الحرية وعشاقها في القلب

٢٠٠٦-١٠-٣١

الحرية وعشاقها في القلب

علي كنعان

ميشيل (أبا أيهم) أيها الوطني الحر العزيز، لم يسمحوا بالفرحة أن تصل الي باب الدار. ويوم قرأت خبر القرار المنتظر باسترداد حريتك ومغادرة المعتقل، فكرت بكتابة مقالة أبدؤها بالعبارة الآتية: اليوم، مع اشراقة شمس الحرية علي العزيز ميشيل كيلو، بدأ الرئيس السوري الشاب مسيرة الاصلاح في بلادنا، ولا بأس أن تموت بغيظها خفافيش الظلام وزبانية الأقبية والأغلال... . لكنهم سرعان ما عمدوا الي اغتيال البشارة ودفنها في دهاليز البيروقراطية والعسف والطغيان. وكان علي أخيك، هذا العجوز المشتاق، أن يلوك ليل الغربة القاسي كما تعاني أنت هنالك ليلك الوطني الطويل بلا شمعة ولا وميض نجم بعيد.

لن أستسلم للشجن العاطفي الجريح، فالموت الفلسطيني اليومي.. وجحيم العراق المتمادي في صراع الاخوة الأعداء.. والتآمر الغاشم علي صمود الجنوب اللبناني العظيم واستجراره الي بازار المساومات الرخيصة الجارية مع الامريكان علانية أو في الدهاليز والأنفاق الخفية، هذه الطعنات الموجعة والمغيظة لا تبيح مقاربة أي ترف شخصي دخيل. لكني سأستعرض بعض المحطات المضيئة التي جمعتني بالأستاذ ميشيل خلال أربعين سنة من المودة الحميمة المتواصلة، وأنا أتأمل باعجاب ما يمتاز به من عشق للوطن وحريته والتزام بالقيم والأخلاق ودأب يومي في الاطلاع والعمل وتوهج فكري وذاكرة مشرقة، وهذه مزايا قلما تجتمع معا الا لدي نفر قليل من المثقفين، لا يتجاوز عدد أصابع اليدين علي امتداد الوطن العربي الكبير.

يوم عاد ميشيل كيلو من دراسته في ألمانيا، طاب لنا أن نتعارف معا في احدي الصحف اليومية التي كنت أعمل فيها تحت اشراف المناضل العربي المعتقل (أبو زياد) طارق عزيز ـ فك الله أسره وعافاه. ولقد تعلمت من هذين المناضلين، وكان ثالثهما المسرحي المتألق سعد الله ونوس، ما لا يمكن أن أنساه ما حييت.

لم يكن الفكر الماركسي جذابا لنا، نحن أبناء الريف البدوي الذين جاءت بهم جامعة دمشق الي العاصمة. وكان لذلك الشاب اليساري المستنير دوره الكبير في تنبيهنا الي أهمية ذلك الفكر العلمي وتوجيهنا الي ضرورة الاطلاع عليه والتزود بالقدر المتاح من ينابيعه. ومع أن هزيمة حزيران (يونيو) صعقتنا وأحدثت في نفوسنا جميعا شرخا عميقا، دفعت بكثير من أبناء جيلنا الي فردوس الماضي الزاهي ليحتمي في أحضان التاريخ البطولي المشرق، كما يلوذ الأطفال الخائفون بأحضان الأمهات، الا أن ميشيل كيلو وقلة من أمثاله حافظوا علي تماسكهم.. وكانت مواقفهم وكتاباتهم وأحاديثهم عونا لنا علي تخطي حالة اليأس والنكوص والاحباط.. ودفعتنا الي الانخراط في اعلام المقاومة الفلسطينية الناشئة والمتصاعدة في دول الطوق.

ان قواعد العمل الفدائي، ولا سيما في لبنان، تعرف ميشيل كيلو ونشاطه في تلك السنين الهامة أكثر من جميع الأسماء التي مرت في قيادة البعث العربي الاشتراكي ، في سورية والعراق معا، علي مدي العقود الأربعة الماضية، وهي أسماء موسمية لمعت وانطفأت قبل أن تسخن الكراسي تحت أصحابها.

من هنا تأتي أهمية اعتقال ميشيل كيلو ورفقائه وضرورة اسكات أصواتهم القوية لأنهم يشكلون خطرا علي دعاة الحل الاستسلامي الخانع الذين أعلنوا في محراب بوش الأب والابن معا أن السلام خيار استراتيجي ، ولو بتقبيل أيدي الأعداء وفتح البلاد لاقامة قواعدهم العسكرية وطغيان رأسماليتهم المتوحشة، بينما كان ميشيل يقول: ان أمن الوطن وتحرير أرضه وحرية أبنائه... . هو الذي ينبغي أن يكون الخيار الاستراتيجي، ثم تأتي سيادة القانون وتحقيق الحريات الديمقراطية مطالب مرحلية لازمة وملحة.. ولا بد من الاستجابة لها.

وهنا، لا بد من التذكير بعدد من جيل أساتذتنا الذين شكلوا منارات فكرية ونضالية كبري.. كان ميشيل كيلو وعبد الرحمن منيف وسعد الله ونوس وبرهان غليون وصادق جلال العظم والطيب تيزيني ومنير شفيق وعبد الرزاق عيد وناجي علوش وآخرون.. امتدادا ديموقراطيا لهم. ومن هؤلاء الأساتذة/ المنارات: الياس مرقص، ياسين الحافظ، مهدي عامل، حسين مروة، نديم البيطار... ولعل رياض الترك وجمال الأتاسي ومصطفي رستم وعمر قشاش وفايز الفواز.. في قيادة الأحزاب المقموعة ممن ينبغي أن نذكرهم بلا تردد في هذا السياق.

الياس مرقص هو الذي قاد معارك النقد ضد دوغمائية الأحزاب البيروقراطية، القومجية والستالينية علي حد سواء، وقد رحل عشية الغزو الامريكي الأول علي العراق.. ولم نملك يومئذ أن نسكب لرحيله دمعة أسي أو نوجه اليه تلويحة وداع. وكم استأنسنا باسترجاع أفكاره بعد الرحيل. ولا يمكن أن أنسي مقولته في آخر سهرة لنا معه: لنتذكر أن جماهير حزب البعث.. هم أكبر تنظيم في المعارضة السورية !

ومرة سألت ميشيل: لو استلم الحزب الشيوعي السوري دفة الحكم بزعامة خالد بكداش، مثلا، هل كنا في منجاة من الدكتاتورية والاستبداد؟.. وكان الجواب أن أمور البلاد لا يمكن أن تكون أفضل أو أقل سوءا، لأن المناخ واحد والعقلية متشابهة.

وميشيل كيلو المثقف كتب الرواية التي لم يتح لها أن تري النور لأن التجربة الأولي (ضاعت) أو (جري اختطافها). واذا استطاع الكاتب السجين أن يعيد كتابتها فسوف تكون علامة بارزة في تاريخ الرواية العربية في بلاد الشام. وقد عمل في وزارة الثقافة وترجم عددا هاما من الكتب، فضلا عن استمراره في كتابة مقالاته السياسية في عديد من المنابر التي كانت متاحة له: السفير ، الكفاح العربي ، النهار في لبنان، وجريدة الفلاحين في سورية.

لن أتحدث عن تجربتنا المشتركة، سواء في اتحاد الكتاب أو في اصدار البيانات السياسية التي كانت ترفعها قيادة الحزب والسلطة في وجه مبعوثي البيت الأبيض كأبرز علامة علي تسامح النظام ومناخه الديمقراطي. لكن لميشيل تجربته المعروفة في السجن، سواء في أوائل الثمانينات أو في أيامنا المباركة هذه. وأنا واحد من الذين لا يفهمون كيف يسعي قادة النظام في سورية، باستماتة، الي مراضاة الوحش الامريكي وعقد صلح مع العدو الصهيوني وهم عاجزون حتي عن احتمال كلمة وطنية واحدة تطالب بالحرية وسيادة القانون وفتح المجال لسماع الصوت الآخر؟!

هذا السؤال البسيط، علي ما فيه من وجع ومرارة، لا يخطر في رؤوس قادة أحزاب جبهة المرسيدس لأنهم منهمكون حتي الهوس الهستيري في اقتناص الملذات والامتيازات والمكاسب قبل أن يطلع الفجر ويقضي بزوالها... من دون أن نرجو زوالهم معها لأنهم سيكونون فرجة ممتعة للناس.

واذا كانت هذه المخلوقات الهلامية، المنشورة علي سطوح أحزابها الكرتونية، لا تستحق منا أكثر من هذه الاشارة العابرة، فأنا لا أملك الا أن أتساءل عن مصير العدالة في سورية.. والي أي هاوية جرفوها؟ ولا بد أن أسأل فضيلة القاضي الذي طلع مزهوا بحكمه القراقوشي الأخير: أي ضمير متفسخ تحمل في جنباتك المظلمة، يا صاحب العدالة المغدورة؟! ولنفترض جدلا أن أحدهم أملي عليك ذلك الحكم وأمرك بتنفيذه مكرها، ألا تحمل في أعماقك أثرا من شرف الانسان وكرامة المواطن وعزة النفس العربية؟ أم أنك قبضت الثمــن سلفا كأي نخاس منقوع بالفساد؟!

ميشيل كيلو ليس وحيدا في المحنة، بل معه أحرار مناضلون كثيرون من عشاق الوطن ومنارات الحرية... ولا بد أن يخرجوا قريبا من ظلمات السجون وغياهب المعتقلات. ليس من المقبول ولا المعقول أن تستمر الأمور في مثل هذه الصيغة الجهنمية من المهازل الفاجعة. هذه ليست سورية، حاملة قضية فلسطين وتحريرها ورافعة شعلة الكفاح والتقدم منذ اسقاط حلف بغداد، وانما هذه مزرعة مستباحة من العصابات التي عملت علي تخريب تلك الوشائج التاريخية الحميمة بين سورية ولبنان، وهي اليوم أخطر المعاول المستميتة لتقويض صرح انتصار الجنوب اللبناني، رغم الأقنعة الزاهية والكلمات المعسولة التي تملأ محطات الأرض والفضاء.

شاعر وكاتب من سورية

القدس العربي

31/10/2006

ميشال كيلو

ميشال كيلو

جوزف سماحة

درجت العادة عند استنكار اعتقال أو اضطهاد كاتب أو مثقف أو إعلامي على القول «ندين هذا العمل بالرغم من اختلافنا في الرأي مع...». الأجدى أن يقال «ندين هذا العمل بسبب اختلافنا في الرأي...». الإدانة تكون أقوى وتكسب معنى آخر عندما تتناول موقفاً مغايراً ومختلفاً، وتدافع عن حقه في التعبير عن نفسه، وفي احتلال مساحته في الحيّز العام.

ليست هذه المقدمة مدخلاً لاستنكار الاعتقال المتمادي لميشال كيلو في السجون السورية. لا مجال، هنا، لا لـ«بسبب اختلافنا» ولا لـ«بالرغم من اختلافنا». لا مجال إلا للحديث عن تباينات لم تلغ، مرة، الإدراك بأن الموقع واحد ومتعدد في آن واحد. ربما كانت التباينات ناجمة عن الأولويات المتفاوتة في البرامج المفترضة في كل من سوريا ولبنان.

لقد جرى استخدامٌ ذرائعيٌ وانتهازي في لبنان للمعارضة السورية وبصورة خاصة للطيف اليساري والقومي والديموقراطي منها. وقضى هذا الاستخدام، من جانب لبنانيين، بالتركيز على نقاط تقاطع، والتناسي الكامل لمنطلقات هذه المعارضة ولأهدافها البعيدة. لا بل وصل الأمر أحياناً إلى حد استخدامها في السجالات اللبنانية الداخلية لتغليب طرح على طرح وبالضبط لتغليب توجّه لبنانوي يكنّ عداءً لمن يسمّيه «السوري» ويستدرك، أحياناً، فيتحدث عن «النظام السوري» مدركاً أن الضرر قد وقع.

لقد جرى في هذا السياق، مثلاً، تحويل رياض الترك إلى «أيقونة». ليس رياض الترك صاحب التجربة الرائدة في إعادة زرع الأفكار الاشتراكية في التربة القومية العربية بل رياض الترك الحامل لأيديولوجيا حقوق الإنسان والمصيب دوماً مهما قال بمجرد أنه كان معتقلاً من دون وجه حق.

مرّت العلاقات اللبنانية ــ السورية، على المستويين الرسمي والشعبي (إلى حد ما) بفترات عصيبة. ولا تزال. ويقتضي الإنصاف القول إن معارضين سوريين لم يصادفوا مجالاً جدياً في غير لبنان للتعبير عن رأيهم فوجدوا أنفسهم مسوقين إلى السكوت عن تحكّم بخطابهم ومقاصدهم، وأصبحوا، من دون رغبة منهم، رافداً في تيار لبناني نعلم جيداً أنه ليس وليّ أمره، وأنه بيدق في استراتيجيات تتجاوزه وتدمج مطالب له قد تكون مشروعة في توجّهات يصعب على الشطر الأعظم من معارضة «الداخل» السورية التعرّف على نفسها فيه. إن التيار اللبناني المشار إليه وجد ضالته، أخيراً، في معارضة «الخارج» فبات قادراً على أن يجمع بين التطلّب الوطني والديموقراطي لـ«ربيع دمشق» وبين قامع الربيع نفسه.

نعم، لقد سقط معارضون سوريون، لفترة، في مصيدة الشق القابل للإبهار الذي رفعت لواءه بعض قوى «14 آذار». إلا أن المعرفة الشخصية الوثيقة بميشال كيلو وبالكثيرين غيره تسمح بالجزم بأن لحظة الالتقاء هذه كانت قسرية وما كان لها أن تدوم.

لا يمكن فهم «إعلان بيروت ــ دمشق وإعلان دمشق ــ بيروت» إلا في هذا السياق. أو، على الأقل، لا يمكن فهم الدور الذي لعبه ميشال كيلو في إنتاجه إلا بصفته دوراً داعياً إلى استعادة التوازن وإلى مغادرة موقع اضطراري إلى موقع يجري اختياره. ولعل الدليل الأبرز على ذلك ليس مضمون الإعلان، على ثُغره الكثيرة، بل أسماء الموقّعين من الجانب اللبناني على الأقل. إنهم كتلة هجينة. بعضهم من هو قادر على قراءة يسارية قومية ديموقراطية للإعلان، ومن هو راغب في دفع مضامين فيه إلى الأمام. وبعضهم الآخر من هو غارق حتى الأذنين في مستنقع العداء شبه العنصري لسوريا وللسوريين ولقسم لا بأس به من الشعب اللبناني.

لا يجوز لهذه الحالة الملتبسة إلا أن يُنظر إليها في ديناميتها. وهي دينامية مغادرة من موقع «آذاري» إلى موقع متلهّف لاستكشاف أرضية جديدة، أرضية لا تغض النظر عن المسؤوليات المشتركة للتدهور في العلاقات اللبنانية ــ السورية ولكنها تستشرف أفقاً آخر لها.

يمكن التأكيد أن ميشال كيلو كان قوة دفع في هذا الاتجاه. لذا فإن الاتهامات الموجّهة إليه لا أساس لها. حتى لو كان هناك، في دمشق، من يعتبر الاتهامات مسنودة فذلك لا يلغي إطلاقاً أن محاكمة عادلة يمكنها أن تحصل في ظل تمتع ميشال كيلو بحريته. في ظل محاكمة من هذا النوع يمكن استحضار مئات الشهود من الوطن العربي وسيكونون جميعاً في صف الدفاع عنه. ويمكن، منذ الآن، إيراد أسماء العشرات منهم وهم «فوق الشبهات» بمعايير الأيديولوجيا الرسمية المعلنة للسلطة في دمشق.

ميشال كيلو حراً يعني سوريا أكثر قوة وعافية. وحتى إذا وجد من يقول عكس ذلك فإنه لن يستطيع التهرّب من المعادلة الآتية: إن سوريا أكثر قوة وعافية تعني ميشال كيلو حراً.

الأخبار

31/10/2006

ميشيل كيلو يا عديم الشعور القومي!

ميشيل كيلو يا عديم الشعور القومي!

بشير البكر

لا يمكن في أي حال من الأحوال تقدير حجم الاضرار، أو احصاء الضحايا الذين سقطوا باسم القومية العربية تعسفا. ضرر لايقدر بمال لأنه يخص حياة عدة اجيال من عرب واكراد وسريان وآشوريين...إلخ . سقطوا في حروب وجولات عنف ماتزال متواصلة. لن يكون في مقدرونا أن نعرف اعدادهم ليس فقط لكثرتهم، بل لأن مقاييس التعسف والاستبداد، ما تزال سارية المفعول الى يومنا هذا.

الشعور القومي، والشرف القومي، والواجب القومي: شعارات نكبنا بها ضباط البعث، الذين استولوا على السلطة في سوريا والعراق عن طريق الانقلابات العسكرية. وقد ترتب على كل شعار نكسات كبيرة، لأن الغرض منها لم يكن بعث الحياة في أوصال الأمة المريضة، قدر تحويل الشعار الى اداة قهر. فباسم الشعور القومي صارت العروبة حركة عنصرية، ودسنا كعرب على حقوق الاقليات التي تشاركنا الاوطان .انكرنا وجودها وحقها في الحياة. ولو كانت قيضت لنا امكانات فعلية لما ترددنا عن ارتكاب الجريمة التي ارتكبها هتلر بحق اليهود. ألا تعد "الأنفال" في العراق نوعا من "المحرقة" والابادة الجماعية، ألا يشكل منع نحو ربع مليون كردي سوري من حق الجنسية جريمة بحق الانسانية، لا تقل بشاعة عن جرائم التطهير العرقي، التي قام بها ميلوسيفيتش في البوسنة؟

يجب أن نعترف اننا بسبب الحمى القومية المزمنة، ما نزال نريد أن نرمي الآخرين في البحر، أو ما وراء الحدود. ليس اليهود، بل الاكراد والسريان، وحتى العرب الذين لا يشاركوننا الرأي. يجب ان نقر بأننا لا نريد الآخرين بيننا، ولو رحلوا دفعة واحدة الى الجحيم لما أبدينا عليهم أي أسف. ألم تلاحظوا كيف تم تفريغ الجزيرة السورية من المسيحيين العرب، وجرى استقدام وتجنيس اقوام من تركيا تنتمي الى طائفة أخرى؟

يغمرنا السرور وكأننا الوحيدون الذي اكتشفنا الشعور القومي، الذي غرسه فينا حزب البعث صاحب الرسالة الخالدة. الشعور الزائف بالشرف والامتلاء الكاذب بالواجب. ألم يقف بطل "أم المعارك" ليقول أمام المحكمة انه غزا الكويت للدفاع عن شرف العراقيات؟!

ليس هناك ما يبعث على الأمل من أننا سوف نشفى من هذا الداء الرهيب، ونغسل انفسنا مما علق بها من آثام الارتكابات البعثية الخطيرة، من ميشيل عفلق حتى بشار الأسد. ولا يبدو أن الوقت قد حان لنصحو على هول الهاوية، التي دفعنا اليها هذا الخطاب الدموي. ولا ندري كيف سوف يدرك أشاوس البعث المهزوم في العراق والمأزوم في سوريا، بأن القومية تحولت بسببهم الى وصمة عار، لكثرة ما امتهنوها وتاجروا باسمها، وزايدوا بها على الخصوم القريبين والبعيدين! لقد أصبحت القومية بسبب هذا التوظيف غير الاخلاقي، مرادفا لحافظ الاسد وصدام حسين والقذافي ومعن بشور وخير الدين حسيب.

لست ممن يلتقون مع جلال طالباني، لكني شعرت به اكثر نبلا من صدام حسين، الذين لم يتورع عن استخدام السلاح الكيماوي ضد جزء من شعب العراق وهم الاكراد. لقد أعلن الطالباني أكثر من مرة انه لن يوقع عقوبة الاعدام بحق "قائد الضرورة". إن الالتفاتة تتجاوز هنا عفو الضحية عن الجلاد الى درس في الاخلاق، ما يحتم اعادة تأهيل انساني لحكام الغفلة ، الذين وصلوا الى السلطة عن طريق الدبابة او الوراثة، كما هو الحال في سوريا اليوم.

أريد من هذا المدخل أن اصل للحديث عن التهمة الغريبة التي ألحقت بالكاتب ميشيل كيلو، وهي "العمل على اضعاف الشعور القومي". وأرجو بهذه المناسبة ، أن تعرّف لنا السلطة السورية مرة واحدة، ما المقصود بالشعور القومي،وما هو سقفه ومعاييره ووسائل قياسه، واين يبدأ واين ينتهي، ومتى يكون قويا ومتى يصبح ضعيفا وكيف، وما هي وسيلة التأكد من ان شخصا ما يتحلى بشعور قومي قوي، وآخر بشعور قومي ضعيف. وهل هناك وصفة معينة لرفع منسوب الشعور القومي تباع في صيدليات البعث، كالتي توصف للتحكم بضغط الدم. وهل تنسحب نفس مقاييس الشعور القومي على الجميع. أي بمعنى آخر اذا قصّر الحاكم في واجبه القومي ، هل يحق للجماهير ان تحاكمه بتهمة ضعف الشعور القومي، ثم ما علاقة الشعور القومي بالشعور الطائفي، وهل العلاقات الاستراتيجية مع ايران وقطر تقوي من الشعور القومي، مع العلم ان الأولى تتصرف كامبراطورية فارسية، ولا تخفي الثانية علاقاتها الديبلوماسية مع اسرائيل. وبعد ذلك هل يؤدي تدمير بلد مثل سوريا من طرف المافيا الطائفية الحاكمة، وتشتيت طاقاته البشرية ونهب ثرواته تجسيدا للشعور القومي ام اضعافا له، وما ذا يعني حكم الاقلية، واين يقع في خانة تصنيف الشعور القومي. وأخير ما ذا تعني الحملة الكبيرة الجارية لنشر المذهب الشيعي في سوريا، ودفع السنة الى ترك مذهبهم ، وما صلة ذلك بالشعور القومي؟

كيف يمكن لكاتب يعيش في بلد لا تصدر فيه سوى صحف الحزب الواحد، ان يصبح خطرا على الشعور القومي؟ ميشيل كيلو لا يمتلك فضائية واسعة الانتشار مثل "الجزيرة" ليروج لاضعاف الشعور القومي، وليس لديه امكانيات الصحافية ماريا معلوف للتأثير في الرأي العام. وهو ليس أمين عام حزب جماهيري مثل حزب البعث ليوظفه في دعوة اضعاف الشعور القومي، وليس صاحب شركة هاتف نقال ليرسل عن طريق "الإس إم إس" نداء لاضعاف الشعور القومي، وليس عضوا في المجلس الاستشاري للطائفة الحاكمة، وليس رجل اعمال...الخ. إذن كيف استطاع ان يرتكب هذه الجريمة من وراء ظهر الجميع؟ ثم لنفترض انه كان اقوى من عنتر، ونجح في مهمة اضعاف الشعور القومي، الذي ما انفك حزب البعث يغرسه منذ نصف قرن في نفوس الاجيال. ألا يستدعي ذلك اعادة نظر في الشعور القومي المجروح؟

لا خير في هذا الشعور القومي ، وليذهب الى الجحيم اذا كان على هذا القدر من الهشاشة، واذا كان كاتب لا يملك غير قلمه يستطيع ان ينزله من عليائه

نظام دمشق يواجه مصيره المحتوم بمفرده

نظام دمشق يواجه مصيره المحتوم بمفرده

علي الحاج حسين

خاص – صفحات سورية –

رغم التطورات التي عصفت بالمنطقة خصوصا والعالم عموما بقيت سوريا تشكل استثناء ولم تتزحزح عن سابق عهدها قيد أنملة، بل وفي بعض مفاصل الحياة صارت أشد وطأ من ذي قبل. وبذلك جعل النظام شعب سوريا بكل مكوناته في زاوية معتمة وحبس عنها النور فتحولت البلد إلى سجنا كبيرا وصار المواطن كما لو كان أسير حرب غريب في وطنه.

سوريا والساحة الدولية
يدرك النظام السوري تماما أنه منتهي الصلاحية، وما لم يغير من سلوكه سوف تسقطه قوى خارجية، فمن أتى به قادر على الإطاحة به بشتى السبل ويجهز عليه السوريون، ولئلا نقع في سوق المغالطات والمزايدات البخسة، لابد من الإشارة أنه عندما تعطي أمريكا بطاقة حمراء لنظام دمشق ليس حبا بالشعب السوري أو رأفة بما آل إليه واقع البلد المزري، بقدر ما هو حفاظا على مصالحها، ومطلب تغيير السلوك غير ممكن، لأنه سيفضي لذات النتيجة ويجهز عليه السوريون، مما يجعله في حيرة من أمره، لأنه يريد أن يبقي القطيع كاملا والذئب متخما، وبقي أمامه منفذا ضبابيا غير مضمون النتائج، أي انتقال السلطة على صورة أوربا الشرقية، وقد لا ينجح لو تأخر، سيما وأن الاحتقان بلغ حدا لا يمكن علاجه وينتظر شرارة تشعل الفتيل.
لا يمكن لنظام دمشق أن يعول على سند إقليمي أو دولي، وقد أفلح وبسرعة باهرة بتحويل الأصدقاء لصف الحياد واستعدى أكثرهم. على سبيل المثال فرنسا وحتى روسيا لا يضيرها ما سيصير إليه حال حاكم دمشق، فمصالحهم لديه منتهية ما لم تمر عبر الموشور الإيراني، ولكنهم لا يرون بديلا ينصف مصالحهم مستقبلا خصوصا بعد تحالف النظام مع إيران إضافة إلى فقدانه كافة الأوراق التي كان يفرض وجوده عبرها كطرف، كالورقة اللبنانية والفلسطينية والتي كان يحسن حافظ أسد استخدامها بمهارة. أما الدول المؤثرة الأخرى في العالم كالصين وألمانيا وغيرها فلا تتأثر مصالحها ببقاء أو زوال النظام السوري ومجيء غيره لصغر حجمه وضآلة دوره، شريطة ألا يكون البديل عنه من نموذج حزب الله وحماس.
لا شك أن العالم اليوم وبعد وفاة الاتحاد السوفياتي صار وحيد القطب، وأمريكا سيدة العالم العالم بلا منازع، وما دور الصين والمجموعة الأوربية وروسيا سوى مراقب يقدم النصح ولا يملك أدوات الرفض أو فرض رؤاه غير مبررة. وصار الكل يخطب ود أمريكا لتشابك المصالح والعلاقات، وبمنتهى البراغماتية يمكن القول أنه ليس هناك دولة واحدة في العالم مستعدة للتفريط بعلاقاتها مع أمريكا لتساند نظام دمشق الذي لا يملك ما يقدم لها مقابل ما سيأخذ منها.

سوريا إقليميا:
إن استثنينا نظام الملاّقراطية نلاحظ أن نظام دمشق ليس على علاقة مثلى مع كل الأنظمة المماثلة له بشموليتها في المنطقة، وبالرغم من وحدة الحال بينها إلا أن وجوده على هذه الشاكلة البدائية لم يعد يخدم تلك الأنظمة، وبنفس الوقت يخيفهم زواله لئلا ينفرط العقد وتفلت حبات المسبحة وتسقط واحدة تلو الأخرى، ويخشون مما حصل في أوربا الشرقية، حين أشعلت البيروسترويكا الفتيل وجرفت عاصفة التغيير كافة الدكتاتوريات وتغير وجه الخارطة السياسية بوقت قياسي. ولأنظمة المنطقة الشمولية فائدة وحيدة من وجود نظام دمشق قائما، ألا وهي صفة الشمولية المشتركة مع بقية أنظمة المنطقة ويفضلونه على مجيء نظام ديمقراطي جديد قد يكون تلك الشرارة قرب البيدر، وتنتقل العدوى للمنطقة، وبذات القدر هي التخوفات من ولادة الديمقراطية والاستقرار في العراق ولبنان. النظام الحالي لا يكلف إسرائيل حماية حدودها مع سوريا شيئا، ولا تحبذ إسرائيل مجيء نظام آخر قد يحوّل الجولان إلى حالة مشابهة للجنوب اللبناني، وهو بالنسبة لهم أفضل الموجود، وإن وجد بديل أفضل يقبل التطبيع ويكون له مرتكزات وحوامل شعبية ويتصف بميزات الديمومة فسوف تدعمه إسرائيل وستمارس كل ما بوسعها للتأثير على الولايات المتحدة للتغيير فيه أو اختزاله نهائيا من المعادلة.
إن نظام دمشق الذي شارك إلى جانب أمريكا في عملية طرد صدام من الكويت وربح بعض النقاط آنذاك، نجده اليوم وقد ابتعد عن الإجماع الإقليمي ليجلس بحضن إيران وحدها، وصارت ملاذه الوحيد وكفيل استمراره، وبما أن إيران على غير وفاق مع دول الجوار، صارت دمشق ورقة صغيرة لا تزيد عن ورقة حزب الله وزنا بيد إيران. حتى أن بشار نفسه لما حاول أن يلعب كما الكبار ويستثمر أو يجيّر حرب حزب الله مع إسرائيل لصالحه، وتوهم أنه بمقدوره قطف بعض ثمارها المرّة احترقت أصابعه، وعاد يتملق "أنصاف الرجال" على حد تعبيره النجدة وغرق حتى أذنيه. ربما فهم حجمه ووزنه، وليصير مؤثرا يعتد برأيه ويحسب موقفه أو يحسب حسابه يجب أن يمتلك أوراق يلعب بها، ومشكلته أن أوراقه كلها كانت خارجية وفقدها. وبالتالي لا ثقل له وصار هو نفسه مع المنظمات التي يختلقها أو يدعمها ورقة رابحة بيد إيران. وبذلك تنتفي مصلحة المحيط العربي من وجود النظام السوري خصوصا بعد تحالفه مع إيران الساعية للسيادة على الخليج والمنطقة لتبرز كرقم أساسي في المعادلة.
الوضع الداخلي في سوريا:
إن عدم إقدام نظام دمشق على أية إصلاحات داخلية ويحاصر الحريات ليس لأنه لا يريد ذلك، بل لأنه مقتنع تماما أن أي إصلاح جدي سوف يجر إصلاحات أخرى تؤدي لتغييره واقتلاعه من جذوره. ويكاد يجمع المراقبون على استحالة التنبؤ بسياسة النظام في الوضع الداخلي كون تصرفاته لا تخضع لأية ضوابط أو تسلسل منطقي، ويمارس كافة أشكال القمع ويحسب كل صيحة عليه، فيسارع لإسكات أي صوت يخمّن فيه تصعيدا. كما أنه لم يعد بوسعه أصلا كف يد الفساد والمفسدين، لأن أركان النظام نفسه يمارسونه ووجودهم مرهون باستمرار الفساد، وفي قراءة خاطفة يلاحظ المراقبون بالعين المردة أن الوضع الداخلي في سوريا لا يحتمل الوصف، ويضاهي حال ألمانيا بعهد هتلر، حيث غياب تام لأية قوانين أو ضوابط، وهذا دليل فقدانه توازنه الشكلي بغياب ركائزه الشعبية فصار يشكك بكل بأفراده ويقوم بتصفية أو تنحية أركانه وعناصره دون تردد. تلك كانت حالة صدام قبيل سقوطه حين فتك بأفراد أسرته وأصهاره. ولم يعد النظام يعول على الشكليات والمسيرات القسرية الحاشدة التي تهوله وتهتف ببقائه الأبدي لقناعته بأن الذين أُجبروا على الهتاف بحياة الدكتاتور، قذفوه بالأحذية في ساحة الفردوس يوم سقوطه. ويعي تماما أن المعارضة التي صنعها ويصنعها في قوالب مسبقة الصنع على شاكلة الجبهة الوطنية التقدمية فاقدة لأية مصداقية ولا تقدم ولا تؤخر في الشارع السوري، بل النظام نفسه لا يمكنه توقع ما يكنّ له الشارع السوري. وبذات الوقت غير مستعد للتقرب من أطياف المعارضة التي لم يتمكن من استيعابها واحتوائها لإصرارها على ولوج حقبة الإصلاح دون تأخير وهذا يعني الإطاحة به لاحقا، بينما مستعد للتفاوض واستجلاب أصغر معارض كي يجره لصفه بالترهيب والترغيب.

المعارضات السورية:
يمكن اعتبار الشعب السوري برمته معارضة للنظام، كلٌ من موقعه وحسب الهامش المتاح له، وهذا ما يبرر عدم ثقة النظام بالشعب وقمعه لكل مكوناته بعنف. وما لم يستطع ترويضه واستئجاره وتسخيره من المعارضين قمعه أو وضعه في حالة صراع داخلي لينشغل بنفسه، لذا نلاحظ أنه يسعى باستمرار لتفريق كلمة المعارضة بالدسائس والتهويل للمغامرين ليجعل منها شراذم من مزق وفرق متناحرة، سيما وأنه يملك أجهزة إعلامية ومؤسسات أمنية والمال فتمكن من تجنيد أقلام مأجورة لتلميع صورته وتشويه خصومه عبر تلفيق التهم وتفصيلها بحسب الطلب.

مسوخ وصعاليك المعارضة:
سعى إعلام النظام لتوصيف المعارضة السورية بما يخدم أسياده، إذ يحاول إظهارها أمام المواطن السوري على أنها مسوخ من الفزاعات الورقية وجماعات من الجاهلين والمنتفعين، وعمل على انتقاء بعض العينات الصغيرة من المهرجين ضخمها وقدمها عبر إعلامه موهما أنها السيل الجارف للتخويف من أي تغيير قد يأتي بهؤلاء، وجهد لإظهار المعارضة على أنهم صعاليك ركبوا الموجة ساعين لمكاسب شخصية، وتجار سياسة لا يميزون بين (قومية) حوران والشعب الكردي أو السرياني في سوريا، ويتساءل جهابذة النظام أن من يجهل مكونات الشعب السوري بلا شك يجهل حاجاته وليس بوسعه أن يصلح غلط لم يتلمسه أو خلل يجهله. فكيف لك أن تضع حلا لمسألة لم تسمع بها بمعطياتها..! والمنطق يقول أن تفهم السؤال ثم تجيب. ويقدم افعلام الحكومي المعارض على أنه مسخ هزيل يضع حلولا مضحكة تثير السخرية والسخط لدى الناس. وحاول تلميع شخصيات ينتقيها النظام نفسه ملمعا بعض "الدراويش" مخيّرا الشعب: إما أنا أو هؤلاء المسوخ..! وبذات الوقت أهمل وأغفل الأسماء الحقيقية عن الشارع السوري مختلقا وملفقا لهم ما يسيء لصورتهم وزج بهم في السجون إلى جانب عارف دليلة ورياض سيف والحمصي وغيرهم من الإصلاحيين الجادين، وكمّ أفواه كل المقيمين في السجن السوري الكبير، وبذات الوقت عمل على إظهار المقيمين في الخارج على أنهم عملاء للأبالسة والشياطين الغربية من كافة الألوان. بل وأتاح المجال لسفر بعضهم للخارج ليبرر الفتك به بحجة التآمر على منجزات "الثورة" وغيرها من التهم ويزج بهم في السجون كما حصل للدكتور كمال اللبواني..

فاعلية المعارضة السورية:
بلا شك حجم التحديات والمهام أكبر من الإمكانيات والقدرات المتوفرة لدى المعارضة السورية، في مشتتة ومتناحرة فيما بينها نتيجة الولاءات المختلفة لشخوصها واللاعبين الأساسيين فيها، لكن تعيش أطيافها في الداخل والخارج حراكا متصاعدا وغليانا متزايدا بمختلف تياراتها وتوجهاتها، ورغم تنابزها وتنافرها وسعي النظام لضربها ببعضها، إلا أن الجميع متفقون على انتهاء صلاحية النظام وضرورة التغيير. ورغم الوهن أنجزت تيارات المعارضة عدة مفاصل ومحطات مهمة مثل تفاعل المنتديات والمجتمع المدني وتوجت بإعلان دمشق في الداخل وتشكيل جبهة الخلاص والتجمعات الكردية وتجمعات المغتربين في أمريكا وكندا وأوربا في أطر تحالفية مختلفة، ولا يعيبها أنها متناحرة أحيانا، لكنها متفقة على الأهداف الأساسية المتمثلة بالتغيير والانتقال إلى دولة مدنية مؤسساتية. ويسعى النظام لبقاء التنسيق بينها متعثرا ويشحن مضخما الخلافات ليؤجل تفاهمها على وضع خطة مرحلية أو الاتفاق على برنامج مرحلي للتغيير.

محورية القضية الكردية:
الحركة الكردية جزء من حراك الشعب الكردي في سوريا. وكما هي حال مجمل المعارضة السورية التي تخلفت نسبيا عن تبني مشاكل الشارع السوري، الحركة الكردية أيضا تخلفت عن تلبية حاجات الشارع الكردي السوري وبرز ذلك في أوجه حين تجاوزت انتفاضة 12 آذار الأحزاب والتنظيمات السياسية لتأخذ شكلا شعبيا تقدم على المعارضة التنظيمية بأميال. الحركة الكوردية السورية هي الأخرى تعيش مخاضها وتعاني من أمراض عموم المعارضة، لكنها أكثر تنظيما والتزاما، ومستفيدة من الوضع الدولي وحالة الاضطهاد المزمن الذي تعرض ويتعرض له الشعب الكردي، كل هذا أجبر النظام أن يتعامل معها بحذر ليلتقط أنفاسه ويجهز عليها إن تسنى له ذلك في وقت يناسبه. من هنا تبرز أهمية الملف الكردي كمتنفس لعموم السوريين من مستقلين ومتحزبين، وقد برهنت المشاركة العربية في آخر اعتصام بشأن المجردين من الجنسية عن هذا الواقع وبرهن للسوريين أن الحراك الكوردي السوري قادر على أن يشكل محورا تلتف حوله كافة أطياف المعارضة السورية والأقليات القومية والدينية واعتباره مسألة وطنية بامتياز ومدخلا أساسيا للتغيير العام بفعل وتأثير الجميع. * علي الحاج حسين – محرر مجلة "منبر سوريا" الإلكترونية.

الناشط والكاتب علي العبد الله بعد عودته إلى الحرية

الناشط والكاتب علي العبد الله بعد عودته إلى الحرية

رزان زيتونة

أشعر بالفخر لأن أولادي معي في موقع النشاط الديمقراطي السلمي

أخطاء وتقصير وسوء تقدير تخللت عمل فريق المحامين المكلف بالدفاع عنا

لا زلنا متمسكين بمطالبنا ولن يثنينا عنها لا السجن ولا منع المغادرة

لن نعيد ونزيد في التعريف بالكاتب والناشط علي العبد الله، تواريخ اعتقاله والإفراج عنه، نشاطه وكتاباته وتضحياته. نضيف فقط إلى ما جاء في هذا الحوار معه، بأن المرء لا يمكن أن يقف على الحياد أمام هذا الدفق من التصميم والإرادة والإيمان في شخصية محاورنا، لأجل ذلك ليس لنا إلا أن نبارك للحرية عودة أحد أجمل فرسانها إليها.

هل تحكي لنا كيف تم اعتقالك وما هي مراحل السجن والتحقيق التي مررت بها؟

بتاريخ 23-3-2006 حضرت دورية من أمن الدولة إلى منزلي، قالوا أنهم يريدونني لربع ساعة فقط. سألوا عن ولديَ محمد وعمر. عمر كان قد اعتقل قبل ذلك بخمسة أيام من قبل المخابرات الجوية، ومحمد لم يكن في المنزل.

أدخلوني السيارة وحاولوا تقييد يدي فرفضت بشدة، فكفوا عن المحاولة. في الطريق بدأ أحدهم يسألني متبرما، لماذا تعارض، لديك بيت وعمل؟!، قلت له، للعلم فقط البيت أجرة، ونحن لا ننشط لشخصنا، بل لمصلحة عامة، نحن نعمل من أجل تغيير ديمقراطي في البلد..لم يعجبه كلامي، واعتبرنا مجرد أعداء.

عندما وصلنا الإدارة العامة للمخابرات العامة، أدخلوني إحدى الغرف وكنا فيها ثلاثة أشخاص، فجاء شخص مهندم وأشار إلي مكلما الشخصين الآخرين: يقول لكم اللواء "رصَوه".. نقلوني إلى غرفة أخرى، ثم عادوا وقيدوا يدي وعصبوا عيني وأخذوني إلى فرع التحقيق. كانت التحقيق في غرفة مكتب عاديا، الأسئلة عادية والتحقيق قصير واعتبرت أن القضية حلَت.

بعد ذلك أنزلوني إلى منفردة في القبو. حوالي الساعة السابعة مساء، أخذوني إلى غرفة التحقيق مقيدا ومعصوب العينين، ولحظة دخولي بادرني المحقق بالقول "شو، كل ما نفتح ملف قضية من القضايا بتطلع موجود فيها، على شو كبرة هالراس!" وضربني على وجهي، وأصبح يضربني ويلكمني على وجهي بعد كل سؤال. سألني لماذا أتواجد أمام محكمة أمن الدولة، قلت له باعتباري عضو في جمعية حقوق الإنسان في سوريا أذهب لألتقي بأهالي المعتقلين وأتضامن معهم وأساعدهم للحصول على محامي متطوع لأن أغلب الأهالي فقراء، سألني، كم يعطيك هيثم المالح مقابل هذه الخدمات؟! قلت له هو لا يأخذ حتى يعطيني. تكلم عن النشطاء وسألني عن بعضهم. سألني عن ميشيل كيلو بطريقة غريبة، وصفه بالشخص الوطني وما إلى ذلك. وقد فسرت ذلك فيما بعد بأنها محاولة لاستدراجي للحديث عن ميشيل كيلو، وما إذا كان هناك تنسيق أو عمل مشترك بيننا، وقلت لابني محمد عندما التقينا في صيدنايا، أتوقع أن يعتقلوا ميشيل كيلو.

بقيت أيام الخميس والجمعة والسبت في الفرع، وقعت على التحقيق الأول ثم على التحقيق الثاني الذي جرى في القبو بدون أن يسمح لي بقراءته، ثم وضعوني مقيدا في سيارة إلى مكان لم أكن أعرف وجهته.

هل كنت تعرف في تلك الأثناء باعتقال ولدك محمد؟

كلا، لم ألتق به في الفرع، ولم أكن أعرف أنه اعتقل. في سجن صيدنايا ومن خلال العصابة على عيني شاهدت أحذية عسكرية تتحرك. أنزلوني إلى المنفردة تحت الأرض بطابقين، منفردة 180x 180، ليس فيها إنارة باستثناء ما يتسرب إليها من الطاقة الصغيرة -التي لا يتجاوز طولها 10سم- في الباب من إنارة الممر، وهي الطاقة نفسها التي يمررون الطعام منها. بقيت في المنفردة عشرة أيام، ثم نقلوني إلى مهجع في الطابق الثاني وهو عبارة عن غرفة 8 أمتار طول و 6 أمتار عرض، داخلها مرحاض وحمام.

خلال هذه الفترة استدعاني مدير السجن ولم أكن أعرف بعد أين أنا. أخبرني أنني في فرقة عسكرية، وقال أنت هنا لتمثل أمام محكمة ميدانية وهذه المحكمة أقل حكم فيها خمس سنوات سجن فما رأيك؟ أجبت، ليس لدي مشكلة، أنا أمارس نشاط علني ديمقراطي سلمي في بلادي، فإن أرادوا أن يحكموني _ قلت باسما_ فهذا نصيبي. ثم دخل في حديث عن الوضع السياسي في البلد، ولمَح إلى أن كل معتقل يأتي إليه يخرج من عنده وقد غير أفكاره، وأنه يتحدث معي ليغسل لي الأفكار السوداء التي في رأسي، فقلت له أنني مقتنع بأفكاري وليس لدي استعداد لتغييرها إلا إذا اقتنعت بأنها خاطئة، وأنا للآن مقتنع بأنها صحيحة تماما.

بعد 32 يوما أنزلوني إلى محكمة أمن الدولة العليا ومثلت أمام النيابة العامة هناك.

حقق معي القاضي وأعادوني للبهو معصوب العينين، وبعد حوالي الساعة، أدخلوني للغرفة مرة أخرى ورفعوا العصابة عن عيني فوجدت ابني محمد وعرفت أنه هو أيضا اعتقل بنفس اليوم بفرق ساعات.

حقق معنا القاضي بتهمتين، تحقير رئيس محكمة امن الدولة وبالنسبة لي نشر أخبار كاذبة بالخارج من شأنها المس بهيبة الدولة على خلفية مقالات كنت قد نشرتها في جريدة الخليج الإماراتية، ولمحمد تهمة ثانية هي إثارة الشغب في الطريق العام.

وكما جئنا في سيارتين منفصلتين رجعنا إلى سجن صيدنايا في سيارتين منفصلتين. عند عودتي طلبت مقابلة مدير السجن، قابلني بعد ثلاثة أيام وأخبرته أنني التقيت بولدي في المحكمة وطلبت منه أن يضعنا سوية في المهجع نفسه، وبعد يومين أحضروا محمد إلى مهجعي.

بعد 52 يوما من وجودنا في صيدنايا جاء المساعد وطلب منا لم أغراضنا لأن علاقتنا بهم انتهت كما قال بدون أن يذكر إلى أين ستكون وجهتنا.عندما نزلنا البهو وجدنا الأستاذ فاتح جاموس هناك. سلمونا أغراضنا واقتادتنا دورية من أمن الدولة على أساس أننا ذاهبون للبيت، قالوا بعد نصف ساعة تكونون في بيوتكم. وإذ نحن في القصر العدلي بدمشق، حيث تم تسليمنا للشرطة المدنية هناك ثم تم اقتيادنا إلى سجن عدرا.

كان يوم خميس، يوم الأحد نزلنا إلى قاضي التحقيق الأول الذي أعاد نفس الأسئلة ونحن كررنا نفس الأجوبة. ثم عدنا إلى سجن عدرا كموقوفين.

في البداية وضعونا في الجناح الخامس وهو جناح السرقة. الغرفة فيها ثمانين شخصا، أنا في غرفة ومحمد في غرفة. كنا ننام على الأرض، كل واحد حصته من الأرض 30 سم يحشر فيها حشرا، وهي المساحة التي يطلق عليها اسم الميدان، وهي الفاصل ما بين الأسرة. بعد خمسة أيام تقدمنا بطلب للانتقال إلى جناح آخر وقابلنا مدير السجن وشرحنا له أننا لسنا بلصوص وإنما تهمنا سياسية، قال أنتم متهمون قضائيون وليس سياسيون، ليس لدي في السجن متهمين سياسيين. قلنا له حتى لو كنا قضائيين، فتهمة تحقير المحكمة مكانها ليس الجناح الخامس وإنما السادس – وكنت قد عرفت ذلك قبل أن ألتقي به- فقام بنقلنا إلى جناح القتل والسلب بالقوة وهو الجناح الثامن.

يبدوا أنهم نبهوا نزلاء هذا الجناح قبل وصولنا بأننا جماعة خطرين ومجرمين سياسيين وأننا قد شتمنا الرئيس ومتآمرين على البلد، ويجب عدم التعاطي معنا وعزلنا وعدم تقديم أية تسهيلات لنا لا بالحصول على سرير، -لأن الأسرة تؤجر من قبل النزلاء الأقدم حيث أجرة السرير العلوي 400 ليرة والسفلي 500 ليرة في الأسبوع- وعدم تأجيرنا تلفزيون أو موبايل لأن الموبايلات تؤجر بالدقيقة هناك. أخيرا وجدنا أنفسنا في "الميدان" على حصيرة بالية وسخة بدون أية بطانيات أو أية إمكانية للنوم. الميدان كان مليئا بأشياء المساجين. وبعد احتجاجنا تم تفريغ هذه المساحة من بعض ما فيها واشترينا حصيرة جديدة وبقينا ننام على الأرض ثلاثة أشهر. ثم اتخذ قرار من وزير الداخلية بتسفير السجناء المحكومين كل إلى محافظته، وهذا أدى إلى وجود أسرة فارغة فانتقلنا من الميدان إلى سرير علوي.

كيف كان وقع لقائك بولدك محمد لأول مرة في المحكمة، وهل كنت تتوقع يوما أن يجري اعتقالك مع ولديك كما حصل؟

توقعت عندما سألوا عنه يوم اعتقالي أن يطلبوه لتقريعه أو تهديده وليس أكثر، خاصة وأن عمر كان قد اعتقل قبلنا بخمسة أيام. لم أتوقع أن تصل درجة القمع لأن يعتقلوا الأب وولديه على خلفية نضال سلمي علني وديمقراطي، وعدم ترك شخص في البيت يهتم ببقية العائلة التي هي زوجة وابنتين ليس لهم من يرعاهم إذا حدث معهم طارئ. وكانت المفاجئة الأخرى أن قاضي النيابة العامة في محكمة أمن الدولة، ادعى أن سبب اعتقالي هو ما فعله ابني أمام المحكمة، بينما في التحقيق الأمني، مروا على هذا الأمر مرور الكرام، وكان التركيز على النشاط العام الذي أقوم به ومقالاتي التي أكتبها منتقدا فيها سياسات النظام في المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية والدعوة إلى التغيير الديمقراطي بالطرق السلمية، كان هذا هو الأساس وأعتبر أن ما حدث أمام المحكمة هو مجرد ذريعة.

في التحقيق الأمني قال لي رئيس الفرع كلام حاد، قال هذه المرة قد لا تطول إقامتك لدينا لكن المرة القادمة لن تخرج إلا إلى القبر، وفهمت ذلك على أنه مطالبة غير مباشرة بالكف عن أي نشاط. في اليوم الثاني لوجودي بالفرع جاءوني بتعهد مكتوب فيه بأنني أقبل بالتعاون مع إدارة المخابرات العامة، عندما وصلت بالقراءة لكلمة تعاون أعدت لهم الورقة ورفضتها رفضا مطلقا. أنا فهمت الموضوع على أنه تنكيل وتخويف لدفعي للتراجع عما أقوم به من نشاط. أثناء التحقيق أيضا قال رئيس الفرع : لماذا لا تعمل مثل الآخرين، هم لا يجيئون إلى باب المحكمة ولا يقومون مثلك بهذه الأفعال.

أرادوا أيضا من خلال اعتقال أولادي أن يضغطوا علي ليفهموني بأنني جنيت عليهم حتى أصاب بنوع من عقدة الذنب.

وهل نجحوا في ذلك؟

بالعكس، شعرت بالفخر لأن أولادي كانوا معي بنفس الموقع، ليس موقع الاعتقال بطبيعة الحال، وإنما موقع النشاط السلمي والعلني. لأن ما قام به أولادي ليس له أي صفة مهينة أو مسيئة لي أو لعائلتي، بالعكس هو نوع من التضحية من أجل بلدنا وشعبنا. سوريا تستحق نظام أفضل وحياة سياسية واجتماعية واقتصادية أفضل مما هو سائد فيها منذ عقود.

كيف تقيم أداء الحراك الديمقراطي السوري بعد الاعتقالات التي شملت كثيرين من النشطاء والمعارضين خلال الأشهر القليلة الماضية؟

فهمنا من خلال اللقاء بالمحامين الذين زارونا مرتين خلال طول هذه الفترة، أن همهم الأساسي كان كيف يخرجوننا من السجن، والبحث عن طرق أسميها مواربة ولا تتناسب مع ما نحن فيه للإفراج عنا. كنا ننظر إلى اعتقالنا على أنه فرصة للنضال الوطني الديمقراطي، يمكن من خلالها أن نشرح للرأي العام ما هو شائع وما هو قائم من ممارسات قمعية من قبل الأجهزة الأمنية وما هو موجود من سياسات غير مقبولة على الصعيد السياسي والاقتصادي والعلمي والخدمي والإداري. كانت وجهة نظر بعض المحامين الذين يمثلون الطيف الديمقراطي، إعلان دمشق والمنظمات الحقوقية، البحث عن مخرج للإفراج عنا وبأسرع وقت كي لا تطول فترة سجننا دون اخذ مسألة الصورة والموقف السياسي بعين الاعتبار كان همهم إخراجنا من السجن ولو منقوصي الكرامة فقد فوجئنا بالدعوة للتوقيع على رسالة تفسر ما قمنا به وخاصة بالنسبة للنشطاء الذين وقعوا على إعلان دمشق بيروت، بيروت دمشق. معظم معتقلي الإعلان واجهوا الأمر بالرفض، هذه النقطة كانت مسيئة جدا. كنا ننظر لاعتقالنا على أنه فرصة للحركة والنشاط، بينما نظر إليها بعضهم كمشكلة يجب إنهائها بسرعة. ربما نجم هذا عن تباين بالرؤى في خوض الصراع ضد الاستبداد أو نتيجة الحذر الزائد لدى البعض أو الخوف من إغضاب السلطة. بالإضافة إلى التقصير في وضعنا بالتطورات والزيارات المتباعدة . وبالنسبة لنا_أنا ومحمد_ فقد اعتبر المحامون قضيتنا هامشية مقارنة بقضية من اعتقلوا على خلفية التوقيع على الإعلان.

نحن نحترم قناعاتنا ومبادئنا ولن نقبل بالتراجع عنها ولو لدرجة واحدة. هذا التعامل من قبل بعض المحامين الممثلين للطيف الديمقراطي أو معظمه، أربك الموجودين في السجن. لم نكن آبهين ببقائنا في السجن، لكننا متضايقين من إدارتهم للملف.

لم يكونوا يأخذوا رأينا ويعملوا على تنفيذه. المرة الوحيدة ربما التي قدموا فيها نوعا من الإيضاح للرأي العام، عندما طلب منهم ستة من الموقعين على الإعلان أن يرفعوا دعوى ضد ماريا معلوف التي اتهمت الموقعين بأنهم قبضوا عن طريق مروان حمادة مبالغ مالية. فتم رفع الدعوى لكن المحامي العام رفض تسجيلها وقام المحامي خليل معتوق بإصدار تصريح شرح فيه ملابسات الموضوع، وهذه المرة الوحيدة التي شعرنا فيها أنهم لبوا لنا مطلبا، أما بقية الزيارات والمطالب فشعرنا تجاهها بتقصير نتفهمه وإن كنا لا نقبله. نتفهمه على خلفية أن الحراك الديمقراطي غير منسجم للآن وليس لديه رؤية واحدة إزاء إدارة الصراع وما زال يحبو باتجاه هذه الرؤية ببطء شديد غير مفهوم ولا مفسر.

هل ترغب أن تضيف شيئا إلى هذا اللقاء؟

الإضافة الوحيدة هي أننا لا زلنا متمسكين بمطالبنا ولن يثنينا عنها لا السجن ولا منع المغادرة. هذه المطالب مشروعة ومن حق الشعب السوري بعد هذه الفترة الطويلة من الاستبداد وسريان حالة الطوارئ والفساد أن يعيش حياة كريمة كبقية شعوب الأرض. حياة في ظل الديمقراطية والتعددية السياسية والتداول على السلطة بدءا من رئاسة الجمهورية إلى البرلمان وباقي مناحي الحياة في ظل دولة العدل والقانون.

بالمناسبة، ألا تفكر بأخذ إجازة من الشأن العام بعد أن أفرج عنك؟

بالعكس، كنت أتوقع أن يخلى سبيلي يوم صدور الحكم بتاريخ 4-10-2006 لكي أشارك في اليوم التالي في الاعتصام الذي دُعي إليه في ذكرى الإحصاء الاستثنائي والدعوة لإنصاف الأكراد الذين نزعة عنهم الجنسية في ذلك الإحصاء المشئوم ودمجهم في الحياة الوطنية كسوريين كاملي الحقوق والواجبات، لكن تأخر الإفراج عني إلى اليوم التالي وبذريعة غير منطقية: تباين في توصيف الجرم بين مذكرة التوقيف ومذكرة إطلاق السراح، لذا لم يتح لي المشاركة في الاعتصام المذكور.

جبهة الخلاص وإعلان دمشق

جبهة الخلاص وإعلان دمشق

غسان المفلح

خاص – صفحات سورية –

عود على بدء..

إننا الآن أمام استحقاق الفعل المعارض في سورية بعدما تبدت معالمه بشكل أكثر وضوحا ! فخارج هذين الإطارين يوجد معالم نخبة من المثقفين وبعض المعارضين الذين لهم شتى الملاحظات على هذين الإطارين لهذا هم بقوا خارجهما وهذا أمر طبيعي جدا مع أننا نأمل من بعضهم أن يكون النقد الموجه لهذين الإطارين نقدا يتوخى الأمانة النقدية والابتعاد قدر الإمكان عن السباب والشتائم التي من شأنها إعاقة وحدة المعارضة السورية، والتخفيف قدر الإمكان من هذه الطرف والتنكيت والتذاكي المهموم بالشخصانية والذاتية..لماذا كل هذا رغم أننا نتمنى نجاح أي فعل معارض من أي نوع كان لأن نجاحه هو نجاح لكل سورية وهذا طموحنا أصلا ؟ هذا ما سيثبته الزمن لاحقا، وسيبقى الأمل يحدونا من أجل تقديم المهمة الديمقراطية وما تتطلبه من وحدة الصف المعارض على برنامج حد أدنى من هذه التيارات والمثقفين أن يساهموا في هذا الأمر الملح وتأجيل هذه الخلافات ذات البعد المرضي إلى ما بعد التغيير وعندها لترينا كل قوة وتيار برامجها من خلال صندوق الاقتراع. ونحن لا نريد من هذه العودة سوى مناقشة بعض الأفكار التي تصب في النهاية في وحدة المعارضة السورية حول المطلب الديمقراطي السوري في التغيير السلمي نحو بناء دولة القانون والمؤسسات، وهذا بات الآن مطلبا أكثر من ملح في هذه الظروف الحرجة التي تمر فيها المنطقة عموما وسورية خصوصا لكونها الآن محاطة بمجموعة من الظروف وكأنها تطبخ على نار أقل من متسارعة ! وليس اللفتة السعودية باستقبال وفدا من جبهة الخلاص برئاسة السيد عبد الحليم خدام سوى مؤشر على اهتمام القيادة السعودية بالداخل السوري والذي نأمل منها أن يكون دعمها أكثر قوة للتغيير السلمي الديمقراطي في سورية خصوصا والمنطقة العربية عموما وكنا نأمل من انضمام القيادة المصرية لهذا التوجه خصوصا أننا لا نريد ديمقراطية في سورية أكثر مما هي في مصر على الأقل كمرحلة أولى !! ولكن ماذا نقول إذا كانت القيادة المصرية مشغولة بإعادة السلطة السورية إلى الحظيرة العربية رغم فشل كل الجهود التي تبذلها !!؟ كما تم دعوة وفدا من جبهة الخلاص لزيارة البيت الأبيض ولقاء مسؤول الشرق الوسط وشمال أفريقيا للبحث في عملية التغيير السلمي الديمقراطي في سورية !

بعد انتخاب قيادة دائمة لإعلان دمشق برئاسة النائب السابق رياض سيف نجد أنه يجب علينا في إعلان دمشق الدخول على خط المتحرك السياسي عموما من أجل سورية ! رغم معرفتنا الأكيدة بالظروف التي تحيط بعمل الناشطين داخل إعلان دمشق والقمع والحصار المفروض عليهم ! وقلة الدعم من كل الأطراف لهذه المعارضة في الداخل لدرجة تستحق الرثاء في الحقيقة ! وهذا ما كنا نأمله على الأقل من قوى جبهة الخلاص ! وبمعزل عن موقف قوى إعلان دمشق من الجبهة وطروحاتها وأشخاصها، ولأن الجبهة استطاعت قطع شوطا مهما في إيجاد دورها المؤسسي ولكنه غير كاف في الحقيقة حتى هذه اللحظة ! وهذا يعود ربما لظروف موضوعية أكثر منها ذاتية حسب إطلاعي المحدود على نشاط الجبهة وقواها ! النظام السوري لا يرحم وطنا تربى فيه ولازال ينهب من خيراته وشعبا مسالما، بعد أن أعتقد هذا النظام أن وسائل القمع ستبقى ناجعة إلى الأبد ! فكيف سيرحم معارضته ! المهم الآن هو أن تكثف قوى الجبهة عملها من أجل زيادة الضغط على هذا النظام وخصوصا في الجانب الإعلامي ! ولو أنني لازلت أرى أيضا حتى هذه اللحظة أن بعض قوى هذه الجبهة تحاول أن تعمل وفق خطابها الخاص ! لأننا في الحقيقة نحتاج أمرا واضحا في خطاب المعارضة السورية :

ـ دستورا ديمقراطيا وتبني واضح لا يحمل اللبس للمواثيق الدولية لحقوق الإنسان ولعملية السلام في المنطقة ونبذ العنف أيا كان مصدره !

ـ لا يفيد كثيرا الاقتراب من المزاج الشعبي بشعبوية تعقد الفعل المعارض وتهز صورته المهزوزة أصلا أمام المجتمع الدولي ـ من يريد التصفيق لحزب الله والنووي الإيراني وحماس والجهاد الإسلامي ليؤجله قليلا !! ومن يريد النضال الآن ضد مشروع الشرق الأوسط الجديد ليؤسسه على لغة بعيدة عن لغة النظام !

ـ خطاب واضح ومرن بالآن معا حول الحقوق القومية لشعبنا الكردي يحقق تلك الحقوق ولا يثير العصبيات عن أي طرف أو مكون سوري !

ـ خطاب واضح يطمئن الداخل والخارج بأن التغيير السلمي الديمقراطي هو لمصلحة جميع مكونات الشعب السوري !

ـ خطاب يؤسس لمفهوم المصالحة الوطنية على مستوى الداخل السوري ويؤسس لمصالحة مع العالم عموما والمحيط العربي خصوصا ! الابتعاد قدر الإمكان عن روح الوصاية على الشعوب في فلسطين والعراق ولبنان !!

ـ أما في قضية الجولان المحتل فإنه يجب التركيز على استعادته وفق خطاب السلام وليس خطاب الحرب ! والتخلص من العنعنة التي يستفيد منها النظام و عدم البقاء في خطاب المنطقة الرمادية التي أسسها هذا النظام داخل معادلة اللاحرب و اللاسلم.

ـ تبني خطابا مرنا ومنفتحا حول حل الإشكالية الطائفية عبر الحوار البناء والحقيقي والمتكافل المتضامن بين المتحاورين جميعا !

نحن ندرك أن هذا النوع من الخطاب صعب على قوى إعلان دمشق أن تتبناه لاعتبارات كثيرة منها ما هو ذاتي ومنها ما هو موضوعي ولكن على هذه القوى أن تؤجل معركتها مع القوى التي تتبنى الخطاب الذي ندعو إليه للحوار حوله هنا والحوار لا يعني الشتائم وقذف التهم جزافا على الملآن والفارغ وغير الأدبية وغير القانونية التي لا تحترم شرف الحوار والكتابة بحد ذاته، وليس على طريقة المخبرين و بروبغاندا النظام السوري وخصوصا من يحسب فيها نفسه على المعارضة !

هذه العودة لمتطلبات الحوار حول وحدة المطلب الديمقراطي السوري والذي يكفل لوحده وحدة الوسائل والأساليب لتحقيقه بأقل الضرر على الجميع..

31/10/2006

لكبوة الإسلامية بين "الجهادية" الدموية و"الاجتهاد" الخالق

الكبوة الإسلامية بين "الجهادية" الدموية و"الاجتهاد" الخالق

مرح البقاعي

خاص – صفحات سورية -

قراءة سياسية لمعرض الفن الإسلامي "القصر والمسجد" الذي انتظم في العاصمة الأميركية واشنطن في المتحف الوطني للفن، وعرض ـ على مدى 6 أشهرـ شواهدَ من إبداعات تجسدها 100 تحفة تمّ اختيارها من ضمن 10 آلاف قطعة تستقر في متحف فيكتوريا أند ألبرت في العاصمة البريطانية.

مقدمة

كان الإسلام الحضارة الأكثر استنارة وتحصيلا للثقافات وتحصينا للأديان في إمبراطوريته التي عمرت 8 قرون، بين ما يقارب 750 و1550 ميلادية، وقامت على فتوحات ترفعّت عن أعمال استهداف العًزْل، أونهب الخيرات، أواقتراف التطهير العرقي والاضطهاد الديني؛ في رقعة جغرافية امتدت من جزيرة إيبيريا والبحر الأطلسي غربا، إلى حدود بلاد الهند والصين شرقا، ومن بحر الخزر وأرمينية شمالا، إلى العمق الأفريقي والمحيط الهندي جنوبا.

وكان أول ما يقوم به الفاتحون المسلمون بناء جامع ومدرسة في المدن التي كانوا يدخلونها، ما جعل مدائن حاضرة إسلامية كالأندلس تتحول إلى مراكز إشعاع علمي وحضاري خلال العصر الذهبي للدولة الإسلامية مابين القرنين الـ 14 و الـ 16 الميلاديين، وغدت محجّا للبعثات العلمية الأوروبية في تأصيل لحوار خالق بين غرب وشرق، شمال وجنوب عن طريق التبادل الثقافي والعلمي عبر المتوسط. وأصبحت جزيرتي صقلية ومالطة موئلا لعلماء المسلمين، ومركزا نشطا للترجمة المباشرة لأمهات الكتب اليونانية والعربية. ومن الطبيعي أن يأتي الفن في ظل هذا الرخاء الاجتماعي والاستقرار السياسي محصلة للتفاعل بين الشعوب التي اتّخذت من الإسلام دينا قارب بين مبدعيها في توجّههم الفكري والفلسفي، في حين حفظ لهم حرية الطرح والتناول التشكيليين.

الفن هو الحافظ لتاريخ الشعوب والحامل لذاكرة العالم بامتياز. والتاريخ الإسلامي بدوره هو نتاج حضاري لفنون وعلوم وأدبيات تلك الأمة التي حضنت في أعطافها الأديان والطوائف والقوميات على اختلافها لتصهرها في بوتقة الاستيعاب الثقافي، والتقارب الإنساني، والتسامح الدين".

سرمدية الحرف العربي

إذا كان شعار عصر النهضة الأوروبي السائد في حينها هو "الفن للفن فقط "فقد جاءت الحركة الفنية في الحقبة الإسلامية تحت لواء شعار آخر وهو"الفن للفن والحياة". وتجلّى هذا التوجّه بأشكاله التطبيقية في روائع الأرابيسك والموتيفات الهندسية الباهرة التي عمادها الحرف العربي بإيقاعاته التشكيلية وإيحاءاته المستمدّة من البعد البلاغي والعمق الصوفي للكلمة.

لقد ارتبطت اللغة العربية، التي أنزل الله بها كلمته على النبي محمد، بالنص القرآني القدسي في فجر الإسلام. وكانت أداةَ تدوينه، واكتسبت عمقها الزماني من سرمديّته، ما أضفى قيمة سامية على النماذج الفنية التي حمّلها الفنان المسلم هذه النصوص. وقد تهيّأ للفنان المسلم أن ينقل الخط من هيئة الدلالات الرمزية اللغوية إلى فن ذي هوية، يرصف ويعضد الفكرة التشكيلية.

الخط الكوفي كان الأكثر شيوعا، وقد كُتبت بواسطته معظم المصاحف ما بين القرن 10 والقرن 18 الميلاديين. ويتميز عن عداه من الخط العربي كونه يتحرك في الفراغ بزوايا حادة، واستطالات مشرئبة باتجاه الفضاء، محققا في تشكيله لغة الاتصال مع الأعلى بعيدا عن صغائر الشؤون الدنيوية. وإذا كانت الطاقة الجمالية للحرف العربي تكمن في القيمة التشكيلية التي يحمّلها الفنان لهذا الحرف، فإن الخط الكوفي شكل عماد الكتابة في الأندلس لخصائص استثنائية تتعلّق بسهولة تنفيذه، وإيجازه، وقدرته التكثيفية على التوصيل.

أما الشعر العربي الذي هو ديوان العرب وحافظ تاريخهم، فقد كان معتمدا بوفرة في تزيين الزجاجيات وقطع الأثاث والمخطوطات غير الدينية، إلى جانب نصوص كتبت باللغتين الفارسية والتركية التين اعتمدتا الأبجدية العربية في ذلك الوقت، ما جعل من الموروث الثقافي الإسلامي جزءً لايتجزأ من التراث الإنساني العالمي.

الجسد بين الغياب والحضور

يقوم الفن الإسلامي العربي على قاعدة عقائدية لايمكن خرقها تستند إلى فكرة أزلية الله وزوال الكائنات. تلك المخلوقات التي يرتبط بقاؤها بمشيئة الله وينتفي بإرادته أيضا، ليبقى وجه الله الأبد الذي يتعالى على التصوير أوالتصوّر.

وانطلاقا من هذه الرؤية الإيمانية فقد انتفت تشكيلات الجسد في الفن الإسلامي العربي، واعتمد الفنان المسلم على تكنيك الأرابيسك الذي يمتلك منطقه الزخرفي الخاص في تداول الأشكال وتراصفها لدفع الشحنة التأملية للناظر إبحارا في اتجاه الملكوت الأعلى، وتوطيدا للصفاء الذهني المرتبط بالمجرد.

فالأرابسك عبر نمائه المنتظم والمفتوح إنما يهيّئ المناخ للتداعي الذهني في عالم صامت، سرمدي، وآخذ، حاله حال اللغة العربية الحافظة لتلك السكونية والأزلية في آن. إن اللغة العربية هي الأرابيسك الذهني بامتياز الذي يعكس كينونة الأبد في انهمار الزمن الجارف.

لقد ابتعد الفن الإسلامي عن محاكاة الطبيعة بكائناتها كما كان حال فنون عصر النهضة الأوروبية. واتجهت الطاقة الإبداعية لمعظم الفنانين المسلمين نحو فن العمارة والزخرفة. وما قصر الحمراء في الأندلس إلا شاهدا نابضا للإبداع الإسلامي في ذروة رعشته، عاكسا حضارة الدولة ومقومات عظمتها. فعندما كان الناس في بريطانيا يغرقون في ظلامهم كانت قرطبة هي (عاصمة النور) التي تضيء رونقا وحداثة على أوروبا الغافلة في نزاعاتها.

غير أن تشكيل الجسد، من إنسان وحيوان، ظهر جليا في فنون فارس والأندلس مجمّلا المخطوطات وسطوح السيراميك وكذلك النسيج، ناهيك عن شخوص "الواسطي" في العراق الذي يعتبر مدرسة فنية متفرّدة خلّفت بصماتها على فن معاصريه، ومن جاؤوا بعده. ونسخة مقامات الحريري التي تحمل توقيعه في العام 1237 خير مثال على تجسيده المرأة بحرية ووعي بجسدها تماما كما جسّد الرجل. ولو أن البعض كان يرى فيه مقاربة للمكروه في الدين، وانتهاكا لتفرد الخالق في قدرته، وخرقا لروحانية العقيدة الإسلامية. تتمحور صورة الفن الإسلامي لدى الغربيين حول فكرة ثابتة: خلوّه القطعي من تصوير المخلوقات والتشكيل الجسدي. وهي فكرة غير دقيقة. فرغم أن التصوير كان مكروها لدى المسلمين لأسباب عقائدية دينية مردّها إلى بطلان محكاة الذات الإلاهية للخالق في معجزة الخلق والتكوين، إلا أن هذه الصور ظهرت في غير موقع "لاديني" من بلاط رجال الحكم، إلى مجالس علية القوم في الأندلس، وتباينت بين تماثيل تجسّد أفراد الحاشية والموسيقيين ومناخات السمر تشير إليها منحوتات الطيور والحيوانات والحدائق المنحوتة بانسجام بمادة العاج الدافئة. ومن المعروف أن الإسلام نهى عن التجسيد في هيئة تماثيل ثلاثية الأبعاد لارتباطها بالحقبة الوثنية وعبادة الأصنام قبل الإسلام.ثقافة التسامح- تسامح الثقافة

لم تكن المساجد هي التحف المعمارية الوحيدة في دولة الإسلام الجامعة للأديان والأعراق والقوميات على تباعدها. لقد كانت الثقافة الإسلامية ثقافة اتصال استوعبت الديانات التوحيدية من مسيحية ويهودية إلى جانب غيرها من الديانات الغير السماوية. وكان للمسيحيين و اليهود والزارادشتيين في إيران أماكن العبادة الخاصة بهم التي لم تخلُ من التحف المعمارية والفنية من ، والتي كانت ترفق عادة بالنص الديني المناسب.

لقد شارك في بناء صرح الحضارة الإسلامية مسلمون ومسيحيون ويهود، وحتى لادينيون، من الأقاليم التي دخلت في جغرافيا الدولة الإسلامية. و كان مبدأ التسامح الديني والعدالة هو الذي يحكم أركان الدولة. وكان يعفى من الجزية - التي تكاد تعادل ضريبة الزكاة التي يدفعها المسلم - غير المسلمين من الفتيان والنساء والعجزة والمرضى ورجال الدين من القساوسة والأحبار وكذلك الرجال من الذين يؤدون الخدمة العسكرية"صنع فنانين مسلمين.

كان المسيحيون يعملون جنبا الى جنب والمسلمين لترجمة الفلسفة الإغريقية وإحيائها. وفي رياض الأندلس، الطرف الغربي لمشارف الإسلام ، قام المسلمون بتطوير ما تدعوه المؤرخةMaria Rosa Menocal من جامعة : Yale "ثقافة تسامح" مع اليهود.

مضى التجديد وروح الإجتهاد متساوقين. وفي مدينة قرطبة، قامت ولاّدة ابنة الخليفة المستكفي بالله الأموي ـ الأميرة العربية والشاعرة من بيت الخلافة الأموية في الأندلس ـ قامت بتنظيم "صالونات أدبية" لتفسيرالقرآن وتلاوة الشعر. وكان رواد هذه الصالونات من الأعيان والشعراء يناقشون ما حرَّمه القرآن عل الرجل والمرأة في آن. وقد اشتهرت ولادة ببيتين من الشعر قيل أنها كانت تكتب كل واحد منهما على جهة من ثوبها:

أنا والله أصلح للمعالي - وأمشي مشيتي وأتيه تيها

وأمكّن عاشقي من صحن خدي - وأعطي قبلتي من يشتهيها

لم يكن الفن الإسلامي فنا تبشيريا يعكف على نشر رموز دينية إسلامية بعينها متجاهلا سطوة المؤثرات الجمالية والمحرضات الإبداعية خارج المنظور العقائدي الأحادي. وقد كان لنضوج فنون العمارة المدنية غير الدينية من قصور ومجالس، ومن استتباعات للزومياتها التجميلية من أقمشة وأثاث وزجاجيات وسجاد وأكسسوارات، ما يقارب الفن الوظيفي Functional Art في حركة الفن المعاصر اليوم. فالفن الإسلامي لم يكن فنا دينيا فحسب بل كان فنا شاملا لما هو دنيوي أيضا. ولا يزال العالم حتى اليوم يتوقف مبهورا أمام إنجازات فن العمارة الإسلامية، وينأمل بإعجاب قصور المعتمد بن عباد فى إشبيلية، وقصر الحمراء فى غرناطة الذى كتب عنه الشاعر الفرنسى الشهير فيكتورهوجو قصيدة طويلة مطلعها: -أيتها الحمراء.. أيتها الحمراء.. أيها القصر الذى زينتك الملائكة كما شاء الخيال وجعلتك آيه الانسجام.. أيتها القلعة ذات الشرف المزخرفة بنقوش كالزهور والأغصان المائلة إلى الانهدام.. حينما تنعكس أشعة القمر الفضية على جدرك من خلال قناطرك العربية يسمع لك فى الليل صوت يسحر الألباب-.في ضوء كل ما تقدّم نستطيع أن نجزم في أن كبوة الإسلام المعاصر إنما ترجع إلى ترجيح الفكر"الجهادي" الموتور، على الفعل"الاجتهادي" الخالق ــ الذي كان تقليدا إسلاميا راسخا في التعليل، والوصول الى أحكام مستقلة، إلى جانب كونه أداة تحديث متّصل في النص الديني.

الفدرالية الإسلامية

قد كان لموقع الدولة الإسلامية في العمق من طريق الحرير، الذي وصل الشرق والغرب، دورا كبيرا في الاتصال بفنون العالم المعروف في ذلك الوقت، حيث غدا ميناءي البصرة في العراق والسويس في مصر بوابتا البضائع المتدفقة عبر المحيط الهندي. و كانت موقع جذب لثقافات تعاملت معها كمصدر معرفة، واستوعبت عناصرها دون إلغاء لهويتها، فكانت أن ظهرت مؤثراتها واضحة لترقى بالفن الإسلامي إلى مستوى العالمية. فإذا وقفت اللغة حائلا دون تفاهم الشعوب فالفن يقوم بالغرض.إنه وسيلة التحاكي بين الأفراد وملكا للذاكرة العالمية لا حكرا على شعب أو حضارة بعينها.

يرى الغرب، خطأ، أن الثقافة الإسلامية ظاهرة تخص منطقة بعينها ولا تعني الشعوب خارج الحدود الجغرافية والفكرية والعقائدية للإسلام. وهذا بعيد عن الصواب كليا. فالشرق العربي الذي يقع في القلب من العالم كان محطة لمداولة وصهر الثقافات من كانتون في الصين، مرورا ببخارى وسمرقند، وصولا إلى تولوز وبواتيية الفرنسيتين. من المهم جدا أن يعي الغرب الامتياز الذي تمتعت به الثقافة الإسلامية وكم أثرت في تاريخهم وثقافتهم التي نشهد فورتها اليوم.

وإذا كان المثقف هو القوّام على السياسي و المرشد الروحي لأهل السلطة في دولة الديموقراطية، وإذا كانت إشارات العولمة الإيجابية تكمن في قدرة الشعوب على الارتقاء بعلمائها ومفكريها، و بناء قواعد الدولة على أسس من التعددية الثقافية،

واحترام الخصوصية الدينية والحضارية، وفتح باب الاجتهاد الفقهي في النص، فنستطيع القول، تحصيلا، أن الحضارة الإسلامية تحمل ريادتها العولمية بامتياز.هذه الحضارة "العربية" بحكم المنشأ و"الإسلامية" بحكم الإنتاج، قد ارتفعت على أيدي شعوب قاطبة من فرس وأوروبيين وأتراك وأفارقة و آسويين. فكانت الحضارة الإسلامية بوتقة للقاء العقول وانصهار الفكر لأن الحكّام المسلمين قربوا إليهم العلماء والمبدعين بغض النظر عن انتمائهم الديني والعرقي. وحين قام عمر بن الخطاب بتدوين الدواويين، وهو ما يعرف في الاصطلاح المعاصر بإنشاء الوزارات، أبقى عليها في إيران فارسية، وفي مصر قبطية، وفي الشام رومية، تماما كما كانت عليه قبيل الفتح الإسلامي ضمن وحدة جغرافية يسوسها مبدأي العدل والشورى.قد تكون دولة الإسلام أعلنت في عصرها الذهبي نموذجا فدراليا سابقا في تاريخ نشأة الدول. وما يأخذ به الغرب من أسباب الرقي الحضاري والاستيعاب ثم الانتشار الثقافيين اليوم، كان سائدا في دولة الإسلام المستنير، في ظل نظام "عولمي" قام على أسس من "دولنة الإسلام" وممارسته ضمن فضائه الحيوي الذي مساحته ضمير الفرد ووجدان المجتمع، بعيدا عن سياسات "أسلمة الدولة" وما تفرزه من غيبيات وإفتاءات جماعية قسرية وملزِمة.

نص محاضرة لطلاب الدراسات العليا للغة العربية في جامعة ميريلاند، التي ألقتها بدعوة من الجامعة، في تاريخ 18-10- 2006

وحرب امبريالية ايديولوجية أيضاَ

وحرب امبريالية ايديولوجية أيضاَ

غياث نعيسة

خاص – صفحات سورية -

1
"يمكن ان نصفهم بالهمج، وفقاَ لقواعد العقل وليس بالمقارنة معنا، لاننا نتفوق عليهم في كل انواع الهمجيات"الاديب الفرنسي مونتين
اعلن الرئيس الامريكي ، وبالكاد بعد وهلة قصيرة من الاخفاق العسكري الصهيوني في مواجهة المقاومة اللبنانية، شن "هجوم ايديولوجي تتجاوز ابعاده النزاع العسكري" واصفا اعداء الولايات المتحدة اليوم بانهم "خلفاء الفاشية والنازية والشيوعية ومختلف القوى الشمولية التي شهدناها في القرن العشرين" . واكد ان "الحرب على الارهاب ...ستكون صعبة وطويلة" . واعلن رئيس الدولة الامبريالية الاقوى في العالم في خطاب اخر لاحق له في بداية شهر ايلول – سبتمبر "حربه ضد الفاشية الاسلامية " وساوى بين "التطرف الشيعي والتطرف السني".
انها اعلان حرب عسكرية وايديولوجية شاملة وطويلة-للقرن الحادي والعشرين- ضد كل من يمكن ان تعتبرهم القوى الامبريالية اعداء لها . واصبح الصاق صفة شنيعة عليهم سهل بفضل "كاتالوج الاوصاف والاتهامات " الجاهز الذي يردده الرئيس الامريكي على شاكلة " ارهابي ، مؤيد للارهاب ، فاشي ، فاشي اسلامي ، طاغية ، متطرف سني ، متطرف شيعي ، شمولي ....الخ.".

ايديولوجيا الخطر الدائم


ويذكر هذا الهجوم الايديولوجي الامبريالي بسابقه الذي بررت من خلاله الادارات الامريكية السابقة وحلفائها سياسات الهيمنة في حقبة ما سمي بالحرب "الباردة". والذي استند على مفهوم مسطح وهو ان " الشيوعية والفاشية تؤامان".
واذا كان معروفا ان "نظرية" الهجوم الايديولوجي الامبريالي في حقبة الحرب الباردة غرفت من المفاهيم الاساسية التي طرحها المفكر السياسي اليميني النمساوي كارل بوبر الذي لمع اسمه بعد الحرب العالمية الثانية . وتركزت اطروحاته اليمينية الاساسية على ان الشيوعية والفاشية متشابهتان لانهما تعبيران عن ما اسماه بمجتمعات "مغلقة" تحكمها ايديولوجيات سياسية "شمولية". بينما تمثل الديمقراطيات الغربية –لدى بوبر- نقيض لهما وهي مجتمعات "منفتحة". واصبحت هذه الايديولوجيا سلاحا ذو حدين، الاول موجها للخارج ، والثاني للداخل . واصبح سهلا توصيف أي دولة او نظام ما (في الخارج) او حزب اونقابة (في الداخل) باعتبارها شمولية او شيوعية اوفاشية لكي تصبح "عدواَ للحرية" يصبح مشروعا فعل أي شئ من اجل سحقها وتدميرها . لقد بررت هذه الايديولوجيا حروبا امبريالية مدمرة على مدى عقود من الزمن ، واستمرارها، مع بعض التعديل،لا يبشرسوى باستمرار سياسات الحروب والهيمنة الامبريالية في العالم.
في الخمسينات ، اعلن العديد من المسؤولين في الادارة الامريكية وعلى رأسهم الرئيس ترومان والجنرالين ماكارثر وريدجوي ان بلادهم هي "في حرب ضد الشيوعية"، وعلى الصعيد الداخلي شنت حرب اخرى ، هي تلك التي سميت بالمكارثية لملاحقة "العدو الداخلي" من المثقفين المعارضين واتهامهم بالمشاركة في "مؤامرة شيوعية".
مسعى الحكومات الامبريالية لخلق "خطر ماحق وشيك" وجو من عدم الامان لدى الرأي العام في بلدانها يلبي حاجتها في تحقيق هدفين اساسيين لها, الاول هو تبرير التدخلات العسكرية ومشاريع الحروب والهيمنة. والثاني هو تنمية وتعزيز المجمع الصناعي – العسكري من جهة، وتمرير اجراءات اجتماعية وسياسية غير شعبية، من جهة اخرى.
وفي نفس الاطار، قامت ادارة ريغان في الثمانينات بتنفيذ سياسات ليبرالية متوحشة مثل خفض الضرائب على الثروات الكبيرة وتقليص المكتسبات الاجتماعية و"دولة الرفاه" مبررة ذلك بخطاب يحذر من "التهديدات الخطيرة " المباشرة التي يتعرض لها الامن القومي للولايات المتحدة ، فماذا كانت هذه التهديدات التي دفعت الادارة الامريكية الى فرض حالة الطوارئ عام 1985 ؟
انها ،نيكاراغوا البلد الصغير والبعيد عن الحدود الامريكية وبجيشها الصغير الذي لا يتجاوز 34 الف جندي ، كانت احد اهم هذه التهديدات الخارجية ،من وجهة نظر الادارة الامريكية . و "بحرب استباقية" قامت الولايات المتحدة عام 1983 بغزو بلد يشكل بالنسبة لادارتها خطرا محدقا لها(كذا) وهي جزيرة غرناطة التي لا يتجاوز عدد سكانها 85 الف نسمة ؟ وقامت بقصف وخطف رئيس بنما نورييغا في عام 1989 .
وعلى نفس الشاكلة ، رتبت الادارة الامريكية ، بعد احداث 11 ايلول / سبتمبر 2001 دخولها في حرب جديدة عالمية.
اسمتها "حرب بلا نهاية ضد الارهاب" ، ولكن الخطر هذه المرة، حسب الخطاب الامبريالي، اخطر واكبر. فالرئيس الامريكي بوش الابن يتحدث في خطاب له في كانون ثاني / يناير 2002 عن خطر متعدد الاشكال وخفي ، فيقول " هنالك مئات القتلة الخطيرين ، المدربين على وسائل الاغتيال، والمدعومين من انظمة مارقة، مندسين في كل مكان في العالم ، وهم فعلا قنابل موقوتة جاهزة للانفجار دون تحذير.. ان مقدار الحقد في قلوبهم لايضاهيه سوى جنون الدمار الذي يريدون القيام به.."
مرة اخرى يتم استغلال القلق الذي انتجته احداث الحادي عشر من ايلول / سبتمبر لدى السكان ، مثلما فعل ريغان مع تلويحه بخطر الساندينيين في نيكاراغوا، من اجل تبرير وتمرير سياسات لا اجتماعية وانفاق عسكري مذهل ، وقوانين قاتلة للحريات مثل قانون "باتريوت اكت" وامثاله في الدول الاوربية الاخرى.
وتلعب وسائل الاعلام الرأسمالية الكبرى المرتبطة عضويا بالمجمع الصناعي-العسكري مثل جنرال الكتريك في الولايات المتحدة او لاغاردير و داسو في فرنسا، دورا هاما في تسويق خطاب النخب الحاكمة . وكما يصفها نعوم تشومسكي فان " وسائل الاعلام المحلية تتوجه الى "النخب" السائدة وتضع نفسها في خدمتها... وتفسيرها الاعلامي للعالم يعكس مصالح واهتمامات البائعين والشارين والمؤسسات الخاصة والحكومية التي تسيطر عليها" وبالاخص فانها تخضع لرؤؤس الاموال التي تديرها.
ان وسائل الاعلام في الولايات المتحدة واوربا من خلال المعلومات والمعلومات المضادة تنشر وتنتج بشكل متواصل ومتعدد الاشكال رؤى لعالم ملئ بالاخطار والتهديدات ، وتنصب استطلاعات الرأي وكأنها تعبير عن اجماع للسكان.

2

استراتيجية اعادة تشكيل المنطقة الدمقرطة و


اعطت استراتيجية الادارة الامريكية وحلفائها "بالحرب على الارهاب" التي تتضمن اقامة الشرق الاوسط الكبير –او الجديد- تأكيداَ للدور الاساسي للدولة الصهيونية في تنفيذ هذا المشروع في المنطقة . وتنطحت ادارة المحافظين الجدد باعطاء نفسها والدولة الصهيونية الحق باعادة هيكلة المنطقة وفق مصالحهما، واحتكار استخدام القوة لازالة اية عوائق كائنا ما كانت في مواجهة هذا المشروع.
وقد واجهت هذه الاستراتيجية مقاومة شعبية صلبة . الاولى كانت في الصفعة التي تلقتها مع انتخاب حماس في فلسطين ، والثانية –والاهم- مع المقاومة الشعبية اللبنانية الباسلة في مواجهة العدوان الامبريالي –الصهيوني ودحره. وهي المرة الاولى في تاريخ الدولة الصهيونية التي تتساقط فيها اعمدة اساسية من استراتيجيتها في مواجهة الدول العربية ، أي تهافت مبدأ "الجدار الفولاذي " الذي تتبناه النخبة الحاكمة الاسرائيلية ، وهو المبدأ الذي طرحه في العشرينات زيف جابوتنسكي احد اعتى الصهاينة عنصرية والذي يقوم على ضرورة استخدام اقسى انواع العنف والقوة في مواجهة أي نهوض عربي.وهو الذي يعلن ان الدولة الصهيونية في فلسطين " هي قلعة لاوربا في مواجهة اسيا ، والخندق الامامي للحضارة في مواجهة الهمجية".
ولكننا لن نتناول في مقالتنا هذه الجانب العسكري لاستراتيجية اعادة تشكيل المنطقة من خلال التواجد الامبريالي العسكري المباشر الذي بدأ بغزو افغانستان ومن ثم العراق وصولاَ الى محاولة سحق حكومة حماس المنتخبة "ديمقراطياَ" والعقوبات والتهديدات على ايران وسوريا ، واخيراَ القرار 1701 الذي يسمح بتواجد القوات العسكرية للدول الامبريالية المعنية في لبنان ، وان كان تحت الخوذات الزرقاء.
بل سنعرض باختصار تطور الاراء والدراسات الاجتماعية حول اليات دمقرطة البلدان العربية ، ولا سيما تلك المؤثرة في سياسات الحكومات الغربية والتي تندرج في تحقيق استراتيجيها في منطقتنا.
مما لا ريب فيه ان مفهوم "الديمقراطية" تعرض الى الكثير من التحول في تعريفه ، خلال القرن العشرين . في البدء كان ينظر اليه باعتباره نمطاَ للحكم نادر- منحصرتقريباَ في الدول الغربية- ، وتتفاوت قدرته على الحياة حسب واقع كل دولة.
ليصبح اليوم ، حسب الايديولوجيا السائدة عالميا ، هو الشكل السياسي الشامل والصالح عالمياَ وفي كل البلدان. والبلدان العربية هي من اقل المناطق تأثرا بموجة الدمقرطة واكثرها تسلطاَََ.
والحال، فان البحوث والدراسات حول الديمقراطية في العالم العربي ، عانت منذ الخمسينات من نزعتها الاوربية الغازية ، والتي تجعل من الديمقراطية (الغربية)المآل الطبيعي لكل تطور سياسي. وعانت ايضاَ من عوج في تقييمها للسيرورات السياسية لبلدان المنطقة ، حيث انها اخضعتها الى مقياس جامد هو مدى توافقها مع خط بياني مثالي ، هو الانموذج الاوربي (والامريكي).هذا التصور المسبق والجاهز يجعل –سلفاَ- من كل تطور سياسي لبلدان المنطقة فشلاَ او انحرافاَ مقارنةبالمسار التاريخي "الطبيعي" الذي سارت عليه الدول الاوربية. وهذا ما دمغ الدراسات والبحوث بافة تركيزها على ما "ينقص " وعلى ما لم "يتحقق" وعلى ما لم "ينجز"، وباختصار انها ركزت على البحث عن العناصر المفقودة في هذه السيرورات السياسية مقارنة بالانموذج الاوربي. وغاب عن هذه البحوث دراسة كيفية وصول البلدان العربية الى هذا الحال ، لتنحصر في دراسة لماذا لم تصل الى حال أخر(هوالنمودج الاوربي).
فقد راجت في فترة الخمسينات ، أي في مرحلة اطاحة حكومات ما بعد الاستقلال لصالح انظمة شعبوية – قومية وتسلطية، مقولة اساسية دارت حولها الدراسات المعنية بالبلدان العربية، وهي مقولة " أهمية المستلزمات المسبقة لاحلال الديمقراطية". وقد لاقت هذه المقولة رواجا بعد ان نشر المؤرخ الاقتصادي شارل عيساوي مقالا بعنوان " الاسس الاقتصادية والاجتماعية للديمقراطية في الشرق الاوسط" ، وتناولت هذه المقالة قضية اساسية وهي "تحديد العلاقة بين الرأسمالية والتنمية والديمقراطية" . وقد اشار عيساوي في مقالته هذه الى " غياب الديمقراطية في الشرق الاوسط بعد مرحلة نزع الاستعمار" وقدم تفسيره لغيابها بأن "الاسس الاقتصادية و الاجتماعية لا تتوفر بعد" ، وتوصل الى ضرورة توفر مستلزمات مسبقة لتحقيق الديمقراطية ، انطلاقا من تجارب الديمقراطية الاوربية ومثيلاتها ، وحدد هذه المستلزمات المسبقة كالتالي : " حد معين-معقول- من الارض والسكان ، ومستوى معقول من التطور الاقتصادي ، وتوزيع للثروة ، وتصنيع ، وتجانس في اللغة والدين ، ومستوى معقول من التعليم ، مع توفر تقاليد للتعاونيات والجمعيات". انتقلت هذه المقولة الرائجة حينئذ في الدراسات الاجتماعية الاوربية لتتبلور في نظرية ضرورة قيام "الطبقة الوسطى الجديدة " كشرط للديمقراطية، وخاصة في كتابات مانفرد هالبرن ، والتي تقول بان التحديث الاقتصادي للمنطقة بدأ يخلق الاسس الاقتصادية والاجتماعية التي بامكانها ان تؤهل للانتقال الديمقراطي للبلدان العربية. والفكرة الاساسية التي استندت عليها هذه النظرية هي ان التعقيد الاجتماعي والاقتصادي المتزايد (خصوصاَ بفضل التصنيع والتمايز الطبقي) يتطلب اشكال سياسية للحكم اكثر تعقيداَ هي اللعبة الديمقراطية ، وقد شاعت هذه الفكرة في كل النظريات والدراسات المعنية بالمنطقة.
واذا كانت نظرية التحديث هذه ب"مستلزماتها المسبقة" للديمقراطية (الاقتصادية والاجتماعية) قد عانت من مركزيتها الاوربية ومسارها المستقيم وبحثها السديمي عن " طبقة وسطى جديدة" ، الا انها تعايشت مع نظريات اخرى لا تستند على هذ المستلزمات المسبقة بل استندت على تناول عنصري يقول بان عدم تحقق الديمقراطية في بلدان المنطقة انما هو نابع عن تمايز في الهويات الاساسية والثقافية، ورأت بعضها في ان احد هذه التمايزات يكمن في " عدم قدرة العرب على اخضاع ميولهم الانانية لصالح هدف مشترك" ، ونجد في اطروحات هانتنغتون وغيره من دعاة" صراع الحضارات" الاثار العميقة لهذه الاطروحات العنصرية . مثلما نشهدها ايضا في خطاب الادارة الامريكية والمحافظين الجدد.


3
من الديمقراطية الى اشكال هجينة من الاستبداد/الديمقراطية



لكن دراسات مراكز البحوث الغربية استعادت نشاطها في اواخر الثمانينات وبشكل اكبر في التسعينات بترافق مع ما اطلقت عليه مصطلح "الموجة الثالثة للدمقرطة" ، أي انهيار دول اوربا الشرقية والاتحاد السوفياتي واندحار الدكتاتوريات في العديد من بلدان امريكا اللاتينية..
وهذه المرة لم تعد "المستلزمات المسبقة" الضرورية للديمقراطية ولا سيما مفهوم الطبقى الوسطى الملازم لها في القلب من نظريات الانتقال الديمقراطي ، بل اكتشفت ،هذه المراكز، حامل جديد للانتقال الديمقراطي – تجلت اهميته العملية في نضالات المجتمعات السابقة الذكر- هو مصطلح "المجتمع المدني" الكلي القدرة ، ليحل مكان الطبقة الوسطى في المنطقة العربية باعتباره "الحامل لامكانيات التغيير الديمقراطي في المنطقة".
وقد شهدت المجتمعات العربية منذ النصف الثاني للتسعينات اهتمام غربي ملحوظ (حكومي وغير حكومي) تجاه المنظمات غير الحكومية اليافعة، وخاصة منظمات حقوق الانسان . وبالتالي طرحت الحكومات الاوربية استراتيجية واسعة تجاه بلدان المنطقة عبرت عنها اتفاقيات الشراكة الاورو متوسطية ، و برامج كاملة امريكية - اوروبية لتمويل هيئات "المجتمع المدني" في بلدان المنطقة وخاصة منظمات حقوق الانسان ، وقد ادت سياسات التمويل هذه- علاوة على التضييق المتشدد للانظمة العربية على نشاطات هذه المنظمات ، على ارضية ازمة اجتماعية واسعة للمجتمعات العربية تميزت بتأكل متواصل للشرائح الوسطى - الى نتائج كارثية ، منها ان هذه المنظمات غيرالحكومية قد فقدت "كفاحيتها" ، والمصطلح المرافق لتبرير هذا التحول ، لدى القائمين عليها ، هو التحول الى "المأسسة" . واصبحت نشاطاتها – وبغض النظر عن النوايا الطيبة لبعض القائمين على عدد منها- في عزلة اكبر عن مشاكل مجتمعاتها وهمومها بسبب ارتباطها التمويلي باهتمامات وبرامج تحددها هيئات اجنبية ، وتحولت الى تجميع لعدد من "الموظفين " برواتب تأتي من خارج البلدان لتتحول الى شريحة "وسطى" من نمط جديد(شبه كمبرادوري) يرتهن انبعاثها وبقائها المادي ،بكل معنى الكلمة ،بالدعم الخارجي ، وبانفصال كامل عن الدورة الاقتصادية والاجتماعية لمجتمعاتها. وهذا ما ادى – الا في بعض الحالات الاستثنائية- الى فقدان هيئات "المجتمع المدني " ولا سيما منظمات حقوق الانسان ، التي دخلت في متاهة التمويل الخارجي ، لدورها كعامل مؤثر في الانتقال الديمقراطي في بلدانها ، وان كانت ماتزال تبقى مركز جذب للعيش والارتزاق والتوظف لضحايا الازمة الاقتصادية –الاجتماعية لاعداد قليلة من الشرائح الوسطى. ونظرة سريعة على دورها وحالها في مصر والمغرب والاردن و .. كاف لتأكيد مدى الانهيار والتهافت الذي وصلت اليه. في الوقت ذاته تنهض في المنطقة حركات اجتماعية جديدة اثبتت فعاليتها وانغراسها في النضالات الديمقراطية في بلدان كمصر والمغرب (مثل حركات التغيير الديمقراطي في مصر كفاية وغيرها وحركات العاطلين عن العمل في المغرب..).
وفي حين كان دور هيئات "المجتمع المدني " المستقلة في بلدان امريكا اللاتينية واوربا الشرقية وجنوب شرق اسيا اصيلا في التحولات والنضالات الديمقراطية ، فان سياسات خلقها ودعمها وتمويلها اوربيا وامريكيا في بلدان منطقتنا –اضافة الى عوامل داخلية اخرى- اثبتت ليس فقط فشلها بل ،وبشكل اخص ،ضررها العميق على النضال الديمقراطي الجذري، وسارعت في عملية انحطاطها.
ويشير ستيفن هيدمان(رئيس مجلس دراسات العلوم الاجتماعية في نيويورك) الى ان نهاية الثمانينات شهدت تزامن انبعاث ظاهرتين في الوقت نفسه. الاولى، هي انفتاح افاق للدمقرطة ، من جهة . مع تزايد لنفوذ الحركات الاسلامية في مصر والجزائر والاردن وغيرهما من بلدان المنطقة، من جهة اخرى. وقد ساهمت هذه السيرورة في اعادة احياء اطروحات التمايزات الثقافية وصراع الحضارات والقول بعدم قابلية الاسلام على التأقلم مع الديمقراطية. وجرت هذه الدراسات في ظل ظرف دولي يتميز بفرض الولايات المتحدة نفسها باعتبارها القوة الاعظم (حرب الخليج الاولى وما تلاها) وازدهار اطروحات غربية مناهضة للعرب والمسلمين مع سياسات امبريالية عسكرية عدوانية في المنطقة والعالم.
في المقابل ، استغلت حكومات المنطقة مند التسعينات ، النجاح الانتخابي النسبي للاسلاميين من اجل تبرير تراجعها عن نوع ما من " الانفتاح الديمقراطي" دون ان تتخلى في الوقت نفسه عن متابعتها لسياسة اللبرلة الاقتصادية او ما تسميه "الاصلاح الاقتصادي". ولمباركة هذه السياسات ، قدمت الولايات المتحدة والمؤسسات المالية العالمية دعمها لهذه الانظمة ، مثل الجزائر والاردن وتونس ومصر و ..الخ.
ويقول خطاب الانظمة العربية-وهي نقطة الاجماع شبه الوحيدة بينها كافة ، ومن بينها سوريا- بان الازمة الاقتصادية هي العائق الحقيقي امام الانفتاح السياسي ، لان الازمة الاقتصادية تساهم في زيادة اصوات الاسلاميين، الذين –وفق راي الحكومات- لا يمكن الركون الى صدقية التزامهم بالديمقراطية ، بل ان هدفهم هو الوصول للسلطة. وبذلك ترى الحكومات العربية ان القيام باصلاحين ، اقتصادي وسياسي، في الوقت نفسه لا يخدم سوى الاسلاميين. وتستنتج الحكومات العربية ان المطلوب (و بشكل يقارب اطروحات عيساوي وليبست) هو لبرلة الاقتصاد(الاصلاح الاقتصادي اولا) وان يترك ، من ثم، للسوق ان يخلق المستلزمات المسبقة الاقتصادية التي ستجعل من الممكن قيام سيرورة مستقرة للاصلاح السياسي.
وتلتقي الانظمة العربية تماما مع اهداف السياسة الامريكية في الحفاظ على استقرار الانظمة الموالية لها في المنطقة ، من جهة . واستمرار استبعاد الاسلاميين عن الحقل السياسي ، من جهة اخرى. مما يسمح لهذه الانظمة ان تتجنب الدمقرطة الحقيقية باسم حماية الديمقراطية من الاسلاميين. وهنا تنكشف خدعة خطاب الدعوة "للحرية والديمقراطية" في الشرق الاوسط الكبير الذي تنادي به الادارة الامريكية وحلفائها الاوربيين ، و ليكشف عن حقيقة انه مجرد سلاح ايديولوجي وسياسي في استراتيجية اعادة تشكيل المنطقة وفق المصالح الامبريالية.
وهذا الامر يدفع الأن الدراسات الاجتماعية حول المنطقة الى اطروحات جديدة حول هذه الاشكال الهجينة من الاستبداد /الديمقراطية(المطرزة احيانا بالمحاصصة الطائفية، مثل العراق ولبنان) التي تلقى دعماَ امريكياَ- اوروبياَ ، وهي اشكال سياسية (واحيانا اقتصادية ايضا) تقوم على استخدام الانظمة العربية لخطاب "ديمقراطي" وقبولها ببعض الممارسات الانتخابية "المضبوطة" مع تواجد لهيئات غير حكومية (مجتمع مدني)تعمل تحت حافة الممارسة السياسية الصرفة ، مع استمرار الاستبداد. انها اشكال هجينة سياسية واقتصادية. هذا الواقع يضع المعارضين الليبراليين العرب ودعاة الدور المركزي للمجتمع المدني "الموالي او الممول" في مأزق فكري وعملي عميق ،لأن الخطاب "الديمقراطي" الامريكي –الاوربي تجاه المنطقة ، الذي يستندون عليه ، يفتقد – بتجلياته الملموسة- لكل مصداقية ، وهل العراق او مصر اوالسعودية اوالجزائر او الاردن او تونس او .. نموذج مخالف ل"لديمقراطية" يمكن ان يحتذى به؟

اليسار والديمقراطية الجذرية

في مواجهة الانظمة المتهالكة والتابعة في المنطقة العربية ومعارضات ليبرالية جوفاء وتيارات اسلامية مأزومة الافق ،فاننا نرى ان اليسار الاشتراكي ، هوالمعني بالنضال الجماهيري من اجل الديمقراطية الجذرية في بلداننا ، وهو الاكثر حزما ، لانه يستند على الطبقات الشعبية والمنتجين، وهي الغالبية الساحقة . ولان المطلوب ليس اشكال هجينة من الاستبداد او التبعية ، بل هو المشاركة الشعبية الواسعة والحرة لجماهير بلادنا في تقرير مصير بلادها وحياتها، وحقها في ادارة شؤون حياتها اليومية بشكل مباشر . لذلك يقف اليسار الاشتراكي بوضوح في كل النضالات في مواجهة الاستبداد والعدوانية الامبريالية . وفي هذا الصراع من اجل الحرية والعدل والكرامة ، فان الموقف من الاسلامين يمكن ان يختزله المفكر الاشتراكي البريطاني هرمان بقوله: "لقد ارتكب اليسار خطأين في التعامل مع الاسلاميين في الماضي ، الاول كان تجاهلهم كفاشيين والثاني النظر اليهم كتقدميين لا يجب توجيه النقد اليهم ، ولعب هذان الخطأن معاَ دوراَ في مساعدة الاسلاميين على النمو على حساب اليسار في معظم بلدان الشرق الاوسط ، ومن الضروري وجود رؤية اخرى ترى ان الحركة الاسلامية هي نتاجا لازمة اجتماعية عميقة مستعصية، وان نناضل لكسب الشباب الذين يؤيدونها لصالح رؤية اشتراكية ثورية مستقلة ومختلفة عنها تماما".