الصورة الأكثر وضوحا في ألبوم العائلة

٢٠٠٦-٠٧-٣١

الصورة الأكثر وضوحا في ألبوم العائلة

حسين الشيخ *

البحر ييدو خلف مراسل الجزيرة في صور، هادئا ، وكأن ليس له علاقة بالمجازر التي ترتكبها اسرائيل في لبنان، وكأنه يراقب فقط ما يتسرب اليه من أشلاء ودماء الضحايا، وكأنه يشرب الأركيلة بهدوء من دون صخب المجزرة الحالية. لماذا يزعج نفسه بمجازر لا زالت تتكرر في تاريخنا وكأنها موجة يرسلها الينا تروح وتجيء، وكان قدرنا أن نتقبل المجازر بدون شكوى، وكأننا اعتدنا على صور أشلائنا وهي تتبعثر على شاشة التلفزيون أو ألبوم الصور القديم، الذي نضيف اليه كل يوم صورأ لمجزرة جديدة.

لماذا علينا أن نقبل بهذا ونسكت، أو نشيح أبصارنا، أو نطرد أطفالنا إلى غرف أخرى كي نمعن النظر في أشلائنا. أو لكي نمسح ارض البيت من دمائنا التي تسيل بهدوء من جهاز التلفزيون المفتوح أبدا على المنظر.

لماذا علينا أن نقرأ مقالات لسياسيين يكتبون كلماتهم بالمسطرة، لتبرير الحدث، لماذا علينا أن نقرأ لهم وهم يحاولون اثبات أن المجزرة المرتكبة بحقنا ودمائنا التي تسيل بتمهل، سيستفيد منها ذلك النظام أو الآخر، لماذا علينا أن نستمع إلى معارضة عاجزة عن تحريك نملة، ولكي تبرر في المستقبل أن الحرب أطالت عمر ذلك النظام أو الآخر، لكي تبرر عجزها عن تأييد مقاومة شريفة بحجة أنها شيعية أو رافضية أو ماشابه من الكلمات التي استخدمها البعض من السنة أو العرب لتبرير عجزهم، علماء السلطة الذين أباحوا وحرموا كما تشتهي السلطة وكا يشتهي النفط وكما تشتهي الفضيحة التي تلم بالكل، لماذا علينا أن نصغي لسياسي يخبر حسن نصر الله بأن حلب تستقبل حاخاما يهوديا، ولا يحرك ساكنا في حشد كل العالم من أجل مقاومة الموت الذي يحصدنا طفلا طفلا وامرأة امرأة . لماذا علينا أن نصغي لسياسيا ينظر لحقيقة حزب الله الشيعي، أو آخر يقيس بالمسطرة مقدار الفائدة التي يجنيها النظام السوري أو الأيراني من دمائنا التي تسيل بتمهل شديد على صورتنا المعلقة على جدار العجز، لماذا نردد تحفظاتنا المؤدبة والتي تخفي سما زعافا في طياتها حول الموعد الملائم لمهاجمة اسرائيل، المواعيد التي توافق السياسيين المؤدبين الخانعين العاجزين الذين يبحثون عن انتصارات صغيرة مزعومة أو انتصارات تطفح بالمؤمرات الدنيئة الصغيرة أو بحثا عن مكسب مخجل، لماذا علينا أن نصغي لتباكيهم على صوت أشلائنا وهي تتبعثر في الأفق، أو لاستنكارهم الشديد لاستهداف المدنيين وتدمير البنية التحتية، أي تبرير لمثل هذا السلوك، سيتم اضافته إلى لائحة القتلة او المساهمين في القتل أو الذين يتجاهلون القتل وهم يعيشون في نعيم المنفى الفخم. لماذا علينا أن ننتظر رد فعل ذاك السياسي الذي تسيل منه رائحة طائفية، أو الآخر الذي اختبأ في مكان ما دون أن تصدر منه كلمة، ينتظر صفارة الأنذار التي تعلن عن انتهاء المجزرة ليظهر مرة أخرى وكأنه بطل منفوخ، وكأنه هو الذي قاد العاصفة، وما الفائدة في نبش الكلمات والتي يتقنها ساسة آخرون لكي يجدوا المعنى خلف المعنى، فنصفق لهم على حذقهم في استنباط معان مخبأة في صدر القاتل والفاشي ومرتكب المجازر أو من يحيط بهم من منظرين ومحللين وخونة.لماذا علينا أن نصغي لسياسيين حمقى ينصحوننا بالتعقل وعدم المجازفة وتحديد المكان والزمان للرد على آلة همجية عمياء من ورائها ألة القتل وبحجة تحقيق ديمقراطيات غثة ومستقبل غائم يخبئ خلفه مئات المجازر الأخرى، فهذا الثمن الذي يجب أن ندفعه من أجل حريتنا في اختيار المشهد الأكثر دموية لاشلائنا التي تتدلى من شاحنات الأمم المتحدة التي تحمل لنا الطحين والبطانيات. أي عبث في هذا المشهد، أنظمة مترعة بالاسلحة تطالبنا بالصبر، فلم يحن الوقت بعد لطلاء الشبابيك بالازرق خوفا من غارات وهمية على عتبة الكعبة، أنظمة تحفز مخبريها العلماء لكي يخبروننا بحقيقة الهلال الشيعي الذي يطوق أرواحنا، أنظمة مازالت وما فتئت تحضر لهزائمنا بعناية بالغة، الهزيمة تلو الهزيمة، أنظمة لم تدخر جهدا باقناعنا أن ندفع ونعاني ونتألم ونختنق من أجل المعركة التي لم تأت ولن تأتي، وعن التوازن الاستراتيجي الذي دفعنا له أعمارنا ولم يتحقق، أنظمة يصف أحد رؤسائها المجزرة ودماءنا وأشلاءنا بأنها عمل غير مسؤول، ويتلفت حوله بحثا عن الصمغ الذي يلصق مؤخرته على كرسي المعجزة. أنظمة ومعارضات مخجلة تتشارك في صنع مشهد استشهادنا، تدور الكاميرا ببطء وتأنٍ وتشفٍ ومرارة، وكأن الكاميرا السادية لا يكفيها أن تشارك في الحدث، بل تكون تاريخنا القادم المخجل.

لماذا علينا أن نصغي للساسة وهم يخبروننا بأن المقاومين جلهم من الشيعة كان لزاما عليهم أن يحسبوا ويطيلوا العمليات الحسابية عما سيكسبوا من الدول النفطية المسيطرة على الاعلام والساسة والتدبير والأمر والنهي والامنيات والتي يسيل من لعابها خوف ظاهر ناصع الوطأة ، وعما سيكسبوا من الميزات والعطايا التي ستترتب على مواقفهم المخجلة والتي سترشح عن أموال النفط الوسخة. لماذا علينا أن نصغي إلىالفتاوى المعبأة بالامراص ارضاءا لاميركا أمنا الحنونة المعطاءة الديمقراطية التكنولوجية ، أم العالم وأبوه (وأبيه) في الوقت نفسه.

لماذا علينا أن نصغي إلى العواصف التي بشرنا بها رئيس آخر وهي تعم منطقتنا، وفي الوقت نفسه يطلب وقف اطلاق النار بالحاح من يرتكب المجزرة، أو إلى رئيس مفدى آخر وهو يصف المجزرة بارهاب الدولة، صح النوم، لقد وجدها، لقد وجدها وريث الألقاب والحكمة والموت...!!!!

لماذا علينا أن نتسمر أمام شاشة التلفزيون نبكي موتنا، ونتفرج على أشلائنا قطعة قطعة، وعلى أطفالنا الذين لم يعودوا يلعبوا أو يلتصقوا بنا عند الخوف، على نسائنا اللواتي لا زلن يلبسن لبس البيت، فلم يعلمن بالمجزرةليستقبلن الصحافيين بأثواب الخروج إلى الزيارات، أو كما يليق باستقبال الغرباء، على عشائنا البيتي المكون من جبنة الله والزيت والزعتر، على ابريق شاينا المسود من شدة الانفجار ، على أفقنا المديد المعربش على غرفة كنا احتمينا بها خشية برد أول الصبح، على أغطية الفراش، على قصص الجدة العجوز التي اختارت أن تجلس قرب المدخل وكأنها تهجس باغنية فيروز "في شي بدو يصير"، ولم تنم أبدا ألا حين فاجأتها القنبلة المجنونة الفراغية التي صنعت في أميركا ودفعت ثمنها الدول العربية قاطبة، ومرت عبر سماوات الأرض لتصل إلى الباب الموارب، لم تقرع الباب، ولم تستأذن الدخول إلى بيت العيلة، ولم توقظ نيامنا ولا أطفالنا ولا اللعب ولا شيء ، ولا شيء، ولا شيء.

حتى الأنهار تغدر بنا في هذا الوطن المكون من جيفتين، وعشر جيف، وعشرة أخرى بعين الحاسد، أنظل بعد كل غصة بالماء أو العرق أو الخيبة نقول "لاحول ولا قوة إلا بالله". لماذا يهرم النص الآخر فينا، ونتباهى بالنص المليء بسير الهزائم والأحزان، لماذا تكثر في خطابنا كلمات مثل الجهل، الرعب، البقية، الكرامة، العقم، الفراغ، الجمل، الخطابة، الصمت، الفحولة، المسيطر، القمع، الهجرة، المعتقل والموت. ألسنا نولد شيوخا بلا حكمة، سوى حكمة المجازر، منذ المخاض ونحن نشعر بالمدافع والرصاص والدم، الضجة الأولى لسمعنا الذي لا يلبث أن يشيخ، وحين نتقدم إلى هذا العالم المسود المسدود، وبحكمة المجازر التي نخفيها تحت أرديتنا، نرفض الولادة، تقودنا الممرضات نحو أسرتنا المبعثرة بعدد غير محدد من المجازر، ولأننا نمتلك الحكمة نبعثر الرصاص على طارف الأفق، نقلب القنابل التي ستقتلنا ونلعب بها ككرة، نتقاذفها فيما بيننا، ونخفي الجثث تحت الأسرة، فلا يجب أن ننشر غسيلنا الوسخ أمام الغرباء!!!

ولا يلبث بعض ساستنا ان يتعاطف مع القاتل، فلابد أن يثبت للعالم حيادنا تجاه ما يحدث فهو لا يعنينا، وسنظل ننظر إلى ساعاتنا، قلقين، مخفين عن العامة هذا الإسهال الذي يمنعنا من التمتع بالصيف، أو محادثة ملقم المدافع التي لا تهدأ لا صباحا ولا مساءا، لكي نظهر اعجابنا الحار بجنود قتلة لا ينامون ابدا، قبل أن تحدث مجزرة أخرى،

لذلك لا نريد تبريراتكم ولا مساطركم ولا بطانياتكم ولا نفطكم ولا اعلامكم ولا علماءكم المأجورين ولا كذبكم ولن تجبروننا أبدا أن نكون مؤدبين ولا ساسة يكتبون بالمسطرة نحن ننتمي إلى المقاومة التي تقاتل في جنوب البلاد..

ماذا تريدون منا بعد هذا الموت، لم يبق سوى أن نمشط شعر المجزرة، وننفخ صدورنا، ونعدل قمصاننا الباهتة الألوان ، ونتحضر للصورة القادمة التي لن تطول.

*كاتب سوري، المحرر المسؤول عن موقع صفحات سورية

دماء لمآقي القتلة

دماء لمآقي القتلة

صبحي حديدي

خاص – صفحات سورية –

هكذا، إذاً، كان لا مناص من أن تقع مجزرة قانا ـ 2، لا لكي ترتدّ أية ذاكرة حسيرة إلى مجزرة قانا ـ 1، 1996، وإلى الهمجية الإسرائيلية التي تنحطّ إلى أسفل سافلين وتتعاقب عاماً بعد عام فحسب، بل لكي تُحكم الجريمة الجديدة الرباط البربري الوثيق بين شمعون بيريس وإيهود أولمرت، وتلغي أيّ فارق سياسي أو أخلاقي بين حزب العمل وكاديما، وربما تسعة أعشار أحزاب الدولة العبرية.

والحال أنّ قانا ـ 1، مثل قانا ـ 2 تماماً، ليست محض جريمة حرب ارتكبتها الدولة العبرية وحدها، بل هي جزء من ستراتيجيات العنف الإمبريالي المعاصر، العاري والمباشر والمفتوح والعشوائي، الذي تعتمده الولايات المتحدة بنفسها تارة، كما في مجزرة العامرية في بغداد أواسط شباط (فبراير) 1991 حين أسفر قصف الملجأ المدني عن أكثر من 700 جثة محروقة من المدنيين الأطفال والنساء والشيوخ؛ أو بالتكافل والتضامن مع حلفائها ومخافرها الأمامية، كما في حرب المخيمات ومجزرة صبرا وشاتيلا، وكما فعلت وتفعل إسرائيل في فلسطين ولبنان.

ثمة، مع ذلك، خصوصية إسرائيلية ـ صهيونية في ارتكاب هذه المجازر، لا يغيب عنها مزاج ممارسة القوّة وتوظيف العنف الوحشي بالطبع، ولكنها تستند كذلك إلى ثقافة محلية سياسية وسيكولوجية في آن معاً، مفادها أنّ دموع الجندي الإسرائيلي التي تسيل حزناً أو ذعراً، ينبغي أن تُفتدى بالدماء: بالكثير الكثير من دماء الذين تسببوا في انهمار دموع إسرائيل. وفي مطلع العام 1988 نشب في إسرائيل جدل واسع النطاق حول السؤال العجيب التالي: هل يتوجّب السماح للجنود الإسرائيليين بذرف الدموع في جنازات زملائهم؟ وهل الصحيح موقف قائد الجبهة الشمالية، الذي رأى أنّ البكاء صفة إنسانية ولا مانع من أن ينخرط فيه الجندي، أم موقف رئيس الأركان الذي اعتبر البكاء علامة ضعف لا تليق بالمقاتل إجمالاً، وهي حتماً لا تليق بالمقاتل الإسرائيلي!

آنذاك توفّر باحث إسرائيلي جادّ واحد على الأقلّ، هو أفيشاي مرغاليت، أرجع النقاش إلى ظاهرة جوهرية أكثر شمولاً تتصل بالمسألة العاطفية في «الثورة الصهيونية»، تلك التي هدفت إلى قَوْلَبة «اليهودي الجديد»، ورأت في المآقي الدامعة علامة عاطفية سلبية ترسم صورة اليهودي الضعيف، المنفيّ، الحزين، الطيّب، العتيق... الذي يتوجب استئصاله من الذاكرة اليهودية مرّة وإلى الأبد. بديله؟ اليهودي الجديد، مواطن دولة إسرائيل، الـ «صبّاري» Sabra، المقاتل ضدّ «الوحش الأصفر» حسب الكليشيه المعتمد رسمياً في الأدلة السياحية الإسرائيلية، الذي يشتقّ سماته من نبتة الصبّار: شوكية صلبة في وجه الخارج، وطرية عصارية حلوة في الداخل. إنه، إجمالاً، ذلك الإسرائيلي العسكري الذي قصف قانا، والإسرائيلي المدني الذي يؤيد الوحشية بنسبة 85%، ليس أقلّ!

وفي ارتكاب مجزرة قانا ـ 1 سعى شمعون بيريس إلى كفكفة دموع الصبّاري الإسرائيلي الذي انسدّت أمامه الآفاق العسكرية والسياسية لعملية "أعناب الغضب" من جهة؛ ثمّ سعى من جهة ثانية إلى كفكفة دموعه الشخصية وهو يتعثر في ملء فراغ إسحق رابين وحيازة صفة الـ Mr. Security. إيهود أولمرت، في ارتكاب مجزرة قانا ـ 2، لم يكن بعيداً عن السياقات ذاتها: كفكفة دموع نخبة النخبة من لواء "غولاني" الذين دحرهم مقاتلو المقاومة اللبنانية في بنت جبيل، من جهة؛ وتعزية ذاته، من جهة ثانية، إذْ يفشل تماماً في حشر قدميه في أيّ من أحذية سيّده أرييل شارون.

ليس أقلّ خبثاً وقحة وبذاءة تلك التغطية الخطابية التي تفلسف الوحشية، كأن يقول الناطق باسم البيت الأبيض آنذاك، مارلين فيتزووتر، إن ملجأ العامرية "هدف عسكري مشروع لأنه مقرّ قيادة واتصال، ولا نعرف سبب وجود المدنيين فيه، ولكننا نعلم أن صدام حسين لا يشاطرنا الموقف من قيمة وقداسة الحياة". أو يقول بيريس، ثمّ أولمرت اليوم، إنّ "حزب الله" يحوّل المدنيين اللبنانيين إلى دروع بشرية ويستخدم سطوح المباني المدنية لإطلاق صواريخ الـ "كاتيوشا". وليست أقلّ مسؤولية تلك المقاربة الإعلامية الغربية التي تغطّي المجازر من خلف فلتر رقابي يمنع عرض صور المجزرة الأشدّ بشاعة، بذريعة عدم إيذاء مشاعر المشاهدين... والأطفال منهم بخاصة!

في المقابل، وحين تكون جثث 37 طفلاً دفينة الركام في قانا، لا تتورّع عدسة الـ BBC عن التسمّر طيلة ساعة كاملة في نقل مباشر لتظاهرة الاحتجاج الشعبية أمام مبنى الأمم المتحدة في بيروت، والتركيز على مشاهد اقتحام المكاتب وتحطيم الأثاث وإشعال النيران هنا وهناك. كأنّ إدارة المحطة العريقة تريد تركيب المعادلة التالية: إذا كانت مجزرة قانا ـ 2 بربرية إسرائيلية عسكرية، فإنّ مشاهد تخريب مبنى الـ "إسكوا" هو البربرية المدنية اللبنانية، أو بالأحرى بربرية "حزب الله" وحركة "أمل" أساساً، بالنظر إلى أنّ صور حسن نصر الله ونبيه برّي كانت طاغية في أيدي الجموع.

وكما كانت مجزرة العامرية أمثولة مبكرة على انزلاق عمليات «عاصفة الصحراء» نحو عتبة محتومة، بربرية وحشية صرفة، ستعيد تذكير العراقيين والعالم أجمع بأن آخر سابقة لهذه العربدة البربرية كانت تدمير المغول لبغداد عام 1258، فإنّ قانا ـ 1 وقانا ـ 2 أمثولتان في السجلّ ذاته حيث تعربد الوحشية الأمريكية، في الواجهة أو في الخلفية... سيّان!

بيان من حزب العمل الشيوعي في سورية

بيان من حزب العمل الشيوعي في سورية

أيها المواطن السوري:

بيّنت مذبحة قانا الثانية مرةً أخرى همجية النازية الصهيونية حين استهدفت بصواريخها المدنيين العزّل. إنّ قتل المدنيين المتواصل تعبير عن العنصرية الإسرائيلية وحقدها نتيجةً لصمود ودحرها من جديد نخبة قوّات الجيش الإسرائيلي بعد أن كبّدتها أفدح الخسائر.

أيها المواطن السوري:

كانت الحروب السابقة حروباً إسرائيلية تدعمها الولايات المتّحدة الأمريكية أمّا هذه الحرب فهي حرب أمريكية بأدوات إسرائيلية من أجل فرض المشروع الإمبريالي الأمريكي في المنطقة, الأمر الّذي عبّرت عنه بكلّ وقاحة عناصر الإدارة الأمريكية, غير أن صمود الشعب اللبناني وتضحياته يقف حائلاً في وجه تقدّم هذا المشروع.

أيّها المواطن السوري:

أثبتت التجارب الواقعيّة ما نؤكد عليه دائماً من أنّ الشعب الحرّ كفيل قادر على الوقوف في وجه أعداء الوطن, فها هو الشعب اللبناني الشقيق يهزم للمرّة الثانية جيش العدوّ الإسرائيلي فيما لم تحقق جيوش أنظمة الاستبداد إلاّ الهزائم المخزية وما ذلك إلاّ لأن الشعب اللبناني كان دائماً يتمتّع بنصيب من الحريات المدنية والسياسيّة تسمح له بتعبئة الصفوف والتصدي للمحتل الخارجي, ومن هنا فأن جميع دعاوي الوطنية باطلة ما لم تقترن بإطلاق الحريات السياسية.

نقف بإجلال احتراماً للدم اللبناني.

ندعو جميع المؤيدين للسلام والديمقراطية في الوطن والعالم إلى اتّخاذ موقف فعلي مناهض للهمجية الإسرائيلية.

نطالب ونسعى إلى الديمقراطية للشعب السوري كحقّ وكمدخل للمساهمة الفعّالة في مقاومة العدو.

حزب العمل الشيوعي

المكتب السياسي

‏31‏ تموز‏، 2006

مصلحة لبنان والعرب منع هزيمة حزب الل

... مصلحة لبنان والعرب منع هزيمة حزب الله

ياسين الحاج صالح

كان التدمير الواسع النطاق لفيتنام هو المخرج الذي اهتدت إليه واشنطن من معضلة تعذر انتصارها على مقاتلي الفيتكونغ وعدم تقبلها للهزيمة. ويتوجس المرء اليوم من أن إسرائيل تدفع سياسة سندها وحاميها وملتزمها الأميركي في الهند الصينية إلى نهاياتها القصوى، باستخدام أسلحة أشد فتكا، وضمن رقعة جغرافية أضيق، وضد بلد يفتقر إلى ظهير كالاتحاد السوفياتي (والصين قبل 1972)، وعلى أرضية افتقار الدولة المعتدية ذاتها إلى المرونة الاستراتيجية (بالنظر إلى أن كل إخفاق عسكري لإسرائيل يعتبر تهديدا وجوديا لكيانها من وجهة نظر عقيدتها الأمنية والذاكرة التاريخية للصهيونية). يعزز التوجس ذاك أن فكرة إسرائيل عن إلحاق الهزيمة بحزب الله بالغة التطرف لا ترتضي بأقل من استئصال الحزب أو إبادته عسكريا وعدم الاعتراف به طرفا سياسيا. ويبدو تدمير لبنان مخرجا من استحالة اجتثاث حزب الله، وتعذر التسليم بالإخفاق في مواجهته.

فما يجري منذ أسبوعين هو إحراق منظم للبنان بهدف إلحاق هزيمة مطلقة بحزب الله، يتراءى لإسرائيل أنه يستحيل إلحاقها به بأسلوب آخر. بعبارة أخرى، يبدو أن تحطيم المجتمع اللبناني والمراهنة على دفعه إلى تحطيم ذاته، هو سبيل إسرائيل إلى تجفيف الماء الذي يسبح فيه مقاومو حزب الله، ويموتون خارجه، إن استعدنا استعارة لماوتسي تونغ.

تستفيد إسرائيل في ذلك من أن التنظيم الشيعي اللبناني، لأسباب معروفة، ليس تنظيما تمثيليا أو قابلا لأن يكون تمثيليا، أي أنه لا يسبح في كل الماء اللبنانية. تستفيد أيضا من أن أميركية المعركة الحالية تعادل إسرائيليتها وتهيمن عليها وتوجهها. وبينما لدى إسرائيل غريزة ثابتة تنزع نحو حروب قصيرة تخاض على أرض الخصم، فإن عنصر الوكالة الكبير جدا في حربها هذه وضرب حزب الله للداخل الإسرائيلي يقويان قلبها على تحمل الخسائر والصبر. ومن جانب آخر، يعني التوكيل الأميركي أنه ليس ثمة فرصة لحل دولي يفرض على الطرفين ويجنب لبنان ومجتمعه الدمار. فرغم أن المواقف الأوروبية أخذت تتمايز عن الموقف الأميركي، إلا أنه ليس لأوروبا وزن استراتيجي مستقل. ويفاقم من التبعية الاستراتيجية الأوروبية أن الدول العربية الأساسية أخذت مواقف لا تحرض الأوروبيين على اقتراح مبادرات مستقلة حقا، إن لم نقل إنها تشجعهم على الالتحاق بالأميركيين.

ما لا يبدو أن الدول العربية تتبيّنه أن هزيمة حزب الله وانتصار إسرائيل مشكلة كبيرة جدا، عربيا ولبنانيا. فحتى لو صرفنا النظر عن حقيقة أن سبيل إسرائيل إلى هزيمة الحزب اللبناني ليس إلا تدمير لبنان ذاته، فإن من المحتمل أن الهزيمة تلك ستثير تفاعلات سلبية، داخلية لبنانية (شيعية في مواجهة الطوائف الأخرى) وعلى مستوى الشيعة في البلاد العربية، فضلا عما يثيره تحطيم حركة مقاومة تنال الاحترام في البلاد العربية كلها من استياء من الحكومات، ومن تزكية لتيّارات التطرف والعدمية والإرهاب. ليس حزب الله إرهابيا مهما يكن رأي الأميركيين والأوروبيين، فضلا عن الإسرائيليين. لكن سياسة الاستئصال الجذري الموجهة ضده، والتي لا يرتضي عنها بديلا الأميركيون والإسرائيليون، قد تتمخض عن نظير شيعي لمنظمة القاعدة. إن الإرهاب وليد امتناع المقاومة وليس التعبير الطبيعي عن أية مقاومة، وفقا لما تقضي به النظرية الأميركية الإسرائيلية. من شأن إدراك ذلك أن يدفع الحكومات العربية إلى سياسية أكثر استقلالا وأشد ضغطا على الأميركيين، لا لتجنيب لبنان دمارا متماديا، ولكن كذلك لاستباق تحولات يحتمل أن تجمع بين الإرهاب والطائفية على غرار ما نشهد في العراق. بعبارة أخرى، قد يفضي استئصال حزب الله إلى فتح الباب أمام تعميم الحالة العراقية ويسهم في تجديد شباب «الفتنة الكبرى» الإسلامية.

معلوم، إلى ذلك، أن مختلف تنويعات سياسة الاستئصال في المجال العربي لم تسهم إلا في نشر التطرف وتعميم الإرهاب. الاستئصالية الأميركية الإسرائيلية («لا شريك لنا»، رفض التفاوض والندية، العنف المطلق ضد أية مقاومة...) ليست استثناء، بل لعلها القاعدة أو النموذج الأصلي للاستئصاليات العربية.

من هذه الوجهة يمثل اقتراح مخرج سياسي يلبي مطلب حزب الله باسترجاع الأسرى اللبنانيين، ويتعداه إلى حل مشكلة مزارع شبعا، ضمن ترتيب شامل، يمثل في الآن نفسه دفاعا عن حق لبنان في مستقبل مستقر وحق اللبنانيين في دولة قابلة للعيش، ومساهمة في تجنب انزلاق المشرق كله نحو طور جديد من هيمنة أميركية وإسرائيلية ألفْنا تطرفها ووحشيتها وطائفيتها، وفوق ذلك كله تمثل جهدا سياسيا عقلانيا وبعيد النظر مصوّباً نحو تجنب مخاطر حرب أهلية إسلامية قد تنتشر في بلاد عربية كثيرة.

انتقاد حزب الله من وجهة نظر التوقيت أو توفير الذريعة للعدوان لا يصلح أساسا لسياسة متماسكة إزاء الحرب الإسرائيلية التي تتجاوز، عسكريا وسياسيا، حزب الله، ولبنان ذاته، وحتى فلسطين، نحو طور متقدم من إعادة بناء المنطقة حول إسرائيل وأمنها دون أي اعتبار لأمن الدول العربية وتماسك مجتمعاتها. وليس من مصلحة الدول العربية القبول بإخراج حزب الله من السياسة، دع عنك الوجود ذاته، خارج ترتيب شامل يضمن للبنان كامل حقوقه وسيادته. بل إن جوهر دورها المفترض يقوم على أن حزب الله طرف في الحرب، وينبغي أن يكون طرفا في ترتيبات التسوية اللاحقة لها، في مرحلة أولى على الأقل. في مرحلة لاحقة، يدمج الحزب في النظام السياسي اللبناني وينضوي تحت السيادة اللبنانية الواحدة على قدم المساواة مع غيره. لا مناص من ذلك من أجل أن يكون ممكنا القول لعرب آخرين إن أكتاف لبنان لا تتحمل ما يتجاوز شبعا والأسرى وسيادة لبنان.

لقد تبددت فرصة صياغة جهد عربي مشترك من أجل مقاربة شاملة تعالج جذور الصراع، وذلك بسبب ضيق المنظور الذي أطل منه الفاعلون العرب على الجولة الراهنة (منظور «الهلال الشيعي» ومخاطر الصعود الإيراني...)، أو بسبب توسيع مفرط للمنظور يجعل من الحرب معركة «الأمة»، ويدرجها في سياق مواجهة تتخطى فلسطين نحو آفاق سورية وإيرانية. غير أن مقتضيات العدالة والحنكة تلتقي معا لتزكية لبننة الصراع، تمييزا عن إدراجه في بعد إيراني أو سوري...، أو قصره على حزب الله وحده. نقول الحنكة لأنه بينما يحتمل أن حزب الله رغب من وراء عملية 12 تموز (يوليو) في تعزيز وزنه في النظام اللبناني من جهة، وربما نصرة قضية سورية وإيران من جهة ثانية، فإنه يمكن لسياسة رشيدة أن ترتب نتائج سياسية مستقلة عن دوافع الفاعل الأصلي على المواجهة التي تلت؛ نتائج لبنانية، غير إقليمية وغير فئوية معا. إذا وجدت إسرائيل في أسر جندييها فرصة استراتيجية لمباشرة برنامج واسع يتخطى واقعة الأسر، فما الذي يمنع أطرفا عربية ولبنانية من فعل الشيء نفسه؟ ونقول العدالة لأن الحق اللبناني يتجاوز أي نقاش حول الوسائل والأوقات. وإنه لمنصف أنه حين تكون جميع الأوقات والوسائل غير مناسبة من أجل الحق فإن غير المناسب يغدو هو المناسب عينه.

ورغم أن إسرائيل لم تقصر في اللبننة من اللحظة الأولى، فإن النخبة السياسية اللبنانية، هي الأخرى، لم ترتفع إلى مستوى تسييس جولة الصراع الراهنة ومحاولة استثمارها لأغراض وطنية لبنانية. بدلا من ذلك فضل جناح واسع منها «تلطيش» حزب الله و»حُماته»، وآثر جناح آخر الالتحاق به والهتاف له. هذا يلقي ظلالا من الشك العميق على أهلية الجناحين السياسية، كيلا نقول على هزال مفهومهم للوطنية.

ينذر السلوك السياسي لكل من الحكومات العربية والنخبة اللبنانية بأن يكون دورها محدودا في رسم مستقبل مجالها ذاته بعد أن تسكت المدافع. فليس لمن لا يشارك في سياسة الحرب أن يأمل في فرص كبيرة للمشاركة في حروب السياسة.

جيل تهاوى وجيل لم يلد بعد

جيل تهاوى وجيل لم يلد بعد

هيثم مناع

لم يشهد المرء في حياته، عملية موت وولادة كالعملية التي نشهدها للنخب العربية اليوم. ولعل في الشهادات التي جمعتها من مثقفي الثلاثينات والأربعينات وحديثهم عن النكبة عام 1948 وكيف عاشوا يومئذ ما يعيد رسم معالم الثقافة العربية والجغرافية الحزبية وصراع الإيديولوجيات. ما يمكن أن يسمح باستقراءات لوضع جديد ولنخب جديدة. وما فيه فائدة للتعرف على آليات هزيمة النخب القديمة، التي نادرا ما استسلمت لقدرها التاريخي. على العكس من ذلك، خاضت حربا شرسة للدفاع عن النفس والإرث والدور ومبررات الخيارات والمواقف، ونتائج هكذا حرب على تغييب التحليل الموضوعي والفكر النقدي لصالح ردود أفعال ومواقف كيدية انحسرت من قبل في السلطات وتعدتها اليوم للمجتمع والمقاومة..

المشكلة فيما يحدث اليوم أكبر من زلزال في الفكر والواقع. هل من الضروري التذكير بأن كل المثقفين العرب وقفوا في 1982 ضد السيد بشير الجميل؟ لكن لا ندري كم من المثقفين اليوم يقفون مع خيار أبشع من خيار بشير الجميل في ثوب "العرس الشرق أوسطي الجديد" الذي تحمله عانس الخارجية الأمريكية للمنطقة ؟

أمضيت وقتا كبيرا مع كتابات ومخطوطات شارل مالك في محاولة لفهم الأسباب العميقة التي حالت دون انتساب هذا الليبرالي الكبير لمشروع حضاري عربي يتجاوز سقف لبنان. ويمكنني أن أقول بأمانة أنني لم أعثر بعد على تفسير منطقي. هل هو الخوف من انصهار قسري في حركات لم تتمكن من التحول إلى قوة جاذبة لكل من يختلف معها؟ هل هو الطاحونة اللبنانية التي تربط الدور الداخلي بالعائلة والطائفة؟ هل هو في عجز الحركات التحررية على الربط بين مواطنة تستند عليها لوطنية ديمقراطية الطابع إنسانية الأفق؟

الأزمة تتكرر اليوم والأسئلة نفسها تطرح من جديد في تشتت لا سابق له عند المثقفين والنخب السياسية والمدنية.

لماذا لم يخرج من النخب الغربية فرانسوا جاكوب يكون في مخاض المقاومة لإغناء خطابها، أو برتراند راسل يبتعد عن الذات الغربية ليتمكن من محاكمة رذائلها ؟ لماذا كان المثقف العربي أصغر من ناعوم شومسكي الذي لم ينتظر الانتساب للحركة الساندينية ليقف في وجه مشروع الكونترا ؟ هل يوجد مؤرخ فرنسي واحد يعتبر صفعة الداي حسين لقنصل فرنسا في الجزائر سببا لاحتلال دام 131 عاما؟ وما هذا الإسهال التحليلي الذي يختصر ما يحدث في قرارات منفردة للسيدين نصر الله ومشعل؟ لماذا تصاغرت أقلام عربية لطموح لا يتجاوز جائزة صغيرة من مؤسسة بيضاء اللون؟ كيف انتقل قطاع واسع من اليسار العربي من خطاب ستاليني مبسط إلى زخارف الليبرالية الجديدة الضحلة دون المرور بالليبرالية الأصيلة؟ هل مات جيل نكسة 1967 يوم سقطت بغداد ولم يجد من يحمل رفاته حتى حصار غزة والعدوان على لبنان؟

هذه الأسئلة أكثر من مشروعة اليوم، خاصة وأننا أمام إعادة تصنيف إجبارية تريد أن تضعنا في الفكر الثنائي الهزيل للمحافظين الجدد. فالمقاومة هي حماس، وهي حزب الله.. والمقاومة كما يشيعون إرهابية وضربها حرب مشروعة على الإرهاب وعلى الفاشية الإسلامية.

لا .. يقولون لنا، لم يكن العدوان الأول يوم قتلت إسرائيل وضربت بصواريخها من جانب واحد في هدنة من جانب واحد. لم يكن العدوان يوم حوصرت الأراضي الفلسطينية المحتلة في المال والغذاء والدواء بمباركة غربية وتواطؤ عربي. لم يكن العدوان يوم توصلت الفصائل الفلسطينية لبرنامج عمل موحد وتقدم الحوار اللبناني. لم يكن العدوان يوم طلب مجلس الأمن من لبنان نزع سلاح حزب الله والسكوت عن مزارع شبعا وقضية الأسرى وقضية خرائط الألغام ومشكلة توطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان مع رفض إسرائيل لمبدأ حق العودة....

المشكلة الأساسية اليوم لعدد غير قليل من المثقفين هي في صعوبة القدرة على التعرف على الذات في الانتخابات الفلسطينية أو المقاومة الإسلامية. لهذا يخافون على أبنائهم من حسينيات حزب الله. بل تصل مخاوفهم إلى أن تغّير حماس اسم مدينة البيرة بزمزم؟

لقد فشل اليسار العربي في بناء أحزاب حديثة، شعبية، متعددة التيارات، ديمقراطية البنية، علمية التصور، قادرة على الاستقطاب. فهل يسقط في وحل ندب المجتمع "المتخلف" الذي فضّل الحركات الإسلامية عليه والاكتفاء بشتم السلطات التسلطية التي "لعبت ورقة هذه القوى" من أجل تهميشه؟ أطراف الصراع القديمة تسعى لاحتواء النخب بين خدام عند مستبد قائم وأجير عند مستعبد قادم. من المضحك والمبكي أن اختيار قطاعات من هذه النخب للعمل المؤسساتي المدني والعام لم يكن من أجل استنهاض المجتمع وطاقاته في تنشيط للمشاركة العامة. بل هو في تشكيل شبه مؤسسات صغيرة حول شخص واحد أو اثنين تنتظر الخلاص من الموانع القانونية لتمويلها الأوربي أو الأمريكي.

عندما تحدثنا عن نكبة في العراق عشية احتلاله، لم يكن ذلك للترحم على الاستبداد. فقد دخلت الإدارة الأغبى في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية الحرب بعدة القتال لا بخطة للبناء. وزرعت منذ اليوم الأول جذور حرب طائفية لا ترحم، عبر بحثها عن عصبيات مذهبية تتحالف معها. وفرضت على العراق محاصصة طائفية مكتوبة ومقوننة، تخاذلت أمامها الطبقة السياسية. الخطاب الطائفي للطبقة الجديدة جعل الخطاب التكفيري البغيض جزءا من وضع باثولوجي سائد أكثر منه اسطوانة شاذة.

حزب الله كان القوة الإقليمية الأهم التي أبت الوقوع في هذا الوحل الطائفي، سواء في مواقفها الإقليمية أو اللبنانية الداخلية. بهذا المعنى، كان حزب الله أكثر الأحزاب الدينية حرصا على مفهوم المواطنة، وعلى تحديث دولة المؤسسات في لبنان، ومناهضة الاحتلال في العراق. لذا لم نستغرب شبكة علاقاته العربية الجيدة وتقاربه مع التيار الوطني الحر في لبنان الذي يدافع من موقعه العلماني عن مفهوم جديد للمواطنة في لبنان. لكن حزب الله ابن تاريخ وصراع وجودي لا يمكن للإسرائيلي أن ينساه. وسأذكر مثلا عايشته عندما شكلنا لجنة الدفاع عن الحريات الإعلامية وقناة المنار في باريس. كانت الاتصالات من أطراف عدة تطلب مني الانسحاب من هذه اللجنة بأي ثمن، وصدرت تهم عديدة حولي بالعداء للسامية في وسائل الإعلام الموالية لإسرائيل. بل في يوم جلسة مجلس الدولة الفرنسي تم استحضار رئيس سابق للرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان ونائب رئيس سابق للفدرالية الدولية لحقوق الإنسان للدفاع عن مطالبة مجلس المؤسسات اليهودية (الكريف) بمنع قناة المنار. ذلك للقول بأن هيثم مناع وروبرت مينار لا يمثلان حركة حقوق الإنسان. وقد استشرس اللوبي الصهيوني من أجل منع أية لقاءات بين أعضاء من حزب الله والخارجية الفرنسية ومسئولين في المفوضية الأوربية حتى باسم "تجمع العلماء المسلمين في لبنان".

من جهة ثانية، بدأت تحركات اللوبي الموالي لإسرائيل في صفوف عدد من المثقفين العرب من جديد عشية انتصار حماس في الانتخابات الفلسطينية. الحديث عن انقلاب على الطريقة الجزائرية "لإنقاذ القضية الفلسطينية" صار متداولا رغم كل ما تركته المأساة الجزائرية من آلام وضحايا. وعاد السؤال الكبير: هل يمكن مواجهة الحصار الدولي على الحركة الإسلامية المقاومة دون وضع استراتيجيات عمل جديدة تقوم على تحالفات دينامية وذكية ورؤى منفتحة على الجميع من جانبها: ودون تجاوز القوى غير الإسلامية لنظرتها التقليدية والأزمات التي طبعت علاقتها مع الإسلاميين في القرن العشرين؟

هناك قضية أخرى جوهرية لا تقل أهمية عن هذه المعضلة، وهي المشكلات البنيوية للحركات السياسية المعارضة في المشرق العربي. هذه الحركات سقط بعضها في منطق كل من يقف مع النظام السياسي في بلدي ليس صديقا لشعبي (باعتبارها الناطق باسم هذا الشعب)، وفي مواقف تقوم على الكيدية ورد الفعل. هذه المواقف لا يمكن أن تعطي أصحابها قوة مجتمعية ومكانة وطنية. وما أصغرها تنتظر هزيمة المقاومة أمام البربرية الإسرائيلية، علها تحمل معها هزيمة السلطات التي تتحالف معها. هذه المواقف القصيرة النظر ستخلق انشطارات جديدة في صفوف المعارضة الوطنية وابتعادا لبعض فصائلها عن نقطة القوة التي منحت بعضها مصداقية شعبية كبيرة: نقصد الربط الجدلي بين حقوق المواطن وتحرر الوطن. فحال المواطن العربي بعيدا عن أحزاب السلطة والمعارضة يمكن اختصاره بجملة عفوية معبرة: إن كان معسكر الخير اليوم في تل أبيب فجهنم بالعز أجمل منزل.

يخبرنا التاريخ بأن النخب تعطي روافد تغسل دم السلطات المستبدة أو تشكل نسيج السماسرة وعرب الخدمات في السياسة الدولية. خاصة وأن الحدود بين السلطة والسلطة المضادة، الفكر السائد والفكر النقدي، مشروع المقاومة ومشروع الهيمنة، ليست واضحة في الوعي العام. ومازالت التعبيرات المستقلة عن السلطات حديثة العهد في التكوين المجتمعي والثقافي. وكما يختصر ابن خلدون، في ذهن الأغلبية "السيف والقلم كلاهما آلة لصاحب الدولة يستعين بهما على أمره.".

لكن إمكانية التاريخ الإنساني مشروطة في الأساس بإرادة الأشخاص الأحرار الذين جعلت منهم المقاومة مواطنين، أي سادة. هذه السيادة التي شعر بها شعب المقاومة عام 2000 عند تحرير الجنوب، وعاشها قطاع واسع من الشعب اللبناني يوم خروج القوات السورية، هي محور المستقبل في لبنان. الغد الذي يحق له أن يجمع بين الحرية والكرامة، بين السيادة والمواطنة بعد التضحيات التي قدمها الشعب اللبناني من راس مارون إلى كسروان.

فهل يمكن أن ينتصر كل لبنان في مواجهة البربرية الإسرائيلية؟

--------------------------------

مفكر وحقوقي عربي من سورية

عن صحيفة الوسط (البحرين)

محللو حروب العرب التلفزيونيين: من مطربي الأعراس إلي كراسين المطاعم

محللو حروب العرب التلفزيونيين: من مطربي الأعراس إلي كراسين المطاعم

حكم البابا

مشاهدة الفضائيات العربية التي تغطي أخبار العدوان الاسرائيلي علي لبنان هذه الأيام تقصّر العمر، لا لأن الهمجية الاسرائيلية تنتقم من لبنان انتقام حلاق في الجيش حظي برأس مجند مدلل مستجد، ولا لأن الدول العربية في هذه الحرب حولت نفسها بنفسها فجأة من دول طبيعية مستقلة تملك الجيوش المسلحة، إلي مجرد مدارس بائسة للتمريض لا تملك من الأسلحة لنجدة لبنان سوي الشاش والقطن والكحول الطبي، واتفقت لأول مرة في تاريخها علي علم عربي واحد، وللأسف الشديد أنه من بين كل أشكال وأنواع الرايات المتاحة أمامها، لم تجد إلاّ علم الهلال (أو الصليب) الأحمر ليجمعها، وتنازل جنرالاتها وساستها بكل طيبة خاطر عن مسؤولياتهم القيادية والتاريخية والمصيرية لأطبائها وممرضيها ومسعفيها، واكتشفت أن الطريقة الأنسب والأكثر سلامةً لتطبيق شعارها الأثير بالروح بالدم نفديك يا فلسطين هو التبرع بعدة سنتميترات من الدم. ولا لأن المجتمع الدولي يتابع الحرب الهمجية علي لبنان بحذر ناقد سينمائي دعي لمشاهدة فيلم دموي بحضور منتجه وطاقمه الفني، فراح يبدي ملاحظات طفيفة علي إخراج المعارك المبالغ به، وينتقد بلطف زيادة اكسسوار الجثث والضحايا الذي كان من الممكن اختصاره، ويغمز بتحفظ من الافراط في استخدام المؤثرات الصوتية التي أساءت لهارموني الفيلم.

صحيح أن أياً من هذه الأسباب كفيل بتقصير العمر، لكن السبب الأكثر تقصيراً للعمر هذه الأيام من وجهة نظري كمدمن تلفزيوني، هو استخدام الفضائيات العربية المفرط لهذه الكمية الكبيرة من المحللين السياسيين والاستراتيجيين والعسكريين العرب الذين يظهرون منذ عشرين يوماً علي الشاشات، ليلاً نهاراً، بدون كلل أو ملل، متنقلين من فضائية إلي أخري للتكرم علي مشاهديها بتحليل استراتيجي لمجريات الحرب، وتقديم رؤيتهم العسكرية لسير المعارك، وتوقعاتهم الجيوسياسية لمستقبلها، وتطميناتهم التبصيرية لنتائجها.

لا أعرف بالفعل من أين تأتي الفضائيات العربية بهذه الكمية المكلفة من المحللين السياسيين والاستراتيجيين والعسكرين العرب، الذين يتكرر ظهورهم في كل حرب يكون أحد طرفيها عربي أو مسلم، ليعيدوا في حرب العراق نفس ما قالوه في حرب أفغانستان بأسلوب من يقدم امتحاناً شفهياً في الحفظ غيباً عن ظهر قلب، ويكرروا في حرب لبنان ما سبق وقالوه في حربي أفغانستان والعراق بطريقة من يستخدم الورق الشاف لنقل صورة، والفارق الوحيد بين كلامهم في الحروب الثلاثة هو في اسماء الأماكن التي تستبدل للضرورات التي تفرضها جغرافيا أرض المعركة، ورغم حذر هؤلاء المحللين الشديد من الوقوع في أخطاء حين يمرون علي ذكر أسماء الأماكن، إلاّ أن المتابع المدقق لابد وأن يسمع اسم قندهار يمر سهواً في حين يكون المقصود مرجعيون، ويلفظ اسم الناصرية خطأً بدلاً من بنت جبيل، ولو سئلت عن مصدرهم، وطريقة ظهورهم التي تشبه إلي حد كبير خروجا مفاجئا لأحد الجان من باطن الأرض، وأسلوب اختفائهم المفاجيء بعد كل هزيمة تلحق بالعرب كأن كل منهم يملك نسخة من طاقية الاخفاء جاهزة للاستعمال، فسأرد بسؤال وهل لديكم تفسير لظهور جيش من النمل في مكان ما في بيوتكم فجأة، ثم اختفاؤه بنفس الطريقة المفاجئة؟

وعن مدي جدية تحليلاتهم وصدقيتها، فإني أنصح متابعيهم بأن يفهموا كلامهم معكوساً، فإن تحدثوا عن تقدم علي المشاهد أن يهييء نفسه لتلقي أخبار التراجع، وإن بشّروا بنصر فإن الهزيمة قادمة بدون أدني شك، ووفقاً لتحليلاتهم فإني أكاد أجزم بأن المصدر الأساسي للمعلومات ـ التي يبنون وفقها سيناريوهاتهم للمنطقة العربية ـ هو قيامهم ببل أصابعهم بريقهم ثم رفعها في الهواء لمعرفة اتجاه الريح، فإذا كان حتي السياسيون العرب المحترفون المقربون من دوائر صنع القرار في بلدانهم من وزراء خارجية وسفراء ليس لديهم اطلاع كاف علي آفاق ما يجري اليوم، فكيف يمكن لمحلل سياسي ربما يكون فنجان قهوة زوجته مرجعيته الوحيدة في التحليل، أن يقرأ ويحلل وينظّر لما يحضّر للمنطقة العربية، وإذا كان العرب يملكون هذا العدد الكبير من مراكز الدراسات الاستراتيجية التي يتربع مدراؤها علي شاشات الفضائيات، ليفككوا العالم ويعيدوا تركيبه من جديد وكأنهم يتسلون بلعبة ميكانو ، فمن الغريب أن لا يمر بذهن مدراء هذه المراكز الاستراتيجية سؤال ساذج قد يخطر لأحد مشاهديهم عن أهمية مراكزهم وجدوي دراساتهم وأبحاثهم الاستراتيجية، مع وصول العرب إلي هذه الحالة البائسة التي ليس في صالحها حتي مقارنتها بعصر الانحطاط العربي، ثم كيف يجرؤ عربي بالغ راشد بكامل قواه العقلية علي تقديم نفسه باعتباره محللاً عسكرياً حالياً، ولواء أركان حرب سابق أو عميداً متقاعداً في واحد من الجيوش العربية، متجاهلاً ما قد يخطر في ذهن ولو مشاهد عربي واحد، عن قيمة التحليل العسكري أو التوصيف القتالي أو الخطة الحربية وهذه الآراء تصدر من فم ضابط سابق في جيش عربي، لم يدخل حرباً إلا وهزم فيها، ولم يخطط لمعركة إلا وخسرها، والجبهة الوحيدة التي قد يفتحها ويربح فيها هي الألعاب الحربية علي شاشة الكومبيوتر، وكل معلوماته العسكرية لا تتجاوز فعلياً خطط الانسحاب وطرق التراجع وممرات الهروب الآمنة.

صورة المحلل السياسي أو الاستراتيجي أو العسكري العربي تقدم اليوم في الفضائيات بطريقتين، فإما أنه مجرد نمرة حماسية صوتية، تقدم بين فاصلين غنائيين وطنيين، ولولا غياب الموسيقا عن نمرته لاعتبرت امتداداً لهما، ويكاد يكون أقرب إلي مطربي الأعراس منه إلي المحلل السياسي أو الاستراتيجي أو العسكري، وعدة شغله محدودة، وهدف ظهوره لا يتجاوز سقف إشغال جمهور لا يفهم لماذا اختار الله الأمة العربية من بين كل أمم الأرض ليدخلها في التجارب والمحن، والمهارة التي تميز محللاً عن آخر ينتمون لهذا النوع السياسي أو الاستراتيجي أو العسكري من المحللين هي في الطريقة اللغوية والثقافية التي يستطيع بها قول كلمة (صامدون) بحيث يكون لها تأثير قرص البندول ومفعول حبة الفيتامين في نفس الوقت.

أما الصورة الأخري التي تفضلها وتروجها عادةً المحطات السعودية (بالأصالة أو بالوكالة) للمحلل السياسي والاستراتيجي والعسكري العربي، فهي الأقرب إلي أداء كراسين المطاعم، الذي يعتبر الزبون ـ وهو هنا منذ حرب أمريكا علي أفغانستان والعراق إلي العدوان الاسرائيلي علي لبنان السياسة السعودية ـ دائماً علي حق، وكل عمله يتلخص في تلبية الطلبات ونقل أطباق الطعام وقبض قيمة الفاتورة.

للأسف الشديد أنا أستعمل لوحة الكومبيوتر أحياناً، وقلم الحبر أحياناً أخري لكتابة مقالاتي، وكنت أتمني اليوم وفي هذا المقال بالذات، لو كان بإمكاني الكتابة بالبيف باف أو بالشيلتوكس، لأنهما المادتان المناسبتان لمواجهة التحليل السياسي والاستراتيجي والعسكري الذي يغزو الفضائيات العربية اليوم ليرش علي الموت سكر!!

كاتب من سورية

القدس العربي

هل الاستسلام ممكن؟

هل الاستسلام ممكن؟

نهلة الشهال

تتسابق الأحداث طائرة صوب منطق الحد الأقصى، الأفق النهائي. عطلت السيدة كوندوليسا رايس مؤتمر روما عن أي نتيجة. لا تريد وقفا لإطلاق النار بأي حال من الأحوال. تريد استسلاما تاما يترافق مع إجراءات عملية تحول هذا الموقف السياسي إلى نتائج فورية على الأرض. بخصوص العراق، ولأن الشيء بالشيء يذكر، قال المحللون وقتها إن الإدارة الأميركية كانت تفتقر للمعرفة الكافية بمعطيات البلد، ومنها أن العراق كان على مدى التاريخ بؤرة للتمرد والتناحر المأساوي، بلد لا يحكم كما تقول أسطورته. وحدهم بعض أبنائه استشعر خطر غرقه في المشهد المريع الذي يتجدد أمامنا كل يوم، إلا أن أصواتهم وقواهم لم تكن كافية، ليس لوقف التدهور هذا بل حتى كي تُسمع. قال المحللون وقتها إن الإدارة الأميركية تجرب أفكارها وأننا ندفع ثمن ذلك التجريب، بينما هم يعتدّون بشيء واحد وحيد هو تفوق قوة نارهم وغربتهم عن المكان فلا يوجعهم دماره وموت أهله وانهيار مستقبله.

يتكرر الموقف اليوم بخصوص لبنان، وما يتعدى لبنان والله اعلم. تنفلت إسرائيل من عقالها، سكرى بالإجازة الممنوحة لها. يختلط الانتقام بانعدام الأفق بالغربة عن المكان. يقول قائد الأركان الإسرائيلي انه سيدمر بناية من عشر طوابق كلما انطلق صاروخ على حيفا. تصريح رسمي يقع مباشرة في بند جريمة الحرب. في الأثناء، يكاد رقم النازحين عن بيوتهم اليوم يقارب المليون، نصفهم من الأطفال، يكاد رقم القتلى يلامس الخمسمائة، ثلثهم من الأطفال. يمكن لإسرائيل أن تستمر على هذا المنوال بل أكثر منه، وهي ترغب به لو تتاح لها الفرصة. ها هي تتلبسها حالة تماه مع الوضعية الأميركية، فتأمر وتنهى. وتقتل أكثر في غزة. عشرات القتلى كل يوم هناك، والهدف إفهام الفلسطينيين بأن الحرب الطاحنة الدائرة على الجبهة اللبنانية لن تخفف عنهم وطأة الهجوم. لا يترافق هذا التهديد بالدمار الشامل، وهذا القتل واسع النطاق بأي مقترح لحل سياسي. ما تقوله لنا آلة الحرب الإسرائيلية والديبلوماسية الأ ميركية المتلازمتين، أن المطلوب هو الاستسلام. ببساطة ومن دون تعقيدات.

فهل الاستسلام ممكن؟

بعيدا عن الأسباب الأيديولوجية والاعتبارات الأخلاقية، على فرض زيادتها عن اللزوم، وهي ليست كذلك، فالجواب هو بالنفي، لاستحالة تحقيق ما تطلبه إسرائيل ومعها اليوم الولايات المتحدة، وقد تطابق موقفاهما تماما ولم تعد قائمة تلك المسافة، وإن الصغيرة، التي كانت تظهر أحيانا بخصوص فلسطين، وامحى التحفظ الذي اعتمدته الإدارة الأ ميركية حيال التدخل الإسرائيلي السافر، وهو التحفظ الذي ظهر إثر غزو واحتلال العراق ودفع بعض المحللين إلى الكلام عن انتفاء لزوم إسرائيل كوكيل عن أميركا في المنطقة، طالما أن هذه الأخيرة بقضها وقضيضها حضرت مباشرة فيها وإليها. ولا شك أن مآلات المغامرة الأ ميركية في العراق تقع على رأس أسباب هذا التطابق، علاوة على انسجام في العقلية بين من يدير واشنطن اليوم والطاقم الإسرائيلي الذي انتهت إليه السلطة في تل أبيب، والمشهود له داخل بلاده بالتفاهة غير المسبوقة.

يشترك الاثنان بخاصية غريبة في عالم السياسة، وهي التعويض عن الافتقار إلى امتلاك الرؤيا بالاستعداد للعنف غير المحدود. فإن كانت تل أبيب لا تعرف ما الذي يمكنها حقا تحقيقه في لبنان، ولا تدرك تعقيدات المشهد والتباساته، فهي تحل قدرة النار التي تملكها محل التبصر. وإن كانت واشنطن لا تعرف كيف تتدبر الموقف في العراق وتلاحظ التهتك السريع لكل ترتيب تعلنه كحل سحري وعظيم، فهي تستعيض عن الإدراك والمراجعة بالإمعان في مواقفها والمزيد من العناد عليها. إنه ببساطة مشروع سيطرة استعماري هو من الفجاجة والبدائية بحيث لا يتيح لأي كان موقعا شريكا فيه، بل يغلق كل الهوامش ويكرر ويعيد مبدأ وحيدا: إما معنا أو ضدنا، وأما «معنا» هذه فلا تحتمل التلونات والتفاصيل والتنوع، وهي تحوز على كل صفات الالتحاق، وأما «ضدنا» فجوابها المحق والابادة. لقد تميزت مواقف السيدة رايس في المنطقة على امتداد الأسبوع المنقضي بانكشاف غير مسبوق في هذا الاتجاه، فبدا أنها تمتلك تصميما يتفوق أحيانا على نظيره الإسرائيلي الذي قد يهزه انهمار القذائف على مدن ومستوطنات البلاد وعدد القتلى في صفوف جنوده.

إلا أن هذه المقاربة تمتلك عطبا أساسيا. فما أن تلوح على الوقائع الميدانية بعض مظاهر العجز عن الحسم رغم التفوق الناري، حتى تتصدع جبهة من يرضى أو يقوى على الاسترسال في العنف الأعمى، فيصبح المصممون قلة وينسحب الآخرون بأشكال شتى.

واللحظة الراهنة بدأت تطل على خيارات من هذا القبيل. لذا تحتاج إسرائيل ومعها الولايات المتحدة إلى نتائج تستبق التململ وإعادة البعض، وإن بدرجات، لحساباتهم. ويعني ذلك انفلاتا مضاعفا للوحشية الإسرائيلية. إلا أنه انفلات لا يمكن أن يدوم إلا لبعض الوقت، لأنه ورغم كل ما حل بالبشرية من استبطان لليأس ومن استقالة عن الفعل والمبادرة، فإن مثل ذلك الإجرام لا يمكنه إلا أن يولد ردة الفعل الرافضة له، وذلك على المستويين الرسمي والشعبي. وقد بدأت بوادرها تظهر، فيتفلت رئيس الوزراء الأسباني زاباتيرو ويرتبك الرئيس شيراك، وهو الأب الشرعي لقرار مجلس الأمن 1559، ويصاب رومانو برودي بحرج وقد تتصاعد بوجهه ضغوط حلفائه في الوزارة من قوى اليسار إلى حد تهديد حكومته، وتبدو جامعة الدول العربية وكأنها لا تعبر عن رأي مكونيها، ويتلعثم السيد انان، وليس ذلك سوى علامات مبكرة عن وضع مرشح للتفاعل.

وعلى صعيد آخر، فها هي عشرات الوفود من أنحاء العالم تتجه إلى لبنان، وتمثل نوابا في البرلمانات وأحزابا وهيئات حقوقية وإنسانية متنوعة، يهولها هذا الذي يتعرض له البلد الجميل، ولكنها أيضا يحركها الخوف من اتساع دائرة العنف فلا يعود احد بمأمن منه ولا يعود احد قادر على السيطرة عليه. حتى الشارع الإسرائيلي احتضن للمرة الأولى في تاريخه مظاهرة كبيرة جابت شوارع تل أبيب رافعة العلمين اللبناني والفلسطيني، وذلك في الأسبوع الأول للحرب وقبل أن تبدأ عشرات جثث الجنود الإسرائيليين القتلى بالوصول إلى ذويهم.

يبقى الأهم من هذا وذاك من خلاف على تقدير الموقف. الحزن العميق على تلك الحيوات المهدورة في لبنان، وذلك الرعب من انعدام الأفق ومن الانزلاق في نفق مظلم لا يبقي ولا يذر.

يا الله، هل يصبح العراق المستباح والغارق في الأهوال هو النموذج المرشح للتعميم، كتطبيق للنظرية الأميركية عن «الفوضى الخلاقة»، وقد رأينا معنى الفوضى ولكن أحدا لم يعرف كيف هي خلاقة. هل من يوقف المنزلق الذي تدفع إليه واشنطن العالم اليوم؟

الحياة.

سلطة الاحاطة بالحرب التي تجري الآن

سلطة الاحاطة بالحرب التي تجري الآن

حسن شامي

يمكننا من الآن أن نقرأ الخطوط العريضة للرواية التاريخية التي ستزعم لنفسها سلطة الاحاطة بجملة أحداث ومقدمات ومجريات المواجهة الحربية الدائرة منذ أسبوعين بين لبنان وإسرائيل. وستأتي هذه الرواية في ديباجة شديدة التبسيط، من دون أن يمنعها ذلك من أن تكون مدعومة بقوة انتشار إعلامي ودعوي ذي طابع عولمي أو معولم. ستقول هذه الرواية، في ما يخص المقدمات والاسباب التي أدّت الى اندلاع القتال، إن الحدود اللبنانية - الإسرائيلية كانت تنعم ببعض الهدوء خلال الأشهر التي سبقت المواجهة والتي كان ممثلو الجماعات اللبنانية يخوضون اثناءها مناظرة داخلية وحوارا وطنيا يدوران على كيفية بناء الدولة الجامعة والسيّدة في أعقاب الانسحاب السوري قبل عام ونيف وبعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وستشدّد هذه الرواية على الاستقرار النسبي للبلد اللبناني قبل القول إن مجموعة مسلحة تطلق على نفسها اسم «حزب الله» قامت فجأة بمهاجمة موقع عسكري عند الجانب الإسرائيلي من الحدود فقتلت سبعة جنود وأسرت جنديين. ولن تبخل الرواية في التركيز على حق الدولة العبرية في الدفاع عن نفسها وأمنها وعلى أن الحزب المذكور قرر فتح حرب بالنيابة عن، أو لخدمة، راعييه وسيديه الاقليميين: إيران وسورية.

وقد تتكرم هذه الرواية بإبداء الأسف على الخسائر الكبيرة التي أصابت البشر المدنيين والبنى التحتية اللبنانية، وربما تشير عرضاً الى التلويث البيئي الذي ألحقته البوارج الإسرائيلية بثلث الشاطئ اللبناني.

قصارى القول إن الرواية المرشحة للنمذجة هذه تتبنّى الرواية الإسرائيلية وتجعل التاريخ في خدمة اللاهوت الإسرائيلي متولية عملية تطعيم هذا اللاهوت ذي المنظار والنبرة التوراتيين بلغة وعبارات الحداثة السياسية الدنيانية. أمّا الدعوات الصادرة عن بعض الدول الأوروبية والتي قد يكون لها بعض النصيب في المناقشات الدولية التي ستبدأ، يوم كتابة هذه السطور، في مؤتمر روما، فهي ستبقى على الأرجح في عداد التفاصيل الثانوية التي يجدر عدم الالتفات إليها ما دام الأمر يتعلق بملحمة صراع بين الخير والشر، بين المبدأ المؤسّس للقانون والديموقراطية والحرية وبين الإرهاب. وسيكون كذلك مجرد تفصيل مقتل أربعة مراقبين دوليين بقصف إسرائيلي على منطقة بلدة الخيام الجنوبية اللبنانية، وهو قصف وصفه الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان بأنه «متعمد»، ووصفه المندوب الفرنسي الذي يرأس حالياً مجلس الأمن بأنه «فظيع»، فيما أعرب جون بولتون، المندوب الأميركي العالي الكعب، عن «الأسف» لمقتل الجنود الدوليين الأربعة، ممهداً بذلك (أو مسايراً) للاعتذار الذي وجهه ايهود أولمرت رئيس الحكومة الإسرائيلية الى كوفي أنان.

المسكوت عنه في هذه الرواية، المجنّحة والديماغوجية على نحو ممجوج، هو بالتأكيد محل رواية تاريخية - نقيض سيتلقفها بطريقة أم بأخرى عدد هائل من أبناء الضحايا ومن المكتوين بنيران الحملة الإسرائيلية على كل شيء تقريباً في لبنان. ويكفي لهذا أن نتوقف عند بعض المفارقات التي تكاد تكون سوريالية في عدوان شديد الواقعية. ففي اليوم الأول للحملة العسكرية اعتبر ايهود أولمرت عملية «حزب الله» بمثابة مبرر أو ذريعة حرب، ملقياً المسؤولية على الدولة اللبنانية، ولم يتردد جيشه في استهداف مواقع ومراكز للجيش اللبناني، علماً أن الحكومة اللبنانية أعلنت عدم علمها بالعملية وبأنها بالتالي لا تتحمل المسؤولية عنها. في الأيام التالية على استهداف المدنيين والمنشآت وعدد من مراكز الجيش أعلنت الدولة العبرية انها تريد أن ينتشر الجيش المقصوف على حدودها وأنها تريد مساعدة الدولة اللبنانية، أي تلك التي ألقيت مسؤولية الحرب عليها، على بسط سيادتها على الأجزاء الجنوبية الحدودية من لبنان، وانها، بعبارة مختصرة، أخذت على عاتقها تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي 1559 القاضي بنزع سلاح الميليشيات اللبنانية والفلسطينية.

وليس معلوماً من خوّل الدولة العبرية وأحال عليها بطريقة تشبه «الالتزام» في عهد الولاة العثمانيين والباشوات، بفرض تطبيق القرار الدولي المذكور. المعلوم ان الادارة الاميركية سعت منذ اليوم الأول الى تعطيل أي مبادرة دولية لوقف اطلاق النار. وزيارة كوندوليزا رايس الى بيروت واسرائيل ورام الله جاءت لتهيئة الظروف المناسبة لوقف اطلاق النار، أي الى حين بلوغ الطرف الاسرائيلي موقع ووضعية من يملي الشروط والتدابير. وهذا التعطيل الأعظم جاء مصحوباً بتصريحات هي أقرب الى الأحاجي والألغاز منها الى المعالجة السياسية. فالسيدة رايس رأت ان الحلول السياسية في الشرق الأوسط يجب ان تكون دائمة لا مؤقتة، بدون ان تقول ما هي هذه الحلول. على أنها لم تضنّ بالاعلان عن بشارة كبرى مفادها انه حان الوقت لولادة شرق أوسط جديد والتمهيد لسلام دائم في المنطقة. وهنا ايضاً لم تقل سكرتيرة الدولة للشؤون الخارجية ما هي مواصفات هذا الشرق الأوسط الجديد. وهو تبشير من طراز الحديث الممل للرئيس الاميركي عن نشر الديموقراطية والحرية ومكافحة القوى والمنظمات الارهابية التي تحارب الديموقراطية لأنها تخاف منها.

لن يكون مسموحاً لأحد ان يذكر بأن الحربين الاسرائيليتين على غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة وعلى لبنان تطاولان في الحقيقة تجربتين لمسارين سياسيين ديموقراطيين أسفرا عن التفاف شعبي حول حركة «حماس» في فلسطين وحول «حزب الله» في لبنان، بغض النظر عن رأينا في هذا الالتفاف. لقد بات واضحاً ان الحملة العسكرية المزدوجة على فلسطين ولبنان تهدف الى معاقبة بلدين وشعبين على خيارهما الديموقراطي، والى إنزال القصاص الالهي بهما لأنهما لم يسقطا في مصيدة الحروب الأهلية والاقتتال الداخلي، كما هي الحال في العراق الذي وعدت الادارة الاميركية بتحويله الى نموذج وترياق لمنطقة الشرق الأوسط. نستطيع في هذا السياق ان نضم دهشتنا الى دهشة عمرو موسى، أمين عام جامعة الدول العربية، من عدم قيام مجلس الأمن بالدعوة لوقف اطلاق النار بين لبنان واسرائيل. قد يكون كل هذا معروفاً الى حد الضجر والرتابة.

لكن بغض النظر عن رأينا في توقيت الحزب المذكور لعمليته وفي حجم مسؤوليته، ظهر من الايحاءات ما يكفي للقول بأن الدولة العبرية تملك وحدها عقيدة واستراتيجية أمنية في المنطقة، فيما تغيب مثل هذه العقيدة عن النظام العربي، الى حد لا نعود نعلم بمقتضاه ما هي مقومات الدول وشرعيتها. وكل هذا يسوّغ للادارة الاميركية ان ترسخ صورة واحدة عن الشرق الأوسط تتضمن التعاطي مع الدولة العبرية كما لو أنها معقل لأنصاف آلهة فيما يغرق العالم العربي في أوحال مشكلات تستحق الرعاية الانسانية لا غير. وثمة، في أوساط النخب العربية، من يستبطن مثل هذه القسمة كما لو أنها قسمة طبيعية وسُنّة الهية لا تحتمل التبديل. الطوباويون وحدهم يتحدّون مدّعي التفوق. وهذه ايضاً سُنة.

الحياة.

حين تبدو الدولة العبرية عاملة ضد أمنها

حين تبدو الدولة العبرية عاملة ضد أمنها

صالح بشير

في سلوك إسرائيل، في لبنان كما في فلسطين، ما قد ينبئ بمفارقة وما قد يشي بتناقض… إذ تبدو الدولة العبرية عاملة ضد أمنها، من حيث تزعم صونه، منصرفة إلى تأليب أسباب انهياره حيث تدعي الحرص عليه، مسوّغة بذلك شططها التدميري.

ذلك ما يدل عليه، على نحو معاكس مناقض، ما آل إليه واقع الصراع في المنطقة، ذلك الذي يفصح، بداهةً تفقأ العيون ودون لبس، عن أن أكثر حدود الدولة العبرية أمنا إنما هي تلك التي تفصلها عن دول قائمة أو عن سلطات متينة أو على قدر من متانة، تحكم سيطرتها على الحيز الترابي لكياناتها وتحتكر وسائل العنف فيه، سواء ربطتها بتلك الأطراف معاهدات صلح أو اتفاقات سلام، أو لا زالت تناصبها عداء رسميا، «تجمّد»، بفعل ما استقر عليه ميزان القوة، عند نقطة بعينها، مانعة للنزاع حائلة دون المخاطرة.

يُفترض، والحالة هذه، أن تتمثل مصلحة إسرائيل، إن تناولناها بعقل بارد دون أن يتسم بالضرورة بـ»برودة» حيادية أو بـ»رياء» آثم، في تعميم ذلك النموذج وفي استيلاده على صعيد العلاقة مع فلسطين ومع لبنان، عوض السعي، على ما هو بادٍ جليّ في الحالتين وعلى الصعيدين، إلى استباقه نسفا وإبطالا، كاحتمال أو كإمكان، بواسطة القوة الفظة والفجة والمنفلتة من كل عقال.

أما في فلسطين، فالأمر معلوم، حيث عملت إسرائيل، بدأبٍ مجرم قاتل في الغالب، على استبعاد فكرة التسوية وأمعنت في إضعاف نواة السلطة الوطنية الفلسطينية، الناشئة بمقتضى اتفاقات أوسلو، فتجاهلتها أو عاملتها معاملة «المتطرفين» غير عابئة بـ»اعتدالها» المعلن على رؤوس الملأ الكوني، حرصا على سلوك سبيل التفاوض والتشبث به، غافلة، أو على الأرجح متغافلة، عن أن الاعتدال ذاك لا يعود فقط إلى «خصال» ذاتية يتمتع بها رجل مثل محمود عباس، بل هو من مواصفات ومن مستلزمات سلطة ضالعة في علاقات دولية واسعة متشعبة، وواعية بمتطلباتها، لها موقع ومنزلة أو «مكاسب» تحرص عليها، وتعلم أن العلاقات الآنف ذكرها هي بعض ما يوفر لها الحماية ويمدها بشرعية الوجود، وهي فوق ذلك أو أساسا، طامحة في أن تقوم دولةً تجسد وطنا ووطنية، وقد تتمتع، لذلك وبمقتضاه، بحس لميزان القوة قد تفتقر إليه الحركات المقاتلة، مقاوِمة كانت أم إرهابية، أو قد تصدر في النظر إليه عن اعتبارات مغايرة، إيديولوجية ورؤيوية، إن لم يكن القصور سمتها.

نظريا إذاً، إن كانت إسرائيل تنشد العيش ضمن حدود آمنة (على ما يقول خطابها المعلن) وقد كف حقها في الوجود عن أن يكون محل سؤال، وإن كأمر واقع فرضته القوة، فإنه ليس ما يضمن «حقها» ذاك أفضل من دولة فلسطينية، تقوم إلى جوارها ناجزة السيادة وتتوفر على مقومات الوجود والبقاء، قادرة على الالتزام وعلى الوفاء بالتزاماتها وتعهداتها، أسوة في ذلك بالدول الأخرى، سواء تلك التي جنحت للصلح أو أقامت على العداء، وذلك ببساطة لأنها ستكون دولة، لها «عقل» الدولة الواعي بالمتاح وبالمتعذر، والمنخرط في نسيج العلاقات الدولية... ولكن الدولة العبرية تمتنع عن ذلك، لأسباب منها ما هو ملغز عصي عن الفهم، ربما عاد بعضها إلى خصوصية علاقتها الشعب الفلسطيني، وهي، كما هو معلوم ليست علاقة احتلال عادي، بل أساسها استبدال شعب بشعب، قد يمثل الاعتراف به سحبا لبعض الشرعية عن الذات، وإن جزئيا وبمقدار، علما بأن من «شيَم» الشرعيات ادعاءها الإطلاق...

ولكن ماذا عن لبنان؟ ولماذا تعامله إسرائيل معاملة الفلسطينيين، تواجهه بحرب من قبيل وجودي، تتعدى شراسة ودمارا ومدى، مجرد السعي إلى استرداد جنديين وقعا في الأسر أو استهداف حزب لا يتورع عن قصف المدن الإسرائيلية. مفارقة تلك الحرب، أنها قد تفضي إلى الإجهاز على لبنان، كيانا ودولة، دون أن تؤدي إلى القضاء على حزب الله وإلى بلوغ الأمن المرجوّ. شروط البقاء بالنسبة إلى ذلك الحزب، كما بالنسبة إلى كل حركة من قبيله متدنية متواضعة، وهو قد يجد في استشراء الفوضى وفي تفكيك الكيان تربة خصبة لازدهاره واشتداد شوكته، في حين أن نسف الجسور والمرافق العامة والحياة الاقتصادية (وهذه قد تنحصر فيها مقومات الوجود في بعض كياناتنا الهشة) وإضعاف الدولة أو دفعها، بفعل المواجهة ووطأتها إلى الإرتهان إلى المقاومة وإلى المقاومين، من شأنها أن تبعد احتمالات «الأمن» الذي تزعم إسرائيل حرصها عليه، كذلك المستتب على حدودها مع دول الجوار الأخرى.

ذلك أن الدولة العبرية، وهذا ما يمثل أفدح التناقضات التي تسم حربها الجارية على لبنان، تطلب الأمن وتنسف شروط بلوغه، ممثلة في وجود دولة لبنانية على قسط من قوة، قادرة على بسط نفوذها وعلى ضبط حدودها وحيزها الترابي، فتصرفت كمن «يلقي بالوليد مع ماء الغسيل»، أو على نحو يؤدي إلى استتباع «الدولة» من قبل «المقاومة»، عوض العكس، لأن الإجماع، في حالة حرب شاملة لا تبقي ولا تذر كتلك التي تشنها إسرائيل، لا يمكنه أن ينعقد، طوعا أو اضطرارا، إلا حول من يتصدى للقتال.

هل هو عمى القوة، يزين للدولة العبرية هذا المسلك، استنادا إلى نظرة عنصرية في عمقها، مفادها أن العرب، بإطلاق، لا يفهمون إلا لغة القوة العارية السافرة، ولا يمكن التعاطي معهم إلا بواسطة هذه الأخيرة، على نحو يبقى دون السياسة أو يتجاوزها، ولا يصادفها أبدا على أية حال، أم أن الهاجس هو احتلال موقع في عداد الدول والأمم المسؤولة وذات السطوة، علما بأن مثل ذلك ما عاد يتحقق إلا من خلال الاضطلاع بدور فاعل في «محاربة الإرهاب»، وإن بلغت تكلفته إلغاء لبنان، برمته ودون تمييز، واصطناعه «ساحة» للصراعات الإقليمية... والتضحية بـ»الأمن» وشروط بلوغه؟

الحياة.

الانتقام قادم وموجع

الانتقام قادم وموجع

عبد الباري عطوان

ليست اسرائيل وحدها التي تتحمل مسؤولية مجزرة قانا الثانية، وانما ايضا الولايات المتحدة الامريكية وحلفاؤها العرب، وخاصة المثلث المصري ـ السعودي ـ الاردني الذي وفر الغطاء العربي للعدوان الحالي علي لبنان.

الادارة الامريكية لم تعط فقط الضوء الاخضر للقوات الاسرائيلية لتدمير لبنان، وقتل المئات من ابنائه، وانما حمت هذا العدوان سياسيا بعرقلة كل الجهود لوقف اطلاق النار، وتزويد الاسرائيليين بالقنابل الذكية الموجهة بأشعة الليزر.

الزعماء العرب جميعا، نددوا بالمجزرة، واختاروا كلمات الادانة بدقة فائقة، كل حسب حجم تواطئه مع العدوان الاسرائيلي، ومدي قربه، او بعده، عن الادارة الامريكية، ولم يفعلوا اي شيء آخر علي الاطلاق، ولهذا استحقوا مديح الاعلام الاسرائيلي علي واقعيتهم و حكمتهم .

لا نعرف ما اذا كان هؤلاء يشاهدون بشاعة المجزرة عبر شاشات التلفزة مثلنا، ام انهم يتجنبون القنوات التي تنقل صور جثث الشهداء الاطفال وسط ركام البيوت المدمرة، وينتقلون الي قنوات روتانا للترويح عن النفس والابتعاد عما يعكر المزاج، ويجلب النكد.

وحدها المقاومة الاسلامية في لبنان التي تحمل هموم هذه الأمة وتدافع عن كرامتها، ووحده السيد حسن نصر الله الذي يتوعد بالانتقام لضحايا المجزرة، وهو رجل اذا قال فعل لانه طالب شهادة، وليس طالب حكم او ثروة او جاه.

الحرب ستستمر قطعا، ولن نفاجأ اذا ما جاء الثأر لشهداء قانا الثانية بقصف تل ابيب او اي مدينة اسرائيلية اخري في العمق الفلسطيني. فالمقاومة الاسلامية، وعلي عكس الزعماء العرب، لا تخاف من بوش، ولا تخشي اولمرت، ولا تعبأ بكل الاحاديث الزائفة حول الواقعية والتهدئة والموازين الدولية.

التاريخ يصنعه الشجعان المغامرون، ولم يصنعه الخائفون المترددون اصحاب التحليلات والحسابات الدقيقة. والدول المستعمرة تتحرر بالمقاومة والشهداء، وليس بالتسول والاستجداء في اروقة الامم المتحدة او العواصم الكبري.

المقاومة الاسلامية تصنع تاريخا جديدا في لبنان بصمودها، والرد علي العدوان الاسرائيلي بما تملكه من امكانيات متواضعة، ولكن فاعلة عسكريا ونفسيا، بصورة تشير الي ان العد العكسي لانهيار دولة العدوان الاسرائيلية قد بدأ، وان الخط البياني للسلام الحقيقي القائم علي الحق انطلق في مسيرة تصاعدية من ركام الدمار في لبنان.

هذا القول ليس من قبيل المبالغة، ولا هو من منطلق رفع المعنويات، وانما هو ثمرة قراءة متأنية للوقائع علي الارض، واستحضار كل التجارب التاريخية السابقة سواء في المنطقة العربية او مناطق اخري من العالم.

اسرائيل حالة فريدة في العالم، قامت في ظل معادلات دولية مختلة، وتكفير غربي عن ذنب المحرقة، وتخلف عربي مطلق، وقيادات اسلامية وعربية مفروضة من المستعمر.

الصورة تتغير الان بسرعة، وعقدة الذنب تتآكل امام هذا الفجور الاسرائيلي، والقيادات العربية الحالية المأمورة من قبل السيدة كوندوليزا رايس تفقد شرعيتها بسرعة، مثلما تفقد ما تبقي لها من مصداقية، بعد ان فضحتها الحرب الحالية علي لبنان.

الارهاب الصهيوني هو الذي اقام دولة اسرائيل، والارهاب الصهيوني هو الذي سيطيح بها، أي ارهاب الدولة الذي تمارسه حاليا في ابشع صوره في لبنان، ويؤلب جميع ابناء المنطقة ويدفعهم نحو التطرف.

الجيش الاسرائيلي ربما يملك رؤوسا نووية وطائرات حديثة، وقنابل ذكية، ومعدات اليكترونية، ودعما من واشنطن، ولكن ما لا يملكه هو ارادة القــتال المســتندة الي الحــق التي يملكها المـــقاومون الذين يتصدون له حاليا.

الحكومة العراقية المنتخبة تحظي بدعم امريكا، ومئة وخمسين الفا من قواتها، ومئات الطائرات وآلاف الدبابات، وربع مليون جندي مقسمين بين حرس وطني وقوات امن، علاوة علي مئة الف عنصر من الميليشيات المسلحة، ومع ذلك لم تستطع بسط سلطتها علي اربعة كيلومترات مربعة اسمها المنطقة الخضراء.

امريكا تدعم كرزاي وحكومته، وتوفر له القوات والحماية، وتستعين بعشرات الآلاف من القوات المتعددة الجنسية، ومع ذلك عجز هذا الكرزاي عن حماية قصره في كابول، وتحول الي رئيس مجلس بلدي لا يثق بابناء جلدته لحمايته، ويسلم المهمة لعناصر المارينز الامريكي.

هذه الحرب في لبنان هي اهم الحروب في المنطقة واخطرها، لانها ستكون نقطة تحول فارقة ترسم شكل المنطقة وخريطتها لسنوات ان لم يكن لعقود قادمة.

فهيبة الجيش الاسرائيلي انهارت في مارون الراس وبنت جبيل، وعقدة ذنب العالم تجاه اليهود تآكلت، وربمـــا تبخــرت، مع توارد صور مجزرة قانا.

القوات الاسرائيلية تقيم محرقتها في لبنان، وتعيد امجاد النازية علي حساب الاطفال اللبنانيين العزل، امام بصر العالم وسمعه، بالصوت والصورة، وصور قانا لا تكذب.

لعل الخير يأتي من باطن الشر، ولعلها مأساة تعيد الوعي الي العرب والمسلمين، وتقضي علي الفتنة التي بذرها الاحتلال الامريكي في العراق، وتعيد توحيد الأمة، ومذاهبها جميعا، في مواجهة مصدر البلاء الاساسي وهو الدولة العبرية وجرائمها، والدعم الامريكي غير المحدود لها.

محور الشر الامريكي ـ الاسرائيلي يعيش هذه الايام اسوأ ايامه في لبنان، ومعه النظام العربي الرسمي المرتعش المتخاذل المتواطئ، بعد ان وجد من يتعامل معه بالطريقة التي يفهمها، ولم يجربها في السابق.

القدس العربي

الطفلة، أو الجُثة – الصورة

الطفلة، أو الجُثة – الصورة

ادونيس

- 1 –

صمتٌ شبه كامل، في الأوساط الثقافية، داخل إسرائيل، وخارجها في الغرب الأميركي – الأوروبي، إزاء ما قام به ويقوم الجيش الإسرائيلي، في لبنان، من خَرقٍ لجميع المبادئ الإنسانية والثقافية، ومن استهانة بكرامة الإنسان وحرياته وحقوقه، ومن تدمير المقوّمات الأساسية لحياة شعب بكامله.

هكذا، من أجل شخصين اثنين، يُبادُ آلاف الأشخاص وتُباد الحياة في مصادرها الأولية، وفي وسائلها. ويُسمى خطف أو أسر هذين الشخصين إرهاباً، وتسمى تلك الإبادة دفاعاً عن النفس!

خصوصاً أن هذه الأوساط كانت تنتصر لحريات الأفراد والشعوب، وتــــدافع عنها، وتعترض على مختلف أنواع القمــــع والطغيان، حتى في أبسط الحالات الفردية وذلك بدءاً من العهد السوفياتي، مروراً بالأوضاع الأمــــيركية اللاتينية، والصين، وانتهاء ببعض الحالات في بعض الأنظمة الإسلامية.

صمتٌ مُذل، شبه كامل. ينذر، حقاً، بـ «مرض» خطير، فكريّ وإنساني، على مستوى الكون.

فعلاً، لم يعد «موت الإنسان» مُجرّد كلام. إنه يموت ضميراً، وعقلاً، ورؤية.

لكن، لماذا يموت، وفي سبيل أي شيء؟

وما يكون معنى الإنسان، ومعنى الثقافة، خصوصاً في إسرائيل – «الديموقراطية الوحيدة» في هذا الشرق العربي – الاستبدادي... الخ، الخ.

يموت الإنسان – وتعيش «الآلة». لكن، مرة ثانية: في سبيل أي شيء؟

- 2 –

بلى، لم يعد من الممكن وصف إسرائيل إلا بأنها «دولة مجنونة» (من تعليق للكاتب الإسرائيلي آرييه شافيط، هاآرتس 17-7-2006، نقلاً عن «الحياة») فهي تثبت يوماً بعد يوم أنها لا تنظر الى المنطقة العربية إلا بعيون حديدية من أسمائها الدبابة، والصاروخ والطائرة.

لا ترى التاريخ، ولا الذاكرة، ولا المستقبل.

لا ترى الإنسان.

- 3 –

الهجوم في أكثر أشكاله شراسة: ذلك هو «الدفاع» عند النظام الإسرائيلي.

الاستسلام، في أكثر أشكاله تدنياً: ذلك هو «الهجوم» عند الأنظمة العربية.

إضافة الى أن «شهوة التدمير» عند إسرائيل، تدمير كل ما هو فلسطيني بخاصة، وعربي بعامة، لا يقابلها، في الواقع العملي، عند العرب إلا شهوة أخرى للتدمير – التدمير الذاتي: لبعضهم بعضاً، ولأنفسهم بأنفسهم.

- 4 –

تدمير إسرائيل للبنان «جدارٌ عازلٌ» يتصل بذلك الجدار العازل الآخر، ضد الفلسطينيين.

وهذا «المجتمع الدولي» الذي يرى هذا التدمير يبدو كأنه ليس أكثر من مجموعة «عازفين» في جوقة اسمها إسرائيل.

- 5 –

صورة فوتوغرافية كبيرة لجثة طفلة جنوبية. تبدو الطفلة كأنها نائمة على زندها الأيمن.

غير بعيد عنها، تتناثر أنقاض سيارة. خِرق ثياب. شظايا وأحجار سود. حذاء، ربما لقتيل لا تبدو جثته، أو لشخص تمكّن من الهرب. في الطرف الأيمن الأعلى من الصورة بعض النباتات. («الحياة»، الصفحة الأولى، 16 تموز/ يوليو الجاري).

طفلة ميتة بقصف إسرائيلي، في حقل أشلاء.

لماذا لا نسأل الواقع في صورة هذه الطــــفلة أن ينقلنا الى الافتراض؟ أي الى الصورة الافتراضية التي تكمن وراءها. وما يكون معنى هذه الصورة؟ أو ما الذي «تمثله»؟

للجواب عن هذا السؤال، علينا أن نستعين بمفهوم «التناسخ»، ذلك «اللاهوت» السالب. السالب في الصورة الفـــــوتوغرافية «يتناسخ» في صُور، فــهو، في ذاته، غير مرئي. وعندما «نراه»، لا نراه هو، في ذاته، وإنما نرى «نُسخته» / صورته.

التصوير الفوتوغرافي قرّب صورة الطفلة الى المشاهد، فيما أبقاه بعيداً من أصلها. غير أن هذه الصورة تقدم نفسها كأنها الأصل: تحل محله، كأنها بديل له، وفي الوقت نفسه، تشير الى غيابه.

هل معنى ذلك أن جُثة الطفلة في صورة فوتوغرافية واقعية، تتضمن جثة أخرى في صورة افتراضية؟

وما تكون هذه الجثة؟ لنهمل الآن الجواب (الممكن)، ولنتركه الى ذكاء القارئ ومخيلته.

يقول سارتر: «الصورة فعلٌ وليست شيئاً. الصورة وعيٌ للشيء». ومعنى ذلك أن الصورة الافتراضية صورة – فعل، صورة – وعيٌ، تنقلنا من عالم مغلق الى عالم مفتوح. وبما أن رؤية الصورة الافتراضية لا تنفتح على المستقبل وحده، وإنما تنفتح كذلك على الماضي، فإنها صورة تقرن بين الذاكرة، والحاضر، والمستقبل. وتخلق في المشاهد صوراً نفسية عدة، ومتنوعة.

هكذا تبدو الصورة – الطفلة كمثل أفقٍ، كمثل صورة – أفق. في الزمن – حاضراً ومستقبلاً وماضياً. وفي المكان – هنا، وهناك وهنالك.

جثة تلك الطفلة.

ليس للولايات المتحدة أو لإسرائيل أن تدعي القيام بمهمة القضاء على الإرهاب في لبنان أو فلسطين أو البلدان العربية. ويرتكب الحكام العرب خطأ فادحاً، تاريخياً وإنسانياً وفكرياً، إذا وافقوا على هذا الادعاء.

لا يمكن القضاء على الإرهاب، نظراً وعملاً، إلا في الصراع السياسي – الفكري الحر، في مجتمع مدني حر، وفي دولة ديموقراطية حرة.

فلتكفّ الولايات المتحدة وإسرائيل عن العدوان على العرب وحقوقهم، في فلسطين ولبنان والعراق وبقية البلدان العربية، ولتتح للعرب فرصة لبناء هذا المجتمع، وهذه الدولة، وآنذاك سيزول الإرهاب من تلقائه.

الطريقة الأميركية – الإسرائيلية فاشلة حتماً، عدا انها ستُسلم الحياة العربية برمتها الى القوى الدينية، وبخاصة الأصولية المتشددة.

هكذا، وتبعاً للخطاب الأميركي – الإسرائيلي لا تعود هذه الحياة إلا عنفاً وإرهاباً. وإذاً، لا بد من القضاء عليها! هيا، أيها السادة، واقضوا عليها! منذ الآن.

الحياة.