الحرية وعشاقها في القلب
علي كنعان
ميشيل (أبا أيهم) أيها الوطني الحر العزيز، لم يسمحوا بالفرحة أن تصل الي باب الدار. ويوم قرأت خبر القرار المنتظر باسترداد حريتك ومغادرة المعتقل، فكرت بكتابة مقالة أبدؤها بالعبارة الآتية: اليوم، مع اشراقة شمس الحرية علي العزيز ميشيل كيلو، بدأ الرئيس السوري الشاب مسيرة الاصلاح في بلادنا، ولا بأس أن تموت بغيظها خفافيش الظلام وزبانية الأقبية والأغلال... . لكنهم سرعان ما عمدوا الي اغتيال البشارة ودفنها في دهاليز البيروقراطية والعسف والطغيان. وكان علي أخيك، هذا العجوز المشتاق، أن يلوك ليل الغربة القاسي كما تعاني أنت هنالك ليلك الوطني الطويل بلا شمعة ولا وميض نجم بعيد.
لن أستسلم للشجن العاطفي الجريح، فالموت الفلسطيني اليومي.. وجحيم العراق المتمادي في صراع الاخوة الأعداء.. والتآمر الغاشم علي صمود الجنوب اللبناني العظيم واستجراره الي بازار المساومات الرخيصة الجارية مع الامريكان علانية أو في الدهاليز والأنفاق الخفية، هذه الطعنات الموجعة والمغيظة لا تبيح مقاربة أي ترف شخصي دخيل. لكني سأستعرض بعض المحطات المضيئة التي جمعتني بالأستاذ ميشيل خلال أربعين سنة من المودة الحميمة المتواصلة، وأنا أتأمل باعجاب ما يمتاز به من عشق للوطن وحريته والتزام بالقيم والأخلاق ودأب يومي في الاطلاع والعمل وتوهج فكري وذاكرة مشرقة، وهذه مزايا قلما تجتمع معا الا لدي نفر قليل من المثقفين، لا يتجاوز عدد أصابع اليدين علي امتداد الوطن العربي الكبير.
يوم عاد ميشيل كيلو من دراسته في ألمانيا، طاب لنا أن نتعارف معا في احدي الصحف اليومية التي كنت أعمل فيها تحت اشراف المناضل العربي المعتقل (أبو زياد) طارق عزيز ـ فك الله أسره وعافاه. ولقد تعلمت من هذين المناضلين، وكان ثالثهما المسرحي المتألق سعد الله ونوس، ما لا يمكن أن أنساه ما حييت.
لم يكن الفكر الماركسي جذابا لنا، نحن أبناء الريف البدوي الذين جاءت بهم جامعة دمشق الي العاصمة. وكان لذلك الشاب اليساري المستنير دوره الكبير في تنبيهنا الي أهمية ذلك الفكر العلمي وتوجيهنا الي ضرورة الاطلاع عليه والتزود بالقدر المتاح من ينابيعه. ومع أن هزيمة حزيران (يونيو) صعقتنا وأحدثت في نفوسنا جميعا شرخا عميقا، دفعت بكثير من أبناء جيلنا الي فردوس الماضي الزاهي ليحتمي في أحضان التاريخ البطولي المشرق، كما يلوذ الأطفال الخائفون بأحضان الأمهات، الا أن ميشيل كيلو وقلة من أمثاله حافظوا علي تماسكهم.. وكانت مواقفهم وكتاباتهم وأحاديثهم عونا لنا علي تخطي حالة اليأس والنكوص والاحباط.. ودفعتنا الي الانخراط في اعلام المقاومة الفلسطينية الناشئة والمتصاعدة في دول الطوق.
ان قواعد العمل الفدائي، ولا سيما في لبنان، تعرف ميشيل كيلو ونشاطه في تلك السنين الهامة أكثر من جميع الأسماء التي مرت في قيادة البعث العربي الاشتراكي ، في سورية والعراق معا، علي مدي العقود الأربعة الماضية، وهي أسماء موسمية لمعت وانطفأت قبل أن تسخن الكراسي تحت أصحابها.
من هنا تأتي أهمية اعتقال ميشيل كيلو ورفقائه وضرورة اسكات أصواتهم القوية لأنهم يشكلون خطرا علي دعاة الحل الاستسلامي الخانع الذين أعلنوا في محراب بوش الأب والابن معا أن السلام خيار استراتيجي ، ولو بتقبيل أيدي الأعداء وفتح البلاد لاقامة قواعدهم العسكرية وطغيان رأسماليتهم المتوحشة، بينما كان ميشيل يقول: ان أمن الوطن وتحرير أرضه وحرية أبنائه... . هو الذي ينبغي أن يكون الخيار الاستراتيجي، ثم تأتي سيادة القانون وتحقيق الحريات الديمقراطية مطالب مرحلية لازمة وملحة.. ولا بد من الاستجابة لها.
وهنا، لا بد من التذكير بعدد من جيل أساتذتنا الذين شكلوا منارات فكرية ونضالية كبري.. كان ميشيل كيلو وعبد الرحمن منيف وسعد الله ونوس وبرهان غليون وصادق جلال العظم والطيب تيزيني ومنير شفيق وعبد الرزاق عيد وناجي علوش وآخرون.. امتدادا ديموقراطيا لهم. ومن هؤلاء الأساتذة/ المنارات: الياس مرقص، ياسين الحافظ، مهدي عامل، حسين مروة، نديم البيطار... ولعل رياض الترك وجمال الأتاسي ومصطفي رستم وعمر قشاش وفايز الفواز.. في قيادة الأحزاب المقموعة ممن ينبغي أن نذكرهم بلا تردد في هذا السياق.
الياس مرقص هو الذي قاد معارك النقد ضد دوغمائية الأحزاب البيروقراطية، القومجية والستالينية علي حد سواء، وقد رحل عشية الغزو الامريكي الأول علي العراق.. ولم نملك يومئذ أن نسكب لرحيله دمعة أسي أو نوجه اليه تلويحة وداع. وكم استأنسنا باسترجاع أفكاره بعد الرحيل. ولا يمكن أن أنسي مقولته في آخر سهرة لنا معه: لنتذكر أن جماهير حزب البعث.. هم أكبر تنظيم في المعارضة السورية !
ومرة سألت ميشيل: لو استلم الحزب الشيوعي السوري دفة الحكم بزعامة خالد بكداش، مثلا، هل كنا في منجاة من الدكتاتورية والاستبداد؟.. وكان الجواب أن أمور البلاد لا يمكن أن تكون أفضل أو أقل سوءا، لأن المناخ واحد والعقلية متشابهة.
وميشيل كيلو المثقف كتب الرواية التي لم يتح لها أن تري النور لأن التجربة الأولي (ضاعت) أو (جري اختطافها). واذا استطاع الكاتب السجين أن يعيد كتابتها فسوف تكون علامة بارزة في تاريخ الرواية العربية في بلاد الشام. وقد عمل في وزارة الثقافة وترجم عددا هاما من الكتب، فضلا عن استمراره في كتابة مقالاته السياسية في عديد من المنابر التي كانت متاحة له: السفير ، الكفاح العربي ، النهار في لبنان، وجريدة الفلاحين في سورية.
لن أتحدث عن تجربتنا المشتركة، سواء في اتحاد الكتاب أو في اصدار البيانات السياسية التي كانت ترفعها قيادة الحزب والسلطة في وجه مبعوثي البيت الأبيض كأبرز علامة علي تسامح النظام ومناخه الديمقراطي. لكن لميشيل تجربته المعروفة في السجن، سواء في أوائل الثمانينات أو في أيامنا المباركة هذه. وأنا واحد من الذين لا يفهمون كيف يسعي قادة النظام في سورية، باستماتة، الي مراضاة الوحش الامريكي وعقد صلح مع العدو الصهيوني وهم عاجزون حتي عن احتمال كلمة وطنية واحدة تطالب بالحرية وسيادة القانون وفتح المجال لسماع الصوت الآخر؟!
هذا السؤال البسيط، علي ما فيه من وجع ومرارة، لا يخطر في رؤوس قادة أحزاب جبهة المرسيدس لأنهم منهمكون حتي الهوس الهستيري في اقتناص الملذات والامتيازات والمكاسب قبل أن يطلع الفجر ويقضي بزوالها... من دون أن نرجو زوالهم معها لأنهم سيكونون فرجة ممتعة للناس.
واذا كانت هذه المخلوقات الهلامية، المنشورة علي سطوح أحزابها الكرتونية، لا تستحق منا أكثر من هذه الاشارة العابرة، فأنا لا أملك الا أن أتساءل عن مصير العدالة في سورية.. والي أي هاوية جرفوها؟ ولا بد أن أسأل فضيلة القاضي الذي طلع مزهوا بحكمه القراقوشي الأخير: أي ضمير متفسخ تحمل في جنباتك المظلمة، يا صاحب العدالة المغدورة؟! ولنفترض جدلا أن أحدهم أملي عليك ذلك الحكم وأمرك بتنفيذه مكرها، ألا تحمل في أعماقك أثرا من شرف الانسان وكرامة المواطن وعزة النفس العربية؟ أم أنك قبضت الثمــن سلفا كأي نخاس منقوع بالفساد؟!
ميشيل كيلو ليس وحيدا في المحنة، بل معه أحرار مناضلون كثيرون من عشاق الوطن ومنارات الحرية... ولا بد أن يخرجوا قريبا من ظلمات السجون وغياهب المعتقلات. ليس من المقبول ولا المعقول أن تستمر الأمور في مثل هذه الصيغة الجهنمية من المهازل الفاجعة. هذه ليست سورية، حاملة قضية فلسطين وتحريرها ورافعة شعلة الكفاح والتقدم منذ اسقاط حلف بغداد، وانما هذه مزرعة مستباحة من العصابات التي عملت علي تخريب تلك الوشائج التاريخية الحميمة بين سورية ولبنان، وهي اليوم أخطر المعاول المستميتة لتقويض صرح انتصار الجنوب اللبناني، رغم الأقنعة الزاهية والكلمات المعسولة التي تملأ محطات الأرض والفضاء.
شاعر وكاتب من سورية
القدس العربي
31/10/2006