الرأي والرأي الآخر في المشهد السوري

٢٠٠٧-٠٦-٣٠

الرأي والرأي الآخر في المشهد السوري

أكرم البني

يبدو أن أسئلة التعاطي مع الآخر، وتفهم حقوقه وخصوصياته تثار اليوم باهتمام لافت ردا على الجو المحموم بالتهديدات والتضييق وتنامي منطق القوة لفرض الأفكار والمواقف على الناس، وبشكل خاص ردا على الاعتقالات والأحكام القاسية التي اتخذت بحق مثقفين سوريين وناشطين حقوقيين لأنهم بادروا بتوقيع رؤية مشتركة مع مثقفين لبنانيين حملت اسم "إعلان بيروت دمشق" بهدف تخفيف الأجواء المشحونة بالتوتر والاحتقان ورسم صورة لعلاقة صحية يفترض قيامها بين البلدين، وتحديدا ردا على أصوات ارتفعت تسوغ هذه الإجراءات التعسفية باعتبارها إجراءات مشروعة لأن هؤلاء المثقفين تبنوا أفكارا لا تتفق مع أفكار النخبة الحاكمة ومواقفها.

كيف لا، ما دام "الرأي الآخر" يفهم عند عشاق التنميط والأحادية على أنه رأيهم نفسه، لكنه يصبح "آخر" فقط من زاوية أن هناك شخصا "آخر" يعرضه، لا من زاوية اختلاف مضمون الرأي وما يحمله من أفكار متمايزة!

لقد درجت العادة في بلادنا على أن هناك طرفا يدعي امتلاك الحقيقة ويعتبر أفكاره أو ما يخطه من سياسات هو الصحيح والصائب ومن يعارضها مخطئ ومنبوذ، مسوغا لنفسه استخدام ما يحلو له من وسائل قمعية وشتى أساليب التصفية لإقصاء الآخر المختلف وتحطيمه، أحيانا عبر الاعتقال والسجن وأحيانا من خلال الركون إلى سلاح التشهير والطعن وتكريس تلك الأجواء المرضية التي تستسهل سوق الاتهامات وتضع في دائرة الشك كل من يتجرأ على الاعتراض أو يبدي رأيا مخالفا.

تصل هذه الوسائل في بعض الأحيان إلى حد اعتبار المخالف مارقا وعميلا يحل سحقه وربما ذبحه، اللهم إلا إذا تخلى عن حقه في الاختيار والتمايز وأفاد من بلسم "النقد الذاتي"، "فرصة التوبة" وعاد صاغرا إلى صفوف القطيع مفككا ما يعتمل في دماغه مما يعتبر تشوهات فكرية ومواقف مريضة.

وعندما يكون السائد والطاغي في حياتنا السياسية والثقافية هو الأيديولوجية، وأكثرها حضورا أيديولوجية وصائية تعطي الأفضلية المطلقة لتصوراتها المسبقة وقيمها الثابتة، يغدو حضور الرأي الآخر المختلف والواجب احترامه مسألة مرفوضة تماما، أو بالحد الأدنى مسألة نافلة أو حاجة كمالية مستوردة لا يحتاجها مجتمعنا.

وهذا ما سمح للنخب الحاكمة بتنصيب نفسها وصيا على حياة الناس ومصالح الوطن، وتاليا تفتيت أو سحل وجهات النظر المعارضة والتعددية السياسية بدعوى أنها بدعة غربية تهدد أمن المجتمع واستقراره وتضعفه في مواجهة التحديات الخارجية.

فبأي حق ينصّب البعض نفسه وصيا على الوطن والناس، ويدعي أن أفكاره وسياساته أو ما يدعيه هو الصحيح والصائب وأن من يعارضه خائن وعميل يستحق أشد العقاب؟

صحيح أن النخبة السياسية الحاكمة نجحت في اكتساب مشروعيتها عندما قدمت نفسها بصفتها نخبا وطنية وذات رسالة قومية، لكن صحيح أيضا أن الشروط تغيرت وبانت النتائج محبطة ومخيبة للآمال من حيث ورثتنا واقعا عاجزا ومأزوما لم تعد تنفع معه محاولة إثارة المشاعر القومية والتعبئة بشعارات وطنية للتهرب من موجبات احترام الرأي الآخر أو تحليل قمعه.

ومع أن سوريا صادقت على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تنص المادة 19 منه على حق كل شخص في التمتع بحرية الرأي والتعبير واعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين بأية وسيلة، ومع أن الدستور السوري ذاته يضمن حرية الرأي والتعبير في المادة 38، فإن الأمر على صعيد الممارسة على النقيض تماما من تلك الضمانات.

ويأتي ذلك في ظل طبيعة السلطة وميلها في الاتجاه العام نحو الأحادية والسيطرة الشمولية، مستندة إلى إعلان مزمن لحالة الطوارئ التي تبيح للحاكم العرفي أو نائبه في المادة الرابعة أن يقرر ما يراه مناسبا من قيود على حرية الأشخاص.

كما تستقوي السلطة بما درجت على تسميته "الخطوط الحمر حول ما يسمح وما لا يسمح أن يقال" التي يحظر تجاوزها تحت طائلة الحساب والعقاب والتي هي قابلة للتعديل من طرف واحد وفي أي وقت تبعا لمزاج الأجهزة الأمنية وحاجتها للذرائع كي تعزز "سطوتها" على المجتمع.

والنتيجة أن كل الدعوات الإنسانية وكل الحقوق الطبيعية والدينية والأعراف الدولية والمواد الدستورية لم تستطع منع الاستعباد والاضطهاد والتمييز في بلادنا.

وإذا تجاوزنا لغة القمع والاستبداد تستدعي الحقيقة أن نتوقف أيضا عند حملة الفكر الثوري، ومعظمهم للأسف ليست لديه صعوبة في التضحية ليس فقط بحق الإنسان في الرأي، بل بالإنسان نفسه أو بالآخر المختلف في سبيل ما يعتبره مثل الإنسانية والأهداف النبيلة.

وقد أثبتت التجربة التاريخية أكثر من مرة أن أصحاب المبادئ العليا أنفسهم كانوا الأكثر استعدادا للتحول إلى طغاة باسم القيم والمرامي العليا نفسها، ما دامت الغاية عندهم تبرر الوسيلة، وعلى مذبحها يسهل تقديم القرابين بدون حساب.

وغالبا ما يكون الآخر المختلف وأحيانا المؤتلف وحتى الحليف السابق هو مادة هذه القرابين، الأمر الذي يقودنا إلى الحديث عن المعارضة السورية التي لا يزال معظمها مترددا حتى الآن في إحداث قطيعة مع أفكار الماضي، وفي نفض يده من ثوابت أيديولوجية عفا عليها الزمن تتناقض مع مبادئ الفكر الديمقراطي، وأبسطها حق الإنسان في الرأي والتعبير، وفي إعطاء هذه الحق الأولوية التي يستحقها، مثلما لا يزال معظمها يستمد حضوره من حسابات ضيقة وادعاء ملكيته للحقيقة، ولا يخجل من استخدام وسائل فوقية، ولنقل سلطوية وإقصائية إن صحت العبارة، في تعامله مع الرأي الآخر من أجل نصرة أفكاره ومواقفه الخاصة.

ويكتمل المشهد بأسباب مجتمعية لا تزال تعيق بدورها حق الرأي الآخر واحترامه، منها طبيعة النظام الاقتصادي والاجتماعي الذي يستمد بعض مقوماته من أسس وروابط متخلفة، منها الموروث التربوي الشرقي لأنماط العلاقات في الأسرة والمدرسة والعمل وخضوعها جميعها وإن بدرجات مختلفة لمبدأ السلطة المطلقة، ربطا بشيوع بعض المفاهيم الخاطئة لمسألة الطاعة كطاعة الوالدين وأولي الأمر وإسباغ القداسة والغيبية عليهما.

كل ذلك أفضى إلى تهميش مزمن لدور العقل والنقد، وإلى الاستسلام لسطوة الاستبداد واستساغة الرأي الواحد واللون الواحد إلى درجة اعتبار كل ما عداه غريبا ومنبوذا من المجتمع.

والحقيقة أن الحرية بما هي امتلاك الإنسان لذاته بصفته كائنا معنويا تشكل جوهر الحقوق الأساسية للحياة الطبيعية، ويتجسد أكثر أشكالها تعقيدا وصعوبة في احترام الرأي الآخر وتاليا احترام ظواهر التنوع والتعددية والاختلاف.

إن حاجة المرء إلى الآخر هي شرط لازم كي يعرف نفسه معرفة متكاملة، فتحديد هوية "الأنا" تقتضي وجود "الآخر" المختلف والمتباين، ومن نتيجة اختلافنا عن "الآخرين" تحدد الـ "نحن"، فالأمور تعرف بأضدادها أكثر مما تعرف بصفاتها الخاصة.

وما دام الأنا عيانيا ومفهوميا يستدعي الآخر ويتحدد به مثلما يستدعيه الآخر ويتحدد به، فلا مجال لفهم صيرورة المجتمع الصحي دون أخذهما معا في وحدة جدلية تقوم على قاعدة الاشتراط المتبادل.

وبالتالي فمن تسطيح الأمور وتبسيطها القول بضرورة احترام الرأي الآخر فقط إذا كان قريبا منا أو متفقا معنا، بينما المسألة في حقيقتها هي التعاطي مع الرأي الآخر واحترامه أساسا عندما نعتبره مختلفا وخاطئا.

وفي هذه النقطة، إذا وضعنا جانبا لغة المصالح وحساباتها، لا يمكننا القفز فوق حقيقة موضوعية تقول إن تمايز قدرة العقل البشري بين إنسان وآخر وتفاوت عملية تطور المعرفة وشروط الحصول على المعلومات وتباين خصوصية الأسباب التاريخية والاجتماعية التي حكمت نمو هذا الكائن أو ذاك، كل هذه العوامل تؤدي إلى اختلافات في الوعي وتؤسس في كل مجتمع للتنوع والتعددية ولمبدأ النسبية في التحصيل المعرفي، مما يجعل للصواب والخطأ معاني مختلفة باختلاف الزمان والمكان ليغدو الرأي الخاطئ صائبا مثلما يمكن أن يصبح الصائب خاطئا.

وأيضا ليس من مبرر لأن نفهم حق الآخر في الرأي إذا لم يكن هو حقه في أن يختار المبدأ الفكري أو الموقف الذي يقتنع به بغض النظر عن صحته أو مشروعيته من وجهة نظرنا، وإذ يستطيع كل إنسان أن يقول لآخر إن رأيك خاطئ فذلك لا يرتب عليه أبدا أدنى مبرر أو مشروعية لحجب حقه في الرأي.

فالإيمان بحرية الاختيار والتفكير يعني أنه ليس ثمة حدود أو خطوط صفراء ولا حمراء للي ذراع هذا الحق وتطويعه، ويعني أيضا أن احترام الرأي الآخر قيمة بحد ذاته أو مبدأ مرسل لا علاقة له بالصواب والخطأ، ولا تحكمه اشتراطات وثوابت مسبقة ولا تلغيه حالة طوارئ، وأقصى ما يمكن فعله هو تنظيم التعبير عنه دستوريا وقانونيا.

ثم لنفترض جدلا أن ثمة رأيا خاطئا أو متحاملا ومبالغا في انتقاداته، هل يستدعي ذلك اللجوء إلى القمع أو إلى قاموس الاتهام؟ وأين دور السجال بوصفه الشكل الأرقى لإدارة الخلافات الفكرية والسياسية وكشف الخيط الأبيض من الأسود؟ ألم يحن الوقت أن يحتكم مجتمعنا إلى الحوار لا إلى أية وسيلة أخرى على قاعدة الثقة بقدرة الناس على تفنيد ما تراه خاطئا أو مغرضا؟

وفي هذا الإهاب من المفيد أن نتذكر ما تكبدته المجتمعات عندما أسقطت الحق في الرأي والمعتقد، ولأي درك وصلت أحوالها على يد محاكم التفتيش الكنسية أو صاحب الزنادقة في الخلافة العباسية، وأيضا ما أدى إليه كبت الآراء بحجة أنها خاطئة أو على ضلال من مآس مروعة تبدأ بالاضطهاد والقمع وتنتهي بإفقار الحياة والفكر والأخلاق في المجتمع إلى حد يهدد بانحطاطه وفنائه.

ومن هذا حذر المفكر ياسين الحافظ قائلا "عندما يغيب التسامح وتدان التعددية ويعتبر كل فريق نفسه مالكا الحقيقة وعندما يمارس السحل والسحل المضاد وعندما يصبح السجن المكان الوحيد للرأي الآخر وعندما يوضع القانون على الرف أو يصبح غلافا لشهوة الحاكم أو مصلحته، عند هذا كله أو بعضه ماذا يبقى للمجتمع من قيم ووسائل يدافع بواسطتها".

وطبعا يلمس اليوم أي مراقب للحياة السياسية السورية شدة ضعفها ومدى الانحسار الذي أصابها بسبب استمرار التضييق على حق الرأي والتعبير، وبسبب نشر الخوف التقليدي من أخطار النقد والاختلاف، مما يستدعي تأسيس وبناء قواعد فكرية وأخلاقية جديدة لمفهوم الرأي والرأي الآخر بعيدا عن سيطرة الروح الوصائية بصفتها مرجعا أحاديا يتنكر لمفاهيم التباين والنقد، وبعيدا عن زمن القمع والخنوع والتسليم وقتل روح التجديد والمبادرة، وبعيدا عن مجتمع سلبي لا مبال مفعم بالغرائز وأسير روح الاستهلاك والاستمتاع الرخيص.

هذا الأمر يتطلب بداية نقد الذات كضرورة لا مفرّ منها لتنظيف البيت من الوعي الإقصائي العتيق، مما يقود منطقيا وعمليا إلى رفض أي تحديد أو تحجيم لمفهوم الآخر وحقوقه المكافئة لحقوقنا والتي تعني الاعتراف به بوصفه روحا بشرية جديرة بالحياة والاحترام التام، بغض النظر عن اللون والجنس والعرق والمعتقد.

والأهم هو الاعتراف بالآخر بوصفه كائنا معنويا بامتياز، منتجا للأفكار والمواقف وندا ذا حقوق محايثة ومتساوية نابعة من حقوقه الطبيعية في الحرية والكرامة والاجتهاد.

هذه الحقوق لا تتعارض، كما يروج لذلك، مع أية مهمة أو هدف وطني بل على العكس هي السند الحقيقي والداعم للانتماء الوطني، فقوة الوطن تتكامل مع حرية المواطن وحقوقه، ولا يستقيم الذود عن البلاد ومواجهة تحديات البناء والتنمية مع شيوع روح قهرية تحجب حق الآخر وحريته أو تسحق شعوره الإنساني بالانتماء الطبيعي المتساوي.

من المؤسف حقا بعد ما شهده العالم من متغيرات ومع عصر الثورة المعلوماتية أن يذهب البعض إلى إدانة وتجريم أي رأي مهما كان من وجهة نظره مغاليا في خطئه طالما تتوفر له الوسائل الإعلامية والعلمية لاستجلاء حقيقة الأمور وإظهار الحق من الباطل، وطالما يعرف جيدا أن استخدام السجن والاعتقال أو سلاح الاتهام هو تعطيل للحرية والنقد وتخريب للمجتمع وإجهاض سبل الوصول إلى الحقيقة.

ولنتخيل مجتمعنا لوهلة، لو لجأت السلطة مثلا إلى المحاجة لا الاتهام، لو وطنت النفس على تقبل التعايش مع واقع يحتمل النقد ويحتمل وجود رأي معارض أو مخالف، له من الحقيقة ما لها ومعني مثلها بحاضر هذا الوطن ومستقبله.

لو احتكمت السلطة إلى عقول الناس وأتت بالبينات والحقائق قبل أن تلجأ إلى القمع والاعتقال وإطلاق التهم جزافا، لو استخدمت سلاحا من العيار نفسه الذي يستخدمه الصوت المعارض، وقارعت الفكرة بالفكرة والكلمة بالكلمة، مكرسة أسلوب الحوار والسجال الذي يرنو إليه الجميع لإدارة أوجه الصراع والاختلاف بوسائل سلمية.

لعل مياها كثيرة جرت بعد قول فولتير "إنني أخالفك الرأي ولكنني على استعداد لتقديم عنقي في سبيل أن تقول رأيك بحرية" لكن من المؤسف أن السائد اليوم في مجتمعنا هو ثقافة مدعي امتلاك الحقيقة المطلقة الذين لا مكان في دنياهم لما يعتبرونه بدعة حق الآخر في الرأي والاختيار والاختلاف!

__________________

كاتب سوري

كسر الجليد السوري ـ الإسرائيلي: ما يطرأ سريعاً يتطاير أسرع

كسر الجليد السوري ـ الإسرائيلي: ما يطرأ سريعاً يتطاير أسرع

صبحي حديدي

في أواخر العام 1999، حين كانت أكثر من نار هادئة في واشنطن ودمشق والقدس المحتلة تطبخ المسوّدات والخرائط الضرورية قبيل التوصّل إلي اتفاقية سلام بين الدولة العبرية والنظام السوري، نشرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية خبراً لافتاً، سرعان ما أكدته صحف عربية نقلاً عن مصادر سورية مسؤولة، عن ترتيبات كان يتولّي أمرها عضو الكنيست عبد الوهاب الدراوشة، لعقد قمّة روحية فريدة في دمشق.

لائحة ضيوف القمّة ضمّت مفتي سورية آنذاك، الشيخ أحمد كفتارو، ويسرائيل لاو كبير حاخامات إسرائيل، يحضرها أيضاً الحاخامات إلياهو بكشي، عوفاديا يوسف (الزعيم السابق لحركة شاس ) ويوسف جيجاتي (حاخام اليهود السوريين). وكان مطلوباً من القمّة أن تكسر، علي الجانبين السوري والإسرائيلي في الواقع، طبقة أولي من الجليد السيكولوجي السميك والصلب والعتيق، الذي لا بدّ من كسر طبقاته واحدة تلو الاخري، قبل الشروع في التطبيع.

واليوم، بعد أخبار اللقاء المشهود ـ و التاريخي حسب توصيف الصحافة الإسرائيلية، بين مفتي سورية الشيخ أحمد بدر الدين حسون والحاخام الأكبر للجالية اليهودية في النرويج يوئاف ملكيئور (نجل عضو الكنيست عن حزب العمل الإسرائيلي ميخائيل ملكيئور، للإيضاح المفيد)، هل يصحّ الحديث مجدداً عن جهد منهجي لكسر جليد جديد، فوق الجليد القديم؟ ذلك لأنّ اللقاء لم يكن روحياً فحسب، كما حرص المفتي علي التأكيد، بل تضمّن طلب الحاخام من حسون أن يبذل مساعيه الحميدة من أجل نقل رفاة الجاسوس الإسرائيلي الشهير ايلي كوهين إلي إسرائيل؛ كما أنّ هذا الطلب ذاته لا يمكن أن يظلّ إنسانيّ الطابع ليس أكثر، إذا تأمّل المرء ردّ المفتي علي الحاخام: سوف يصبح الطلب واقعياً، بعد تحقيق السلام بين البلدين!

في جانب غير روحيّ البتة، علي الجبهة الدبلوماسية ـ السياسية ليس أقلّ، قال السفير السوري في لندن إنه تعيش في سورية أقليات كثيرة، من مسيحيين وأرمن وأكراد. ولا توجد أي مشكلة في أن يعيش إسرائيليون أيضاً . تصريحات الدكتور سامي الخيمي وردت خلال ندوة نظمها المركز الإعلامي السوري في لندن مؤخراً، تحت عنوان هضبة الجولان: ننهي الاحتلال، وننشيء سلاماً ، في مناسبة الذكري الأربعين لاحتلال الجولان، وجاءت ردّاً علي سؤال مباشر حول مصير مستوطني الهضبة في حال انسحاب الدولة العبرية منها.

ولقد سارع السفير الخيمي إلي تصحيح أقواله تلك، وأنّ جوابه كان أنّ المستوطنين قد يفضّلون البقاء تحت السيادة السورية كون سورية بلدا مسالما بالنسبة لكلّ جيرانها، بلد علماني يحترم كل الأديان ويتمتع فيه كافة المواطنين بحقوق متساوية ، كما جاء في صحيفة السفير اللبنانية.

المركز الإعلامي ذاته، وهو جهة حكومية سورية في نهاية المطاف، كان قد نشر النصّ التالي في موقعه علي شبكة الإنترنيت: في ردّ علي سؤال بشأن مصير المستوطنين الإسرائيليين في الجولان بعد عودتها إلي السيادة السورية، قال الدكتور الخيمي إنهم قد يفضّلون البقاء تحت السيادة السورية، كون سورية ملجأ آمنا لكل جيرانها ـ كبلد علماني يحترم كل العقائد وتمتع كل مواطنيه علي الدوام بحقوق متساوية ـ بدلاً من العودة، كما يجب أن يفعلوا بموجب القانون الدولي، إلي إسرائيل: دولة أبارتهايد (عنصرية) ذات مظاهر ديمقراطية مزيفة .

ما الفارق، حقاً، سوي احتمال أنّ يكون السفير قد تقصّد التنصّل من الشطر الأخير في تصريحه، وليس الشطر الأوّل، أي شاء النأي بنفسه عن توجيه تهمة ثقيلة إلي إسرائيل، قد تجرّ عليه غضبة اليهود داخل بريطانيا، وهي في الآن ذاته قد تغضب سيّده في دمشق لأنّ أقوالاً كهذه قد لا تكسر الجليد بقدر ما تضيف إليه المزيد؟ ولعلّ الدكتور الخيمي تذكّر أنّ الشيء بالشيء يُذكر، وأنه إذا كانت إسرائيل دولة عنصرية بالفعل، وإعادة إنتاج لأسوأ ما انطوي عليه نظام الأبارتيد العنصري في جنوب أفريقيا، فهل دولة النظام البعثي الحاكم في دمشق ليست عنصرية تجاه البعض من أبناء سورية، الأكراد علي سبيل المثال الأبرز؟ وهل يتمتّع جميع المواطنين السوريين بحقوق متساوية، بالفعل، حتي أنّ رجل أعمال مثل رامي مخلوف لا يختلف في الحقوق والواجبات عن مواطنه ابن بلده رياض سيف، مثلاً؟

ولن تتكامل جهود المفتي وجهود السفير إلا إذا صبّت المياه في طاحونة التلميح والتصريح التي يشغّلها الوزير، وزير الخارجية، وليد المعلّم. ولقد جاء في الأخبار أنّ مايكل وليامز، المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة في الشرق الأوسط، نقل إلي رئيس الحكومة الإسرائيلية إيهود أولمرت استعداد دمشق للعودة فوراً إلي طاولة المفاوضات مع إسرائيل، دون شروط مسبقة. وسلّم وليامز الرسالة إلي أولمرت بحضور الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، أثناء مأدبة عشاء أقامها داني غليرمان، المندوب الإسرائيلي لدي الأمم المتحدة، في نيويورك. وأمّا الطرف المرسِل فقد كان وليد المعلّم، مفوّضاً من سيّده بشار الأسد الذي ينتظر الوسيط الأممي نفسه، وما يمكن أن يكون ردّ أولمرت علي عروض دمشق.

غير أنّ تسريبات رئيس وزراء الدولة العبرية أوحت، سريعاً وصراحة، بأنّ سيطرة حماس علي مقاليد الأمور في غزّة هي شغل أولمرت الشاغل هذه الأيام، مثله في ذلك مثل سواه في الواقع! ولهذا كان يتوجّب علي أحد ما، في جهاز النظام السياسي، أن يتلافي بعض الأضرار التي تسببت فيها الجهود المجانية لأمثال المفتي والسفير والوزير، خصوصاً وأنّ ما خفي منها كان أدهي علي الأرجح. ولقد وقع الاختيار علي نائب الرئيس، فاروق الشرع، فأدلي بسلسلة تصريحات معاكسة، لكي لا نقول مناقضة، لما جري هنا وهناك من عمال كسر الجليد.

ولقد أفادنا الشرع بأنّ إسرائيل والولايات المتحدة لا تريدان السلام مع الفلسطينيين، ولا مع سورية ، التي تأخذ كلّ الاحتمالات علي محمل الجدّ، وتعطي الأولوية للسلام . ومع ذلك فإنّ النظام لم يعقد مفاوضات سرّية مع إسرائيل، لأنّ الاتصالات السرية هدفها فقط التنازل، وسورية غير مستعدة للتنازل . ولكي يذهب أبعد، في جانب تسديد بعض النيران علي البيت الأبيض تحديداً، قال الشرع إنّ اتفاقاً سورياً ـ إسرائيلياً سوف ينقصه الدعم الأمريكي اللازم لأنّ الرئيس الأمريكي جورج بوش قال بصريح العبارة أخيراً: أنا لا أريد السلام مع سورية .

غير أنّ العلامات والإشارات والنُذُر الساعية إلي كسر الجليد أو الإيحاء بإضافة سماكات جديدة إليه، أمر يختلف تماماً عن العودة ـ مشروطة او غير مشروطة ـ إلي طاولة التفاوض حول أيّ انسحاب إسرائيلي من الجولان، فكيف بالتوصّل إلي مسوّدة اتفاقية سلام شامل وختامي. وفي مناسبات كهذه، وهي كثيرة وافرة دائماً، تقفز إلي الذهن تلك المسلّمة التي تقول إنّ مرتفعات الجولان ليست مجرّد صخرة ثقيلة جثمت وسوف تجثم علي طاولة أيّ تفاوض سوري ـ إسرائيلي (علي نحو لا يشبه في شيء مفاوضات صحراء سيناء أو منعرجات وادي الأردن الضيّقة) فحسب، بل هي أيضاً وأساساً هضبة أشبه بكرتونة بيض قادرة علي دبّ القشعريرة في أوصال أيّ عسكري إسرائيلي يشغله الدور الحاسم الذي تلعبه طبوغرافية الأرض في حسم الحروب.

كما تقفز إلي الذهن تلك العقلية الإسرائيلية الفريدة حول التطبيع، والتي تقف، بقوّة غاشمة في خلفية أيّ سيناريو تفاوضي ذي حظّ أدني من النجاح. وفي أكثر أيّام التفاوض السوري ـ الإسرائيلي إزدهاراً وانتعاش آمال (حين صرّح الشرع نفسه أنّ نسبة 80% من القضايا العالقة تمّ إنجاز المباحثات حولها)، قام المؤرخ والصحافي الإسرائيلي توم سيغيف بتوجيه رسالة مفتوحة إلي الأسد الأب، عبر صفحات صحيفة هآرتس ، بدأها بالقول إن الرأي العام الاسرائيلي مجمّد عند نقطة الإقتناع بأن المحادثات بين سورية وإسرائيل أشبه بالوضع الذي يقول فيه طفل لآخر: دعني أري ما لديك، لكي أدعك تري ما لديّ . وسيغيف أضاف إلي نوايا الأسد المعلنة، تلك النوايا الأخري الخفية التي لا تترك أدني ظلّ للشك في أن مصلحة سورية تقتضي عقد السلام، ولكنه مؤرّخ يعرف بلاده أكثر من معرفته بالبلاد الأخري، ولهذا كان تشخيصه للوضع العالق يتجاوز بكثير حكاية طفلين يتعاندان علي إظهار ما عندهما.

وتابع سيغيف مخاطبة الأسد: لقد بدأتَ طور الطمأنة الجديد بحديث صريح مع يهودي طيّب من أمريكا هو توم لانتوس. ولكن لانتوس لن يعيش معك، بل نحن الذين يتوجب أن نعيش معك وتعيش معنا، فتحدّث إلينا يا سيادة الرئيس . كيف؟ هنا فكرة سيغيف: أقترح عليك استدعاء مجموعة من الصحافيين الإسرائيليين إلي دمشق. ويسرّني أن أكون أحدهم. اسمحْ لنا بالتجوّل الحرّ يوماً أو يومين في مدينة دمشق، ودعنا نتحدث مباشرة مع الناس في الشوارع، ونكوّن انطباعاتنا الخاصة. عرّفنا علي مَنْ نعتقد أنه يجدر بنا التعرّف إليه، مثل أساتذة الجامعات ورجال الاقتصاد وضباط الجيش والوزراء، ثم تحدّث إلينا أنت ساعتين أو ثلاث ساعات. أقنعنا أنّ السلام جزء لا يتجزأ من نظريتك الاستراتيجية لمستقبل سورية، وأنّ السلام يعكس مصلحة سورية حقيقية. من الممكن جداً أن نثق بك في هذه الحالة، وأن نكون عوناً لك أكثر من لانتوس .

كان العشق، ويظلّ، هو المطلب الإسرائيلي: العشق لوجه الله، ودون مطمع أو تنازل أو انسحاب. مطلوب من هذا العشق، مع ذلك، أن يقترن بملفّات حاسمة حارقة غير عاطفية، مثل الإنسحاب من الجولان، وتفكيك معظم المستوطنات الإسرائيلية في الهضبة، وإلغاء القوانين الإسرائيلية التي تضمّ الجولان إلي الدولة العبرية، والقبول بالحدّ الأدني من الترتيبات العسكرية والأمنية في كلّ مرتفع منفرد من كرتونة البيض الكابوسية تلك، والتفاوض الشاقّ حول صنوف الأسلحة المسموح بنشرها في الهضبة، ومرابطة وحدات عسكرية دولية للفصل بين القوات، وتحديد أنظمة الإنذار المبكّر... إلي ما سوي ذلك من قضايا شاقّة وشائكة وعالقة، لا تليّن عريكتها استراتيجيات التطبيع العاطفي أو أحكام القيمة والتحيّات والتمنيّات.

والحال أنّ النظام السوري يدرك هذه الحقيقة، إدراكاً عميقاً مسلّحاً بتجارب الماضي البعيد والماضي القريب علي حدّ سواء، مثلما يدرك في المقابل أنّ أسباب بقائه، أو بالأحري استمرار وجوده في صيغة الإستبداد والفساد والنهب والحكم العائلي، مرهونة بمقدار ما يقدّم للدولة العبرية من شهادات حسن سلوك، بينها في المثال الراهن هذه الألعاب: يدير وقائعها أمثال حسون والخيمي والمعلّم، ثمّ يقلبها رأساً علي عقب أمثال الشرع، لكي تعود القهقري مجدداً إلي فريق آخر من اللاعبين والقالبين! ما هو أهمّ من هذا اللعب، الذي يجري في الوقت الضائع غالباً، أنّ النظام يدرك جيداً تلك الحقيقة الأكبر التي تقول إنّ الطراز الثاني من أسباب بقائه، أي الاقتيات علي فظائع السياسة الأمريكية في العراق ولبنان وفلسطين، والاستفادة الواسعة من تخبّط هذه الإدارة في الملفّ الإيراني استطراداً، ليست إلا من طراز فضل القيمة.

.. غير المضافة في واقع الأمر، لأنّ ما يكسبه النظام لا يبدو وكأنه يتراكم عملياً، بقدر ما يطرأ سريعاً لكي يتطاير أسرع!

حوار مع رفيق شامي

حوار مع رفيق شامي

طبعات كتبه الشعبية تجاوزت المليون نسخة بالالمانية

رفيق شامي: أنا إبن حي شعبي يقع قرب الباب الشرقي لدمشق القديمة

عدت إلى ذاكرة الطفولة والحكواتيّ وعملت على تطوير هذا الأسلوب

عُرف رفيق شامي ككاتب خارج بلاده ولغته واسمه. فبلاده سوريا، لم يزرها منذ عقود، ولغته العربية التي عرفت محاولاته الأولى في الكتابة، قصصاً وحكايات وأشعاراً ودفاتر مليئة برؤوس أفكار، شكلت في ما بعد مصدرا غنياً لرواياته وقصصه وحكاياته للكبار والصغار باللغة الألمانية. تشهد لذلك، الإصدارات المتلاحقة من كتبه التي تجاوزت طبعاتها الشعبية المليون نسخة، فيما طبعات كتبه العادية (المجلدة) تبلغ عشرات بل مئات الألوف، ناهيك بالأقراص المدمجة التي تنشرها كبرى دور النشر والإذاعات الألمانية. أما اسمه الحقيقي فهو سهيل فاضل، لكنه فضّل النشر باسمه الحركي، أيام كان النشطاء السياسيون يختارون اسماء حركية. انه رفيق شامي. يعتبر اليوم واحدا من الكتّاب الأكثر شعبية في الألمانية. نعرف ذلك من أمسياته الأدبية المزدحمة دائما، وترجمات كتبه إلى أهم اللغات العالمية. صدر له في العربية مترجَماً، كتابه الشعري الجميل "التقرير السري عن الشاعر غوته"، في انتظار صدور الثاني في خريف هذا العام. وتجري ترجمة كتبه للأطفال إلى العربية أيضاً، وحظيت روايته الضخمة "الوجه المظلم للحب" ليس بالإنتشار الواسع فحسب، بل بالتقريظ الإيجابي لكبار النقاد الألمان، وخصوصاً أولئك الذين بقوا لفترة طويلة يتجنبون الإشارة إلى أعماله. من أجل أن نتيح الى القارئ العربي التعرّف عن قرب إلى رفيق شامي، ذهبنا إليه وتحاورنا معه حول كل شيء، بصراحة وبصدق.

أنت اليوم كاتب مشهور وشخصية اجتماعية معروفة في ألمانيا وفي الكثير من بلدان العالم، حيث تترجم كتبك وتُنشر وتنتشر. نريد أن تقدم نفسك إلى القارئ العربي، فمن أنت؟

أنا إبن حي شعبي دمشقي يدعى "العبارة"، يقع قرب الباب الشرقي لدمشق القديمة ويؤدي في نهايته إلى كنيسة القديس بولس التي شيِّدت في مكان هروبه بعد اعتناقه المسيحية وملاحقته. في الوقت نفسه، أنا إبن قرية معلولا الآرامية في جبال القلمون. تغوص هذه الجذور في أعماق الأساطير والروايات، ومن هنا ولعي بالقصص والحكايات بشكل غير طبيعي.

ما هي خلفيتك الاجتماعية والسياسية؟

ولدت لعائلة متوسطة الحال، لم تعرف الجوع ولا الرفاهية. والدي كان فرّانا، لكنه كان رغم انهماكه وتعبه مولعاً بالقراءة ومؤمناً، ولذا حلم بأن يصنع مني راهباً فأرسلني لثلاث سنوات إلى "دير المخلص" في لبنان، لكني فشلت هناك، ذلك أن الجو كان قاسياً جداً. رغم هذا، عدت من لبنان بعلاقة حميمة مع الكتاب ووهم كلّفني الكثير من الشقاء، ملخّصه أن الدين المسيحي جذوره في العدالة الاجتماعية. ومن هذه الفكرة - الوهم التي تجد لها مبررات كافية في سيرة المسيح، اعتنقت الاشتراكية المثالية، وبعدها الاشتراكية العلمية، من دون أي تعمق أو دراسة، بل لأجل عدالة راديكالية، وانتسبت إلى الحزب الشيوعي السوري.

متى وصلت إلى ألمانيا؟

في يوم بارد من آذار 1971 بعد فترة عشتها متخفياً في بيروت الحبيبة لمدة ثلاثة أشهر.

هل كان نشاطك السياسي آنذاك هو الغالب أم الهمّ الأدبي؟

لم أكف يوماً واحداً عن الكتابة حتى ولو كنت مريضاً، وإن على شكل ملاحظات. لكن إمكانات النشر اقتصرت على صحف ومجلات طالبية يسارية، أما دور النشر العربية فلم تكلف نفسها حتى عناء الجواب بالرفض. كنت إلى ذلك، أترجم أعمالاً سياسية وأرسلها الى الوطن. كذلك كنت ناشطاً سياسياً في أوساط الطلبة من أجل فلسطين وضد الطغيان، حتى بعد ابتعادي قرفاً عن كل الأحزاب السياسية.

دراساتك العلمية، انهيتها بشهادة الدكتوراه. هل مارست المهنة؟

مارست المهنة طويلاً كمساعد في مختبر الجامعة أثناء إعداد اطروحة الدكتوراه، ثم مارست العمل بعد تخرجي في شركة ضخمة للأدوية.

ماذا عن كتابك اليتيم الذي ترجمته؟

لست أدري أيّ الأيتام تقصد. هناك مجلد كيميائي للدراسة الجامعية، رفضته كل وزارات التعليم العربية. وهناك كتاب الطاقة الشمسية المعادي للطاقة النووية وخطرها الإشعاعي الملوّث للإنسان والبيئة والذي طاف البلاد العربية كسائح غير مرغوب فيه ليُنشر أخيراً عام 1982 لدى "دار الحداثة" في بيروت. لكن هذه الدار المحترمة جدا لم ترسل حتى هذه اللحظة نسخةً من هذا الكتاب أو قرشاً. هناك أيتام وأيتام، يشبه الحديث عنها بكائيات المنفلوطي.

لك محاولات كتابية كثيرة في العربية، نُشر بعضها متفرّقاً هنا وهناك، لكنها بقيت في حدود المحاولات المبكرة...

هذا صحيح. لا أزال أحتفظ بها في مجلدات بخطّ يدي، وعندما أقرأها اليوم أتذكر مراحل نضجي في محاولات عدة باحثاً عن إسلوبي، مقلّداً تارةً بالزاك أو همنغواي أو مكسيم غوركي وأحيانا كافكا...

كيف حدث تحوّلك إلى الألمانية؟ حدّثنا عن هذا اللحن الذي يخرج من الدمدمة الموسيقية، الذي اسمه رفيق شامي اليوم؟

- لا أظن أنك تقصد بسؤالك الطريق العسير الذي سبق اختياري اللغة الألمانية كمخرج أدبي لقصص حملتها لسنين في وجداني وذاكرتي بعدما أوصدت الأبواب العربية في وجهي وحاصرني الصمت المدوّي. أظنك تقصد تلك اللحظة الفريدة بالذات حينما حضرت أمام عيني خلاصة تجاربي لتدلني الى الطريق الوحيد الباقي أمامي، وهو الكتابة باللغة الألمانية ومحاولة إقتحام اللغة العربية بعد مسيرة طويلة عبر اللغات الأخرى. الموسيقى التي تعنيها وسر نجاح أدب ما أو إخفاقه، له علاقة بشعرية اللغة وليس بموضع اللغة الجغرافي. فجبران خليل جبران اللبناني وجوزف كونراد البولوني الأصل، أبدعا بالإنكليزية، وبيكيت وأمين معلوف بالفرنسية...

أقصد، كيف انبعثت الفكرة الصعبة؟ كيف قدحت الومضات في رأسك؟

ازدحمت الأفكار والقصص الكاملة في داخلي تريد الخروج إلى الهواء الطلق. كنت كما يقول المعري الكبير رهين محبسين، الأول المنع العربي لكل ما أكتبه، والثاني عسر اللغة الجديدة. لم يكن لديَّ آنذاك القدرة على تغيير المحبس الأول، أما الثاني فكان في إمكاني، بنشاط لغوي فريد في عناده ودؤوب ويومي لتعلم اللغة الألمانية الأدبية، أن أفلت من عقاله لآخذ مكاني في فضاء لغوي رحب، ولأغني أو أدمدم أغنيتي التي أحب، بمطلق الحرية. تعثرت خطواتي الأولى لكني لم أتوقف، وشعرت بفرح غريب في صوغ ما أحلم به بمنتهى الحرية. أن تكتب بمنتهى الحرية، هو ما يفتقر إليه الأدب العربي اليوم.

من أشعلها؟

حلم في داخلي لا يزال يرافقني، وهو أني أستطيع رواية قصص بطريقة خاصة تهمّ بعض المستمعين والمستمعات.

نراك دخلت الأدب من طريق الحكاية، وهي فن انقرض تقريباً في العالم العربي بعد دخول المطابع التدريجي وانتشار الراديو. كيف حدث هذا؟

التقليد هو أخطر العوامل التي تعددها. وهو من أنجح ما قام به الإستعمار لإخضاع العالم. صرنا نحتقر كل ما هو خاص بنا وله جذور عميقة في تراثنا، ونؤلّه كل ما يأتي من الغرب. أنا نفسي قلّدت في بداياتي همنغواي وغوركي وبالزاك، لكني أحسست بغربة في داخلي وعدت إلى ذاكرة الطفولة، إلى شهرزاد وحكواتيّ دمشق، وأردت أن أطوّر هذا الأسلوب للإنتقال به إلى القرن العشرين، لأن شكله القديم لم يكن مؤهلاً لرواية أمور كثيرة ومعقدة، كهذه التي نعيشها اليوم.

فن الحكاية يحظى بالإحتقار والنبذ في الوسط الأدبي العربي، ولهذا حظي بالتشريف أيضاً.

فعلاً، وهو يشكل إحدى الظواهر المرضية لمجتمعنا. أن يخجل كتّابنا ونقّادنا مما أنتجه مجتمعهم ويتبعون كالعبيد طرق الرواية الأوروربية وأساليبها من دون أن يكون لهم أي تأثير في تطويرها. هل سمعت يوماً ان ببغاء سجل اختراعاً بإسمه؟ الأنكى أن يطلقوا أسماء رنانة على تقليدهم ونسخهم هذا، مثل "الحداثة" و"ما بعد الحداثة". لكن نبذي وشتيمتي كان لهما أيضاً أسباب أخرى.

تم تغيير الحكايات العربية واختصارها في كتيبات صغيرة. كيف عايشت هذا الإختزال؟

جرى التغيير بسادية لا حدود لها، فقد حُذف كل ما هو فريد وجريء وجديد فيها. لم ألمس أياً من هذه الكتب الرخيصة لأنها تؤلم فعلاً. كنت أراها أحيانا عند بعض الأصدقاء حيث تختصر ليلة من ليالي شهرزاد بثلاثة أسطر، فالناشر لا يسأل نفسه كيف أمضت شهرزاد ليلة بكاملها في ثلاثة أسطر. لكن ناشرين كهؤلاء لا يفكرون إطلاقاً بأن قراءهم أذكياء.

متى كان الكتاب الأول؟ وكيف كان انتشاره؟

الكتاب الأول كان صغيراً بعنوان "أساطير أخرى" صدر عام 1978 في دار نشر ألمانية صغيرة ونُشر في طبعته الأولى بحوالى ألف نسخة فقط.

والثاني؟

صدر بعد أربع سنوات في دار صغيرة أيضا بعنوان "الحمل في ثوب الذئب" لكنه أصاب نجاحاً أفضل وبيعت منه طبعتان. ثم أصدرتُ مع زملاء أجانب 13 مجلداً لأدب الأجانب في خمس سنوات (1980-1985) لم تحظ بنجاح يتجاوز 2000 نسخة، لكنها كانت عملا ضروريا لمتابعة مسيرة أدب المهاجرين والمنفيين في ألمانيا.

الجائزة الأولى؟

أتت كمفاجأة عام 1985 وهي جائزة شاميسو لأدب الأجانب.

هل من كلمة حول الشخصية التي تحمل الجائزةُ اسمها؟

شاميسو كان إبن عائلة أريستوقراطية فرنسية هربت من قصرها في بونكور في مقاطعة الشمبان بعد إندلاع الثورة الفرنسية عام 1792 وهامت على وجهها في أنحاء أوروبا حتى استقرت بعد 4 سنوات في برلين. كان شاميسو أحد أشهر كتّاب عصره بالألمانية التي تعلّمها في سن متأخرة، وعاش مغامرات كبيرة في حياته، وكان جندياً وشاعراً وباحثاً لغوياً غامر في التفتيش عن لغات الشعوب في أقصى الجزر، مسجلاً حروفها وقواعدها اللغوية التي ساعدت في ما بعد في حماية هذه اللغات من الإنقراض، وسجل اكتشافات مهمة في علم البيولوجيا ولا تزال نباتات وكائنات نادرة تحمل حتى اليوم إسمه، مثل فراشة بابيليو شاميسونيس. شيئاً فشيئاً، تحول شاميسو إلى إنسان ذي فكر نقدي اجتماعي من دون كره، يرفض الحروب والحدود وينادي بالحوار بين الثقافات، ومن هنا عظمته. ما نادى به لا يزال حتى اليوم موضوع الساعة. لكن ما أثر فيَّ هو قصة شليميل، رجل يبيع ظله من الشيطان. قصة رائعة عن انتزاع الجذور عبر الإغتراب.

كنت أول كاتب أجنبي، ألماني اللغة (وعربي) يُمنح هذه الجائزة، في بداية تأسيسها (مناصفة مع الشاعر التركي أوراس أورن، الذي لم يكن يكتب بالألمانية أصلاً).

كانت الجائزة فكرة جميلة، لكنها منذ بدايتها حملت خطر الإنتقاء. أي أنها مخصصة للأجانب فقط. طبعاً، يصعب على لجان الجوائز الأدبية الألمانية المهمة الأخرى، وأعضاؤها في الغالب محافظون إن لم نقل رجعيين، منح جائزة ألمانية كبيرة إلى كاتب أجنبي يغامر بكل شيء ليكتب بلغتهم ويتفوق حتى على كتّابهم. من هنا كانت الجائزة مهمة، لكنها في الوقت نفسه أجهضت الصراع مع هؤلاء الذين صاروا بترفع لا مثيل له يقولون: لكم جوائزكم الكافية ولكتّابنا جوائزهم. هذا بالضبط ضد فكر شاميسو وفكري وفكر كل إنسان يكرة التفرقة والعنصرية. لكن المسألة تحتاج الى صبر ونضال لا يتوقفان يوماً واحداً.

* ماذا عن النجاح؟

عدا الهدوء الذي يوفره لك النجاح لتعمل بلا وجل أو معاناة في الرواية المقبلة، أن لا يعاني من تحبّ لأنك كاتب. هذا ما أفكر فيه كلما استيقظت حيث أشعر بسعادة غامرة. يسّر لي النجاح الكتابة بحرية، فأنا لا أسمح بحذف حرف إن لم أر أن ذلك ضروري للرواية.

بدّلت الناشر أو الناشرين مرات عدة. إحك لنا عن المرارات والحلاوات.

بعض الناشرين غامر بمشاريع كبيرة وأفلس، وبعضهم أراد إجباري على كتابة مسلسل بعد النجاح الخيالي لرواية "حكواتي الليل" ففارقته لأني لا أحب المسلسلات. داران للنشر حاولتا خداعي بأرقام مزورة فقاضيتهما وربحت الدعويين واستعدت حوالى 30 ألف أورو وحقوق النشر كاملة. هذه التجارب السلبية تشكل 20 في المئة من تجاربي، لكن 80 في المئة من التجارب إيجابية، ومنها عملي الحالي مع ثلاث دور لنشر الكتاب ودار خاصة للإسطوانات المدمجة، وهو في منتهى الإحترام.

متى كانت الترجمة الأولى؟

ترجمت لي بعض القصص الى لغات عدة في مطلع الثمانينات، لكن الترجمة أخذت منحى آخر في نهاية الثمانينات مع ظهور رواية "يد ملؤها النجوم" التي ترجمت خلال سنتين الى أكثر من عشرين لغة.

كتبت الحكاية، الرواية، قصة الأطفال، للصغار والشباب والكبار، ومزجت الشرق والغرب، الحياة هنا، الحياة هناك، وهناك وهنالك...

لا أميز كثيراً بين كتب الشباب وكتب البالغين أو الأطفال، وقد تؤخذ قصة من كتاب للبالغين أو مقطع من رواية، ويزيَّنان برسوم زاهية اللون، مرحة، فيتحول ذلك كتاباً جميلاً للأطفال. لكن قصصي تصلح للجميع. وهذا يذكّرني بطفولتي حيث كنت أقبع بين البالغين لأستمع إلى قصصهم من دون أن يزعجني أنهم بالغون. كان الأهم بالنسبة اليَّ كطفل، وهو الأهم حتى اليوم لي ككاتب، أن تكون القصص شائقة وبعيدة عن الوعظ والتحريض اللذين ينطويان على تعالٍ يفترض ضمناً ان الآخر أقل وعياً. وهذا ما تفترضه الأحزاب العربية التي لا تدري أن طفلا في بغداد، أو القاهرة، أو دمشق، يملك وعياً أرقى من مفكري هذه الأحزاب الفاشلة التي لم تدرك حتى اليوم سبب فشلها الذريع.

من جهة أخرى، يأتي المزج الذي تتحدث عنه من داخلي ولا أصطنعه لإثارة إعجاب هذا القارئ أو ذاك الناقد. هذا المزيج الغريب بين الشرق والغرب، بين المسيحية والإسلام، بين الوطن والغربة، بين التقدم والرغبة الجامحة في الحفاظ على ملامحنا الثقافية، أعيشه في داخلي منذ شبابي في دمشق. أنا بذاتي لا أدري أين يبدأ الشرق وأين ينتهي الغرب، في كل ما أفكر فيه وأكتبه. فهذه بلغة الكيميائيين سبيكة يصعب تمييز مكوّناتها.

جمهورك متنوع، من مختلفي الأعمار والجنسيات...

يمتلئ قلبي بالفرح عندما ادخل قاعة للمحاضرات وأجد جمهوراً من المراهقين والكهول ومن الأجانب والألمان يجلسون معا ليستمعوا إلى ما أقصه، وأفكر في تلك اللحظة بكل جميل في هذه الأرض.

تتلقى في العالم العربي أعنف الاتهامات والهجومات من مثقفين ربما لم يقرأوا لك حرفا واحدا.

وجدت علاقة رياضية مفرحة بين عنف الهجوم عليَّ، حتى شخصياً، والجهل التام بما أكتبه، وهي علاقة طردية كما تسمّى في الرياضيات.

كانت لنا، أنت وأنا وآخرون قلّة، مواقف واضحة من المشاركة في استضافة الثقافة العربية في معرض فرانكفورت عام 2004، واتهمنا بشتى التهم...

لأننا باستقراء الماضي استطعنا التنبؤ بأن أميين ثقافيين كهؤلاء، من موظفي جامعة الدول العربية، لا يمكنهم في أي حال رفع شأن الثقافة العربية، بل يمكنهم فقط بشطارة الرعاع تبذير الأموال على ملاهيهم وسياراتهم.

نتائج العام التالي كشفت أن المشاركة العربية ساهمت في تقليل اهتمام الناشرين الألمان والقراء بالثقافة العربية، كما انخفض مبيع الأدب العربي باللغة الألمانية إلى أدنى المستويات. أي أننا كعرب دفعنا الملايين من أجل الحدّ من انتشار ثقافتنا...

لا أعجب لذلك، فتسويق الكتب عالمياً عملية معقدة جداً وتحتاج الى سنوات من العمل الجاد، وهم ينامون عقوداً ثم يأتون الى فرانكفورت كأنهم ذاهبون إلى إحدى حظائرهم الفكرية. الترجمة تحتاج الى خبرة وصبر وزمن لتحمل ثمارها وليس لشراء فلان وبرطلة علتان. ما يؤلمني أن هناك مئات من الكاتبات والكتاب القادرين على التأليف وعلى الوصول إلى مستوى عالمي، لكن المؤسسات الثقافية لا تقوم بواجبها في نشر ما يكتبون، إن لم نقل إنها تعوق عمداً انتشار ما يكتبون وترجمته. مدخول يوم واحد في السنة من البترول العربي يكفي لمدة عشر سنين لكي يصبح الكتاب العربي ذا وزن عالمي. نحن لا نزال حتى يومنا نشحذ لنترجم كتاباً قيّماً من العربية واليها. أقول لك اليوم، اللغة العربية مهددة بفقدان مكانها كلغة عالمية، بينما تناضل اللغات الأخرى وبشراسة لإثبات نفسها.

يردد مستشرقون بعض أمراض الأوساط الثقافية العربية، والعكس أيضاً. الضحية هي الثقافة العربية التي تُترك، بسبب انعدام المهنية في المؤسسات الثقافية العربية القليلة جدا، في أيدي متنفذين من المستشرقين الأوروبيين ومن يدور في افلاكهم من موظفين عاديين.

هذا صحيح. وهو مضحك ومبك في الوقت نفسه (رحمك الله يا حبيب كحالة). ترى أحدهم بعدما درس ستة فصول أو ثلاث سنوات في الإستشراق يأتي بعنجهية المستعمر فيلقي علينا محاضرات عن نوع القصص التي علينا كتابتها. إنسان فاشل وسخيف كهذا (هو في الغالب من مخلّفات اليسار الألماني الفاشل) لا يشتريه أحد هنا بقشرة بصل، يستقبله أغبياء ثقافة في القاهرة ودمشق فيسلّمونه ميكروفونا ليلقي بقمامته الفكرية فوق رؤوسهم ويدخلها إلى تلافيف دماغهم. وتجد تفاسيره التأييد لسبب آخر، هو أنه يعطيهم ورقة براءة ذمة عن كل ما حصل في حق الأدب والثقافة. فكل الطغاة ومخابراتهم وسجونهم وأجهزة دعايتهم القمعية، بحسب ما يطرح هارتموت فيندريش وآخرون مثلا، ليس لهم أي جرم. الجرم الوحيد يقع على شهرزاد وفن الرواية العربية. مثل هذا الطبال تستأجره مؤسساتنا في مواسمها ليجلب الناس ويزيد الضجيج وليؤكد لها وهو الـ"خبير" ما هو الداء والدواء. وأقسم لك أن أدبنا العربي لا حظ له إذا ظل هؤلاء المرتزقة خبراءه.

لكن من هو حبيب كحالة؟

- كان حبيب كحالة (1898-1965) صحافياً وأديباً ساخراً وسياسياً ولد في دمشق ودرس في الجامعة الأميركية في بيروت، وأصدر صحفاً عدة أشهرها "المضحك المبكي" التي استمرت 37 عاماً حتى منعها البعث. كان حبيب كحالة يرتاد باستمرار بيت السياسي فارس الخوري (أول (وآخر!) رئيس وزراء سوري مسيحي ومن الوطنيين الأفذاذ). في ما بعد تزوج السياسي سهيل بن فارس الخوري أخت حبيب كحالة. وعبر هذه الصلات، كان حبيب كحالة صديق غالبية السياسيين في العهد الديموقراطي السوري. يؤنبهم في جريدته من دون حقد، ويلتقي معهم مساءً في "نادي الشرق". ويقال الكثير عن شجاعته في مواجهة عبد الناصر بالحقائق المرة للوحدة والتي لم يلتفت إليها "حبيب الملايين" بل كان يهتم بتقارير عبد الحميد السراج رئيس المخابرات وجلاد سوريا، حتى قوّض الوحدة فوق رأس قائده.

لم تتحلّ مجلة "المضك المبكي" بإخراج فني جيد، لكنها كانت تمس قضايا الشعب بأسلوب ساخر يحبّه السوريون، ولا أزال أذكر تبادل قصص المجلة بين أبناء الحي الشعبي الذي كنت أقطنه بينما لم أسمع في حياتي أنهم تبادلوا حكمة من حكم البعث أو الناصرية.

عُرفت ببرنامجك القاسي أثناء الكتابة والقراءة. حدّثنا كيف تتم عملية الكتابة لديك. لنأخذ مثلاً "الجانب المعتم من الحب". كيف تكتمل الحكاية من الألف الى الياء؟

عملية الكتابة معقدة جداً، وتزداد تعقيداً إذا كانت اللغة التي تحمل في طياتها روايتك ليست لغتك الأم. سأحاول إيضاح بعض النقاط. أنا لا أقترب من الموضوع بتصور جاهز عن الأسلوب الذي سأكتب به الموضوع، أو أرويه، وأنا ضد أن يكون لكاتب ما أسلوب واحد أحد، وكأن الأسلوب الأدبي عامل بيولوجي موروث كالأنف أو لون البشرة. الأسلوب الأدبي، كائن ديناميكي متحوّل. أفكر كثيراً في الموضوع وأبدأ تجارب صغيرة لكتابة مقطع ما من القصة، في الوقت الذي أدرس وأحقق كل خلفيات الموضوع. في هذه الفترة أدرس الكثير من الوثائق وأجرّب كيف يكون وقع أسلوب معيّن على نفسي كقارئ. وعندما أنتهي من البحث والتمحيص، أصل إلى أسلوب ما وأبدأ بالكتابة بعد أن تكون القصة كاملة بكل خلفياتها وأسلوبها، واضحة في رأسي كفيلم طويل مشوّق رأيته وأريد الآن تثبيته على الورق. لكن هذا لا يعني أني وجدت الطريق لأني كثيراً ما أكتشف نقصاً كبيرا أو صغيراً في معلوماتي فأتوقف عن الكتابة وأمحّص وأفحص كل ما أستطيع الوصول إليه من معلومات. أحيانا يُظهر لي الأسلوب عدم صلاحيته بعد انتهاء الكتابة فأقف يائساً أمام عمل سنوات وأنا على يقين أنه سيىء فأعيد الكتابة من جديد. رواية "الجانب المعتم من الحب" كتبتها بأساليب عدة حتى النهاية، منها أسلوب الفلاش باك وأسلوب اليوميات وأسلوب الرسائل المتبادلة وأسلوب الأسطورة. وكانت كلها جيدة لكنها لم تقنعني.

عندما توصلت بعد "حلم في إيطاليا" إلى إسلوب لوحة الفسيفساء وجرّبته لمدة نصف سنة وقرأت النتيجة أعجبني هذا الأسلوب الجديد ومن هنا سهل العمل ورغم ذلك كان عليّ الكتابة من جديد واختصار 2000 صفحة - وهو حجم الرواية الأول - إلى ما يقارب 1000 صفحة وهو حجمها النهائي الذي جعل منها عملا فنياً. أعتقد جازماً أن الجرأة في الحذف وليس الكتابة هي ما يجعل الكتابة فناً راقياً

حاوره خالد المعالي

النهار

سورية وإسرائيل بين السلام والحرب

سورية وإسرائيل بين السلام والحرب

برهان غليون

لم يحصل أن تضاربت الآراء والتحليلات بخصوص مستقبل العلاقات السورية الاسرائيلية القريب كما تتضارب اليوم. فبموازاة مؤشرات كثيرة لا تخطيء، رسمية وغير رسمية، على راهنية فتح مفاوضات سلام بين البلدين، تنتشر تأكيدات لا تقل إلحاحا وتكرارا عن احتمال اندلاع حرب بين البلدين في الصيف القادم. وهذا ما يعززه رأي العديد من المراقبين الدوليين والدبلوماسيين الذين زاروا عاصمتي البلدين، ونقلوا جميعا رأيا متشابها هو أن كلاهما يعلن استعداده للبدء بمفاوضات جدية للتوصل إلى تسوية لكنه يشك بنوايا الآخر، ويتهمه بالاستعداد الحثيث للحرب. فهل سيشهد الصيف القادم كما يتنبأ البعض حربا سورية إسرائيلية، تنائية أو في إطار حرب إقليمية أشمل، أم أن هناك بالفعل فرصا لإطلاق مسار مفاوضات جدية ومثمرة بين البلدين؟

يراهن المبشرون بالسلام على عدة عوامل. فإسرائيل تعاني من عقدة حرب تموز الأخيرة الخاسرة على لبنان، وهي تخشى في الوقت نفسه صواريخ حزب الله، وتأمل في أن يخلق التفاهم مع سورية فرصة لتحييده، أو ربما تفكيك آلته العسكرية. ثم إن هناك من يعتقد أن إطلاق المفاوضات مع سورية هو الوسيلة الوحيدة لإضعاف الموقف الفلسطيني، والتغطية على مأزق المفاوضات مع الفلسطينيين. وهناك أخيرا انشغال تل أبيب بالتقنية النووية الايرانية، ومصلحتها في فك سورية عنها لعزلها وربما توجيه ضربة عسكرية لها. ولا شك أن سقوط غزة منتصف يونيو حزيران الجاري (2007) في يد المقاومة الاسلامية حماس، سوف يزيد من اهتمام تل أبيب باسترضاء دمشق والتقرب منها.

ولا تقل الحجج التي تدافع عن جدية التوجه السوري إلى عقد اتفاق سلام عن تلك التي يذكرها المراقبون عن التوجه السلمي الاسرائيلي. ومن هذه الحجج رغبة النظام البعثي الذي يواجه احتجاجات متزايدة في استعادة الجولان المحتل، لتجديد شرعيته السياسية وتلميع صورته. ومنها كذلك محاولة الالتفاف على الحصار والمقاطعة الامريكية، وربما فتح حوار مع واشنطن عبر استرضاء تل أبيب. ومنها ثالثا اهتمام السلطة السورية التي تبنت سياسة الاقتصاد الحر بالانفتاح على أوروبة، في سبيل تحسين شروط اندماجها بالاقتصاد العالمي، وجذب الاستثمارات التي لا بد منها لمواجهة تحديات الفقر والبطالة والتأخر الاقتصادي.

وقد بلغ التفاؤل لدى فريق الأزمات الدولية، الذي أصدر تقريرا يركز على هذه المؤشرات الدالة على السير في اتجاه السلام، حدا دفع بمحرري التقرير الاخير إلى اقتراح اتفاقية سلام سورية إسرائيلية. وبالرغم من أهمية ما جاء فيه، يبدو لي أن المحررين ذهبا بعيدا في السير وراء رغائبهما، فلم يريا الواقع الفعلي في تعقيداته وتداخل مشاكله وملفاته، ونظرا إلى مستقبل النزاع السوري الاسرائيلي بمعزل عن القضايا الأخرى الإقليمية. وإذا لم يكن هناك شك في أن لدى الطرفين السوري والاسرائيلي دوافع معقولة للتوجه نحو مفاوضات سلام، إلا أن الظرف الإقليمي لا يدفع للأسف إلى التقدم في هذا الاتجاه. فهو أسير الصراع الاستراتيجي العميق والمعقد بين الولايات المتحدة الأمريكية المدعومة من أوروبة لمنع ايران من امتلاك القنبلة النووية، وبالتالي من بسط سيطرتها على أهم منطقة استراتيجية عالمية، أعني الخليج النفطي، وايران التي تعتقد أن الغرب يريد أن يحرمها من فرصتها في ضمان أمنها والتحرر من الحصار المضروب عليها منذ انتصار الثورة الخمينية عام 1979. وكما أن إسرائيل لا تستطيع أن تقرر في مسألة الصراع مع سورية من دون اعتبار المصالح الأمريكية الإقليمية، لا يمكن لدمشق أيضا أن تدخل في عمليات استراتيجية كبرى من دون اعتبار المصالح الايرانية. هذا من دون أن نذكر بالترابط بين ملف النزاع السوري الاسرائيلي وملفات النزاعات العربية الأخرى، الفلسطينية واللبنانية والعراقية.

بالتأكيد لا يمكن لواشنطن أن لا تدعم مفاوضات سورية إسرائيلية تهدف إلى فصل سورية عن ايران. وهذا ما ذكر به أولمرت في رسالته التي نقلها الأتراك إلى القيادة السورية. لكن الاعتقاد بأن دمشق سوف تتخلى عن ايران مقابل وعد بإعادة الجولان يدل على أن واشنطن وتل أبيب لا تدركان تماما مغزى التحالف السوري الايراني وقيمته بالنسبة للنظامين. فهو الورقة الرابحة الرئيسية حتى لا نقول الوحيدة في استراتيجية بقائهما، بالرغم من صحة ما يقوله التقرير أيضا عن التباينات العديدة في وجهات النظر وفي المصالح في أكثر من ملف من الملفات الإقليمية. لكن جميع المصالح المختلف عليها تبقى ثانوية بالنسبة لما يقدمه التحالف من ميزات استراتيجية حاسمة لطهران ودمشق في مواجهة خصومهما الخارجيين والداخليين معا. وحتى لو لم تكن سورية تابعة لايران، وهي ليست تابعة بالتأكيد، فإن تحالفها معها يفرض عليها أن لا تسير في اتجاه أو آخر من دون ضمان التناغم مع الاستراتيجية الكلية التي تجمع الطرفين في موجهة المحور الأمريكي الاسرائيلي. بعبارة أخرى، كما أنه لا يمكن فك اسرائيل عن واشنطن، بالرغم من التباين في بعض مصالحهما لا يمكن بالمثل فك سورية عن ايران رغم التباين أيضا في بعض مصالحهما الوطنية. فاسرائيل لن تتخلى عن حليفتها الرئيسية لحساب دمشق، ولن تدخل في السلام ما لم تكن واشنطن راعية له. ودمشق لن تتخلى عن حليفتها الكبرى لقاء الجولان، ولن تعقد سلاما مع إسرائيل وأمريكا من دونها.

ما ذا يعني إذن التأكيد المتواتر من قبل عاصمتي البلدين على استعدادهما للسلام وتمسكهما بفتح مفاوضات قريبة لتحقيقه؟ في نظري، إن حاجة كل طرف للمفاوضات السياسية تنبع بالضبط من ضرورات مواجهة الظرف الإقليمي الموسوم بالصراع الأمريكي الايراني، وموضعة نفسه فيه بما يحقق أكثر ما يمكن من المزايا ويقلل أكثر ما يمكن من الخسائر. وهكذا لم تتوقف الحكومة السورية عن إعلان رغبتها في الدخول في مفاوضات سلام من دون شروط منذ تدهور وضعها الاستراتيجي على اثر اغتيال رفيق الحريري وتبني مجلس الأمن مسألة تشكيل المحكمة الدولية. فهي بحاجة لمفاوضات مع إسرائيل ليس للتوصل إلى سلام يعيد الجولان، وتعرف أنه لا يزال بعيد المنال، وإنما لدرء الحرب التي تتهددها، بسبب تفاقم أزمة علاقاتها مع واشنطن التي تتهمها بتشجيع الشبكات الارهابية في العراق وغيره. فهي تأمل من وراء ذلك في تحييد إسرائيل وحثها على عدم السير في مخططات واشنطن المعادية لدمشق. ثم إن مثل هذه المفاوضات تهدف إلى تجنيب سورية أن تكون مسرحا للصراع الايراني الأمريكي المحتدم، وضحيته الرئيسية. أما حملة تل أبيب السلامية، التي لم تبدأ إلا منذ أسابيع قليلة، بعد صدود لافت، فهي تشكل جزءا من الاستراتيجة الغربية الشاملة لما سمي بإعادة إدماج دمشق أو التعاون معها في سبيل إبعادها عن ايران. فهو لا يعكس نضوج إسرائيل للسلام وايمانها بنجاعته لضمان الأمن، بقدر ما يشير إلى مساهمتها بقسط في تغيير اتجاه السياسة السورية.

من هنا، بالرغم من التصريحات المتواترة، ومؤشرات السلام المتعددة، هناك أسباب كثيرة تدفع إلى الاعتقاد بان المنطقة تتجه بشكل أكبر نحو الحرب. فغياب أي مبادرات سلمية من قبل واشنطن وتل أبيب في السنة الماضية، بالرغم من تفاقم الأزمة الإقليمية وتهديدها لمصالح دولية أساسية، يدل في اعتقادي على أن التحالف الأمريكي الاسرائيلي يميل إلى خيار استعادة صدقيته الاستراتيجية من خلال حرب جديدة ناجحة، أكثر مما يتجه نحو خيار التسوية التي لا بد أن تعكس، في الظروف الراهنة، نتائج النكسات التي مني بها ولا يزال في العراق وجنوب لبنان. لا ينفي هذا احتمال أن تحصل اختراقات غير متوقعه إذا طرأت تحولات مفاجئة على الخريطة الاستراتيجية الإقليمية. وهو ما نـأمله وندعو له، لكن على شرط ان لا نضع أقدامنا في مياه باردة ونعول على الحظ.

دفاعاً عن الخيار الديموقراطي

دفاعاً عن الخيار الديموقراطي

أكرم البني

لا شيء يشجع على الديموقراطية»، عبارة صارت تتكرر كثيراً في الحوارات الدائرة اليوم حول الأوضاع العربية الراهنة وسبل معالجة أزماتها، ليس بسبب غياب نموذج ديموقراطي أو مثلاً يحتذي، وهو غياب قائم على أية حال، بل رداً على ما يجري في العراق وفلسطين أو ما يحتمل أن تذهب إليه الأوضاع في لبنان. فما يحصل حقيقة أن المناخ السياسي المحموم بالتوتر والعنف فرض نفسه بقوة على الخيار الديموقراطي، ودفع إلى مرتبة متأخرة مفردات الإصلاح والتغيير التي كانت تنظم اللغة السياسية لسنوات عديدة أمام تنامي الرغبة في الحفاظ على الأمن الاستقرار وتجنيب المنطقة مزيداً من الفوضى والقتل والاضطراب!

ولعل فشل المساعي الغربية في نشر الديموقراطية وانحسار مشروعها عن الشرق الأوسط الكبير أو الموسع، ربطاً بتفاقم الأوضاع في العراق وإخفاق إدارة البيت الأبيض في تسويق نموذج العراق الآمن والديموقراطي كنموذج للتغيير في المنطقة ثم ما ذهبت إليه التجربة الفلسطيـنية وبخاصة بعد أحداث غزة، وما يشهده لبنان من احتقانات خطيرة وخلافات تبدو عصية على الحل والتوافق، وإذا أضفنا تنامي التحسب الغربي والقلق من نتائج الانتخابات البرلمانية في غير بلد عربي، حيث حصدت التيارات الإسلامية حصة مهمة في البحرين والكويت واليمن، ناهيكم عن الغلة الوفيرة التي جنتها جماعة الأخوان المسلمين في مصر وفوز حركة حماس في فلسطين بغالبية مقاعد المجلس التشريعي! . نقف أمام أهم العوامل التي أفضت الى ظهور آراء ومواقف لدبلوماسيين وأكاديميين غربيين تجد في السياسة العاملة على نشر الديموقراطية دون التحسب من احتمالات الاضطراب والفوضى، عملاً مكلفاً ومضراً، الأمر الذي أدى إلى تثبيط الهمم وانكماش الحماسة الغربية القديمة للتغيير وبالمقابل تقدم تصريحات جديدة على لسان غير مسؤول أوروبي وأمريكي بضرورة تغليب «الاستقرار بديلاً للديموقراطية».

من جهة ثانية منحت هذه المستجدات العديد من الأنظمة فرصة غالية لم تضّيعها، وقد تخلصت من عبء الضغط المتواتر من أجل التغيير واحترام حقوق الإنسان، فسارعت إلى الطعن بأهلية مجتمعانا لتقبل الديموقراطية وإلى تشويه سمعة مشاريع الإصلاح السياسي واستعمال الوسائل المشروعة وغير المشروعة لتضليل الجماهير ونشر ثقافة الخوف من أي تغيير أو تحول ما دام قد يستجر الفوضى والتفكك والاحتراب الداخلي. الأمر الذي مكنها من العودة لأساليبها الأمنية بأقل ردود أفعال وفرض سيطرة شبه مطلقة على حركة المجتمع وأنشطته المتنوعة، وتشديد القبضة على القوى السياسية المعارضة، لم يقتصر الأمر على ما يسمى المنظمات الإسلامية المتطرفة، التي هدر دمها منذ حين مع إعلان الحرب ضد الإرهاب، وإنما امتد أيضا ليطاول دعاة حقوق الإنسان وبعض رموز المعارضة الديموقراطية والعديد من المفكرين والمثقفين، وليشهد غير مجتمع «جرأة متناهية» ما كانت لتظهر لولا الظروف الجديدة في السخرية من أية انتقادات توجه إليها حول استبدادها وتسلطها وانتهاكاتها لحقوق الإنسان!

وإذا وضعنا جانباً لغة المصالح والمنافع، وإذا نحينا الشامتين الذين بدأوا يفركون أياديهم فرحاً مما يعتبرونه خيانة غربية لمبادىء الحرية وتنصل من الوعود بالمساعدة على نصرة الديموقراطية وتنميتها في منطقتنا، ربما هو أمر مبرر أن يستنتج البعض بسطحية وبعفوية أنه لا شيء يشجع على الديموقراطية عندما يراها تقود أكثر من بلد إلى حالة من الاضطراب وعدم الاستقرار وتضعه على شفير حرب أهلية لن تبقي أو تذر، أو عندما يخلص إلى نتيجة ترفض الإصلاح السياسي، مقنعاً نفسه أن التطبيق الناجح للتعددية والحريات يحتاج إلى درجة من النضج السياسي والثقافي غير متوفرة في مجتمعاتنا، بينما السائد شعبياً هو إدراك سلبي للديموقراطية ومحاولة توظيفها لإثارة الفتن والانقسامات واستحضار الخصوصيات الفئوية والحزبية وأساليب العنف، وتالياً إستجرار الاضطراب وظواهر التشرذم والتذرر!.

ونتساءل: هل فكر أصحاب هذا الرأي للحظة كم سيكون مكلفاً لنا وللأجيال القادمة الحفاظ على الركود والاستنقاع القائم، أو كيف يتوفر النضج السياسي المزعوم، إذا كان مفقوداً حقاً، ما دام ثمة استمرار في إقصاء البشر وعزلهم عن إدارة شؤونهم العامة، أو كيف تكسب الناس الأهلية المنشودة للتمتع بحقوقها وحرياتها والدفاع عنهم ما دامت هناك رغبة في إبقاء المجتمع معزولاً عن التجربة السياسية والتدرب على المشاركة واحترام الآخر المختلف.

إذا كانت بعض الآراء تكتفي برصد التحول الديموقراطي عبر تناول نتائجه السطحية والمباشرة لمعايرة جدواه فإن المطلوب أبعد من ذلك وأعمق، وهو ربط هذه المسألة مع حقيقة ما تعانيه مجتمعاتنا من أمراض وأزمات وتحديد السبيل الأنجع لمعالجتها. فقضية الديموقراطية لا يصح اختزالها بجديد الموقف الغربي منها، وهي لا تتعلق فقط بمدى نضج المجتمع لتقبلها، بل بموازين القوى القائمة على الأرض وبقدرة الإصلاحيين ودعاة الحرية والتعددية على إنتاج فعل مؤثر وخلق الشروط التحتية لضمان نجاحها واستقرارها، والأهم هو الإيمان بأن الإصلاح السياسي وإطلاق دور البشر في الحياة هو ضرورة موضوعية لا بد منها لمواجهة ما نعانيه من أزمات، وأن التراجع عنها يؤدي إلى ما هو أكثر سوءاً وأشد وطأة.

أفلم تقل أحوالنا الراهنة التي تثير الشفقة كلمة الحسم في هذه المسألة؟! أولا تكفينا دورة الآلام التي عشناها طيلة عقود تحت سيف الاستبداد والقهر كي نقتنع بأن تغيير هذا الواقع بات سبيلاً إجبارية لا غنى عنها؟! وأيضاً ألا يكفينا هذا الفشل الذريع في تحقيق الأهداف التي وعدت النخب الحاكمة الناس بها، وكيف صارت الرموز الوطنية والشعارات القومية غطاءاً لمراتع الفساد والامتيازات الفئوية ولتشديد القمع والاضطهاد ضد الشرفاء والقوى الحية؟!.

ويبقى أن ما تعانيه المجتمعات الآيلة للتحول الديموقراطي اليوم من صعوبات وإرباكات هو لحظة عابرة صوب أمل ووعد بمجتمع صحي معافى. ومثل هذه الصعوبات، هي صعوبات مفسرة واختبارات مفهومة لمجتمعات حطمها القمع وجعلها تدمن السلبية والاتكال، فالسلطات وسياساتها الاقصائية هي المسؤول الرئيس عما نعيشه الآن، ومظاهر الانحطاط وأساليب العنف والتدهور الأخلاقي هي منعكس طبيعي للقهر والتمييز وثقافتهما المدمرة.

ثمة كارثة حقيقية تنتظرمجتمعاتنا في حال أحجمت عن الانتقال من عالم الاستبداد إلى الديموقراطية، وليس أمراً بعيد الحصول أن يفضي تأجيل هذا الاستحقاق إلى انفجار الأزمات المتراكمة بصورة مريعة وأن تسفر حالة الممانعة عن التغيير إلى انهيارات واسعة وتفكك الدولة وتشرذمها. وفي المقابل هناك حقيقة يجب التمسك بها بالأسنان والأظافر تقول إن الانفتاح والإصلاح السياسي هو الذي يعجل في إنضاج المجتمعات وبناها الأساسية وهو ما يرتقي بدرجة تقبلها للحريات والتعددية، ليصح القول أن نضج الناس وتوفر شروط أهليتهم للديموقراطية لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال ممارسة الديموقراطية ذاتها. مثلما يصح القول أيضاً إن انتصار الخيار الديموقراطي ليس أمراً سهلاً في مجتمعنا، بل يقف على نتائج معركة فكرية وسياسية لا بد أن تخاض بكل جدية وحزم، ويخضع في تقدمه وتراجعه لما تتمتع به القوى المتنطحة لقيادة التغيير من وعي وخبرة ودقة في الخطاب السياسي والممارسة. فالديموقراطية لا تولد من تلقاء نفسها أو بصورة عفوية، ولا تفرضها حتمية النضج الاجتماعي على أهميته، بل هي بذرة قائمة بذاتها لا تنتش أو تترعرع إلا بقدر ما ترعاها القوى المؤمنة بها، وتتمكن من تفهم طبيعة الصعوبات والمعوقات التي تعترضها، وتعمل على إزالتها. والديموقراطية لن تصبح أمراً واقعاً إلا بقدر النجاح في جعل المجتمع يعمل من أجلها، ويبدى أعلى الاستعداد للتضحية على أجل تنميتها وحمايتها، ما يضع في المقام الأول هدف تحويل شعار التغيير الديموقراطي الى مطلب شعبي قوي وإقناع الناس بضرورته كمخرج وحيد من الأزمات التي نعانيها.

وبعد، فلنسأل الشامتين، ألم يكن الخيار الديموقراطي حاجة عتيقة ودواء قديم قدم ما نعانيه من أمراض فساد وتخلف وقهر، أولم يكن مطلباً مطروحاً قبل أن يطرح الغرب مشاريعه عن التنمية السياسية والإصلاح، وإنه كان عند الكثيرين هدفاً وطنياً في حد ذاته لتعزيز قدرات المجتمع على مواجهة التحديات والمخاطر الخارجية. ثم ما دامت السياسات الغربية قد بدأت تتنصل من دعم الديموقراطية وافتضحت قوة مصالحها وازدواجية معاييرها، وأنها تحت ذريعة الحفاظ على الاستقرار تعود إلى سياستها القديمة في دعم الأنظمة ضد شعوبها، نسأل عن دور أصحاب فكرة النضال الديموقراطي بدلالة الداخل، ألا تعتبر اللحظة الراهنة، هي اللحظة المناسبة أو لنقل المحك الحقيقي كي يثبتوا مصداقيتهم في مقارعة الاستبداد وتقديم التضحيات لنصرة الديموقراطية وحقوق الإنسان!

حوار مع برهان غليون: الصف الثاني الأنسب لحماس

حوار مع برهان غليون: الصف الثاني الأنسب لحماس

هادي يحمد

اعتبر "برهان غليون" المفكر العربي البارز ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر والأستاذ في جامعة باريس الثالثة، أن حركة حماس استدرجت إلى "الفخ الأمريكي"، والذي يرمي إلى حصارها والقضاء عليها. ورأى غليون أن هذه إشكالية العمل السياسي الكبرى التي تواجه الحركات الإسلامية بوجه عام، أي خطأها في تقدير واقع البيئة الدولية والإقليمية، وأنها لا تأخذ بالقدر الكافي مسألة أنه لم يعد هناك سياسة اليوم مستقلة كليا عن محيطها.

وفي حوار خاص مع شبكة إسلام أون لاين.نت، رأى غليون أن الأنسب لحركة حماس أن تبقى في الصف الثاني أو تبقي على نفسها في دائرة المعارضة فقط؛ وذلك لأن طبيعة البيئة الجيوسياسية الدولية تدين مسبقا أي عمل سياسي "إسلامي".

وإضافة إلى ذلك فإن حركات المقاومة الإسلامية الوطنية، ومنها حماس وحزب الله، لم تستوعب معادلة "مقلوبة" تقول إنه كلما تعاظمت تضحيات الحركات الإسلامية قلت قدرتها على إنجاز مكاسب سياسية، أي تضحيات أكثر تساوي مكاسب سياسية أقل.

ولفت غليون النظر إلى أن الانقسام الذي حدث داخل صفوف الحركة الوطنية الفلسطينية إنما يعبر في جانب منه عن المأزق الذي يعيشه مشروع التحرر الوطني الفلسطيني والعربي منذ عقود طويلة، حتى أننا في فلسطين وغيرها من البلاد العربية تجاوزنا نقطة الانقسام ووصلنا إلى القطيعة ثم إلى المواجهات الداخلية.

وفيما يلي نص الحوار:

ما هو تحليلكم للواقع الفلسطيني اليوم في ضوء سيطرة حماس على قطاع غزة، وسيطرة فتح بقيادة محمود عباس على الضفة الغربية؟ وهل نحن بصدد منعرج سيغير أولويات النضال الوطني الفلسطيني؟

نعم، نحن بصدد منعرج خطير، لكنه ليس في الاتجاه الذي كنا نتمناه بل في الاتجاه المعاكس، فمن الواضح أن تناقضًا عميقًا قد نشأ داخل الحركة الوطنية الفلسطينية منذ التسعينيات، ودفع إلى نشوء حركتين من توجهات وحساسيات ومناهج ورؤية مختلفة تمامًا؛ فتح المرتبطة بأيديولوجية الحركات الوطنية الحديثة من جهة، وحماس ذات التوجه الإسلامي الواضح من الجهة الثانية.

وبالرغم من الخلاف الشديد في أسلوب التفكير والإستراتيجية والهدف، أمكن حتى وقت قريب الحفاظ على حد أدنى من التعايش، إن لم نقل التواصل، بين ما أصبح يشكل جناحي الحركة الفلسطينية. وقد بدأ هذا التناقض يتفاقم شيئًا فشيئًا مع تنامي فتح التي سيطرت على مقاليد الأمور في إطار السلطة الوطنية الفلسطينية، وصار للفئة القائدة فيها مصالح في الدفاع عن الوضع القائم، فمالت إلى الاعتدال، ثم المساومة في علاقتها مع إسرائيل، وبشكل خاص مع البلدان الغربية التي تمول السلطة الوطنية.

ومن جهة أخرى تفاقم إحباط الشعب الفلسطيني الذي أخذت حماس في التعبير عنه، بسبب تراجع الوضع الفلسطيني وغياب الإنجازات وانتشار الفساد في أوساط الإدارة الفلسطينية.

وقد دفع هذا التناقض المتنامي إلى المواجهة السياسية بين حماس وفتح، وفي سياق هذه المواجهة تخلت حماس عن موقفها التقليدي بالبقاء في موقع المعارضة ودخلت الانتخابات التشريعية لتظهر قوتها وتؤكد مواقفها. ومنذ ذلك الوقت أخذ النزاع بين الطرفين وتيرة متصاعدة باضطراد، حتى وصلنا إلى قطيعة كاملة بينهما، قبل أن تتحول هذه القطيعة السياسية إلى قطيعة على الأرض، تتجسد في تكوين سلطتين مستقلتين بعضهما عن بعض، وقائمتين في قطعتين من الأرض الفلسطينية.

وينطوي هذا الوضع على انهيار خطير في مشروع السلطة الوطنية أو ما أطلقنا عليه سلطة وطنية فلسطينية، كما ينطوي على مشروع حرب أهلية مدمرة. ومنذ الآن يقوم كل فريق في منطقته باحتكار السلطة والقضاء على الفريق الآخر.

وما كان من الممكن لإسرائيل أن تحلم بوضع أفضل، فانفصال حماس عن السلطة الوطنية يمهد لفرض الحصار عليها في غزة، ويجعل منها هدفًا سهلا من الناحية السياسية لآلة الحرب الإسرائيلية التي تستطيع منذ الآن، بذريعة القضاء على الإرهاب، توجيه ضربات مستمرة واغتيال قيادات سياسية، وبمأمن من أي نقد، وبإغماض عيون الحكومات العربية والسلطة الفلسطينية نفسها في الضفة الغربية.

وسيدفع وضع حماس أمام خيار الحصار والموت بشبابها حتما إلى المزيد من التطرف والمغالاة. وفي المقابل ستدفع الدول المانحة وإسرائيل إلى احتواء فتح وسلطتها الوطنية في الضفة من أجل دفعها إلى الوقوف في وجه حماس وتأكيد تبعيتها المتزايدة للسياسة الأمريكية/الإسرائيلية. وهذا ما سوف يؤجل إلى أجل غير منظور مسألة إيجاد حل للقضية الفلسطينية، ويمكن إسرائيل من تحقيق أهدافها الاستيطانية والتهرب من التزاماتها الدولية، إذا لم تنجح دول الجامعة العربية في احتواء الموقف بسرعة.

بعد استيلاء حركة حماس بالقوة المسلحة على قطاع غزة.. هل نحن بصدد تأكيد الصورة التي رسمت على كون الحركات الإسلامية بشكل عام همها الأول الاستيلاء على السلطة مهما كانت خصوصياتها؟

لا أعتقد أن الاستيلاء على السلطة كان هو الدافع الرئيسي لدخول حماس الانتخابات التشريعية، ولا لاستخدامها السلاح في قطاع غزة كان لتأكيد سيطرتها على القطاع. ليس هناك في نظري أي شك في أن حماس تضع القضية الوطنية الفلسطينية في بؤرة اهتمامها، وتتعامل مع قضية السلطة من هذا المنظور.

وفي اعتقادي أن حماس وقعت في فخ نصبته لها الإدارة الأمريكية في إطار الحرب ضد ما تعتقد هذه الإدارة أنه امتدادات للقوة الإيرانية والسورية الإقليمية، بهدف قطعها عن العالم ومحاصرتها وتشديد الخناق عليها.

بخصوص الحركات الإسلامية.. هل نستطيع القول إن حماس وضعتها مجددا في مأزق جديد خاصة أمام المجتمع الغربي وهو ما يزيد من التخوفات منها مهما كان اعتدالها؟

نعم، سوف يستخدم مثال حماس في الدعاية العالمية وحتى العربية للتدليل على أن الحركات الإسلامية لا تفكر إلا في السلطة، حتى لو كان ذلك على حساب القضايا الوطنية الكبرى، وأنها حركات متطرفة وعنيفة، لا يؤمن جانبها، وليس هناك خيار آخر للتعامل معها سوى محاربتها. وهو ما يقود إلى تأكيد منطق الحرب ضد الإرهاب الدولي الذي تعتمده الإدارة الأمريكية في سياساتها الدولية، وتجعل منه محور إستراتيجيتها في الشرق الأوسط والعالم. لكن لم تكن هذه الإدارة بحاجة إلى ما حدث في غزة حتى تبرر مذهبها الإستراتيجي، فلديها أمثلة كثيرة أخرى تستطيع أن تستعين بها، في العراق وغيره، لتضفي الشرعية على سياستها الاستعمارية الجديدة.

بيد أن ذلك لا يعفينا نحن من مراجعة التجربة وأخذ العبر منها. وفي اعتقادي أن مشكلة الحركات الإسلامية الوطنية المماثلة لحماس وحزب الله، وهي حركات مقاومة شعبية، تختلف كثيرا في بنيتها وأساليب عملها وأهدافها عن منظمات مثل القاعدة وفتح الإسلام وغيرها من الفرق ذات الطابع الإرهابي. ولا تنبع المشكلة من استخدام هذه الحركات الوطنية السلاح ولا مشاركتها في السلطة أو سعيها إليها، فهذا ليس ممنوعا ولا محرما على الحركات الشعبية التي تواجه الاحتلال، مهما كانت العقيدة السياسية التي تحملها.

لكن مشكلتها تكمن في أنها لا تأخذ ـ بما فيه الكفاية ـ في الاعتبار أنه لم يعد هناك سياسة اليوم مستقلة كليا عن محيطها، وأن السياسة ذاتها أصبحت مسألة إقليمية ودولية. فالسلطة الفلسطينية التي قامت بعد اتفاقات أوسلو ليست ثمرة قوة فلسطينية مستقلة، وإنما نتيجة تسوية متعددة الأطراف، دولية وعربية وفلسطينية، حصلت كحل وسط بين الحل النهائي للقضية الفلسطينية والاستمرار في الحرب الوطنية المفتوحة. وإذا أراد طرف، حتى لو كان ذا قاعدة شعبية عريضة، حرف هذه السلطة "الوطنية" عن مسارها أو استخدامها لغير الأغراض التي رسمت لها، فلن يتردد القائمون عليها من القضاء عليه أو القضاء على من يريد حرفها عن أهدافها.

وينطبق هذا المبدأ المتعلق بطبيعة العملية السياسة التي أصبحت عابرة أكثر فأكثر للحدود، على ما يتجاوز ذلك بكثير، أي على أي عمل سياسي. وهنا تكمن أزمة العمل الإسلامي في السياسة العربية والدولية. فبسبب إدانته المسبقة من قبل البيئة الدولية، حتى لو كانت هذه الإدانة على باطل، لا يستطيع هذا العمل أن يثمر مكاسب سياسية، بل إن نتائجه تزداد سلبية بقدر رفض القوى الدولية التعامل معه.

وهكذا كلما تعاظمت تضحيات الحركات الإسلامية كلما قلت قدرتها على إنجاز مكاسب سياسية. وهنا تكمن المفارقة: تضحيات أكثر تساوي مكاسب أقل، وهو ما يعني أنه كلما زادت الحركات الإسلامية قوة كلما قل مردودها السياسي.

باختصار لا تسمح شروط البيئة السياسية والجيوسياسية الدولية اليوم بتنفيذ أي أجندة إسلامية سياسية كأجندة وطنية. وخطأ حماس أنها أرادت، بالإضافة إلى ذلك أن تعطي لنفسها أبعادا دولية فاتصلت بإيران بعد أن كانت على علاقة قوية بسوريا، فأثارت حفيظة جميع القوى التي تقف في الصف المقابل، بما فيها قوى أغلبية الدول العربية. وكان الأفضل لحماس أن تبقى في الموقع الثاني، وألا تتصدر الحركة الوطنية، حتى تحمي نفسها، وتمكن قوى أخرى من قطف ثمار تضحيات الشعب الذي يعمل تحت رايتها، لكن هذا يتطلب حسا بالتفاني لا حدود له، وتجاوزا للإساءة والاستفزاز اليومي الموجه بالضرورة لها من قبل خصومها ومنافسيها معا.

برأيكم ما يحدث في الأراضي الفلسطينية المحتلة هل هو مواصلة للمواجهة بين المحور الإيراني السوري الذي له أنصار في الأراضي المحتلة أمام ما يطلق عليه البعض المحور المعتدل، والذي يتشكل من بعض الأنظمة العربية المساندة للإدارة الأمريكية؟

كما ذكرت سابقا، جانب من ذلك موجود بالطبع، لكن ذلك ليس الأمر في مجمله. فالاستقطاب الإقليمي والدولي الذي حصل، ودفع حركة حماس إلى التقرب من إيران وسوريا، كما دفع حركة فتح إلى التماهي مع ما يسمى بحكومات الاعتدال العربية، واكب التباعد المضطرد بين مواقف وتوجهات وأسلوب عمل قطبي الحركة الوطنية الفلسطينية.

وكان الاستقطاب بهذا المعنى تتويجا للانقسام الوطني نفسه، وتبني إستراتيجيتين متباينتين ومتعارضتين: الأولى تراهن على الضغوط العربية والدولية، وتتبنى تكتيكات سياسية لفتح أفق التسوية الفلسطينية الإسرائيلية، والثانية تصر على متابعة الكفاح المسلح وتكثيف الضغوط العسكرية وتعميم ثقافة المقاومة والشهادة كوسيلة لتحرير جميع الأرض الفلسطينية وطرد المستعمرين اليهود منها.

السؤال: هل كان الطلاق بين الفريقين والإستراتيجيتين حتميًّا أم أنه كان من الممكن حصول تسويات مؤقتة أو مستمرة بينهما؟ في اعتقادي أن مثل هذه التسويات كانت ممكنة، وهو ما دل عليه تطور التصريحات المؤكدة على استعداد حماس للقبول بدولة فلسطينية في الضفة وغزة، وتجميدها للعمليات العسكرية واقتراحها مبدأ هدنة طويلة، إذا التزمت إسرائيل بذلك. وهو ما يبرهن عليه أيضا تشكيل حكومة الوحدة الوطنية.

ونحن نعرف أن هذه التسويات لم تحظ بموافقة واشنطن ولا تل أبيب، وتمت إدانتها من قبلهما، فهي تجنب حماس العزلة والحصار والحرب التي تريد العاصمتان فرضها عليها. وهو ما سعت إليه وعملت على تحقيقه في النهاية من خلال استفزاز حركة حماس، وإدخالها في حرب داخلية، والضغط على الدول العربية التي رعت إنشاء حكومة الوحدة الوطنية للتخلي عن مساعيها، واتخاذ موقف إدانة رسمية وصريحة لحماس، وتأييد حكومة محمود عباس وحدها... لذلك نتمنى أن تكون هناك تفهمات عربية جديدة تعمل على رأب الصدع بين الحركتين، ولا تستجيب كلية للضغوطات الأمريكية والإسرائيلية، وهذا غير مستحيل عمليا، حتى في ظل الحديث عن المحاور الإقليمية.

إلى أين نسير في الأراضي المحتلة؟ هل يمكن أن نتحدث عن نهاية مشروع التحرر الوطني الفلسطيني أو أنه بحاجة لوقت طويل حتى يستيقظ ثانية؟

يعيش مشروع التحرر الوطني الفلسطيني والعربي معه في مأزق منذ عقود طويلة، بل إن وصوله إلى طريق مسدودة هو الذي يفسر الانقسام الذي حصل داخل صفوف الحركة الوطنية، والاستقطاب المتزايد فيه بين قوى تريد التعامل مع الواقع، بل الاستسلام له، من جهة، وقوى أخرى تريد الذهاب أبعد في التحدي والمواجهة وتلقين دروس في التضحية وقبول المخاطر، وهو ما أصبح مصدر مزايدة البعض في البرهان على الاستعداد للشهادة واستخدام العنف، والبعض الآخر في الذهاب حتى التفاهم والتعاون مع الأجنبي للحفاظ على المصالح البسيطة المجسدة في الاستقرار الأدنى وتأمين شروط الحياة اليومية.

وقد تجاوزنا اليوم في فلسطين وغيرها من البلاد العربية نقطة الانقسام ووصلنا إلى القطيعة الناجزة، بل إلى المواجهة الداخلية التي تعبر عن نفسها أكثر فأكثر من خلال المواجهة الإقليمية بين دول الاعتدال المرتبطة بالكتلة الغربية ودول الممانعة والمقاومة والصمود الممثلة بإيران وسوريا والمنظمات المتحلقة حولهما. وإذا استمر هذا الاتجاه فسوف تذوب المشاريع والصراعات الوطنية ومشاريع التحرير وتنحل في المواجهة الإقليمية وتنتهي معها.

لذلك لست متأكدا من أنه ما يزال من الممكن أن نستخدم مفاهيم عادية أو قياسية مثل مشاريع التحرر الوطني؛ لوصف ما يجري في منطقة خرجت فيها إستراتيجيات الدول والمنظمات عن أي قواعد مرعية، وأصبحت اللغة الوحيدة السائدة فيها هي لغة الهمجية والقتل والخراب أو التهديد بالخراب الشامل، وذلك بقدر ما تنزع القوى المتضاربة، الدولية والإقليمية التي تعيش مأزق مشاريعها السلطوية، إلى استخدام جميع الوسائل، مهما كانت لا أخلاقية ولا إنسانية، لتحرير نفسها من القيد، أو للخروج من المطبات التي وقعت فيها، والحفاظ على رهاناتها ومصالحها، وهذا ما يعني أن المواجهة مستمرة، وأن شيئا لم يحسم ولن يحسم في المدى المنظور، طالما لم تدرك القوى الكبرى أنها لن تستطيع الحفاظ على مصالحها من دون اعتبار مصالح الأطراف الأضعف والتعاون معها على صيانتها وتعظيمه

موقع إسلام أونلاين