوز ..ما ..ولو رياضي..بنصر ما ..ولو بالكرة..

أعتقد أني لم أتجنَ ولم أتعَدَ على مشاعر المواطن العربي...بل أصف الحال كما هي...لقد دجنتنا هذه الأنظمة..وجعلت منا ..ألعابا كرتونية ... في مسرح عرائسها السلطوية..قتلت الحد الأدنى والأعلى من إلتزام المرء بوطنه وبما حوله ..إلتزامه بشؤون الوطن والسياسة..علاقته بما يجري .وعلاقته الإنسانية قبل كل شيء ...تريده رعية ..يساق للقتل والذبح والذل ..ونسيت أنها ..كحكومات قائمة ..هي من يحمي ويصون كرامة المواطن...لكنها تهدر كرامته كل لحظة ..وتُهدَر كرامتها كل يوم ..على مذبح ..دولة إسرائيل...فهل هناك كرامة لحكومة ...تحلق فوق رأسها الكبير ..طائرات العدو ؟؟ وتخترق حاجز الصوت...ثم تأتي أبواق صحفها المجيرة والموالية ...لتنعت أعمال الخرق الإسرائيلية بأنها :ـــ " تشكل استفزازاً مرفوضاً وغير مبرر!!!!"

هذا يعني أن العدو الصهيوني ...يستفز نظامنا ..وهذا النظام لا يحب الاستفزاز... ولا يرضى بعدوان من هذا الصنف ..(غير مبرر)!!!! على إسرائيل أن تبرر أسباب عدوانها أولا ..ثم تعتدي!...ثم تعرف يقيناً ..أن نظامنا لا يُستَفز...إلا من أبناء الوطن ..حين يخرجون بعريضة موقعة من مفكرين ومثقفين ..يطالبون بإصلاح الرأب المتصدع بين البلدين الشقيقين ...لبنان وسورية...هذا الأمر يشكل استفزازا حقيقياً للنظام ويخرجه عن طوره ...فيصعد من ردود أفعاله ويكشر عن أنيابه الشرسة ..ونرى مقدار طول باعه ..وقساوة عصا البطش والإرهاب التي يملكها ضد شعبه الصبور...لكن عصاه تلك ..تصاب بالكسر وتقصر وتنكمش ..حتى تمحى...أمام الهراوة الإسرائيلية...علما أن النظام السوري ..يدعي أنه حامي المنظمات الفلسطينية..المناهضة لإسرائيل..وأنه الوحيد الواقف ضد الأطماع والتوجهات الصهيونية!!لكن الإدعاء شيء والواقع شيء آخر...الإدعاء هذا للتسويق الإعلامي على الشعب...في الداخل..واستغباء المواطن..وقد تعودنا ...أنها تناضل وتضرب بسيف الآخرين..تقاتل إسرائيل في لبنان بسيف المقاومة اللبنانية..وتقاتل في فلسطين بسيف ..حماس والجهاد الإسلامي ...أما حدودها مع إسرائيل ..." فالله حاميها "...لكن طائرات الله ...لم تتصَدَ للطائرتين الإسرائيليتين فوق القصر الرئاسي في اللاذقية...ربما لأنها اخترقت الأجواء السورية على ارتفاع منخفض..فلم تتمكن الطائرات السماوية..أو طيور الأبابيل...من رؤيتها...فراداراتها..الإلهية المخصصة لحماية سورية..لم يحصل لها شرف التعرف على مقاتلات الإف 16...!!

الجانب الأكثر ذلا وإذلالا ...هو معاناة هذا المواطن الفلسطيني الذي يعيش في المنطقة الأكثر بؤسا وكثافة سكانية في كل بقاع الأرض..ونتماهى بصموده...ونناشده الصبر ..ونحتفي بموته...وخاصة قادته

كيف تريدونه أن يقاتل؟ وكيف تتصورون أن اختطافكم لجندي إسرائيلي ...سيحل مشكلة الأسيرات؟ وأنتم كشعب أسرى بيد الإحتلال الإسرائيلي؟!...أم أنكم تصدقون أن لديكم حكومة؟ وخاصة حماس التي تريد أن تمسك بطيختين بيد واحدة....المقاومة..المسلحة من جهة، والسياسة وإدارة البلاد بحكومة منتخبة تحت سقف وفي ظل الإحتلال الذي تقاومه من جهة أخرى!! وهذا يعني أنها تعترف بإقامة حكومة تحت الإحتلال وتريد أن تديرها...رغم أن كل تمويلها وغذائها ومائها وكهربائها...يمر تحت اليد الإسرائيلية!!!

بل ويعبر رجالها من معابر تتحكم بها وتسمح بمروركم من خلالها...حكومة إسرائيل...تعرف أين يسكن كل فرد فيكم...تعرف أين يجتمع رجالكم ...يمكنها اصطيادكم واحدا تلو الآخر...وأنتم وحيدين عراة أمامهم... العرب ..يبيعونكم خطابات..ويتاجرون بدمائكم في المحافل الدولية وفي صراعاتهم الإقليمية

ومن أجل مكاسب بقائهم فوق كراسي السلطة ..يسخرون بعضكم لخدمة أغراضهم الداخلية لقمع شعوبهم...أو لضرب بعض حكومات الدول المجاورة... فهلا قرأتم الواقع بتعقل ومنطق ..دون أن تسبحوا عكس تيار الكرة الأرضية التي تكيل بمكيال الأقوى...وتغرق كل القوانين والأنظمة الدولية الموقعة عليها...لتمرر مصالح أصدقاءها وحلفاءها كإسرائيل....

خلاصة ..ما أراه وأستصرخ ضمائر بعض المسؤولين الفلسطينين به.... رغم أني أعرفهم نسخة عن النظام العربي الشمولي القائم.....خلاصكم ...هو التنحي ...اتركوا ما سميتموها دولة ...تخلوا عن الحكم كله ..عودوا لمواقعكم السابقة كرجال مقاومة... لن تتمكنوا من فعل شيء على الأرض ...إسرائيل تريد أن تحصركم في بقعة رفح وغزة...وتصنع لكم منها...( أوشفيتز فلسطيني )...الحل الوحيد ..أن تحلوا دولتكم وترفضوا اتفاقات أوسلو...وتتركوا إسرائيل تتدبر أمرها بكم كدولة محتلة..وهنا يحق لكم كشعب محتل ..وأمام الرأي العام العالمي ..أن تستمروا بالمقاومة...حتى تحققوا دولة قادرة على الحياة وبشروط تصنعها المقاومة...لكن بقاءكم على هذا الوضع المأساوي ...سيزيد ويفاقم المأساة الفلسطينية

لا أنتم بالدولة المحررة والتي تملك سيطرتها على حدودها وأرضها، ولا أنتم بالمقاومة الوطنية لمحتل.

كونوا الثانية فقط...تحملوا مسؤوليتكم بجدارة ابن الوطن ...دعكم من زعماء العرب ...كونوا مختلفين

ربما أحلم ..ربما أتمنى...لكني سأكون مع مقاومتكم واختطافكم لأي جندي إسرائيلي...عندما يكون الشعب الفلسطيني كله مقاومة بوجه المحتل...وبدون حكومة صورية ..لا تستطيع حماية وزرائها من الاعتقال..

باريس 29/06/2006

غرفة التحقيق

غرفة التحقيق

آرام كربيت

قبل أن يدقوا الباب...كان الزمن طليقاً.. هزوجة مرحة.. مدارات رشيقة.. صباحات نضرة فوق الشهب الخضراء. في غفوته الراعشة .. في الأعماق وعلى الأمتداد البعيد.. النورالبهيء.. النورالساطع.. يكسر الفراغات المتسللة من وراء الأفق.. وأنا في محراب الزمن.. أدون قواميس الشرفات.. أرشف البقايا.. البقايا من ظلال الذكريات المتعاقبة من رسل الأيام القادمة..
وكان الزمن امرأة عذبة..
أنهار نقية مثل الجدائل الشقراء الملتفة على بعضها.. كقطعة موسيقية أوكنغمات عازف في أجمل لحظات تجلياته.. دافقاً كالتحام البرق بالبرق , البرق بالرعد , بالبراكين.
عندما دقوا الباب بقوة..
قرفصت منزوياً في ركن بعيد.. كأعمدة الهياكل القديمة..
وقرفص الزمن على ركبتي.. مستنداًعلى قناديل الليل..
مضى يستجدي بوح الأقدار..
هناك.. توقف عند كوة الباب.. مضطرباً يبكي بحرقة..
أيقن أن الضياع قادم..
عندما دقوا الباب بقوة..
كانت العصافير في خدرها الليلي البارد..
مختبئة وراء العتمة..
شيء من مرارة السكون لفّ أجفانها.. رماها تحت ظلال الغفوة الطويلة..
عندما دقوا الباب بقسوة..
كانت الكائنات في شرنقة الصمت والخلود.. في مملكة الحرية..
يلوّنَ أنفاس الأفق..
اما أنا فقد لبست عباءة الليل وسرحت في مراعيه.. قطعت أعشابه اليابسة وتهت في زوغانه.. في هذيانه.
عندما كسروا الباب..
كنت أقطع أخر عنقود مدمى من جسدي.. أرميها فوق هياكل الشمس.. أمسك الكوابيس الملتفة حول عنقي وأفرشها على وسادتي القاسية.
أتنفس بعمق.. أقرب إلى الحشرجة..
كانت ثيابي ملهلهلة.. ممزقة وقذرة. رياح صفراء جافة هبت علي من مختلف الجهات.. صوت غليظ حاط حول رقبتي ألتف عليها.. راح يشد بقوة..
شل صوتي تماماً..
كان وجهه بلون الفزع..
وكان وجهي بلون الوجع.. ممزقاً.
غدا لوني منسحقاً.. أمتزج بلون الرعد والبرق..
ظهورهم كان مباغتاً..
دخلوا صحن الداردون أستئذان.. أنتشروا كالخنازيرالداشرة في كل ركن من البيت.. قلبوا كل ما يقع تحت أيديهم الخشنة.. عيونهم الذئبية القاسية تقدح الشرر.. تمزق الاوصال.. تسرق لحظات الأمل والفرح.
وعلى الفور رفرف قلبي كعصفور خائف.. راح يبكي داخل صدري.. غيوم موحلة ملفوفة باللون الأسود القاتم.. تحوم حولي.. تبحث عني.. عن مراكب تشيعني.. تحملني من عقب جلدي وتسافربي كقنديل يوشك على إطفاء ومضته الأخيرة..
من النافذة النعسانة المكسرة.. شيعت نظراتي المتعبة نحوأبنتي الصغيرة رانيا.. زوجتي.. أخوتي الصغار.. أمي وأبي.. المكومون على بعضهم كسفينة تائهة.. عيونهم الحزينة مصوبة نحوي بأنكسارويأس.. ينظرن إلي بقلق.. الدموع المدرارة تنهمرمن عيونهم كالمطر.. واجمون حول الريح.. يبكون من الحسرة والألم.. ينتظرن أستقبال المساءات السامقة.. الحزينة.. تتوقد في عيونهم المسافات الزمنية الطويلة القادمة.. وتكبر اللحظات القاسية المملوءة بالشجن وثقل الوطأة.. اصغ لوقع الافتقاد القادم.. وبصري يدورحول صدر المكان.. كالنورس الجافل يبحث عن موطأ قدم.
ظهورهم المباغث.. هذه البلبلة اللولبية تبتعد بأغوراها إلى أقاصي الزمن.. إلى أقاصي القلق.. وكنت في دائرة أبصارهم أحوم بينهم كطائر جريح
كانت ليلتي العاقرة.. مثقلة بالأنشطارات.. والانقسامات المتناثرة.
كروم الوجع معرشة في داخلي طوال الليل وبقية النهار.
أخذوني من فراشي وأنا بين حدين كبيرين..
كل شيء يرتعش داخلي.. يرجف من الخوف والقلق.. كنت محلقاً فوق تيارات اللأوعي التي تتقاذفني وتسرح بي من مكان لمكان وأنا أنظر إلى نفسي لا أعرف ماذا أفعل.. عاجزاً عن تحريك ذاتي.. بينما قلبي يقرع لا أرادياً في صدري بقوة.
كان جسد الليل مفروشاً فوق جسدي.. فوق وسائد الزمن الطويلة.. غارساً همساته المفزعة في ثنايا الجدران.. في ثنايا روحي.
كان الكابوس طويلاً.. مركباً.. لم أفق منه.. كابوس داخل كابوس.. معرش كدالية مفرعة القسمات.
كانوا بلا ملامح.. عندما جاؤوا.. مجرد هيولى سوداء لدنة.
قالوا ألبس ثيابك بسرعة..
لبست بسرعة.. دون أن أسأل أو أستفهم.. كنت تحت أنصال بواريدهم الشتوية الباردة..
وعلى الفور..
حملوني من أبطي ككمشة لحم مهروس.. ساروا بجسدي ومضوا.. كنت تحت قبضتهم الثقيلة خفيفاً كظل.. بل تحولت إلى ظل لا ظل له.. إلى شكل لا شكل له.. مضى ظلي معهم.. يحملني على ساقيه المعوجين ويمشي..
من اللحظات الأولى لاقتلاعي من مكاني.. من جذوري.. تسلق الشوق.. تسلل برفق إلى قلبي كشجرة وأرفة الظلال.. كثيرة الاغصان.. تحولت إلى كتلة ملتهبة داخل روحي.. صارت أبنتي رانيا ملمس الحزن الكبير.. يعذبني ويقزمني قامتي..
ساروا بي..
عبرت بحارمن الغربة والزنازين الضيقة والمظلمة.. لم يكن بين الزنزانة والأخرى فسحة أو فراغ.. كانوا متلاصقين ببعضهم البعض.. وكان كل حارس مصلوباً على باب صغيرأو مدخل.. مكورالجسد.. والروح.. مجوف من الداخل.. له شكل أو ملمح كابوسي كريه.. حاملاًً بيده.. يديه وعينيه.. أنفه وفمه وأسنانه.
تركوني وحيداً في الظلمة الحالكة.. في بهو معتم وكريه.. يتوزع على تجويفات متناثرة.. ومضوا..
لم أكن أعرف إلى أين أذهب.. ألتفت يمنة ويسرى..
صارالفراغ والظلمة أصدقائي.. والوحدة رفيق دربي.. يقتربون مني.. يلتمسوا القرب مني..
بعد أن اتسعت حدقة عيني..
شاهدت..
كانت الزنازين مملوءة بالعظام البشرية المكومة على بعضها.. أيدي وأرجل.. كثيرة.. أقفاص صدرية كبيرو وصغيرة.. جماجم مثل جمجمتي على نفس المقاس والأبعاد.. الطول والعرض والغروية.. ضربات قلبي تزداد داخل قلبي..
رحت من الفزع أبحث عنهم.. كالتائه.. كالمجنون.. ألتفت في كل الاتجاهات إلى أن التقت عيني بعيونهم.. تجاهلوني ولم يعروا وجودي أي أهتمام.. ركضت وراءهم.. قلت لهم أنا الذي تبحثون عنه.. تجاهلوني مرة أخرى.. قالوا لا نعرفك.. من أنت؟.. ومن تكون!. دخلت حجرة مظلمة تماماً يتدلى في وسطها قنديل أحمرغامض.. في وسطها كان يوجد مصطبة.. وراءها رجال متشحين بالسواد.. على وجوههم أقنعة كبيرة.. أكبرمن رؤوسهم وأجسادهم.
ازدادت ضربات قلبي أكثر من قبل.
سبعة درجات كبيرة اوصلتني إليهم.. إلى الغرفة المعتمة.. المفرغة من الهواء والضوء..
للوهلة الأولى شممت رائحة زنخة.. رائحة أجساد نتنة.. لم تغتسل أبداً منذ عشرات الآلآف من السنين.. حتى الحيطان والجدران تفرز روائح كريهة.. تسللت إلى أنفي وخلايا جسدي من فوق وتحت.. أمامي وخلفي.. من حولي.. منذ الوهلة الأولى لدخولي عندهم..
قلت دون إرادة مني:
من أنتم.. وماذا تفعلون هنا؟.. ما هذا المكان!
قالوا:
ـ ألا تشم رائحتنا النتنة.. إنها رائحة قديمة.. موغلة في القدم.. ألم تشمها من قبل.. قلت:
ـ حاسة الشم لدي ضعيفة.. رددوا مع بعضهم كالكورس الموحد:
ـ ستشم بقوة من الأن فصاعداً.. قلت:
ـ لكن أين أنا.. قالوا:
ـ أنت.. نحن.. في الغرفة العائمة.. الغرفة العابرة للزمن والمسافات.. موجودة في أرقى الأماكن.. وتحت لحاف كل الدول والأمم..
أنها غرفة الشهوة المحرمة.. ألم تسمع بها من قبل؟. قلت:
ـ لا.. لا لم أسمع بها من قبل..
ضحكوا بصوت مجلجل وأردفوا بصوت واحد:
ـ إنها غرفة الأستباحة المعرشة على مدار السنين.. غرفة العمليات السرية.. وأضافوا:
التي يدخلها لا يخرج منها سالمأ.. لا يخرج منها كما دخل.. وتابعوا:
يبقى داخلها.. لا يبرحها ما دام في قلبه نقطة دم..
رائحتها تلتصق بجسد القادم إليها طوال السنين.. تلتصق به.. بالأيام المتبقية له على هذه الحياة.
بعد أن قيدوني من رأسي إلى أخمص قدمي..
وفعلوا بي ما فعلوا..
رفعوا أيديهم نحوي.. قربوها من جمجمتي.. لمسوا الصدغ والرأس.. وخلال ثوان قليلة تسللوا إلى داخلي.. لا أعرف كيف غزو قحف الجمجمة.. وكيف عبروا الطرق الوعرة فيها.. لكنهم استقروا داخلي.. أفترشوا ذاكرتي وأخذوا يذرعون داخل داخلي.. داخل دماغي.. بحرية وسعادة فائقة. بعد قليل من الصمت أدخلوا آلاتهم في قحف رأسي.. على الجزء الأسفل من جمجمتي.. ثبتوا كل قطعة في مكانها ومضوا يقيسون رخاوة ذاكرتي وطراوة خلايا جسدي.. كانوا يعدون ويحسبون هندسة أبعادي القادمة بدقة متناهية.. يضعون الاحداثيات لتضاريس دماغي. كنت واقفاً بينهم، صامتاً. أنظرإلى معاولهم وأيديهم كيف تعمل بهمة ونشاط.. داخل تجاويفي..
كنت أرى وأشاهد وأسمع..
كيف.. شكلوا لي ملامح جديدة.. ذاكرة مختلفة.. شهوانية الأبعاد..
عندما خرجت من الغرفة الشهوانية الحمراء.. مدمى.. إلى الممرات المظلمة..
نسيت من أنا.. كنت أمشي داخل نفسي.. داخل جسدي الممزق.. أسيرفي ممراتي الطويلة المتنافرة.. أغوص داخل جمجمتي المتكلسة المصابة بالغثيان.. تحت صمت الرياح وقشعريرة الكون.
أمشي داخل كوابيس الليل..داخل نفسي.. تستوقفني عرافات القيء والفراغ.. تتراءى لي أصوات مفزعة وأشارات غامضة
راحت نظراتي السرابية المتعبة تحدق في الفراغات الرخوة متلمسة الأنزواء والصمت، تتمايل خفية في إخفاء النية والقصد. أتابع كل حركة أو أشارة مهما كانت صغيرة.. من سعل.. من بصق أوصرخ. كان جوفي مكتنزاً بأختزانات غريبة.. أراقب كل شيء.. الأسرة.. شخير النائمين.. صوت الماء والهواء. لم يعد لي هدف إلا الأصغاء لصوت الفراغ والحركات العابرة.
وبلا شعور مني.. رحت أركض وراء ظلي القادم.. الجديد. أصبحت الأخر.. لم أعد أنا الذي كنت.. بل أنا الأخر المختلف.. تعتريني أصوات غريبة.. تغزوني في الليل والنهار.. توقظ مضجعي.. أبقى ما بين النائم والغافي.. لست نائماً كما إنني لست غافياً.. أخاف من رفاقي.. من أصواتهم.. حركاتهم.. أشاراتهم.. لم استطع الجلوس في مكاني لثوان.. أنتقل من فراغ إلى فراغ ومن موضع لموضع.. أقترب من فراشي.. لحظات.. ما أن اتمدد عليه حتى أسارع الهروب من وثني الجاثم حول حلقي.. أذهب إلى الممر الطويل تتلقفني الاصوات العابرة القادمة من الهواء أو الحيطان.. كل الذين معي يريدون النيل مني.. يريدون اركاعي واخضاعي.. أزددت العدوانية داخلي.. أضحيت شرساً قاسياً.. أريد أن أضرب كل من يقترب مني أو يقوم بحركة ملفتة.. في يدي سكين أو مقص أو أية ألة حادة.. أحملها لأقتل أي واحد يقترب مني.. صار الخوف جزء من حساباتي اليومية..
أحس بالذنب يأكل لحمي عندما أتذكر أبنتي الصغيرة رانيا.. الطفلة الوحيدة لي.. كيف كانت تركض ورائي تقول بابا.. بابا.. لم أعرها أهتماماً.. كنت أسرح مع قطعان الليل.
شعري كث وطويل.. لم يغتسل منذ أمد طويل.. ذقني أطول. رائحة جسدي عفنة.. كرائحة المستنقعات.. تفوح منها رائحة الابخرة اللزجة القادمة من تقادم السنين.. فمي دهليزنافر.. أسناني صفراء ضاربة للسواد.. منخورة.. ولثتي ملتهبة مملؤءة بالجيوب المقيحة..
لقد غيرتني الغرفة الشهوانية المفرغة من الهواء..
بقيت طوال الوقت خائفاً فزعاً من نفسي على نفسي.. من المحيطين بي. كل صوت أو همسة أو حركة تقلقني.. تعذبني.. تبعدني عن بوابة السكون.
تستهويني رائحة الفطائس الكريهة.. المسالخ والمزابل.. أقرف من كل لون لا ينذر بللون الشهوة والوجع..
أخاف من كل لون لا ينذر بللون الشهوة والوجع.. جرى تحول خطيرداخل داخلي.. لم أعد أعرف أبعادي.. مكاني.. هندسة بقائي. تبدل كل شيء لدي من اللون الزاهي الجميل إلى الأحمرالمسود الفاحم.. وبلا شعور مني رحت أقيس كل الأشكال والألوان على هذا المقاس.. هذا أحمرفاتح وذاك أحمر غامق والأخر أسود مائل للأحمرار.. وعلى هذا المنوال تحولت وجوه البشرمن الأبيض والأصفر والأسمرإلى لون أحمرداكن. حتى البيوت والشوارع.. السيارات والأشجار.. صار لها لون ممتع يضج بنشيج الدم.
كان اللون الأحمر.. لون الشهوة هو المفضل لدي..
اقضي الليالي الطويلة في مسبح عائم.. مجاريه.. روافده وأبطاله من الدم.. وداخلي.. داخل الرغبة المنفلتة من عقالها.. تسعى لشرب الدم بشهية.. تسعى للقتل.. وشرب ألوان الأحمر الممتع..
بعد أن ثملوا مني.. بعد أن أخذوا شهواتهم مني.. بعد أن شربوا ذاكرتي.. أعادوني إليهم مرة أخرى.. إلى الغرفة الشهوانية المفرخة من الهواء.. قالوا:
ـ ستعود إلى الظل.. إلى أهلك.. ومضوا يقولون:
لقد صرت مثلنا.. نفس الرائحة الكريهة النتنة.. نفس الملامح.. لم يبق منك شيء يستحق البقاء عندنا..
لم تعد تلزمنا..

الحوار المتمدن

أمَ المجازر..!؟ مجزرة تدمر

أمَ المجازر..!؟ مجزرة تدمر

بدرالدين حسن قربي

خاص – صفحات سورية –

مع بداية الاحتلال الصهيوني لفلسطين العربية ومابعدها وحتى الوقت الحاضر، نفذت عصاباته الإجرامية وقواته النظامية العديد من المجازر الموجهة نحو أهلنا في الأرض المحتلة ومعظمهم من الشيوخ والنساء والأطفال. ولعل من أشهر هذه المجازر وحشيةً ماقامت به عصاباته في قرية دير ياسين عام 1948 التي ذهب ضحيتها 250 شهيداً. وكذلك ما قامت به قواته النظامية عام 1956 بارتكاب مجزرةٍ مماثلةٍ في قرية كفرقاسم راح ضحيتها أيضاً 50 شهيداً، لم يسمح لأسرهم ولسكان القرية من زيارة المقبرة والإطلاع على أعزائهم إلا بعد ثلاثة أيام. هذا ويسجل التاريخ أن مرتكبي مجزرة كفرقاسم الإجرامية ولاعتبارات خاصة وضغوط إعلامية، تم تقديمهم إلى محكمة علنية إسرائيلية، اعترفت فيها المحكمة بفظاعة الجريمة، وصدرت عليهم العقوبات التي تبعها عفو فيما بعد من رئيس الدولة ليشكل حمايةً قانونية ودعماً لهؤلاء المجرمين الجزَارين القتلة. ويستطيع المتابع لتاريخ هذه المجازر الصهوينية فيما كُتب عنها أن يجد معلوماتٍ تكاد تكون كاملةً عن أعداد الضحايا والقتلة منفذي الجريمة، وكذلك أسماءهم وأماكن دفنهم.

أما على الجهة المقابلة، ومع بدايات حكم أسرة الأسد الآب في سـورية وماتلاها، قامت الأسرة بارتكاب العديد من المجازر التي وُجهت نحو مواطنين عزَل وأناسٍ أبرياء وسجناء أسرى. ولعل من أشهر هذه المجازر وحشيةً ماقامت به الأسرة الأسدية الحاكمة – وقبل أن تكمل عامها العاشر في الحكم – من ارتكاب مجزرتها اللاإنسانية والوحشية في تدمر وذلك في 27 حزيران/يونيو 1980 عندما قام العديد من ضباط الجيش وعناصره وبأوامر من عميد أسرة آل أسد بتنفيذ هذه المجزرة البشعة التي تعتبر واحدةً من أكبر وأقبح وأبشع مجازر القرن الماضي بامتياز، وذلك قبيل فجر ذلك اليوم المعلوم، عندما قامت بقتل قرابة ألفٍ من كرام الناس وأحرارهم وعلمائهم ومفكريهم وأصحاب الرأي والفكر وفرسان الكلمة، ممن رفضوا الخنوع لقيم القمع والاستبداد والفساد التي حاول نظام البطش والإرهاب فرضها على البلاد والعباد، وذلك في أقل من ساعةٍ من زمن ودون أية محاكمات حتى صورية أوغير ذلك من الإجراءات التي تعارف عليها بني الإنسان. فتجاوز النظام السوري الاستبدادي البطَاش بمجزرته تلك مافعله الصهاينة في مجازر كفر قاسم وديرياسين وكان له فضل السبق عليهم بما اقترفت يداه وبالطريقة المميزة التي نفذ بها جريمته الوضيعة.

نعم ..!! نقولها وكلنا ثقة أن نظام الأسـد الأب حقق سبقاً تجاوز فيه مافعله الأعداء. فإذا كان عدد ضحايا مجزرتي دير ياسين وكفر قاسم قرابة 300 شهيداً، فإن عدد ضحايا مجزرة تدمر الأسـد كان ألفاً تزيد أو تنقص قليلاً.

ولئن قُتل الضحايا في فلسطين من قبل سلطاتٍ وعصاباتٍ محتلةٍ مغتصِبة، فإن ضحايا تدمر قُتلوا من قبل سلطةٍ محلية تزعم لنفسها ويفترض فيها حماية المواطنين ورعايتهم في أموالهم وأنفسهم والذود عنهم أمام الأخطار.

ولئن كان أهل الضحايا في دير ياسين وكفرقاسم يعرفون أسماء شهدائهم وضحاياهم وأماكن دفنهم وقبورهم، فإن أهلنا لايعلمون عن شهداء تدمر ولا عن مقابرهم الجماعية شيئاً.

ولئن كان منفذو المجزرتين في فلسطين معروفةً أسماؤهم ورتبهم ومناصبهم، فإن منفذي مجزرة تدمر مازالت أسماؤهم طي الكتمان ومخفيةً إلا الرئيس الهمام وأخاه الضرغام، لأنه لايمكن إنجاز هكذا مجزرة من دون أمرهم وعلمهم.

ولئن كان سفاحو المجزرتين أو بعضُ منهم قُدَموا إلى محاكماتٍ صوريةٍ وتم إصدار عفوٍ عنهم فيما بعد، فإن جزاري تدمر أعطاهم السفاح الأكبر والجزار الأعظم كل الضمانات والمستندات القانونية مسبقاً في عدم المساءلة عما يفعلون مهما كان حجم القتل والسفك والجزر في رقاب المواطنين، فلقد صدر المرسوم التشريعي رقم 14 لعام 1969 الذي أحدث جهاز أمن الدولة وفي المادة 16 منه شرعن نظام القمع والاستبداد لنفسه الجريمة عندما نص على مايلي: لايجوز ملاحقة أي من العاملين في الإدارة ( إدارة أمن الدولة) عن الجرائم التي يرتكبها أثناء تنفيذ المهمات الموكولة إليهم أو في معرض قيامهم بها إلا بموجب أمر ملاحقة يصدر عن المدير...!!

ولئن تغاضت جهات عالمية ومنظمات دولية عمَا ارتكبه المجرمون في فلسطين وسكتوا عن تلكم الجرائم البشعة في حق الإنسانية لمصالح لهم مع الدولة العبرية، فإن تلكم الجهات تغاضت وسكتت أيضاً عن مجزرة النظام السوري وجرائمه البشعة و غطت عليها لغايات ومصالح لها مع النظام الأسدي.

ولئن نجح أصحاب المجزرتين في إشاعة الرعب والهول والموت فتسبب في هجرة الكثير والكثير من إخوتنا الفسلطينيين إلى دولٍ مجاورة، فكذلك نجح أصحاب مجزرة تدمر أيضاً في تهجير عشرات الآلاف من السوريين طوعاً وكرهاً وانتشارهم في مشارق الأرض ومغاربها نجاةً بأنفسهم من الذبح حسب الشريعة الأسدية.

ولئن كان الوقت الذي ارتكبت فيه مجزرة تدمر وافقه تكتم إعلامي على كل المستويات لأسبابٍ وأسباب، فإن الثورة الإعلامية والمعلوماتية في السنين الأخيرة تسـمح أكثر من أي وقت ٍ مضى للحديث عن هكذا مجازر وجزارين على صفحات الجرائد والمنتديات والفضائيات، والاتجاه نحو المنـظـمات الانسـانيـة والدوليـة بهذه القضيـة لفضح الطغاة والمجرمين والقتلة، والعمل على أخذهم بالنواصي والأقدام إلى ساحات القضاء والمحاكم الدولية لمحاكمتهم عن جرائمهم ضد الإنسانية مستخدمين كل الوسائل القانونية والمشروعة.

ولئن عميَت على المجتمع الدولي في يوم ما أخبار مجزرةٍ من أكبر مجازر القرن العشرين بطريقةٍ ما، فإنه اليوم مطالب أكثر من أي وقتٍ مضى ببذل الجهد والعمل لرفع الغطاء الدولي عن النظام السوري الذي أسس بنيانه على شفا جرفٍ هارٍ من القتل والقمع والفساد والإبادة الجماعية من يومه الأول حيث جاء راكباً الدبابة والمدفع وممسكاً بكلتا يديه كل أدوات القتل والذبح والدمار.

ولئن رحل أبو النظام المؤسس رغم زعمه البقاء للأبد، فإن وارث النظام مطلوب منه وبكل المعايير الإنسانية والقانونية وبحكم موقعه وصلاحياته الكشف عن أسماء الضحايا ومقابرهم الجماعية، والكشف عن مرتكبي هذه المجزرة البشعة السوداء بكل فئاتهم أحياءً وأمواتاً، وتقديمهم إلى دوائر القضاء والعدالة للنظر في جرائم القتل الجماعي والإبادة ضد البشرية، ليقول فيهم القضاء والتاريخ كلمته. ومن وجهة نظر أخرى، النظام السوري في وضعه الحالي يترأس نظام الممانعة والمصاولة والمجاولة والصمود والتصدي – كما يحلو لنظام الأسد الابن أن يتوهم نفسه وكما يطيب لبعض الأحزاب العربية ممن تعيش خارج الزمان والمكان ويشدون من أزره أن يصوروه لنا – أمام مؤامرة الأمريكان ومشروعهم الاستعماري في المنطقة ويعمل لإفشال مؤامرتهم الكبرى على العرب والمسلمين، فإننا نعتقد أن نشر نبأ مجزرة تدمر وأخبارها في هذه الأيام بالذات هو من أنسب الأوقات والأيام، لأنها سوف تدعم صموده ومنازلته ولاسيما أنه بنشر هكذا أخبار يُري أعداء الله الأمريكان وممن يشد معهم من نفسه القوة والهيبة والمنعة بأنه (قتَال قتله) وسفاك دماء، وجزار من طرازٍ مختلف وليس أي كلام و(العلقه معه ليست سهلة)، ومن ثمَ فلن يكون لها إلا الأثر الطيب على صموده في حربه ضد الأمريكان، وتشريد من خلفهم.

الرحمة والمغفرة والرضوان للشهداء كلهم في فلسطيننا المحتلة ممن قتلوا وذبحوا بأيدي يهود، شهداء مجازر ديرياسين، البريج وقبية القدس وخان يونس، وقلقيلية وكفرقاسم والسموع و..و..و..و..الخ التي اختصرها نظام الأسد المختار فجمعها وقصرها في مجزرةٍ واحدة هي مجزرة تدمر، فكانت أم المجازر التي سبق بها الأسد المختار ما فعله فينا شعب الله المختار.

الرحمة والرضوان للأحرار أصحاب أخدود تدمر من أهلنا في الشام الذين قالوا كلمة الحق في وجه الطغاة والمستبدين من الظلمة والظالمين والفاسدين والمفسدين والمتاجرين بأرواح الكادحين وكرامتهم ولقمة عيشهم من سلالة فرعون وجنوده. والذل والهوان لكل أعداء الإنسان وقيم الإنسانية في الحياة الكريمة للإنسان والتعبير الحر عن رأيه في شؤون حياته ومعاشه، والويل لطغاة العصر الحديث وجزاريه من يوم الحساب. ويسألونك متى هو..!!؟ قل: عسى أن يكون قريباً.

تقرير سياسي

تقرير سياسي

اللجنة السياسية لحزب الوحدة الديمقراطي الكردي في سوريا ـ يكيتي ـ

خاص – صفحات سورية -

رغم التطورات المستجدة التي تشهدها مناطق عديدة من الشرق الأوسط ، يظل الملف الإيراني هو الحدث الأبرز على سطح التضاريس السياسية للمنطقة ، وخاصة بعد العرض الأمريكي بالتفاوض مع إيران واشتراطه بوقف تخصيب اليورانيوم ، ليخلق بذلك ديناميكية جديدة بسبب المغريات التي حملها خافيير سولانا الممثل الأعلى لسياسة الاتحاد الأوروبي الخارجية، ويفتح صفحة جديدة تستبعد الخيار العسكري ، وتضع إيران أمام خيارات حاسمة، خاصة بعد أن وصل ابتزازها إلى حدود لا يمكن للمدافعين عن الحلول الدبلوماسية لأزمة ملفها النووي مثل الصين وروسيا مواصلة الاعتراض على تحويل هذا الملف إلى مجلس الأمن ، وبعد أن استنفذ الجهد الأوروبي في إدارة هذه الأزمة اعتماداً على الإغراءات الاقتصادية والتكنولوجية من أجل إقناع إيران للقبول بوقف التخصيب ، لأن تلك الإغراءات لم تمتد إلى تقديم الضمانات السياسية والأمنية التي تمتلكها أمريكا بالأصل والتي تطالبها إيران بإعطائها دوراً إقليمياً متميزاً واستشارتها في الترتيبات الأمنية في الخليج، أو ضمان عدم السعي لتقويض وإسقاط نظام الحكم في طهران مقابل الخدمات التي يمكن أن تقدمها للغرب عموماً، مثلما فعلت في حروب تحرير الكويت والعراق وأفغانستان ، لذلك فإن دخولها ـ أي أمريكا ـ على الخط التفاوضي ، قطع الطريق أمام ذرائع النظام الإيراني الذي تغطى بلباس الراغب في الحوار ليكسب بذلك العديد من النقاط ومنها الغطاء الروسي الصيني في مجلس الأمن ، وعلى هذا الأساس يمكن القول أن المستهدف بالمبادرة الأمريكية الأخيرة بالتفاوض ليس إيران بالدرجة الأولى ، بل بكين وكذلك موسكو التي سوف تستضيف في منتصف تموز القادم قمة مجموعة دول الثماني وتنتظر من هذه القمة مكاسب هامة لن تفرط بها من أجل الملف النووي الإيراني التي ستكون الموعد الحاسم للرد الإيراني على العرض الأوروبي الأمريكي الذي حمله خافيير سولانا،علماً أن كل من موسكو وبكين استفادتا من الغياب الأمريكي عن الحوار مع إيران وتمكنتا من التأثير على حوارات مجلس الأمن حول العقوبات الاقتصادية التي يمكن اتخاذها بحق إيران استناداً إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ويجمع المراقبون أن مجال المناورة بدأ يضيق أمام النظام الإيراني الذي، رغم امتلاكه لأوراق تفاوضية كثيرة، غير الملف النووي، مثل العراق الذي يسهم في تعقيد حالة الفوضى فيه وعدم تمكينه من تجاوز الأزمة الأمنية ، إضافة إلى ورقة حلفائها الدوليين مثل الصين وروسيا اللذان تجمعهما مع إيران مصالح اقتصادية ، وحلفاء إقليميين مثل سوريا وفي لبنان وفلسطين ، فإنها الآن أمام خيارين: إما المقايضة التي ستوفر لها بعض المكاسب ، أو المواجهة التي ستعزلها عن العالم وتفاقم أزمتها الداخلية ، حيث تعاني من عدم استقرار اجتماعي واقتصادي ومن انتشار البطالة وفشل برامج الإصلاح التي وعد بها ، كما تعاني من ديون ضخمة ساهمت في تضخمها تكاليف التسلح النووي الذي يتمسك به نظام طهران ليغطي فشل السياسة الداخلية ومنها التنكر لعدالة القضية الكردية، عن طريق إشغال الإيرانيين بقضايا خارجية .

ونظراً لما عرف به النظام الإيراني من مرونة سياسية وبراغماتية معروفة في إدارة مصالحه، فإن إقدامه على المقايضة، وتسوية مواضيع الخلاف المختلفة بطرق دبلوماسية هو الأقرب من بين التوقعات ، وسوف تشمل المقايضة أوراقها الإقليمية ومنها التحالف مع سوريا وحزب الله وحماس والملف الأمني العراقي الذي يحتاج إلى كسب بعض الوقت في تحجيم التدخلات الإيرانية في شؤونه الداخلية ودعم المليشيات الطائفية . ليساهم ذلك، مع التطورات الأخيرة التي شهدها العراق، في التقدم على طريق الاستقرار ، خاصة بعد مقتل الزرقاوي الذي لا بد أن يكون له تأثير في إضعاف النهج التكفيري وتراجع العمليات الإرهابية التي تتغطى بلباس المقاومة ، والتي ترافقت مع استكمال تشكيلة الحكومة العراقية التي سبقتها حكومة إقليمية في كردستان وما حققته هذه وتلك من تذليل العديد من العقبات أمام العملية السياسية التي تبذل المزيد من الجهود حالياً لإقناع بعض الأطراف السنية المعارضة للانخراط فيها، ومعالجة الملف الأمني ووضع الخطط اللازمة لذلك ، مثلما حصل في بغداد وتعميمها على المناطق المتوترة الأخرى،وتشكيل ضغط سياسي على دول الجوار للكف عن دعم الإرهاب وحل أزماتها السياسية الداخلية على حساب الشعب العراقي ، مثلما حصل في تركيا التي طغت فيها القضية الكردية على السطح عبر احتجاجات شعبية عمت ديار بكر ومرسين واستنبول وغيرها في آذار الماضي ، والتي أخذت طابعاً سلمياً سحبت البساط من تحت أقدام المؤسسة العسكرية التي تتحجج بمحاربة الإرهاب والعنف، ووضعت تركيا أمام ضرورات التحرر من هيمنة العسكر وإقامة دولة ديمقراطية تؤمن للشعب الكردي حقوقه القومية على غرار ما حصل في كردستان العراق ، النموذج الأكثر سطوعاً على أن الحقيقة الكردية لن تبقى للأبد رهينة التضليل والإنكار .

أما في سوريا ، فإن السلطة تثبت يوماً بعد يوم عدم صلاحيتها للتغيير وتصر على التعامل مع الداخل الوطني بالمزيد من عمليات القمع والاعتقال التي طالت العديد من الرموز الثقافية والسياسية وأنصار حقوق الإنسان وتقديمهم لمحاكم مدنية تتحكم الأجهزة الأمنية في قراراتها لإطلاق أحكام جائرة على غرار الأحكام التي طالت معتقلي ربيع دمشق وفي مقدمتهم البروفيسور عارف دليلة .

وتأتي هذه الاعتقالات في محاولة من السلطة لإخفاء ضعفها وإرهاب المجتمع وإبقائه صامتاً تجاه ما تجري من عمليات فساد وتسلط، ومن تدهور خطير لأوضاع مختلف فئات الشعب السوري وغياب للحريات الأساسية ، وما يعنيه ذلك من تفاقم الأزمة العامة ،التي تستدعي حلولاً جذرية تعيد علاقة الدولة والسلطة مع المجتمع وتصوغ العلاقات السياسية والاجتماعية في ظل أجواء تسودها حريات التعبير والمشاركة والرأي والدعوة إلى مؤتمر وطني سوري عام ، ازدادت الحاجة له أكثر من أي وقت مضى، في ظل الأزمة السياسية والأوضاع الاقتصادية الخانقة التي ترفد المعارضة كل يوم بقوى اجتماعية وسياسية جديدة ، الأمر الذي يجعل من عملية التغيير الديمقراطي مهمة وطنية داخلية ملحة ، تتمسك بها أطراف إعلان دمشق التي تقدمت خطوة جديدة باتجاه استكمال آليات الإعلان وهيكلته التنظيمية من خلال عقد الاجتماع الأول للمجلس الوطني المؤقت،على طريق التغيير المنشود الذي تشاركها في الأهداف أطراف أخرى، ومنها جبهة الخلاص الوطني ، لكنها تختلف عنها من حيث الوسائل والآليات وخاصة ما يتعلق منها بالمراهنة على نتائج لجنة التحقيق الدولية، التي قدمت تقريرها لمجلس الأمن في الرابع عشر من حزيران، حيث ضمنته مجريات التحقيق ومدى تجاوب الأطراف والجهات المعنية بما فيها السلطات الرسمية السورية، لكنها تركت الاستنتاجات والأحكام للتقرير القادم بعد طلب التمديد لعمل اللجنة مدة سنة وموافقة مجلس الأمن على ذلك.

وعلى الجانب الكردي في سوريا فإن الأوضاع العامة في المناطق الكردية تزداد احتقاناً بفعل السياسة الشوفينية التي تتمترس خلف تفسيراتها المضللة لأحداث آذار 2004 والتي تعمل على إيهام الرأي العام الوطني السوري بالخطر الكردي المزعوم وتسعى لاستحصال المزيد من القرارات والقوانين الاستثنائية المتعلقة بالشأن الكردي ، حيث نجحت في نقل هذا الاحتقان إلى الشارع الذي يشهد حالة من الشك وعدم الثقة بين أبناء الوطن الواحد . وإلى دوائر الدولة التي تصاعدت فيها حمى التمييز القومي الذي يتواصل بالتضييق على العاملين الأكراد فيها ، كما عادت في المناطق الكردية ظاهرة الملثمين والجرائم الغامضة التي تثير علامات الاستفهام والقلق حول مسؤولية السلطة. ..مقابل ذلك فإن القضية الكردية تواصل حضورها السياسي كقضية وطنية ديمقراطية ، حيث يشهد الخط البياني للتضامن معها ، والدعوة إلى إيجاد حل ديمقراطي لها تصاعداً ملحوظاً ، ويترافق هذا الاهتمام مع محاولات متنوعة للبحث عن مرجعية كردية تمتلك حق القرار والتمثيل الكردي ، ومن تلك المحاولات ما جرى في مؤتمر بروكسل في 27 ـ 28 أيار الماضي ، والذي جاء في الأصل استدراجاً لمؤتمر واشنطن في 12 آذار ، الذي أعلنت أهدافه على أنها تتحدد بتأطير طاقات الجالية الكردية السورية في أمريكا الشمالية وتعريف الرأي العام الأمريكي بالقضية الكردية في سوريا . لكنه تجاوز تلك الأهداف إلى الدعوة لتشكيل مجلس وطني كردي سوري في بلجيكا .

ورغم قناعتنا بأن مثل هذه الدعوة تستمد مشروعيتها من مبررات وطنية ملحة ، خاصة بعد أن حظيت القضية الكردية في سوريا باهتمام ملحوظ يستدعي إيجاد مرجعية تحدد أهدافها وتعبر عن إرادة الشعب الكردي فيها ، وتعمل على صيانتها من الانحراف والاستثمار ،فإن ما جرى في بروكسل أدرج عملياً في إطار نقل مركز القرار الكردي إلى خارج موقعه الطبيعي في الداخل ، وهو ما يهدده بالابتعاد عن الواقعية الممكنة والافتقاد للمصداقية المطلوبة ، وكذلك تحجيم دور الحركة الكردية المنظمة وانتزاع المبادرة منها في قيادة العمل الكردي ، وهو ما يهدد أيضاً باللا مسؤولية والضياع،. لكن هذا وذاك لا يعني أبداً الانتقاص من دور ومكانة الخارج الكردي لأنه جزء وامتداد طبيعي لشعبنا الكردي في الوطن ، وبإمكان هذا الخارج أن يقدم خدمات كبيرة لهذه القضية من خلال تعريف الرأي العام الدولي بعدالتها وتقديم الدعم المطلوب لنضال الحركة الكردية ، كما أن المستقلين من فعاليات ورموز اجتماعية وثقافية واقتصادية ، سواء كانوا في الداخل أو الخارج ، هم جزء من الحركة الوطنية الكردية ، ويملك العديد منهم إمكانات كبيرة لا بد من أخذها بعين الاعتبار في عملية حشد الطاقات وتنظيمها في أي إطار أو مرجعية كردية منشودة ، لكن محاولات الاستهتار والاستخفاف بالداخل وحركته ، مثلما جرى في بروكسل ، لم يكن مقبولاً في أي حال من الأحوال .

ولما كان تحفظ معظم أطراف الحركة الكردية، وخاصة الجبهة والتحالف، انصب على مكان المجلس وقيادته ، فإن مشروع عقد المؤتمر الوطني الكردي في سوريا في الداخل، وبمبادرة من الحركة الكردية ، تزداد الحاجة إليه لأنه:أولاً يعبر عن إرادة شعبنا الكردي ، ويلبي –ثانياً- ضرورات المرحلة ويحمي –ثالثاً- هذا المطلب من الاستثمار الخاطىء، لذلك فإننا نجدد تأكيدنا على ضرورات انعقاده وإشراك مختلف الأطراف الكردية في مساعي التحضير له ، ونعتقد أن الخطوة الأولى على هذا الطريق هي اعتماد الرؤية المشتركة لحل القضية الكردية في سوريا التي أقرتها الجبهة والتحالف كورقة عمل للمناقشة والتعديل لتصبح رؤية مشتركة كردية عامة، يشكل الموقعون عليها هيئة العمل الكردي المشترك تقوم في إطار مهامها، إلى جانب توحيد الموقف الوطني الكردي حيال المستجدات السياسية، بالتحضير للمؤتمر الوطني الكردي المنشود في سوريا .

27 حزيران 2006

اللجنة السياسية لحزب الوحدة الديمقراطي الكردي في سوريا ـ يكيتي ـ

المطالبة بحقوقنا القومية والدفاع عن خصوصيتنا الكوردستانية

المطالبة بحقوقنا القومية والدفاع عن خصوصيتنا الكوردستانية لا يعني أبداً الإنتقاص من حقوق الآخرين...!؟.

نوري بريمو

خاص – صفحات سورية –

إن قبول الطرف الكوردي لابل رضوخه لمجبورية البقاء في إطار سوريا كدولة وكمجتمع...، رغم الظروف الدولية

والإقليمية الحالية المواتية له جداً...!؟، ورغم ضعف ثقته بالجار المقابل الذي يحمل بغالبه ثقافة فوقية أفقدته مصداقيته في شارعنا طوال عهود سلطوية أطبقت علينا وعلى غيرنا كل الأبواب...!؟،عبر تشويهها المتوارث والمتعمّد لكافة المفاهيم وخاصة لقيَم وإستحقاقات الوطن والمواطن والوطنية...!؟، قد جاء (أي هذا القبول) نتيجة لرضوخ الجانب السياسي الكوردي لموجبات هكذا حالة جيوسياسية إستبدادية فرضتها ظروف (دولية ـ إقليمية) خارجة عن إرادة شعبنا عبر الضم القسري لمناطقنا الكوردستانية بموجب اتفاقية سايكس بيكو (عام 1916) إلى الدولة السورية الناشئة سياسياً أنذاك...!؟، وقد جاء أيضاً نتيجة لكون الكورد دعاة خيار ديموقراطي وتوافق سياسي وإلتقاء مع الآخر للحوار معه كطرف قومي شريك في سوريا التي ((نتمنى)) لها أن تكون حاضنة ديموقراطية حقيقية لجميع الملل والأقوام دون تمييز...، لكنّ ما يقلقنا وسط هكذا رضوخ قد يبقى يشكل ممراً إجبارياً لا بديل عنه في ظل إرتباط حل قضيتنا بدمقرَطة البلد والعكس صحيح طبعاً...!؟، هو أنّ السير الإجباري في هذا الدرب الذي يبدو أنه سيبقى شائكاً محيّراً مادامت الدوائر الشوفينية مهيمنة وقابضة على المناخ السياسي العام السائد في البلد...!؟، قد يجلب لشعبنا المزيد من المجهولية والضياع القومي...!؟.

وبناءً عليه...، فإننا في الوقت الذي نعلن فيه عدم رفضنا لمبدأ الإحتكام لسياسة الأمر الواقع...!؟، نجد بأن المرونة المفرطة أوالمراهنة الوحيدة الجانب التي يقبل بها البعض منّا إلى حد ّ التهافت للتقرّب من مركز القرار لدى النظام أوالمعارضة...!؟، والإستجداء منهم لتقبّل قضيتنا كملف ((مواطني داخلي)) ومن أية مرتبة كانت...!؟، هذه المراهنة في هذا الظرف السياسي الدولي الإقليمي السوري المصيري جداً...!؟، على طرفٍ آخر يستمر في صهر قومك ويتعالى عليك ولا يعترف بقضيتك لابل يشكك بها ويتآمر عليها إن دعت مصالحه القومية...، هي مراهنة يشوبها نوع من القصور السياسي وهي في نفس الوقت سلاح ذو حدّين لكونها أشبه ما تكون بمجاذفة سياسية قد تتراكم عليها خسائر حاضرة ومستقبلية قد تُوقِعنا في مطبات وفخاخ كثيرة...!؟.

لذلك فإنه بالنظر إلى السلوك الشوفيني لمعظم الأنظمة التي حكمت البلد وعلى وجه الخصوص نظام البعث الحاكم...!؟، إضافة إلى تجربتنا المشاركاتية الفعلية في أكثرية اللقاءات والحوارات والمنتديات مع غالبية أوساط المعارِضة الديموقراطية المتحفظة كما تفعله السلطة لدى تناولها لحقوق شعبنا!؟، ليس هذا فحسب لابل هي مصرّة على تسويف الحلول إلى مابعد الدمقرَطة وعلى حصر حقوق الكورد بالمواطنة ممتنعة بذلك عن إعطائهم أية خصوصية كقومية ثانية...، وخير الأمثلة على ذلك مايجرى الآن من تغييب للجانب الكوردي عن الكونفرانسات والمؤتمرات والجبهات وربما قد يحلو لهم إبعاد الكورد عن أي حكم ديموقراطي مستقبلي...!؟، وبما أنّ مثل هكذا توجهات إقصائية لازالت سائدة لابل أصبحت تتكرّس يوماً بعد آخر...!؟، مع إحترامنا لبعض الأطراف الديموقراطية التي تبدي بين الحين والآخر نوع من التعاطف الإنساني الخجول مع قضيتنا، كإعلان دمشق مثلاً...!؟، لذا فإننا نوكد بأنّه لاينبغي أن ننقاد وراء أية رهانات أوتسويفات أو وعود خلّبية...!؟، ما لم تكن مبنية على وثائق وقرارات وعقود عمل توافقية سياسية واضحة وتحمل توقيع الشريك المقابل...!؟، أما إذا ما لم يتم الإستحصال على هكذا توافقات موثّقة...، فإنه يمكن إعتبار صلاتنا مع تلك الفعاليات السياسية السورية...، كواحدة من جملة أجندنا السياسية الهادفة إلى ترطيب الأجواء مابين شعبينا وكمحاولة لطمأنة الشريك الآخر وعدم استعدائه إن أُمكن...!؟، ويُفضّل في هكذا حالة أن لا يتأثر أيٌّ منا بخطابهم القوموي وبقراءتهم السياسية التقليدية لجملة ما يجري في منطقتنا من مستجدات ومتغيرات مصيرية كموقفهم من الحضور الحالي للأسرة الدولية، والذي يصفونه بـ ((الاستعمار الغربي)) بعكس معرفتهم الحقيقة به على أنه خيار لابد منه لتخليص بلدنا ومنطقتنا من الإستبداد و القهر والإرهاب بكل أنواعه...!؟.

طبعاً هذا لايعني مطلقاً بأننا حينما نتمسّك بثوابتنا القومية وندافع عن خصوصيتنا الكوردستانية ونطالب بالإدارة السياسية الذاتية لمناطقنا وندعوا إلى توثيق علاقاتنا مع الجانب السياسي العربي في البلد...!؟، نكون بذلك من دعاة التنصل من تحمّل واجباتنا ومسؤولياتنا تجاه الشؤون والهموم السورية المشتركة...، أو نكون من مناصري القطيعة المجتمعية مع جيراننا العرب أو نكون من مفتعلي خلق مسافة بيننا وبين باقي أطراف المعارضة التي نعتبر أنفسنا جزءاً منها...!؟، أو أننا ندعوا إلى الوقوف بالحياد من مسيرة الحراك التغييري الجاري في البلد...!؟، وإنما على العكس من ذلك فموقفنا المناهض للنظام واضح ولا لبس فيه...!، وقد أثبتنا عملياً باننا دعاة بناء أوثق العلاقات الديموقراطية ليس مع الطرف العربي فحسب بل مع كافة المكونات والشرائح المنضوية في إطار الخارطة السياسية السورية الحالية، على طريق الإيتاء بالبديل الديموقراطي الذي لا بديل عنه وسط هكذا مشهد سياسي سوري يدعو إلى القلق والتفاؤل في أنٍ واحد...، وذلك عبر التداعي الديموقراطي العام لبناء دولة عصرية يدير شؤونها نظام حكم ديموقراطي تعددي (لامركزي) مبني على التوافق بين كافة الشركاء دون أية تفرقة على أي أساس تمييزي كان .

========================================

* الناطق بإسم حركة الحقيقة الكوردسستانية ـ سوريا